في مجتمع العولمة.. تجد أفانين الغيبة، وإشـــكالية الوجـــوه، وتعــــددية الألســن. وتجـــــــد أحـــــــاييل وألاعـــــيب وضحــكاً على الذقون ودونها وخلفها..
في
تراثياتنا تواردت قصة صاحب الخاتم مع جاره.وتقول القصة: إن عبدالله بن هلال الكوفي المخدوم سأل جاره أن يكتب له كتاباً إلى إبليس في حاجة له. فكتب إليه الكتاب وأكده غاية التأكيد ومضى فأوصل الكتاب إلى إبليس فقرأه وقبله ووضعه على يمينه.
وقال: السمع والطاعة لأبي محمد، فما حاجتك؟
قال: لي جار مكرم لي شديد الميل إلى شفوق عليَّ وعلى أولادي.
إن كانت لي حاجة قضاها لي، وإن احتجنا إلى قرض أقرضني وأسعفني، وإن غبت خلفني في أهلي وولدي، يبرّهم بكل ما يجد إليه السبيل.
وإبليس كلّما سمع منه يقول: هذا حسن وهذا جميل.
فلمّا فرغ من وصفه قال: فما تحب أن أفعل به؟
قال: أريد أن تزيل عنه نعمته وتفقره.. فقد غاظني أمره، وكثرة ماله، وبقاؤه، وطول سلامته.
فصرخ إبليس صرخة لم يُسمع مثلها منه قط.
فاجتمع إليه عفاريته وجنده وقالوا له: ما الخبر؟
فقال لهم: هل تعلمون أن الله عز وجل خلق خلقاً هو شرٌّ مني؟ قالوا: لا.
قال: انظروا إلى هذا القائم بين يدي فهو شرٌّ مني!!
** والقصة بقدر ما تعني سوداوية النفوس الحاسدة التي تقابل الخير بالشر، فإنها في بُعدها الآخر تشرح ملامح القبح والعفن لأولئك الذين يحملون وجهين أو أكثر، فيدنّسون طهر العلاقات الإنسانية بملامح إبليسية!!
فلا تدري أيُّها ترى، ولا أيُّها تلقى؟ ولا أيّ منها تصدق؟!
وجه يظهر لك الصدق والمحبة.
وآخر يبطن لك الضغينة والمسبة.
يلقاك بوجه طلق، ولسان عذب.. تسمع منه في مجلسك معه ما تحب، وترى منه ما تودّ، فتظن به الوثوق، وتعده الصديق الصدوق.
وحين يخلو عنك بغيرك يقلب عليك النخلتين والساقية، ولا يراك بعين صافية، فلا يقول إلاّ ذماً، ولا يصف إلاّ قدحاً، ولا يُظهر إلاّ بُغضاً.. فهو العدو اللدود.
وهذا هو الشر المستطير، بل هو المعضلة الحقيقية في العلاقات البشرية.. بوجه يمالئك، وبآخر يغتابك.
يقول من لا ينطق عن الهوى: (من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار).
** وتعدد الوجوه.. وريثة الغيبة التي هي الأخرى لا تورث إلاّ الحقد والكراهية، ولا تقوم إلاّ على البُغض والتنافر.
وهذا ضد طبيعة الدين التي تدعو بالحب إلى درجة المساواة والإيثار :(حب لأخيك ما تحب لنفسك).. وتحقق الوحدة البنوية: (المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص).. ولهذا تعاظمت حرماتها، فكان مذاقها بسياغة لحم الأخ الميت إيغالاً في كراهية المذاق وشدة حرمة الفعل! وكلمة ليست بذي بالٍ تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفاً!!
** والمغتابون هم الحالة المرضية المستعصية المتتالية التي تنخر في النسيج المجتمعي، فتصيبه بالتمزّق والوهن.
وهم أخطر الأعداء داخل الكيان الواحد، وأخطر أدواتهم هي تعددية وجوههم وتلوين سحناتهم بألوان الطيف!
ذرفت امرأة دموع كذب على صنيع جيرانها عند القاضي شريح، وحين أدّبها لامه جلساؤه.. فلعلها مظلومة ؛لأنها بكت! فقال: إخوة يوسف جاءوا عشاء يبكون!
وأوصى حكيمٌ ابنه: (لا يغرنّك مغتاب، فوجه السخط عنده أسبق من الرضا).
** وفي مجتمع العولمة مع الأسف زادت حالة التنوير، فزادت حالة التغرير!! في كل الشرائح بدءاً من النخبوية، وانتهاءً بعمال المزارع. تجد أفانين الغيبة، وإشكالية الوجوه، وتعددية الألسن، وتجد أحاييل وألاعيب وضحكاً على الذقون ودونها وخلفها.
ولم تعد تلك (الإشكاليات) لعبة الساسة بقدر ما هي آفة عصر، ورزية أمة.. فنحن الأكثر براعة في التباس طواقي الإخفاء والإظهار والإقلاب.
وما أكثر أولئك الذين يتستّرون دون الحقيقة بالأقنعة، فيظهرون لنا ما نود، ويخفون عنا ما يودون. ولو كان معنا وبيننا صاحب الخاتم لكتب ألف كتاب وكتاب إلى إبليس، وليس كتاباً واحداً فقط!!
** ولعل لعبة المصالح، وتقديس المال، وظاهرة الأطماع، وإقراط الذات، وإقصاء الآخر كلها عوامل زادت في حدة الانكسار داخل المجتمع، فتحوّلنا إلى وجوه وأشباح داخل حوائط الأسمنت تتلوّن وتتصارع وتتقاذف. هذا يغتاب هذا.. وهذا يخطط لهذا.. وذاك يتآمر على ذاك.. وكأننا أصبحنا عالماً من الدمى المخيفة والمثيرة، يستعصى حتى على فطنة القاضي (شريح) فك طلاسم حراكها!!
وأحسب أنه حتى إبليس حين يرانا اليوم يصرخ: (يا أولاد الأبالسة)! ثم يأخذ أباليسه كلهم ويبتعدون خوفاً منا لا علينا!! غير أن أحداً لا ينكر أن القوة الحقيقية ليست في ملامح إبليس، ولا في أفعال الشيطان بقدر ما هي في هذا الإنسان بصفاء روحه، ونقاء سريرته، وصدق شعوره. وما أحوجنا إلى العودة إلى الثبات الروحي في زمن التحوّلات المتسارعة بعد أن أصبح طوفان المتغيرات يهدم من الداخل أكثر مما يبني من الخارج!!
إنها دعوة لأن نغسل دواخلنا من أنهار الحب من أجل نقائنا.. ومن أجل شموخ بنائنا!!
خاتمة:
يقول أبو ذر الغفاري: (كان الناس ورقاً لا شوك فيه، فصاروا اليوم شوكاً لا ورق فيه).
[COLOR="Blue"][SIZE="3"]جــريــده الــمــديــنــه 2/4/1428 عــلــي الــزهــرانــي[/SIZE][/COLOR]