#1
|
||||||||
|
||||||||
أعرابي في حمام
أعرابي في حمام
صحبنا في رحلتنا إلى الحجاز، دليل شيخ من أعراب نجد يقال له صلَبى ما رأيت أعرابياً مثله قوةَ جَنَان، وفصاحة لسان، وشدة بيان ولولا مكان النبرة البدوية لحسبته قد انصرف الساعة من سوق عكاظ، لبيان لهجته، وقوة عارضته، وكثرة ما يدور على لسانه من فصيح الكلام. وكان أبيّ النفس، أشمّ المعطس، كريم الطباع، لكن فيه لوثة وجفاء من جفاء الأعراب، رافقنا أيام طويلة، فما شئنا خلة من خلال الخير إلا وجدناها فيه، فكان يواسينا إذا أصبنا، ويؤثرنا إذا أَضَقنا، ويدفع عنا إذا هوجمنا، ويفديّنا إذا تألمنا، على شجاعة نادرة، ونكتة حاضرة، وخفة روح، وسرعة جواب، قلنا له مرة: - إن (صْلَبة) في عرب اليوم، كباهلة في عرب الأمس، قبيلة لئيمة يأنف الكرام من الانتساب إليها، وأنت فيما علمنا سيّد كريم من سادة كرام، وليس لك في هذه القبيلة نسب؟ فما لك تدعى صلبى. فضحك وقال: - صدقتم والله، ما أنا من صلبة، ولا صلبة مني، وإني لكريم العم والخال ولكنّ هذا الاسم نكتة أنا مخبركم بها. قلنا: هات. قال: - كان أبواي لا يعيش لهما ولد، فلما ولدت خشيا عليّ فسمياني صْلَبى. قلنا: ائن سمياك صْلَبى عشت؟ قال: إن عزرائيل أكرم من أن يقبض روح صْلَبى. وسألناه مرة: هل أنت متزوج يا صْلَبى؟ قال: - لقد كنت متزوجاً بشرّ امرأة تزوجها رجل، فما زلت أحسن إليها وتسيء إليّ، حتى ضقت باحتمالها ذرعاً فطلقتها ثلاثاً وثلاثين. قلنا: إنها تبين منك بثلاث، فعلام الثلاثون؟ فقال على الفور: صدقة مني على الأزواج المساكين! وطال بنا الطريق إلى تبوك، وملّ القوم، فجعلوا يسألونه عن تبوك، ويكثرون عليه، يتذمرون من بعدها، حتى إذا كثروا قال لهم: ما لكم تلومونني على بعدها؟ والله لم أكن أنا الذي وضعها هناك. ولم يكن صْلَبي يعرف المدن، ولم يفارق الصحراء قط إلا إلى حاضرته تبوك (وتبوك لا تزيد عن خمسين بيتاً...) فلما بلغنا مشارف الشام أغريناه بالإبلاد ودخول المدينة، وجعلنا نصف إليه الشام، ونشوّقه فيأبى، وكنت صفّيه من القوم وخليله ونجيّه فجعلت أحاولره وأداوره، وبذلت في ذلك الجهد فلم أصنع معه شيئاً لما استقر في نفسه من كراهية المدن وإساءة الظن بأهلها، وكان عربياً حراً، ومسلماً موحداً، لا يطيق أن يعيش يوماً تحت حكم (الروم) أو يرى مرة مظاهر الشرك... فودعناه وتركناه... * * * وعدت إلى دمشق، فانغمست في الحياة، وغصت في حمايتها أكدّ للعيش، وأسعى للكسب، فنسيت صلَبى وصُحبته، وكدت أنسى الصحراء وأيامها، ومرّت على ذلك شهور... وكان أمس فإذا بي ألمح في باب الجابية وسط الزحمة الهائلة، وجهاً أعرفه فلحقت به أتبيّنه فإذا هو وجه صْلَبى، فصحت به: - صْلَبى! قال: - لا صْلَبى ولا مْلَبى. قلت: ولم ويحك؟ قال: أنا في طلبك منذ ثلاث ثم لا تأتي إليّ ولا تلقاني؟ فقلت له ضاحكاً: - وأي ثلاث وأي أربع؟ أتحسبها تبوك فيها أربعمائة نسمة؟ إنها دمشق يا صْلَبي، فيها أربعمائة ألف إنسان، فأين تلقاني بين أربعمائة ألف؟ قال: - صدقت والله. قلت: هلم معي. فاستخرجته من هذه الزحمة الهائلة، وملت به إلى قهوة خالية، فجلسنا بها ودعوت له بالقهوة المرة والشاهي، فسرّ، وانطلق يحدثني قال: - لمّا فارقتكم ورجعت وحيداً، أسير بجملي في هذه البادية الواسعة، جعلت نفسي تحدثني أن لو أجبت القوم ورأيت المدينة... فلما كان رمضان مرّ بنا بعض الحضريين فدعوني إلى صحبتهم لأرشدهم الطريق، ثم أغروني كما أغريتموني، وحاوروني كما حاورتموني حتى غلبوني على أمري ودخلوا بي دمشق، فما راعني والله يا ابن أخي إلا سيارة كبيرة كسيارتكم هذه، لكنها أهول وأضخم، لها نوافذ وفيها غرف، وقد خطوا لها خطين من حديد فهي تمشي عليهما، فأدخلوني إليها، فخشيت والله وأبيت، فأقسموا لي وطمأنوني، فدخلت ويدي على خنجري إن رأيت من أحد شيئا أكره وجأته به، وعيني على النافذة إن رابني من السيارة أمر قفزت إلى الطريق، وجلست، فما راعنا إلا رجل بثياب عجيبة قد انشق إزاره شقاً منكراً، ثم التف على فخذيه فبدا كأنما هو بسراويل من غير إزار، وعمد إلى ردائه فصف في صدره مرايا صغيره من النحاس، ما رأيت أعجب منها، فعلمت أنه مجنون وخفت أن يؤذينا، فوضعت كفي على قبضة الخنجر، فابتسم صاحبي وقال: هو الجابي. قلت: جابي ماذا، جبّ الله (...)! قال: اسكت، إنه جابي (الترام) أعني هذه السيارة. ثم مدّ يده بقرشين اثنين، أعطاه بها فتاتة ورق، فما رأيت والله صفقة أخسر منها، وعجبت من بلاهة هذا الرجل إذ يشتري بقرشين ورقتين لا تنفعان وجلست لا أنبس، فلم تكن إلا هنَيّة حتى جاء رجل كالأول له هيئة قِزْدية ألا أنه أجمل ثياباً، وأحسن بزّة، فأخذ هذه الأوراق فمزقها، فثارت ثائرتي، قلت: هذا والله الذل، فقّبح الله من يقيم على الذل والخسيفة، وقمت إليه فلبّبته وقلت له: - يا اين الصانعة، أتعمد إلى شيء اشتريناه بأموالنا، ودفعنا به قروشنا فتمزقه، لأمزّقن عمرك. وحسبت صاحبي سيدركه من الغصب لكرامته، والدفاع عن حقه مثل ما أدركني فإذا هو يضحك، ويضحك الناس ويعجبون من فعلي، لأن عمل هذا الرجل -فيما زعموا- تمزيق أوراق الناس التي اشتروها بأموالهم... ولما نزلنا من هذه الآفة، قال لي صاحبي: هلّم إلى الحمام. فقلت: وما الحمام يا ابن أخي؟ قال: تغتسل وتلقي عنك وعثاء السفر. قلت: إن كان هذا هو الحمام، فما لي فيه من مأرب، حسبي هذا النهر أغطس فيه فأغتسل وأتنظف. قال: هيهات... إن الحمام لا يعدله شيء، أو ما سمعت أن الحمام نعيم الدنيا؟ قلت: لا والله ما سمعت. قال: إذن فاسمع ورَهْ. وأخذني فأدخلني داراً قوراء في وسطها بركة عليها نوافير يتدفق منها الماء، فيذهب صعداً كأنه عمود من البلور ثم يتثنى ويتكسر ويهبط كأنه الألماس، له بريق يخطف الأبصار، صنعة ما حسبت أن يكون مثلها إلا في الجنان، وعلى أطراف الدار دكك كثيرة، مفروشة بالأسرة والمتكآت والزرابيّ كأنها خباء الأمير، فلم نكد نتوسطها حتى وقثب إلينا أهلوها وثبة رجل واحد، يصيحون علينا صياحاً غريباً، فأدركت أنها مكيدة مدبرة، وأنهم يريدون اغتيالي، فانتضيت خنجري وقلت: والله لا يدنو مني أحد إلا قطعت رقبته، فأحجموا وعجبوا ورعبوا، وغضب صاحبي وظنني أمزح، ومال عليّ يعاتبني عتاباً شديداً. فقلت له: ويحك أو ما تراهم قد أحاطوا بنا؟ قال: إنهم يرحبون بنا ويسلمون علينا. فسكت ودخلت. وعادوا إلى حركتهم يضحكون من هذا المزاح، ويدورون حولنا بقباقيبهم العالية، ويجيئون ويذهبون، وأنا لا أدري ما هم صانعون حتى قادونا إلى دكة من هذه الدكك، وجاءوا ينزعون ثيابنا فتحققت أنها المكيدة، وأنهم سيسلبونني خنجري حتى يهون عليهم قتلي، فقد عجزوا أن يقاتلوني وبيدي الخنجر، فأبيت وهممت بالخروج ولكن صاحبي ألحّ عليّ وأقسم لي، فأجبت واستسلمت وإن روحي لتزهق حزناً على إني ذللت هذا الذل حتى أسلمتهم سَلَبي يسلبونني وأنا حي. ولو كنت في البادية لأريتهم كيف يكون القتال... حتى إذا تمّ أمر الله ولم يبق عليّ شيء، قلت: أما من مسلم؟ أما من عربي؟ أتكشف العورات في هذا البلد فلا يغار أحد، ولا يغضب إنسان؟ فهدّأ صاحبي من ثورتي وقال: أفتغتسل وأنت متزر؟ قلت: فكيف أتكشف بعد هذه الشيبة وتذهب عني في العرب فتكون فضيحتي إلى الأبد؟ قال: من أنبأك أنك ستتكشف؟ هلا انتظرت! فانتظرت وسكت فإذا غلام من أغلمة الحمام، يأخذ بيده إزاراً فيحجبني به حتى أنزع أزراري وأتزرّ به، فحمدت الله على النجاة، وكان صاحبي قد تعرى فأخذ بيدي وأدخلني إلى باطن الحمام، فإذا غرف وسطها غرف، وساحات تفضي إلى ساحات، ومداخل ومخارج ملتفّة متلوية، يضّل فيها الخرّيت وهي مظلمة كأنها قبر قد انعقدت فوقها قباب وعقود، فيها قوارير من زجاج تضيء كأنها النجوم اللوامع، في السماء الداجية، وفي باطن الحمام أناس عري جالسون إلى قدور من الصخر فيها ماء، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، وقلت هذه والله دار الشياطين وجعلت ألتمس آية الكرسي فلا أذكر منها شيئاً، فأيقنت أنها ستركبني الشياطين لما نسيت من آية الكرسي، وجعلت أبكي على شيبتي أن يختم لها هذه الخاتمة السيئة، وإني لكذلك، وإذا بالخبيث يعود إليّ يريد أن ينزع هذا الإزار الذي كسانيه، فصحت به: يا رجل، اتق الله، سلبتني ثيابي وسلاحي، وعدت تجردني وتعريني، الرحمة يا مسلمون، الشفقة أيها الناس! فوثب إليّ الناس، وأحدقوا بي، وجعلوا يضحكون، فقال صاحبي: - ما هذا يا صْلَبى، لا تضحك الناس علينا، أعطه الإزار. قلت: وأبقى عرياناً؟ قال: لا، ستأخذ غيره، هذا كساء يفسد إذا مسه الماء، وإن للماء كساء آخر. ونظرت فإذا عليه هيئة الناصح، وإذا هو يدفع إليّ إزاراً آخر، فاستبدلته به مكرهاً وتبعت صاحبي إلى مقصورة من هذه المقاصير، فجلسنا علا قدر من هذه القدور... وأنا أستجير بالله لا أدري ماذا يجري عليّ، فبينما أنا كذلك وإذا برجل عار، كأنه قفص عظام، له لحية كثة، وشكل مخيف وقد تأبط ليفاً غليظاً يا شرّ ما تأبط، وحمل ماعوناً كبيراً، يفور فوراناً، فاسترجعت وعلمت أنه السمّ وأنه سيتناثر منه لحمي، فقصد إليّ، فجعلت أفرّ منه وأتوثب من جانب إلى جانب وهو يلحقني ويعجب من فعلي، ويظن أني أداعبه، وصاحبي يضحك ويقسم لي أنه الصابون، وأنه لا ينظف شيء مثله. قلت: ألا شيء من سدر! ألا قليل من أشنان؟ قال: والله ما أغشك، فجرب هذا إنه خير منه. فاستجبت واستكنت، وأقبل الرجل يدلكني دلكاً شديداً وأنا أنظر هل تساقط لحمي، هل تناثر جلدي، فلا أجد إلا خيراً فأزمعت شكره لولا أني وجدته يتغفلني فيمد يده تحت الإزار إلى فخذي، فيدلكه ويقرصه، فقلت هذا ماجن خبيث، ولو ترك من شره أحد لتركني، ولصرفته عني شيبتي، وهممت بهشم أنفه وهتم أسنانه، ولحظ ذلك صاحبي فهمس في أذني أنه ينظفك وكذلك يصنع مع الناس كلهم، فلما انتهى وصب عليّ الماء، شعرت والله كأنما نشطت من عقال، وأحسست الزهو والخفة، فصحت فأنكرت صوتي فقلت: ما هذا، أينطق لساني مغنٍ من الجن؟ وأعدت الصيحة فازددت لصوتي إنكاراً. واستخفني الطرب، فجعلت أغني وأحدو، فقال صاحبي: لعلك استطبت صوتك؟ قلت: أي والله. قال: أفأدلك على باب القاضي؟ قلت: وما أصنع في باب القاضي؟ قال: ألا تعرف قصة جحا؟ قلت: لا والله، ما أعرف جحا ولا قصته. قال: كان جحا عالماً نحريراً، وأستاذاً كبيراً، لكن كان فيه فضائل نادرة، وكان خفيف الروح، فدخل الحمام مرة فغنى فأعجبه صوته -وكان أقبح رجل صوتاً- وراقه حسنه، فخرج من فوره إلى القاضي، فسأله أن ينصبه مؤذناً وزعم أن له صوتاً لا يدخل أذناً إلاّ حمل صاحبها حملاً فوضعه في المسجد... فقال القاضي: اصعد المنارة فأذن نسمع. فلما صعد فأذّن، لم يبق في المسجد رجل إلا فر هارباً. فقال له القاضي: أي صوت هذا، هذا الصوت الذي ذكره ربنا في الكتاب: قال: أصلح الله القاضي، ما يمنعك أن تبني لي فوق المئذنة حماماً؟!.. * * * ولمح الأعرابي صديقاً له من أعراب نجد، قد مرّ من أمام القهوة، فقطع عليّ الحديث وخرج مهرولاً يلحق به. بقلم/ علي الطنطاوي رحمه الله ، وهي من كتابه: صور وخواطر |
01-14-2009, 02:21 AM | #2 |
|
رد: أعرابي في حمام
أعرابي في السينما نشرت عام 1940 م
وطالت غيبة " صْلَبي ", فنسيته و طرحت همه من عاتقي ,و عدت أدور مع الحياة كما تدور الساقية , مغمض العينين , أطوف في مفحص قطاة , فلا غاية أبلغ و لا راحة أجد , أغدو إلى كد العقل و عذاب النفْس , و جفاف الريق و انقطاع النفَس , و أروح و ما بقي فيّ بقية لعمل , و لا طاقة على كتابة , فألقي بنفسي على كرسيٍ أو سرير , أنتظر عذاب اليوم الجديد . و إني لغادٍ إلى المدرسة ذات يوم , و إذا أنا بأعرابي في شملته يشير إليّ ... و هو يسير بين تلك المواخيز – تريانون , و ليدو , و لُوزايس – حائراً يتلفت , فقلت : لعله ضال أحب أن يستهديني و وقفت له فلما دنا و تبينته , لم أملك من الفرح فمي ... فصحت في السوق وسط الناس , و ما لي لا أصيح و قد وجدت " صلَبي " بعد طول الغياب ... و حييته و حياني تحية ذاكر للصحبة , حافظ للود , و طفق يحدثني حديثه . قال : أتذكر يا شيخ ما بتلاني به الله من أمر الحمام ؟ لقد وقعت في داهيةٍ أدهى ... و لقد والله كرهت الحضر , و عفت المدن , و أصبحت أخشى فيها على نفسي , فما أدري ماذا سيكون من أمري بعد الذي كان ؟ .... قدمت الشام , قدمة أخرى , فكان أول ما صنعت أن قصدت صاحبي , وكنت قد عرفت داره في ( الميدان ) .. فأكرمني و أحسن استقبالي , أحسن الله إليه , و ذبح لي خروفاً , و لم يكتفِ بذلك من اكرامي بل أزمع أن يأخذني إلى سِنَمَه .. قلت : و لكني لا أعرف سِنمه هذا ؟ , و لا أدري من هو ؟ فكيف تأخذني إليه ؟ قال : لا بد من ذلك ,فاستحييت منه و كرهت أن أخالفه بعد الذي صنع في إكرامي ... و قلت في نفسي , لولا أن سنمة هذا صديق له عزيز عليه , ما سار بي إليه ولقد قال المشايخ من قبيلتنا : صديق صديقك , صديقك ... فرضيت و قلت له : على اسم الله .! و لكن الرجل لم يُسر بل أدركه لؤم الحضر فصاح بابنه أن هات الجرائد حتى نرى الرواية , فتوجسّت خيفة الشر , و قلت : إن الرجل قد جُنّ , و إلا فما بال الجرائد ؟ و هل تراه يضربني بها ؟ إذن و الله لأريّنه عزّ الرجال و لضربنه ضرباً يبلغ مستقر اللؤم في نفسه ... و خشيت أن أتريّث أو أتلوم فأخيب و أفشل و ذكرت حكمة حَمَدْ بن علْوي : " الغلبة لمن يبدأ " فشد ذلك من عزمي و صرخت " يا هُو ... " و وثبت وثبة أطبقت بها على عنقه , و قلت : سترى لمن الجرائد و السياط , ألابن المدينة الخوار الفرار , أم لابن البر الحر ؟ فأرتاع و أبيك و جعل يصيح من جبنه : أدركوني , أنقذوني ! النجدة , العون , يا فلان ( لابنه ) أقبل ... و يلك يا صْلَبي ... يا مجنون , كف عني , ويلك ماذا اعتراك ؟ فأخذتني به رأفة فكففت عنه , و قعت محاذراً أرقب أهل المنزل , وقد اجتمعوا ينظرون إليّ بعيون من يهم بفرْي جلدي , فقال : ما أردت بهذا ويلك ؟ و بم أسأت إليك حتى استحققت منك هذا الصنيع ؟ قلت : بالجرائد ... أمثلي يضرب بالجرائد لا أمّ لك ؟ . فضحك و جعل يكركر حتى لقد شبهت بطنه بقربة جوفاء أدخلتها الماء , و ضحك كل من كان حاضراً من أهله و بنيه ضحكاً ما شككت معه أن القوم قد أصابهم طائف من الجن , فقلت : قبحكم الله من قوم , و قبحني إذ أنزل بمثلكم و هممت بالانصراف . فصاح بي و عزم عليّ إلا ما رجعت فبررت بيمينه و قفلت راجعاً فقال لي : و أنت حسبت الجرائد مما يضرب به ؟ ألم تبصر جريدة قط ؟ قلت : و يحك فكيف إذن ؟ أنا من بلاد النخيل , تبوك حاضرتي . قال : و تحسبها جرائد نخيل ؟ قلت : إذن فجرائد ماذا ؟ قال : خذ هذه هي الجرائد . و ألقى إليّ صحفاً سوداء بها من دقيق الكلم مثل دبيب النمل , فعجبت منها و سألته أن يقرأ عليّ ما فيها فأستفيد علماً ينفعني في أخرتي , فإن الرجل لا يزال عالماً ما طلب العلم . فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل , و لقد سمعت أنه جاء في الأثر " كن عالماً , أو متعلماً , أو مستمعاً , و لا تكن الرابعة فتهلك " . فضحك و قال : هل تظنها كتب علم ؟ قلت : فماذا بها فيها مما ينفع الناس ؟ قال : فيها أخبار البشر , من سافر منهم أو حضر , أو تزوج أو ولد له ولد , فما يصنع أحد من شيء إلا دون فيها , و لا ينبغ من عالم أو أديب أو يقدم مغن أو تجي قينة أو تأمر الحكومة أو تنهى إلا ذكر ذلك فيها , حتى إن فيها صفة الخمر و الإعلان عن الميسر , و أخبار دور الدعارة , و الدعوة إلى الروايات الخليعة ... فلما سمعت ذلك طار عقلي و أخذت هذه الجرائد و مزقتها شر ممزق , وعلمت أن الله مهلك هذه القرية , و عزمت على مفارقتها و نويت ألا أعود إليها بعد الذي سمعت من خبر جرائدها ... و ما ظننت أن مثل ذلك يكون , ولم يجتزيء صاحبي بما أعلمني من علمها حتى وصف لي أخرى تكون في أيدي الصبيان و البنات فيها صور قوم عراة تبدو عوراتهم , و نساء ما يسترهن من شيء إلا شيء ليس بساتر , قلت : فهل يرضى الحضري بها ؟ قال : نعم ... فسقط و الله من عيني و قلت , هذا القرنان الذي لا تأخذه على أهله غيرة , و ما كنت أحسب أن رجلاً يؤمن بالله و اليوم الأخر يفعل ذلك . و لست مطيلاً عليك الحديث ... ... و ذهبنا نزور سنمة فسرنا حتى بلغنا قصراً عظيماً على بابه كثير , و له دهليز تسطع فيه الأضواء , فقلت , هذا قصر أمير البلد , هذا الذي يدعونه رئيس الجماهير ... و ألهاني ما رأيت و شغلني ففقدت صاحبي وسط الزحمة ... و لكني لم أُبالِ , و أقبت أصعد الدرج فمنعني أغلمة بثياب ضيقة حمر ما رأيت مثلها , وعلى رؤوسهم كُمَمٌ لها رواق من فوق عيونهم كالذي يوضع على عينيّ بغلة العجلة ... و أفخاذهم مكشوفة فعل أهل الفسوق و التهتك , فهممت أن آخذ ثلاثة منهم فأكركبهم على الدرج فأزحلق مِعدهم عن مواضعها , ثم قلت : ترفق يا صلبي لا تُجن فما أنت في البادية , أنت في قصر الأمير و هؤلاء مماليكه و إنك إن مسستهم لم تجد أمامك إلا ضرب العنق ... و و ضعت يدي على عنقي أتحسسها فعلمت أني لا أزال أحتاجها . و لو أنني في السوق أبتاع مثلها ××× وجدك ما باليت أن أتقدما . و سألت الغلمان الكاشفي ماذا يريدون مني أن أصنع , فأشاروا إلى كوة ازدحم عليها الناس فعلمت أن الدخول من هناك , فأقبلت أزاحم و أدافع و هم يردونني حتى بلغت الكوة , فإذا هي غرفة ضيقة كأنها القفص و إذا فيها رجل محبوس و الناس يتصدقون عليه , فقلت في نفسي , هذا رجل ضرب مماليك الأمير فحبسه هنا لتضرب عنقه في غداة الغد , و حمدت الله على السلامة , و توجهت بوجهي إلى رجل توسمته أسأله : متى تضرب عنق السجين ؟ فنظر إلي و لم يجب , ثم ولاني قفاه و انصرف , فعلمت أن الأمير يمنع الناس من الكلام في هذا , و لولا ذلك لأجابني . بقلم/ علي الطنطاوي رحمه الله ، وهي من كتابه: صور وخواطر |
|
01-14-2009, 03:31 AM | #3 |
|
رد: أعرابي في حمام
ودنوت من كوّة السجن فأعطيته قروشاً كانت معي وقلت له: هذه لأولادك من بعدك، لهم الله فلا تحزن، فلم يقبضها حتى عدّها فرآها كثيرة فردّ إليّ بعضها وقبل بعضاً، فلم أحلف عليه وأخذتها منه وأخذت معها ورقة صفراء أعطانيها لم أدر ماهي، ولكنني لم أشأ كسر قلبه بردّها، ووضعت ذلك كلّه في كمي وعدت إلى الكوّة لأدخل منها فوجدتها عالية، فوثبت فأصبت بقدمي وجه رجل ممّن كان هناك، فما باليته وقلت سأعتذر إليه، وقد رأيت أهل المدن يؤذون إيذاء العدوّ، ثمّ يعتذرون اعتذار الصديق.
وأدخلت رأسي في الكوّة، فصاح السجين صياحاً أرعبني والله، شبّهته بصراخ كلب ديس على ذنبه، وأجلب الناسُ، وطفقوا يشدّون برجلي وثيابي، وأنا أرفس بقدمي رفساً لا أبالي موقعه من أجساد النّاس، والسجين اللئيم الذي أحسنت إليه يدفع برأسي ويشدّ بشعري، ولم يكن عضو من أعضائي إلا وهو مشغول، فيداي أتمسك بهما، ورجلاي أذود بهما عن نفسي، ولم أجد ما أدفع به أذاه عني إلاّ أن بصقت في وجهه، فأقبل يضربني فعضضت يده، ثمّ دنوت من وجهه فعضضت أنفه.. وكان أنفاً ذليلاً لا يزال خبث طعمه على لساني. ثمّ أخرجوني قسراً وجبراً، وجاء مماليك السلطان فحجزوا بيني وبينهم، وأخذوا الورقة الصفراء، وأدخلوني من باب كان هناك إلى بهو واسع صحّ معه ما كنت قدرت من أن سنمة هذا سلطان البلد..ورأيت النّاس قد صفّوا كراسيهم كصفّ الصلاة، وإذا بعضهم يولي بعضاً دبره، فقلت: ما ألأمَ أهل المدن، والله ما كنت مولياً مسلماً ظهري إلا في الصلاة، وعمدت إلى الكرسي لأديره فإذا هو مثبت بمسامير من حديد، فتركته واستدرت أنا، فجلست على قفاه، وجعلوا يضحكون مني، فما ألقي لهم بالاً، حتى جاءت امرأة، فجلست قبالتي، فقلت: يا أمة الله استتري. فأقبلوا يزبرونني، وإذا هي ـ فيما قالوا ـ شاب وليس امرأة، فجعلت أعجب. ولبثت أنتظر خروج السلطان فإذا بالمماليك يديرونني فيجلسونني من حيث يجلس النّاس، فلم أملك إلا الطاعة، وقعدت أنتظر فلم أنشب أن جاء مملوك آخر، فقدّم إليّ صفحة من خشب قد صفّ عليها فراني وشطائر وقال: تريد؟ قلت: أريد والله.. وهل يأبى الكرامة إلا اللئيم؟ وأقبلت آكل فأجد طعاماً هشّاً تحت الأسنان، حلواً في الحلق، خفيفاً على البطن، فقلت: هذه هي البقلاوة التي وصفوها لنا، وجعلت آكل فلا أشبع، وهو يقدم إلي متعجباً حتى استنفدت ما كان معه، فمسحت شفتي بيدي وقلت: الحمد لله، جزاك الله خيراً. فظلّ واقفاً ولم يمض، فقلت: الحمد لله، لقد شبعت. قال: يَدك على الفلوس؟ قلت: ويحك ماذا تريد؟ قال: أكلت ثلاثين قطعة كلّ قطعت منها بسبعة قروش فهذه مئتان وعشرة.. قلت: قبحك الله من عبد لئيم! تأخذ من ضيوف السلطان ثمن القِرى؟ وكان ما أكلت قد شدّ ظهري فوثبت إليه ووثب إليّ، وقام النّاس، وزلزل البهو بأهله، وكادوا والله يطردونني لولا أن ظهر صاحبي فانفرد بالمملوك فأرضاه عني، وجاء فقعد معي. وإنا لكذلك ياشيخ، وإذا بالأنوار تنطفئ، وإذا بالخيل تهجم علينا مسرعة حتى كادت والله تخالطنا. فقلت: لك الويل ياصْلَبى، ثكلتك أمّك، إنَّه الغزو فما قعودك؟ وقفزت قفزاتي في البادية، وصرخت وهجمت أدوس على أجساد النَّاس وهم يضجُّون ويصخبون، فلما كدت أبلغ الخيل اشتعلت الأنوار وفرّ العدو من خوف بطشي هارباً، وجاء عبيد السلطان ليخرجوني فردّهم عني صاحبي وكلّمهم. فقلت: هذا والله العجز والذل، فقبّح الله من يقيم عليهما. ترون العدوّ قد خالطكم وتلبثون قعوداً؟ ما أكرهكم إليّ يا أهل المدن، ما ظننت والله إلا أنّكم ستحملون إليّ صلة السلطان على أن رددت عدوّكم وهزمته.. فضحك اللئام، وجعل صاحبي يحذِّرني العودة إلى مثلها؛ ولم ألبث حتى أطفئت الأنوار كرّة أخرى، ففزعت ونظرت فما أحسست إلا امرأة قد قبض عليها رجل خبيث يحاول أن ينال منها على مرأى منا ومسمع؛ وهي تستغيث وأنا أسمع صياحها ولا من مغيث؛ فثارت الحمية في رأسي وسللت الخنجر وأقبلت أريده، فاختفي والله كأن لم يكن هنالك من أحد. وعادت الأضواء، ورجع الصخب؛ فقلت: والله ما أقيم، وجعلت أصيح: أخرجوني.. ويلكم.. أخرجوني.. قال صْلَبى: فخرجت وقد علمت أنّ جرائدكم يا أهل المدن تنشر الفجور وتهتك ستر الله عن النّاس وتفضحهم، وأنَّ شبابكم بنات، وأنّ أمراءكم سحرة يسحرون أعين النّاس حتى يروهم ما لايُرى.. ثمّ إنّكم لا تغارون على أعراضكم ولا تبالون كشف عورات أبنائكم وبناتكم.. لا والله ما أحبكم.. وذهب مولياً عني مسرعاً يمشي بين تلك المواخير القذرة: تريانون وليدو وأولميبيا.. تلقاء سوق الحميدية والأموي حيث المدن الطاهرة الفاضلة.. حيث دمشق التي سمّاها شوقي "ظئر الإسلام"! -------------------------------------------------------------------------------- بقلم/ علي الطنطاوي رحمه الله ، وهي من كتابه: صور وخواطر |
|
01-15-2009, 09:22 PM | #6 |
|
رد: أعرابي في حمام
باقي أشوف وش سوى في السينما لكن ليس الآن ...<<< دخل جو مع الفصحى
مشكور الهوى الغايب على هالقصة الرائعة |
[/COLOR][/FONT][/SIZE][/CENTER]
|
01-17-2009, 10:19 AM | #8 |
|
رد: أعرابي في حمام
إبداع منقطع النظير أشكرك أيها الهوى الغائب على هذه القصة الشيقة وفي إنتظار المزيد من إبداعاتك ...
|
[/COLOR][/FONT][/SIZE][/CENTER]
|
01-18-2009, 12:26 AM | #9 |
|
رد: أعرابي في حمام
أسير الظلام
الشكر لله ثم للأديب الكبير علي الطنطاوي رحمه الله فهذه القصة مما جاد به قلمه رحمه الله وأنا اسم معرّفي الحاضر الغائب وإذا كان ثقيلا عليك فنادني باسمي الحقيقي "خالد" تشرفنا بإشادتك للموضوع يا عزيزي |
|
01-18-2009, 02:18 AM | #10 |
|
رد: أعرابي في حمام
تم الانتهاء من القصه ..
يعطيك العافيه الحاضر الغائب .. شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية . |
|
01-21-2009, 08:20 AM | #12 |
كاتبة قديرة ومميّزة
|
رد: أعرابي في حمام
نقل مميز من كتابات الشيخ الجليل علي الطنطاوي رحمه الله
اقترح عليك ان تجعلها على شكل سلسلة قصص تنقلها متتابعه لانها قصص جميله تستحق القراءه جهد جميل بارك الله فيك |
|
02-05-2009, 02:16 AM | #13 |
|
رد: أعرابي في حمام
روووووووووووووووووووووعه
من جد والله يعطيك العافية |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
شاهد جمال العالم من خلال كأس ماء | شيخة بني عمرو | الصور والأفلام والفلاش | 7 | 10-11-2012 07:29 PM |
بنساب حلال حلال حلال حلال حلال حلال | ولدصالح | الأسهم السعودية | 14 | 08-29-2010 11:05 PM |
خطاب الرئيس جمال عبدالناصر فب جلاء القوات البريطانية من مصر | جمال عبدالناصر | مواضيع الحوار والنقاش | 19 | 01-02-2010 12:00 PM |
..&جمال الروح&.. | جروح ماتروح | مواضيع الحوار والنقاش | 2 | 02-21-2009 04:03 PM |
جدي أعرابي و انا اعرابي وابوي اعرابي | الغراني | الصوتيات والمرئيات والفنون الشعبية | 16 | 09-15-2006 11:00 PM |