شرح حديث: هل رأيت ربك؟
• عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: "نُورٌ أَنَّىٰ أَرَاهُ"؟.
• وفي رواية: "رَأَيْتُ نُوراً". رواه مسلم.
ترجمة رواة الأحاديث:
• ابن مسعود رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث الحادي والثلاثين من كتاب الإيمان.
• أبو هريرة رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث الأول من كتاب الإيمان.
• وابن عباس رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث السابع من كتاب الإيمان.
• وعائشة رضي الله عنها تقدمت ترجمتها في الحديث المائة وعشرين من كتاب الإيمان.
• وأبو ذر رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث الثاني والأربعين من كتاب الإيمان.
تخريج الأحاديث:
• حديث ابن مسعود أخرجه مسلم حديث (174)، وأخرجه البخاري في " كتاب التفسير" " باب ﴿
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ﴾" حديث (4856)، وأخرجه الترمذي في " كتاب تفسير القرآن" " باب ومن سورة النجم" حديث (3277).
• وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأخرجه مسلم حديث (175) وانفرد به.
• وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فأخرجه مسلم، حديث (176) وانفرد به.
• وأما حديث عائشة رضي الله عنها فأخرجه مسلم، حديث (177)، وأخرجه البخاري، في " كتاب التفسير" " باب ﴿
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾" حديث (4612)، وأخرجه الترمذي في " كتاب التفسير" " باب ومن سورة الأنعام" حديث (3068)
• وأما حديث أبي ذر رضي الله عنه فأخرجه مسلم، حديث (178)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه الترمذي في "كتاب تفسير القرآن" " باب ومن سورة النجم" حديث (3282).
شرح ألفاظ الأحاديث:
• (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى): حين سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح، وفي رواية أخرى أن ابن مسعود رضي الله عنه أخبرهم بذلك حين سئل عن قوله تعالى: ﴿
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ وفي رواية أخرى أن ابن مسعود رضي الله عنه أخبرهم بذلك حين سئل عن قوله تعالى: ﴿
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴾ (النجم:18).
وكل الروايات رواها الإمام مسلم، وعليه فابن مسعود صلى الله عليه وسلم يرى أن المقصود بها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام.
قال ابن كثير رحمه الله:" وقوله تعالى ﴿
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ أي فاقترب جبريل عليه السلام إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي: بقدرهما إذا مُدّ. قاله مجاهد وقتادة، وقد قيل: إن المراد بذلك بُعد ما بين وتر القوس إلى كبدها، وقوله تعالى ﴿
أَوْ أَدْنَى ﴾ قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه... وهذا الذي قلناه... هو قول أم المؤمنين عائشة وابن مسعود وأبي ذر وأبي هريرة – رضي الله عنه - وهو اختيار ابن كثير. [
انظر تفسير ابن كثير (7/ 447)، (8/ 339)، وانظر تفسير السعدي ص (818)].
والقول الثاني: أن المراد دنو الله عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم.
قال البغوي رحمه الله:" وقال آخرون: ثم دنا الرب عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى، فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى" [
تفسير البغوي (7 / 401)].
وكذلك قوله تعالى: ﴿
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ فإن الرؤية هنا قيل فيها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه ومن معه من الصحابة - رضوان الله عليهم -، وقيل رؤية محمد صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا، وهو قول ابن عباس- رضي الله عنهما -كما في الرواية الأخرى عند مسلم.
قال السعدي رحمه الله: "﴿
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ أي اتفق فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤيته على الوحي الذي أوحاه الله إليه، وتواطأ عليه سمعه وقلبه وبصره... وقيل: إن المراد بذلك رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليله الإسراء، وتكليمه إياه، وهذا اختيار كثير من العلماء رحمهم الله، فأثبتوا بهذا رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا ولكن الصحيح القول الأول وأن المراد به جبريل كما يدل عليه السياق" [
تفسير السعدي ص (818)].
وكذلك قوله تعالى: ﴿
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ﴾ جرى فيها القولان قيل: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام وهو قول عائشة رضي الله عنها ومن معها من الصحابة كأبي هريرة رضي الله عنه كما في أحاديث الباب وهو قول جماعة من التابعين كمجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعطاء بن أبي رياح، وقيل: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا وهو قول ابن عباس كما في حديث الباب. [
انظر تفسير ابن كثير (7/ 453)].
قوله تعالى: ﴿
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴾ أي رأى جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية، بل استدل بهذه الآية على أن محمد صلى الله عليه وسلم لم يرى ربه جل وعلا، قال ابن كثير رحمه الله: " استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية بتلك الليلة لم تقع؛ لأنه قال ﴿
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴾ ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس" [
تفسير ابن كثير (7/ 454)].
• (فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ): كنية مسروق.
• (أَعْظَمَ عَلَى الله الْفِرْيَةَ): قال القرطبي رحمه الله:" الفرية: هي الافتراء، وهو اختلاق الكذب وما يقبح التحدث به" [
المفهم (1/ 403)].
• (مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ): أي من زعم أنه رأى ربه يقظة ببصره ليلة الإسراء والمعراج فقد أعظم الفرية.
• (أَنْظِرِينِي): أي أمهليني واتركي لي فرصة لأتكلم.
• (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ): أي رأى جبريل، قال ابن كثير رحمه الله:"﴿
وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ يعني: ولقد رأى محمد جبريل عليه السلام الذي يأتيه بالرسالة عن الله عزوجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح " بِالأُفُقِ الْمُبِينِ" أي البيّن" [
تفسير ابن كثير (8/ 339)].
• (غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ): أي لم يره غير هاتين مرتين: الأولى وقعت في الأرض قبل الإسراء، والثانية في السماء عند سدرة المنتهى.
• (سَادّاً): أي مغطياً.
• (نُورٌ أَنَّىٰ أَرَاهُ): استفهام إنكاري بمعنى النفي، أو تعجبي، و" أَنَّىٰ" بمعنى كيف الاستفهامية، أي: نور كيف أراه؟
من فوائد الأحاديث:
الفائدة الأولى: في الأحاديث مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج، فقد اختلف العلماء سلفهم وخلفهم في ذلك على عدة أقوال:
القول الأول: التوقف، لعدم المرَجِّح من الأدلة، وتكافؤ ما ورد منها، واختار بعض أهل العلم منهم القرطبي حيث قال:" ليس في ذلك دليل قاطع، وغاية المستدل على نفي ذلك أو إثباته التمسك بظواهر متعارضة مُعَرَّضة للتأويل" [
المفهم 1/ 402-403].
القول الثاني: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه.
وهذا هو قول ابن عباس رضي الله عنه كما في حديث الباب، واختاره ابن خزيمة، والنووي. [
انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة (ص 226) وشرح مسلم للنووي (3 / 9)].
واستدلوا: بما رواه الترمذي وقال: " حسن غريب " ورواه النسائي في الكبرى، أن ابن عباس ذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ويشكل على هذا ما جاء في حديث الباب من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين.
وأما حديث عائشة في الباب فأجاب عنه النووي بقوله: " ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضي الله عنها؛ لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي- صلى الله عليه و سلم - يقول (لم أر ربي) وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة؛ لقول الله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا) ولقول الله تعالى: (لا تدركه الأبصار) والصحابي اذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة، وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها، فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن وإنما يتلقى بالسماع" [
المرجع السابق].
وردَّ ابن حجر قول النووي عن قول عائشة رضي الله عنها بقوله: "وهو عجيب فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم" أي أنها صرحت بذلك من غير تأويل. [
الفتح 8 / 607].
وتعددت الروايات عن الإمام أحمد ففي رواية: أنه رأى ربه بعيني رأسه، وفي رواية: أنه رأى ربه بعيني قلبه (أي رآه بفؤاده) وفي رواية: أنه توقف فلا يقال رآه بعيني رأسه ولا بعيني قلبه.
والقول الثالث: أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه.
وهذا قول عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة وابن مسعود وأبي ذر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهو قول جمهور العلماء.
واستدلوا:
1- بحديث الباب، وقول عائشة رضي الله عنها:" من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله " متفق عليه.
2– حديث أبي ذر رضي الله عنه في الباب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال:" نور أنَّى أراه " رواه مسلم.
( أنى أراه) أي كيف أراه، وهذا نصٌ في المسألة.
3- حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " رواه مسلم.
ووجه الدلالة: أن الله – عز وجل - لو كشف حجابه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ومن ذلك من رآه لو كان أحدٌ رآه، وهذا دليل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يره.
وهذا القول هو الراجح والله أعلم، على أنه يقال إنه لا تعارض بين القولين ولا اختلاف بين الصحابة أصلاً – كما قال جمع من أهل العلم منهم الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وأن الخلاف خلاف لفظي [
انظر منهاج السنة النبوية (2 / 636، 637].
والجمع بين القولين: بأن يحمل قول ابن عباس في أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج أنه رآه بعيني قلبه لا بعيني رأسه (أي رآه بفؤاده) لأن الذي روي عن ابن عباس حديث مطلق بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه وحديث آخر مقيد بأنه رآه بفؤاده فيحمل المطلق على المقيد لأنه لم يرو ابن عباس أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه، ويحمل قول عائشة -رضي الله عنها -أنه لم يره بعيني رأسه، فلا خلاف حينئذٍ، فيكون من نفى الرؤية حملها على رؤية البصر ومن أثبتها حملها على رؤية الفؤاد.
• قال شيخ الإسلام:" وليس في الأدلة ما يقتضي بأنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة صريحاً، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى أراه "... وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه " [
انظر مجموع الفتاوى 6 / 580].
قال ابن حجر: " ثم اختلفوا هل رآه بعينه أو بقلبه وعن أحمد كالقولين، قلت: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة وأخرى مقيدة فيجب حمل مطلقها على مقيدها... وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب" [
الفتح 8/ 608].
الفائدة الثانية: الأحاديث دليل على عظم خلق جبريل عليه السلام، وذلك من وجهين كونه له ستمائة جناح، وخلقه يغطي ما بين السماء والأرض، ولجبريل عليه السلام منزلة خاصة فهو الموكل بالوحي، وجاءت صفاته عظيمة في كتاب الله تعالى ومن ذلك:
1- جاء ذكره باسم الروح:
قال تعالى: ﴿
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ (الشعراء:193).
2- جاء وصفه بالأمين:
﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ وهو جبريل عليه السلام، الذي هو أفضل الملائكة وأقواهم "
الْأَمِينُ" الذي قد أمن أن يزيد فيه أو ينقص" [
تفسير السعدي ص(597)].
3- جاء وصفه بالرسول الكريم:
قال تعالى:﴿
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ (التكوير:19،20،21).
4- ذو قوة:
قال السعدي رحمه الله:" (ذي قوة) على ما أمره الله به، ومن قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم" [
تفسير السعدي ص(912)].
5- عند ذي العرش مكين:
قال السعدي رحمه الله:" أي جبريل عليه السلام مقرب عند الله له منزلة رفيعة، وخصيصة من الله اختصه بها، (مَكِينٍ) أي: له مكانة ومنزلة فوق منازل الملائكة كلهم" [
المرجع السابق].
6- مطاع في الملائكة:
قال البغوي رحمه الله: "( مُطاَعٍ) أي في السموات تطيعه الملائكة، ومن طاعة الملائكة إياه أنهم فتحوا أبواب السموات ليلة المعراج بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم " [
تفسير البغوي (8/ 350)].
الفائدة الثالثة: " حديث عائشة - رضي الله عنها - دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته التي خلقه الله فيها مرتين.
الفائدة الرابعة: حديث ابن مسعود رضي الله عنه دليل على أن الملائكة لها أجنحة، ودل على ذلك القرآن أيضاً، قال تعالى: ﴿
جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ (فاطر:1)
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله:" هذه الأجنحة يطيرون بها بسرعة عظيمة جداً، ولهذا يصعدون إلى السماء بروح العبد إلى السماء السابعة، حتى تصل إلى الله عزوجل – إن كان مؤمناً - وأسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم، ثم ترجع قبل أن يدفن الإنسان وتتصل ببدنه، فسرعتهم عظيمة ويدلك على سرعة الملائكة وأنهم أسرع من الجن" [
التعليق على مسلم (1/ 583)].
الفائدة الخامسة: حديث عائشة رضي الله عنها دليل على تحريم الكذب على الله تعالى، وأن الكذب بعضه أشد من بعض، وإن أعظمه الكذب على الله تعالى.
الفائدة السادسة: الأحاديث دليل على حرص الصحابة-رضوان الله عليهم- على العلم ومن ذلك تفسيرهم للآيات كما فعل ابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة وعائشة –رضى الله عن الجميع-فهم من علماء الصحابة، وفي حديث عائشة وقوع المناظرة بين الصحابة كما بين عائشة رضي الله عنها ومسروق رحمه الله.
وفيه أيضاً فقه عائشة - رضي الله عنها - وأن طلبة العلم من الرجال يرجعون إليها في مسائل العلم والفقه في الدين وشواهد ذلك كثيرة، وفي الحديث استدلال عائشة رضي الله عنها على منع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى بقوله: ﴿
لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ (الأنعام:103).
قال القرطبي رحمه الله:" وأما استدلال عائشة- رضي الله عنها - بقوله ﴿
لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾؛ ففيه بُعد إذ قد يقال بموجبه إذ يفرق بين الإدراك والإبصار، فيكون معنى لا تدركه: لاتحيط به، مع أنها تبصره، قاله سعيد بن المسيب" [
المفهم (1/ 404)].
وقال شيخنا ابن عثيمين: " ولكن هذا الاستدلال فيه نظر،لأن الآية ليس فيها نفي الرؤية، وإنما الذي فيها نفي الإدراك، والإدراك أخص من مطلق الرؤية، ولهذا نقول عن هذه الآية تدل على ثبوت الرؤية...فالآية في الحقيقة تدل على ثبوت رؤية الله، ولكن متى يكون ذلك؟ يكون بعد الموت، ولهذا جاء في حديث الدجال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" رواه ابن ماجه، وهذا عام" [
التعليق على مسلم (1/ 591)].
واستدلت عائشة رضي الله عنها لنفي الرؤية بقوله تعالى: ﴿
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ (الشورى:51) وهو استدلال ظاهر وواضح وهذا من فقهها- رضي الله عنها -. ومن ذلك تكليم الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج في الصلوات وفرضها كان من وراء حجاب إذ لا يلزم من التكليم الرؤية، وتأمل كيف قرنت عائشة رضي الله عنها أجوبتها بالأدلة وهذه علامة من علامات فتح الله تعالى على أهل العلم.
الفائدة السابعة: حديث عائشة رضي الله عنها دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة أتم بلاغ، وأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يؤخر بياناً ولم يكتم علماً ولو كان كاتماً شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية: ﴿
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ (الأحزاب:37).
قال القرطبي: " قد اجترأ بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية ونسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به ويستحيل عليه؛ إذ قد عصمه الله منه، ونزّهه عن مثله، فقال. إن النبي صلى الله عليه وسلم هَوِيَ زينب امرأة زيد، وربما أطلق بعض الْمُجّان لفظ: (( عشق )). ثم جاء زيد يريد تطليقها، فقال له. أمسك عليك زوجك واتَّقِ الله، وهو مع ذلك يحبُّ أن يطلقها ليتزوجها. وهذا القول إنما يصدر عن جاهل بعصمته صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخفّ بحرمته، والذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين أن ذلك القول الشنيع ليس بصحيح، ولا يليق بذوي المروءات، فأحرى بخير البريات، وأن تلك الآية إنما تفسيرها ما حكي عن علي بن حسين أن الله تعالى أعلم نبيه بكونها زوجةً له، فلما شكا حدّتَها زيدٌ له وأراد أن يطلقها، قال له: أمسك عليك زوجَك واتَّقِ الله، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به مما هو مبديه بطلاق زيدٍ لها وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم لها. ونحوه عن الزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري وغيرهم، والذي خشيه النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو أرجاف المنافقين بأنه نَهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج زوجة ابنه، ومساق الآية يدل على صحة هذا الوجه بقوله: ﴿
مَا كَانَ عَلى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ ﴾، ولو كان ما ذكر أولئك، لكان فيه أعظم الحرج وبقوله ﴿
لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾، وبالله التوفيق." [
المفهم 1/ 406].
الفائدة الثامنة: حديث عائشة رضي الله عنها دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولا يستطيع أن يخبر بما في الغد إلا بوحي من الله تعالى واستدلت رضي الله عنها بقوله تعالى: ﴿
قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ الله ﴾.
الفائدة التاسعة: حديث عائشة رضي الله عنها بمفهمومه يدل على تحريم الغلو بالنبي صلى الله عليه وسلم
الفائدة العاشرة: حديث أبي ذر رضي الله عنه استدل به على عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى حين سئل صلى الله عليه وسلم فقال" نُورٌ أَنَّىٰ أَرَاهُ".
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله:" وهل قوله صلى الله عليه وسلم " رَأَيْتُ نُوراً" تدل على أن الله تعالى يسمى بالنور؟ فالجواب: الظاهر أنه صفة وهو جل وعلا نور ولكنه ليس كالأنوار المخلوقة" [
التعليق على مسلم (1/ 598)]..
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان).
الالوكة