حديث صلح الحديبية
لعل المقام لا يتسع لذكر كل الأحاديث الواردة في صلح الحديبية استقصاءً وتتبعاً، لذا فإني أكتفي بذكر الحديث الخاص بالتواصل والحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش؛ لما له من علاقة بهذا الموضوع.
وأريد أن أشير هنا إلى الخلاف الحاصل في تسمية حادثة الحديبية، وأن تسميتها بالصلح، إن هو إلا ترجيح لبعض العلماء الذين اهتموا بالتدوين في مادة السيرة النبوية، وكذلك أيضاً المحدثون الذين تصدوا لجمع السنة في الجوامع والمصنفات، فضلاً عن أنَّ أحداً لا يماري في أنها كانت مقدمة الفتح المبين، فوجب العدول عن غيرها من التسميات؛ إذ سماها البعض بأمر الحديبية[1]، وبعضهم بقصة الحديبية[2]، وبعضهم بعمرة الحديبية[3]، وثمة من سماها بغزوة الحديبية[4].
ولعل كل فريق من هؤلاء كانت تسميته لها باعتبارٍ مَا، وَوَفْقَ مُرجح توصل إليه، وأحسبُ أنَّ جميع التَّسميات لا تتعارض مع ما قررناه، وإن كان قد يشكل على من سمَّاها بالغزوة؛ إذ الغزو فيها لم يقع حقيقة، وأنَّ الفتح الذي يتحقق بالغزو، غير الفتح الذي يتم بالصلح، وأنَّ العبرة في التسمية لفعل الشارع وإلى ما قضى به لا إلى ما اعتاده الغير من الأفعال والتصرفات والتسميات.
وعليه فقبل أن ننظر في موافقة التسمية لاصطلاح أهل السير والحديث، وأنه تم إطباق الصحابة صلى الله عليه وسلم على ذينك الاسم والاصطلاح[5]، كان لا بد أن ننظر ابتداءً وانتهاءً إلى مآلات أفعال الشارع وتصرفاته، وأنه كما نتقيد بأمر الشارع ونهيه في عموم التكاليف الشرعية، فإنه يجب أيضا التقيد بأوامره ونواهيه في شؤون الحرب والسلم أيضاً وإن كان مجتهدا؛ لأن الله تعالى لا يُقره على خطأ؛ لذا قال تعالى في سورة النجم: ﴿
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4][6].
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف، فإنه لا يعدو أن يكون خلافاً في اللفظ والتسمية ليس إلاَّ.
هذا وقد اخترت من الأحاديث الصحاح ما كان بلفظ صحيح البخاري، لأنه هو الأقوى، فضلاً عن شروحه التي هي الأكثر تداولاً واستيعاباً ومتابعة لحوادث ووقائع قصة صلح الحديبية.
لقد ساق الإمام البخاري نص الحديث على طوله بعدِّه حواراً دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم والطرف الذي طلب منه الوساطة بينه وبين قريش، وما تم في الأخير من صلح ومصالحة، وإن كان المصنف قد اختصر صدر هذا الحديث في غير هذا الموضع، فإني أنقل هذا الحديث بطوله وتمامه؛ لما أفاده من نقل دقيق، ورصد لجميع فصول قصة صلح الحديبية، وأوضح بعض ما جاء من شرح لجمله وفقراته التي غالباً ما أرمز لها بالخط الأسود العريض من شرح ابن بطال، وشرح الخطابي، وفتح الباري، وهما مضامين المعاني التي سأعرضه في هذا البحث المتواضع، وقد وجدت نفسي مضطراً إلى أن أقوم بسوق الحديث في أطراف ومقاطع، اتباعا للمنهج العلمي في التعامل مع البحث، وذلك في كل طرف منه يُتبع بشيء من الشرح والبيان انطلاقا من الشروح المذكورة آنفا.
الطرف الأول من متن الحديث: قال الإمام البخاري: " حدثني عبد اللَّهِ بن مُحَمَّدٍ حدثنا عبد الرَّزَّاقِ أخبرنا مَعْمَرٌ قال أخبرني الزُّهْرِيُّ قال أخبرني عُرْوَةُ بن الزُّبَيْرِ عن الْمِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قالا: "خَرَجَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ حَتَّى كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ
[7] في خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً
[8]، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ.)[9].
طليعة المشركين قدمت بمائتي فارس إلى كراع الغميم وعليهم خالد بن الوليد، ودخل بشر بن سفيان الخزاعي مكة، فسمع كلامهم وعرف رأيهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، ودنا خالد بن الوليد في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم في خيله فأقام بإزائه، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف، وصرف أصحابه، وأخذ بهم إلى طريق غير طريق خالد، وما جاوزوها إلا بمشقة كبيرة، حتى يتحاشى القتال، فأفضى بهم إلى ثنية أنزلتهم على الحديبية[10].
الطرف الثاني من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري:"... فَوَاللَّهِ ما شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حتى إذا هُمْ بِقَتَرَةِ
[11] الْجَيْشِ، فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بِالثَّنِيَّةِ التي يُهْبِطُ عليهم منها بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فقال الناس: حَلٍ حَلْ
[12]. فَأَلَحَّتْ. فَقَالُوا: خَلَأَتْ
[13] الْقَصْوَاءُ، خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وما ذَاكَ لها بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ) ثُمَّ قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لاَ يسألونني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا.)[14].
"قال الخطابي: "وقوله: وَالَّذِي نَفْسِي بيده، لاَ يسألوني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، يريد والله أعلم المصالحة والجنوح إلى المسالمة وترك القتال في الحرم والكف عن إراقة الدماء فيه، وهو معنى تعظيم حرمات الله."[15].
الطرف الثالث من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري:"... ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ، قال: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حتى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ على ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ الناس تَبَرُّضًا، فلم يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حتى نَزَحُوهُ، وَشُكِيَ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَطَشُ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا من كِنَانَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فيه، فَوَاللَّهِ ما زَالَ يَجِيشُ لهم بِالرِّيِّ حتى صَدَرُوا عنه،..."[16].
قال ابن حجر: "قوله: ثم زجرها، أي الناقة، فوثبت، أي قامت، قوله: فعدل عنهم في رواية ابن سعد فولى راجعا، وفي رواية ابن إسحاق فقال للناس: انزلوا، قالوا يا رسول الله ما بالوادي من ماء ننزل عليه، قوله: على ثمد، بفتح المثلثة والميم، أي حفيرة فيها ماء مثمود أي قليل، وقوله قليل الماء تأكيد لدفع توهم أن يراد لغة من يقول أن الثمد، الماء الكثير، وقيل: الثمد، ما يظهر من الماء في الشتاء ويذهب في الصيف"[17].
قال الخطابي: "وقوله: يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، أي: يأخذونَهُ قليلاً قليلاً. والبَرَّضُ: اليَسِيرُ منَ العَطَاءِ."[18]
قال ابن حجر: " قوله: فلم يلبثه بضم أوله وسكون اللام من الالباث، وقال ابن التين: بفتح اللام وكسر الموحدة الثقيلة، أي لم يتركوه يلبث أي يقيم، قوله: وَشُكِيَ بضم أوله على البناء للمجهول، قوله: فانتزع سهما من كنانته أي أخرج سهما من جعبته،...قوله: يجيش بفتح أوله وكسر الجيم وآخره معجمة أي يفور وقوله بالري بكسر الراء ويجوز فتحها، وقوله: صدروا عنه أي رجعوا رواء بعد وردهم "[19].
الطرف الرابع من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري: "... فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جاء بُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ في نَفَرٍ من قَوْمِهِ من خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ[20] رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من أَهْلِ تِهَامَةَ فقال: إني تَرَكْتُ كَعْبَ بن لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بن لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ[21] الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ[22]، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عن الْبَيْتِ. فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا لم نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قد نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ[23] وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شاؤوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ الناس، فَإِنْ أَظْهَرْ، فَإِنْ شاؤوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دخل فيه الناس فَعَلُوا، وَإِلاَّ فَقَدْ جَمُّوا[24]، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بيده لَأُقَاتِلَنَّهُمْ على أَمْرِي هذا حتى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِى[25] وَلَيُنْفِذَنَّ الله أَمْرَهُ).
فقال بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ ما تَقُولُ. قال: فَانْطَلَقَ حتى أتى قُرَيْشًا، قال: إِنَّا قد جِئْنَاكُمْ من هذا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يقول قَوْلاً، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا. فقال سُفَهَاؤُهُمْ: لاَ حَاجَةَ لنا أَنْ تُخْبِرَنَا عنه بِشَيْءٍ. وقال ذَوُو الرَّأْيِ منهم: هَاتِ ما سَمِعْتَهُ، يقول: قال سَمِعْتُهُ يقول كَذَا وَكَذَا. فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فَقَامَ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ، فقال: أَيْ قَوْمِ، أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟، قالوا: بَلَى. قال: أوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟، قالوا: بَلَى. قال: فَهَلْ تَتَّهِمونني؟، قالوا: لاَ. قال: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ[26] أَهْلَ عُكَاظَ، فلما بَلَّحُوا[27] عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟، قالوا: بَلَى.
قال: فإن هذا قد عَرَضَ عليكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ[28] اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ. قالوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نَحْوًا من قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ."[29].
قال الخطابي: "قوله: وكانوا عَيْبَةَ نُصْحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدُ: أنه كان موضع سِرِّهِ، وثِقَتِهِ، الذي يأتمنُهُ على أمره، وذلك أن الرجلَ إنما يودعُ عيبته حرَّ المتاعِ، ومصون الثيابِ، فَضُرِبَ المثَلُ في ذلك بالعيبةِ."[30].
قال ابن حجر: "وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي صلى الله عليه وسلم أن بني هاشم في الجاهلية كانوا تحالفوا مع خزاعة فاستمروا على ذلك في الإسلام"[31].
الطرف الخامس من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري: " فقال عُرْوَةُ عِنْدَ ذلك: أَيْ محمد، أَرَأَيْتَ إنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ، هل سَمِعْتَ بِأَحَدٍ من الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَكَ؟، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى، فَإِنِّي واللهِ لا أَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَشْواباً[32] مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ.
فقال له أبو بَكْرٍ: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ، أَنَحْنُ نَفِرُّ عنه وَنَدَعُهُ؟ فقال: من ذَا؟، قالوا: أبو بَكْرٍ. قال: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيده لَوْلاَ يَدٌ كانت لك عِنْدِي لم أَجْزِكَ بها لَأَجَبْتُكَ، قال وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي صلى الله عليه وسلم، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ كَلِمَةً أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ على رَأْسِ النبي صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إلى لِحْيَةِ النبي صلى الله عليه وسلم، ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ[33] وقال له: أَخِّرْ يَدَكَ عن لِحْيَةِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ، فقال: مَنْ هذا؟ قالوا: الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ. فقال: أَيْ غُدَرُ، أَلَسْتُ أَسْعَى في غَدْرَتِكَ؟ وكان الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جاء فَأَسْلَمَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ منه في شَيْءٍ).
ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النبي صلى الله عليه وسلم بِعَيْنَيْهِ. قال فَوَاللَّهِ ما تَنَخَّمَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إلا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهم فَدَلَكَ بها وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإذا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإذا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ على وَضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إليه النَّظَرَ تَعْظِيمًا له.
فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلى أَصْحَابِهِ فقال: أَيْ قَوْمِ، والله لقد وَفَدْتُ على الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ على قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، واللهِ إِنْ رَأْيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ ما يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا، والله إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إلا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهم فَدَلَكَ بها وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وإذا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وإذا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ على وَضُوئِهِ، وإذا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إليه النَّظَرَ تَعْظِيمًا له.
وَإِنَّهُ قد عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا. فقال رَجُلٌ من بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِيهِ، فَقَالُوا: آئْتِهِ. فَلَّمَا أَشْرَفَ على النبي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هذا فُلَانٌ، وهو من قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ)، فَبُعِثَتْ لَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قال: سُبْحَانَ اللَّهِ، ما يَنْبَغِي لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عن الْبَيْتِ. فلمَّا رَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ قال: رأيت الْبُدْنَ قد قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فما أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عن الْبَيْتِ.
فَقَامَ رَجُلٌ منهم يُقَالُ له مِكْرَزُ بن حَفْصٍ فقال: دَعُونِي آتِهِ. فَقَالُوا: ائْتِهِ فلمَّا أَشْرَفَ عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مِكْرَزٌ، وهو رَجُلٌ فَاجِرٌ). فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النبي صلى الله عليه وسلم. فَبَيْنَمَا هو يُكَلِّمُهُ إِذْ جاءَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو. قال مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عن عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جاء سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سَهُلَ لَكُمْ من أَمْرِكُمْ)[34].
قال ابن بطال:" وقول عروة للنبي:" أَرَأَيْتَ إنِ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَك" دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئذ في جمع يخاف منه عروة على أهل مكة الاستئصال لو قاتلهم. وخوف عروة إن دارت الدائرة في الحرب عليه، أنْ يفر عنه من تبعه من أخلاط الناس؛ لأن القبائل إذا كانت متميزة لم يفر بعضها عن بعض، حتى إذا كانت أخلاطاً فرَّ كل واحد ولم ير على نفسه عاراً، والقبيلة بأصلها ترى العار وتخافه، ولم يعلم عروة أن الذي عقده الله بين قلوب المؤمنين من محض الإيمان فوق ما تعتقده القرابات لقراباتهم؛ فلذلك قال له أبوبكر: " امصص بظر اللات" وهكذا يجب أن يجاوب من جفا على سروات الناس وأفاضلهم ورماهم بالفرار،... وقوله: فكلما أخذ بلحيته، يعني: على ما جرت به عادة العرب عند مخطبتها لرؤسائها فإنهم يمسون لحاهم ويصافحونهم، يريدون التحبب إليهم والتبرك بتناولهم،...، فلما أكثر عروة من فعله ذلك رأى المغيرة أن منزلة النبوة مباينة لمنازل الناس، وأنها لا تحتمل هذا العمل لما يلزم من توقير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله." [35]. قال ابن حجر: " قوله: أخر، فعل أمر من التأخير، زاد ابن إسحاق في روايته قبل أن لا تصل إليك، وزاد عروة بن الزبير، فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه...، قوله: فقال: من هذا؟، قال المغيرة وفي رواية أبي الأسود عن عروة فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب وقال ليت شعري من هذا الذي قد آذاني من بين أصحابك والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشر منزلة، وفي رواية ابن إسحاق فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة من هذا يا محمد؟، قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، وكذا أخرجه بن أبي شيبة من حديث المغيرة بن شعبة نفسه بإسناد صحيح وأخرجه بن حبان"[36].
قال الخطابي:" قوله: أي غُدَرُ، يريد، المبالغة في وصفه بالغدر."
[37].
جاء في شرح ابن بطال: " وقوله: "ألست أسعى في غدرتك" يريد أن عروة كان يصلح على قوم المغيرة ويمنع منهم أهل القتيل الذي قتله المغيرة؛ لأن أهل المغيرة بقوا بعده في دار الكفر.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أما المال فلست منه في شيء " يعني: في حل؛ لأنه علم أن أصله غصب، وأموال المشركين وإن كانت مغنومة عند القهر فلا تحل أخذها عند الأمن، وإذا كان الإنسان مصاحباً لهم فقد أمن كل واحد منهم صاحبه، فسفك الدماء وأخذ المال عند ذلك غدر، والغدر بالكفار وغيرهم محظور."[38].
قال الحافظ ابن حجر: " قوله: فجعل يرمُق (بضم الميم) أي يلحظ، قوله: فدلك بها وجهه وجلده، زاد ابن إسحاق ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وقوله: وما يُحِدُّونَ (بضم أوله وكسر المهملة) أي يديمون...، قوله: "ووفدت على قيصر" هو من الخاص بعد العام، وذكر الثلاثة لكونهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان...، قوله: فابعثوها له، أي أثيروها دفعة واحدة، وزاد ابن إسحاق: فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في مغازي عروة عند الحاكم: فصاح الحليس، فقال: هلكت قريش ورب الكعبة إن القوم إنما أتوا عُمَّارًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل يا أخا بني كنانة فأعلمهم بذلك، فيحتمل أن يكون خاطبه على بُعْد، قوله: فما أرى أن يصدوا عن البيت، زاد ابن إسحاق: وغضب، وقال: يا معشر قريش ما على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟، فقالوا: كف عنا، يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى، "[39].
الطرف السادس من متن الحديث: جاء في صحيح البخاري: "...قال مَعْمَرٌ قال الزُّهْرِيُّ في حَدِيثِهِ. فَجَاءَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو فقال: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا. فَدَعَا النبي صلى الله عليه وسلم الْكَاتِبَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ)، قال سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ ما أَدْرِي ما هو، وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهم، كما كُنْتَ تَكْتُبُ.
فقال الْمُسْلِمُونَ: والله لانَكْتُبُهَا إِلاَّ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ)، ثُمَّ قال: (هذا ما قَاضَى عليه مُحَمَّدٌ رسولُ اللَّهِ)، فقال سُهَيْلٌ: والله لو كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رسولُ اللَّهِ ما صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ ولا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ محمد ابنُ عبد اللَّهِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، أُكْتُبْ محمد بن عبد اللَّهِ) قال الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ (لاَ يسألونَني خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فيها حُرُمَاتِ اللَّهِ إلا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ)، فقال سُهَيْلٌ: والله لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً[40]، وَلَكِنْ ذلك من الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ. فقال سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كان على دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا.
قال الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ؟ كَيْفَ يُرَدُّ إلى الْمُشْرِكِينَ وقد جاء مُسْلِمًا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دخل أبو جَنْدَلِ بنُ سُهَيْلِ بنُ عَمْرٍو يَرْسُفُ[41] في قُيُودِهِ، وقد خَرَجَ من أَسْفَلِ مَكَّةَ حتى رَمَى بِنَفْسِهِ بين أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فقال سُهَيْلٌ: هذا يا محمد أَوَّلُ ما أُقَاضِيكَ عليه أَنْ تَرُدَّهُ إليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا لم نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ). قال: فَوَاللَّهِ إِذًا لم أُصَالِحْكَ على شَيْءٍ أَبَدًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَأَجِزْهُ لي)، قالَ: ما أنا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قال: (بَلَى فَافْعَلْ)، قال: ما أنا بِفَاعِلٍ، قال مِكْرَزٌ: بَلْ قد أَجَزْنَاهُ لك. قال أبو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إلى الْمُشْرِكِينَ وقد جِئْتُ مُسْلِمًا؟ ألاَ تَرَوْنَ ما قد لَقِيتُ؟ وكانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا في اللَّهِ، قال: فقال عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قال: (بَلَى)، قُلْتُ: أَلَسْنَا على الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا على الْبَاطِلِ؟ قال: (بَلَى)، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ[42] في دِينِنَا إِذًا؟ قالَ: (إنيِّ رسول اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وهو نَاصِرِى)، قلت: أَوَ لَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَاتِى الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قال: (بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟)، قال: قلت: لاَ،قال: (فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ)، قال: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هذا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قالَ بَلَى،قُلْتُ: أَلَسْنَا على الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا على الْبَاطِلِ؟ قال: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا إِذًا؟ قالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ يَعْصِى رَبَّهُ، وَهُو نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ[43] فَوَاللَّهِ إنَّهُ عَلى الْحَقِّ، قلت: أَلَيْسَ كان يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قال بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لاَ قالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ، قال الزُّهْرِيُّ قال عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً. قالَ: فَلَما فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ: (قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا.) قال فَوَاللَّهِ ما قام منهم رَجُلٌ، حَتىَّ قالَ ذلك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لم يَقُمْ مِنْهُم أَحَدٌ دخل على أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لهَا ما لَقِى من النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذلك؟ اخْرُجْ، لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حتى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فلم يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتىَّ فَعَلَ ذلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فلما رَأَوْا ذلك قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حتى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا، ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى ﴿
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ﴾ (حتى بَلَغَ) ﴿
بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ﴾[44]، فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا له في الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيَانَ وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أبو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وهو مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا في طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ فَقَالُوا: الْعَهْدَ الذي جَعَلْتَ لنا، فَدَفَعَهُ إلى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حتى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ من تَمْرٍ لَهُمْ، فقال أبو بَصِيرٍ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: واللهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هذا يا فُلَانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ فَقالَ: أَجَلْ واللهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَد جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ، "فقال أبو بَصِيرٍ: أَرِنِى أَنْظُرْ إليه، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حتى بَرَدَ، وَفَرَّ الْآخَرُ حتى أتى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حين رَآهُ: (لَقَد رَأَى هذا ذُعْرًا[45]).
فلما انْتَهَى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتِلَ والله صَاحِبِى وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ فَجَاءَ أبو بَصِيرٍ فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ والله أَوْفَى الله ذِمَّتَكَ قد رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِى الله مِنْهُم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ[46] لو كان له أَحَدٌ)، فلما سمع ذلك عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ؛ فَخَرَجَ حتى أتى سِيفَ الْبَحْرِ[47].
قال: وَيَنْفَلِتُ منهم أبو جَنْدَلِ بن سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لاَ يَخْرُجُ من قُرَيْشٍ رَجُلٌ قد أَسْلَمَ إلا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حتى اجْتَمَعَتْ منهم عِصَابَةٌ[48]، فَوَاللَّهِ ما يَسْمَعُونَ بِعِير[49] خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلى الشام إلاَّ اعْتَرَضُوالهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ. فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لما أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ فَأَرْسَلَ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى ﴿
وهو الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ من بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عليهم ﴾" حتى بَلَغَ) ﴿
الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾[50] وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لم يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ ولم يُقِرُّوا ببسم اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ"[51].
قال ابن حجر:" قوله: فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتابا في رواية ابن إسحاق فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين وأن يأمن الناس بعضهم بعضا وأن يرجع عنهم عامهم هذا...، قوله: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب هو علي...ويجمع بأن أصل كتاب الصلح بخط علي كما هو في الصحيح ونسخ مثله محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو...، قوله قال المسلمون سبحان الله كيف يرد... لأنه كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال في تلك المدة إلا رده، وقائل ذلك يشبه أن يكون هو عمر،...، فلما لاَنَ بعضهم لبعض في الصلح وهم على ذلك، إذ رمى رجل من الفريقين رجلا من الفريق الآخر، فتصايح الفريقان وارتهن كل من الفريقين من عندهم، فارتهن المشركون عثمان ومن أتاهم من المسلمين، وارتهن المسلمون سهيل بن عمرو ومن معه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة على أن لا يفروا وبلغ ذلك المشركين فأرعبهم الله، فأرسلوا من كان مرتهنا ودعوا إلى الموادعة وأنزل الله تعالى: ﴿
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ﴾ الآية [52]، قوله: فلما فرغ من قضية الكتاب زاد ابن إسحاق في روايته فلما فرغ الكتاب أشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين، ومنهم: أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمود بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص وهو مشرك، قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا في رواية أبي الأسود عن عروة فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدى فساقه المسلمون يعني إلى جهة الحرم حتى قام إليه المشركون من قريش فحبسوه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنحر، قوله: فوالله ما قام منهم رجل قيل كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام؛ لإتمام نسكهم، وسوغ لهم ذلك؛ لأنه كان زمان وقوع النسخ، ويحتمل أن يكونوا أَلْهَتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة، أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور، قوله: فذكر لها ما لقي من الناس في رواية ابن إسحاق فقال لها ألا ترين إلى الناس إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه؟، وفي رواية أبي المليح فاشتد ذلك عليه فدخل على أم سلمة، فقال: (هلك المسلمون أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا) قال: فجلى الله عنهم يومئذ بأم سلمة، قوله: قالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم...وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر،، قوله: فأرسلت قريش في رواية أبي الأسود عن عروة فأرسلوا أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي جندل ومن معه، وقالوا: ومن خرج منا إليك فهو لك حلال غير حرج"[53].
[1] ينظر: سيرة ابن هشام (3/ 308).
[2] زاد المعاد (ج3/ ص286.
[3] الدرر في اختصار المغازي والسير ص 204.
[4] فقه السيرة النبوية ص 230.
[5] مرويات الحديبية ص 16.
[6] النجم:3،4.
[7] الغميم: هو الكلأ الأخضر اليابس، والغميم فعيل بمعنى مفعول، أي مغموم، وهو الشيء المغطى، كراع الغميم موضع بين مكة والمدينة، والغميم موضع له ذكر كثير في الحديث والمغازي.
* النهاية في غريب الحديث والأثر، (ج4/ ص165)
[8] جمع طلائع: وهم الجماعات يبعثون بين يدي الجيش ليطلعوا على أخبار العدو ومكانهم، والواحد طليعة. ينظر: النهاية (ج3/ ص133).
[9] أخرجه البخاري (2731 ، 2732) (5/ 388).
[10] السيرة النبوية لابن هشام-(ج4/ ص276) .
[11] القترة: شبه دخان، غبرة يعلوها سواد ، و في التنزيل: ﴿
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾ عبس:40، 41، لسان العرب (5/ 73).
[12] حَلْحَلَ بالإبِلِ قال لها: حَلٍ حَلٍ مُنوَّنتين، أو حَلْ مُسكَّنةً، وكذلك حَلَى، وقيل حَلْ في الوصل، وكلّ ذلك زَجْرٌ لإناث الإبِلِ خاصَّةً .. واشتقّ منه اسمٌ، فقيل: الحَلْحَالُ، ينظر: تاج العروس (28/ 336)، لسان العرب (11/ 174).
[13] والخلاء في الإبل كالحران في الدابة، خلأت الناقة خلاء أي لم تبرح مكانها تعسرا منها، وخلأت الناقة حرنت وبركت من غير علة، ينظر: مختار الصحاح(ج1/ ص77).
[14] أخرجه البخاري رقم(2731 ، 2732) (5/ 388).
[15]" معالم السنن في شرح سنن أبي داود " (ج2/ ص328).
[16] أخرجه البخاري رقم(2731 ، 2732) (5/ 388).
[17] - فتح الباري (5/ 336،337)- .
[18]- أعلام الحديث (ج2/ ص1337) .
[19] فتح الباري (5/ 337).
[20] يقال:فلان عيبة نصح: إذا كان موضع سره وثقته في ذلك، تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، (ج1/ ص396).
[21] الماء العد: الكثير الجري الذي لا انقطاع لمادته، كماء العين والبئر المعينة، ويقال في جمعه أعداد وهو الذي أراد بقوله: نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الحديبية"، أي نزلوا في هذه المواضع على هذه المياه،: نفسه (ج1/ ص397).
[22] العوذ المطافيل: يريد النساء والصبيان، والعوذ: جمع عائذ وهي الناقة التي وضَعَتْ ...، والمطافيل: جمع مطفل وهي الناقة معها فصيلها،: نفسه (ج1/ 397).
[23] نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ: أي أضرت بهم وانتشرت فيهم، يقال: نهكته الحمى نهكاً، إذا بلغت منه وأثرت فيه وبدا ضرها عليه، ينظر: نفسه(1/ 397).
[24] جموا: استراحوا، والجمام: الراحة بعد التعب، ينظر: تفسير غريب ما في الصحيحين (1/ 397).
[25] السالفة: صفحة العنق: وهما سالفتان عن يمين وشمال يعني الموت؛ لأنها لا تنفرد عما يليها إلا بذاك، ينظر:نفسه (1/ 397).
[26] استنفرت القوم: دعوتهم إلى قتال العدو، فإن أجابوا، قيل: نفروا أي انطلقوا، فساروا، وإلا قيل: أبوا أو بلحوا، ينظر:نفسه(1/ 397،398).
[27]أصل التبليح الإعياء والعجز والفتور، يقال: بلح الرجل إذا انقطع من الإعياء فلم يقدر على الحركة وعجز عنها، وقد يقال بالتخفيف بلح، ينظر: نفسه(1/ 398).
[28] الخطة: الحال: خطة رشد وخطة غي، والرشيد والرشد والرشاد: الطريق المستقيم والهدي والاستقامة والصلاح، ينظر: نفسه (1/ 398).
[29] أخرجه البخاري رقم(2731 ، 2732) (5/ 388، 389).
[30] أعلام الحديث للخطابي(2/ 1338).
[31] فتح الباري(5/ 337، 338).
[32] من الأوشاب، والأشواب من الناس مثل الأوباش وهم الأخلاط، والأشائب أيضاً الأخلاط من الناس، وواحد الأشائب إشابة، ينظر: تفسير غريب ما في الصحيحين (1/ 398).
[33] نعل السيف: ما يكون أسفل القراب حديد أو فضة، ينظر: نفسه(1/ 398).
[34] أخرجه البخاري رقم(2731 ، 2732) (5/ 389، 390).
[35] شرح ابن بطال (8/ 101، 102).
[36] فتح الباري(5/ 341).
[37] أعلام الحديث للخطابي(2/ 1339).
[38] شرح ابن بطال (ج8/ ص102).
[39] فتح الباري(5/ 341، 342).
[40] الضغطة: القهر والتضييق، وأصل الضغط، الشدة والمشقة، ينظر: تفسير غريب ما في الصحيحين (1/ 399).
[41] الرسف: المشي المقيد، رسف يرسف رسفاً ورسيفاً، وارتسفت الإبل طردتها مقيدة، ينظر: نفسه(1/ 399).
[42] فَلِمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ: أي لم نرضى بالدون والأقل، ينظر: نفسه (1/ 399).
[43] الغرز للرحل بمنزلة الركاب من السرج، ينظر: نفسه (1/ 400).
[44] الممتحنة:10
[45] الدعر: الفزع، ينظر: نفسه (1/ 400).
[46] مسعر حرب: أي موقد حرب، يقال: سعرت النار وأسعرتها فهي مسعورة ومسعرة، والمسعر الخشب الذي تسعر به النار أي توقد، ينظر: تفسير غريب ما في الصحيحين (1/ 400)، قال الخطابي في أعلام الحديث(2/ 1341):"وقوله ( وَيْلُ امِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ)، كلمةُ تعجبٍ يصفهُ بالإقدامِ، في الحرب والإيقادِ لنارها، واشتقَاقُهُ من؛ سَعَرْتُ النار: إذا أوقدتها.".
[47] سيف البحر: ساحل البحر، وهو يحاذي المدينة إلى جهة الساحل وهو قريب من بلاد بني سليم، ينظر: تفسير غريب ما في الصحيحين (1/ 400)، فتح الباري(5/ 350).
[48] العصابة: الجماعة من الرجال نحو العشرة، والجمع عصب، وقيل: هي العشرة إلى الأربعين، ينظر: تفسير غريب ما في الصحيحين (1/ 400).
[49] العير: الإبل والحمير التي تحمل عليها الأحمال، ينظر: تفسير غريب ما في الصحيحين (1/ 400).
[50] الفتح:24 26.
[51] أخرجه البخاري رقم(2731 ، 2732) (5/ 390 392).
[52] الفتح:24.
[53] فتح الباري (5/ 342 350).
الالوكة