دلالات (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير)
﴿
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾؛ هكذا ابتدأت؛ وهكذا تنتهي: ﴿
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ والجواب: إنه الله وحده الذي بيده ملك كل شيء وهو وحده سبحانه على كل شيء قدير؛ ولأنه كذلك استحق أن تباركه القلوب قبل الألسن والجوارح.
﴿
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾: أي تقدس وتمجد فهو العظيم ذو الجلال والإكرام تزداد عظمته ويزداد مجده وجلاله وكماله على جميع خلقه فلا يزال مجيداً جليلاً عظيماً تنبض بقداسته القلوب تسبحه بحمده كما تسبح بحمده كل الخلائق؛ قال الحق سبحانه: ﴿
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ فهو سبحانه الملك القاهر فوق عباده؛ كل شيء بيده؛ لا ند له ولا نظير ولا شريك؛ قدرته مطلقة دون حدود ولا انتهاء؛ وملكه عطاء لا تنفد خزائنه؛ يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر وهو اللطيف الخبير؛ ينادي عباده من الجن والإنس كما في الحديث القدسي: [يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد وسألوني وأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر] وهو القائل جل جلاله: ﴿
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾.
وهكذا هو الإنسان يظلم نفسه كثيراً بتجاهله نعم الله عليه فلا يستعملها في طاعته بل يستعملها في معصيته فيكون بذلك كافراً نعمة الله غير شاكر لها؛ شأنه في ذلك شأن صاحب الجنتين الوارد ذكره في سورة الكهف الذي لم يشكر نعم الله عليه وحرم الفقراء والمساكين حقهم فيها واغتر بحلم الله عليه ولم ينتفع بنصح أخيه وهو يحذره شؤم كفران النعمة ويقول له: ﴿
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾. وهو سبحانه القائل في سورة الفرقان ﴿
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ * عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾. كما قال أيضا:﴿
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾.
فإذا كان من يملك الكون والحياة والموت والدنيا والآخرة ينادي في ذلك الموقف المهيب؛ يوم ينزع الله كل الحياة من كل الأحياء؛ وكل الفانين إلى فناء ولم يبق إلا وجهه الكريم العظيم الجليل الكبير ينادي: لمن الملك اليوم.. لمن الملك اليوم.. لمن الملك اليوم.. فلا يجيبه أحد.. فيقول سبحانه: لله الواحد القهار.
يا ألله.. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور؛ خلق العدم وخلق قبل العدم الإيجاد قبل ما هو كائن موجود؛ وكل ما كان غير موجود أوجده الله فالله خالقه؛ وكل الموجودات خلقها الله على الفناء؛ وبعدد الأيام والساعات والدقائق والثواني لكل حي عاشها ثم يموت فالله سبحانه هو الخالق؛ وما بين الموت والحياة يخلق الله مالم نعلمه دون ما علمناه وحتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ وما بعد حتى وإلى؛ هي في حق الله الملك القدير على غير ما تحتمله العقول وتدركه؛ ﴿
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
وما بين خلق الله للموت والحياة يخلق الله أحوالنا ويقدر قدراتنا لينظر ويبلونا أينا أحسن عملاً على ما نحن عليه من الضعف والتقصير؛ ولأننا مهما اجتهدنا لنشكره حق شكره فإن شكرنا بصلاح أعمالنا لا يبلغنا حقه سبحانه علينا؛ ولن نوفيه ولو عشنا أحقابا من العمر غير أنه العزيز الغني الذي استغنى عنا وليس ينفعه شيء من أعمالنا يمن علينا فوق ما يغطينا ويلبسنا من النعم بالغفران والعفو؛ وهي أبلغ نعمه التي تستحق الوقوف عليها تقديساً وإجلالاً وتعظيماً ﴿
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.
إن من يقرأ هذه السورة المباركة ويعيشها بقلبه ويغوص في دلالاتها ليجد في نفسه إحساساً عجيباً وشعوراً مريحاً ويجد نفسه ممتلئة بعظمة وقداسة الملك القدوس الذي تلمس بذات الإحساس تبارك كل شيء حولك وكأنك تسمع همسات الخلائق وهي تبارك الله وتقدسه على مدار أوقات الحياة.
إن بين ثنايا هذه السورة تساؤلات تؤكد مسار موضوع الملك المطلق لله وحده مع القدرة الإلهية المطلقة:
﴿
أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير﴾، وكذلك: ﴿
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾، ﴿
أَمَّن هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُم يَنصُرُكُم مِن دُونِ الرَّحمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ في غُرُورٍ * أَمَّن هَذَا الَّذِي يَرزُقُكُم إِن أَمسَكَ رِزقَهُ بَل لَجُّوا في عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾، ﴿
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾. وتأتي الآية الأخيرة لتختم التقرير بهذه الحقيقة توكيداً وترسيخاً أن الله وحده المليك القدير ﴿
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ والإجابة تنطقها أفئدة الخلق وقلوبها بصوت واحد.. الله الله الله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.. فتبارك.
الألوكة