شرح حديث
(إن هذا المال خَضِرة حلوة)
عن الزهري عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، أن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني ثم قال: "يا حكيم، إن هذا المال خَضِرَةٌ حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى"، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه، يدعو حكيماً إلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاً، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي. [1]
من فوائد الحديث:
1- قوله (خَضِرَةٌ حلوة) شبهه في الرغبة فيه، والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء الحلوة المستلذة؛ فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده والحلو كذلك على انفراده فاجتماعهما أشد وفيه إشارة إلى عدم بقائه لأن الخضروات لا تبقى ولا تراد للبقاء. [2]
2- قوله: (فمن أخذه بسخاوة نفس)، يريد من أخذه من غير حرص وشره، فلا يمسكه ضنا به، لكن ينفقه ويتصدق به. وقوله: (ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع)، يريد أن سبيله في ذلك سبيل من يأكل من ذي سقم وآفة، يأكل فيزداد سقما، ولا يجد شبعا، فينجع فيه الطعام، وأحسبه أراد من به الجوع الكاذب، وهو علة من العلل.
3- التعفف عما في أيدي الناس.
4- قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، فإنه يفسر على وجهين: أحدهما: أن العليا المنفقة والسفلى السائلة. والوجه الآخر: أن تكون العليا هي المتعففة، روي ذلك عن ابن عمر، وهو أشبه الوجهين ههنا. [3]
5- التأنيث في (خَضِرَة) أن تكون التاء للمبالغة، أو باعتبار أنواع المال، أو الصورة أو تقديره كالفاكهة الخضرة الحلوة. شبه المال في الرغبة فيه بها فان الأخضر مرغوب فيه من حيث النظر والحلو من حيث الذوق فإذا اجتمعا زاد في الرغبة.
6- قوله: (لا أرزأ أحدا بعدك) معناه لا أنقص مال أحد بالأخذ منه، ولا أسأل أحدا بعدك.
7- إن قلت: لم أمتنع من الأخذ مطلقا وهو مال مبارك إذا كان بسعة الصدر مع عدم الإشراف. قلت: مبالغة في الاحتراز إذ مقتضى الجبلة الأشراف والحرص والنفس.
8- جواز إعطاء السائل من المال مرتين، وثلاث مرّات.
9- ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرم.
10- الموعظة والحض على الاستغناء عن الناس بالصبر، والتوكل على الله.
11- فضل الغني على الفقير.
12- أنه لا يستحق أحد من بيت المال شيئا إلا بعد إعطاء الإمام.
13- إنّه لا قهر في الأخذ من العطاء، وإنما أشهد عمر رضي الله عنه على حكيم لأنه خشي سوء تأويله، وخشي كلام الناس، فأراد أن يبرئ ساحته بالإشهاد عليه.
14- ما جاء من المال الحلال من غير سؤال؛ فإنّ أخذه خير من تركه.
15- قوله (الفيء) هو لغة الخراج والغنيمة واصطلاحا هو المال المأخوذ من الكفار بدون إيجاف خيل وركاب. [4]
16- قوله
العطاء) أي الذي يُعطى من بيت المال على وجه الاستحقاق. وهو ما يعطيه الأمراء للناس من قراراتهم، وديوانهم الذي يقرّرونه لهم في بيت المال، وكان يصل إليهم في أوقات معينة من السنة. [5]
17- ثبت حكيم بن حزام رضي الله عنه على المبدأ الذي اتخذه لنفسه، أنّه لا يسأل أحداً شيئا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
18- النبي صلى الله عليه وسلم يربي نفوس أصحابه. فالكلام الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم أثّر فيه أيّما تأثير.
19- كثرة السؤال لطلب المال، تُذهب ماء الوجه.
20- المال عصب الحياة، وعديل الروح.
21- كلمّا تعفّف المرء عن أشياء الآخرين؛ سمت نفسه.
22- صراحة عمر رضي الله عنه.
23- النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل في أمور كثيرة بالثلاث، فيدعو ويكرر الدعاء ثلاثا، ويكرر الكلام ثلاثا حتى يُفهم عليه، وأشياء أخرى. منها هنا فقد أعطى حكيما ثلاث مرات، ثمّ نصحه بعدها، ووجّهه.
24- ما سأل حكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلاّ لأنّه كان محتاجا إلى المال.
25- الذي يتّخذ قرارا مصيريا، مثل الذي اتخذه حكيم رضي الله عنه ، فعليه أن يتحمّل الآثار المترتبة على القرار.
26- البركة في المال من الله سبحانه.
[1] صحيح البخاري 2/ 123 رقم 1472. صحيح مسلم 2/ 711 رقم 1035.
[2] شرح محمد فؤاد عبدالباقي على صحيح مسلم 2/ 711.
[3] من 2-4 مستفاد من أعلام الحديث شرح صحيح البخاري للخطابي 2/ 800.
[4] من 5-15 مستفاد من الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري للكرماني 8/ 17 ومابعدها.
[5] مجمع بحار الأنوار في غرائب التنـزيل ولطائف الأخبار لمحمد طاهر بن علي الهندي الفَتَّنِي 3/ 621.
الالوكة