شرح حديث
(ما من الأنبياء من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلُه آمن عليه البشر)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْياً أَوْحَى الله إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
ترجمة راوي الحديث:
أبو هريرة رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث الأول من كتاب الإيمان.
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم حديث (152)، وأخرجه البخاري في " كتاب فضائل القرآن " " باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل" حديث (4981).
شرح ألفاظ الحديث:
• (إِلاَّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ): الآيات العلامات والمقصود ما يأتي به الأنبياء من خوارق العادات.
• (مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ): أي أن كل نبي أعطي آية أو أكثر، تجعل من يشاهدها يؤمن بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم من البشر.
• (وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيا أَوْحَى الله إِلَيَّ): قال النووي رحمه الله:" اختلف فيه على أقوال؛ أحدها: أن كل نبي أعطي من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله من الأنبياء، فآمن به البشر، وأما معجزتّي العظيمة الظاهرة فهي القرآن الذي لم يُعط أحد مثله، فلهذا قال أنا أكثرهم تابعاً...
والثاني: معناه أن معجزات الأنبياء عليهم السلام انقرضت بانقراض أعصارهم، ولم يشاهدها إلا من حضرها بحضرتهم، ومعجزة نبينا صلى الله عليه وسلم القرآن المستمر إلى يوم القيامة، مع خرق العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، وعجز الجن والإنس عن أن يتوا بسورة من مثله، مجتمعين أو متفرقين، في جميع الأعصار مع اعتنائهم بمعارضته فلم يقدروا وهم أفصح القرون، مع غير ذلك من وجوه إعجازه المعروفة" [
شرح النووي لصحيح مسلم (2/ 364)].
والمعنى الأخير هو الأظهر، واختاره ابن حجر رحمه الله قال بعدما أورده:" وهذا أقوى المحتملات وتكميله في الذي بعده، وقيل المعنى: أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزة القرآن، تُشاهد بالبصيرة فيكون من اتبعه لأجلها أكثر؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمراً" [
الفتح (9/ 7)].
وليس المراد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤت بآية إلا القرآن، وإنما ذكرت هنا لأنها هي الآية العظمى والأعم والأبقى.
قال ابن حجر رحمه الله:" وليس المراد حصر معجزاته فيهن ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره" [
الفتح (9/ 6)].
وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله:" والحصر هنا إضافي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي من الآيات غير القرآن، لكنه حصر الآيات بالقرآن؛ لأنه أعمها وأشملها وأبقاها... لأن القرآن بقي ﴿
إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ ( الحجر:9)، والآيات الأخرى كلها زالت. فمثلاً من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم أنه دخل رجل يوم الجمعة، فسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وسأل الله أن يغيثه فرفع يديه وأغاثهم الله قبل أن ينزل من المنبر، نحن الآن وصلتنا هذه الآية عن طريق الخبر، ومن المعلوم لو أننا كنا شاهدناها؛ لكنا أكثر إيماناً مما لو سمعناها لاشك... كل الآيات التي مضت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم زالت عنا باعتبار المشاهدة لكن القرآن باق بين أيدينا لكننا فقدنا طعمه ولم نذقه؛ لأننا لا نقرأ على الوجه الذي أراد الله تعالى منا: ﴿
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ﴾ [ لماذا؟ ]﴿
لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ (ص:29) فهذا القرآن آية إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى برفعه؛ لأنه قد وردت آثار بأنه سيرفع عند قيام الساعة من المصاحف والصدور، وهذا والله أعلم إذا أعرض الناس عنه إعراضاً كلياً، لا يتلونه تلاوة لفظية ولا معنوية، ولا عملية يرفعها الله؛ لأنه أكرم من أن يبقى بين أناس لا يبالون به، ولا يهتمون به، كما أن الكعبة في آخر الزمان تهدم، لأن أهلها ينتهكونها ولا يعطونها حقها من الحرمة" [
التعليق على مسلم (1/ 485-487)].
• (فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعا يَوْمَ الْقِيَامَةِ): لأن آيته صلى الله عليه وسلم القرآن باقية مستمرة فسيستمر تتابع الأتباع وكثرتهم إلى قيام الساعة.
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: الحديث دليل على إثبات الآيات للأنبياء وهذا من رحمة الله تعالى وفضله على الأمم حيث جعل مع كل نبي آية أو أكثر، وهي الفارقة بين النبي حقاً وبين من يدَّعي النبوة، إذ لا نبي إلا وقد أوتي آية أو أكثر كما هو ظاهر الحديث، والتعبير بلفظ الآيات أولى من التعبير بالمعجزات.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله:" وما اشتهر من العلماء بتسميتها بالمعجزات ففيه قصور وذلك لأن المعجزات يدخل فيها معجزات السحرة، وخوارق الشياطين... فالتعبير بالآيات خير من التعبير بالمعجزات لسببين:
أولاً: لأنه اللفظ الذي جاء في الكتاب والسنة.
ثانياً: لا يرد عليه مثل الخوارق التي تكون من السحرة والشياطين" [
التعليق على مسلم (1/ 484)].
الفائدة الثانية: الحديث دليل على أن القرآن الكريم هو الآية العظمى التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم، وتقدم بيان وجه ذلك، وخلاصة القول أن سبب تميز آية النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم عن آيات الأنبياء ما تقدم في كلام الأئمة:
1. أن القرآن الكريم آية مستمرة إلى يوم القيامة فهي باقية على مر العصور، وآيات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها.
2. أن القرآن الكريم آية تُشاهد بالبصيرة، وآيات الأنبياء حسية تُشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصى موسى، وفرق بين ما يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهدته، وما يُشاهد بعين العقل فهو باق، يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمراً، ولذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعاً.
الفائدة الثالثة: الاقتصار على ذكر القرآن الكريم في حديث الباب دون غيرها من الآيات التي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم لا يدل على الحصر كما تقدم؛ وإنما لأنها آية اتسمت بالشمول والعظمة، والبقاء والتحدي للثقلين الإنس والجن أن يأتوا بمثلها، بخلاف غيرها من آياته وآيات الأنبياء من قبله.
قال ابن بطال رحمه الله في حديث الباب: " صدق بتلك الآيات لإعجازها لمن شاهدها، كقلب العصا حية، وفلق البحر لموسى عليه السلام، وكإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام، وكان الذي أعطيته أنا وحياً أوحاه الله إليَّ فكان آية باقية دُعي إلى الإتيان بها أهل التعاطي له، ومن نزل بلسانهم، فعجزوا عنه، ثم بقي آية ماثلة للعقول إلى من يأتي إلى يوم القيامة، يرون إعجاز الناس عنه رأي العين والآيات التي أوتيها غيره من الأنبياء قبله رُئي إعجازهم في زمانهم، ثم لم تصحبهم مدة إلا حياتهم، وانقطعت بوفاتهم، وكان القرآن باقياً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم " [
شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 330)].
ولقد أبقى الله تعالى القرآن الكريم آية محفوظة خالدة إلى قيام الساعة فقال تعالى:﴿
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ ( الحجر:9)، وتحدى بها الثقلين على مر العصور إلى قيام الساعة على عدة أوجه:
• تحداهم بالقرآن كله فقال: ﴿
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ (الإسراء:88).
• وتحداهم بأقل من ذلك بأن يأتوا بعشر سور مثله فقال تعالى: ﴿
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (هود:13).
• وتحداهم بأقل منه بأن يأتوا بسورة واحدة مثله، فقال الله تعالى: ﴿
وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين ﴾( البقرة:23).
الفائدة الرابعة: الحديث دليل على أن الأنبياء عليهم السلام يتفاوتون في عدد أتباعهم ويدل على ذلك أيضاً حديث ابن عباس رضي الله عنهم في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم:" عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك " الحديث.
الفائدة الخامسة: الحديث دليل على أن نبينا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة، ويدل على ذلك أيضاً حديث ابن عباس السابق، وما جاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة"، وما رواه أحمد وابن ماجه من حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعاً:" أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم" صححه الألباني في صحيح ابن ماجه (4289) وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند (22990): أن إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح"
وذكر ابن القيم رحمه الله أنه لا تنافي بين العدد في الحديثين وعلل ذلك بقوله:" لأنه رجا أولاً أن يكونوا شطر أهل الجنة وأعطاه الله سبحانه وتعالى رجاءه وزاده عليه سدساً آخر" [
حادي الأرواح ص (85)].
الفائدة السادسة: الحديث دليل على أن القرآن سبب لكثرة الأتباع، لعموم نفعه، وتأثيره على تاليه وسامعه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال ابن حجر رحمه الله:" رتب هذا الكلام على ما تقدم من معجزة القرآن المستمرة لكثرة فائدته، وعموم نفعه لاشتماله على الدعوة والإخبار بما سيكون فعمّ نفعه من حضر ومن غاب، ومن وُجد ومن سيوجد، فَحسُنَ ترتيب الرجوى المذكور على ذلك، وهذه الرجوى قد تحققت فإنه صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تبعاً" [
الفتح (9/7)].
الفائدة السابعة: الحديث علم من أعلام النبوة حيث أخبر بكثرة الأتباع رغم قلتهم حينما قال ذلك.
قال النووي رحمه الله: "(فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعا) علم من أعلام النبوة فإنه أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا في زمن قلة المسلمين، ثم منَّ الله تعالى وفتح على المسلمين وبارك فيهم حتى انتهى الأمر واتسع الأمر في المسلمين إلى هذه الغاية المعروفة ولله الحمد" [
انظر شرح النووي لصحيح مسلم(2/ 365)].
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)
الالوكة