![]() |
|
|
التسجيل | التعليمـــات | التقويم | مشاركات اليوم | البحث |
رياض الصالحين على مذهب أهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
![]() |
#76 |
![]() ![]() |
![]()
فهذه أخبار أنس عن لفظ إهلاله صلى الله عليه وسلم الذى سمعه منه، وهذا علىّ والبرّاء يُخبران عن إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بالقِران، وهذا على أيضاً، يُخبر أَن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا عمرُ بن الخطاب رضى اللَّه عنه، يُخبر عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أن ربَّه أمره بأن يفعله، وعلَّمه اللَّفظ الذى يقوله عند الإحرام، وهذا على أيضاً يخبر، أنه سمعَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُلبِّى بهما جميعاً، وهؤلاء بقيةُ مَنْ ذكرنا يخبرون عنه، بأنه فعله، وهذا هو صلى اللَّه عليه وسلم يأمُرُ به آله، ويأمر به مَن ساق الهَدْى .
وهؤلاء الذين رَوَوُا القِران بغاية البيان: عائشة أم المؤمنين، وعبدُ اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عباس، وعمر بن الخطاب، وعلىّ بن أبى طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلىِّ، وتقرير علىّ له ، وعِمران بن الحُصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابنُ أبى أوفى، وأبو طلحة، والهِرماس بن زياد، وأُمُّ سلمة، وأنسُ بن مالك، وسعدُ بن أبى وقاص، فهؤلاء هم سبعةَ عشر صحابياً رضى اللَّه عنهم، منهم مَن روى فعله، ومنهم مَن روى لفظ إحرامه، ومنهم مَن روى خبره عن نفسه، ومنهم مَن روى أمره به . فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر، وجابراً، وعائشة، وابن عباس؟ وهذه عائشةُ تقول: ((أهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحج)) وفى لفظ ((أفرد الحج)) والأول فىالصحيحين والثانى فى مسلم وله لفظان، هذا أحدهما والثانى((أهلَّ بالحج مُفرِدا))ً، وهذا ابنُ عمر يقول: ((لبَّى بالحجِّ وحدَه)) . ذكره البخارى، وهذا ابن عباس يقول: ((وأهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحج)) رواه مسلم، وهذا جابر يقول: ((أفرد الحج)) رواه ابن ماجه. قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث مَن ذكرتم لا حُجة فيها على القِران، ولا على الإفراد لتعارضها، فما الموجبُ للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها؟ فكيف وأحاديثُهم يُصدِّقُ بعضُها بعضاً ولا تعارض بينها، وإنما ظنَّ مَن ظن التعارض لعدم إحاطته بمراد الصحابة من ألفاظهم، وحملها على الاصطلاح الحادث بعدهم . ورأيت لشيخ الإسلام فصلاً حسناً فى اتفاق أحاديثهم نسوقه بلفظه، قال: والصوابُ أن الأحاديث فى هذا الباب متفقة ليست بمختلفة إلا اختلافاً يسيراً يقع مثلُه فى غير ذلك، فإن الصحابة ثبت عنهم أنه تمتَّع، والتمتع عندهم يتناولُ القِران، والذين رُوى عنهم أنه أفرد، رُوى عنهم أنه تمتع، أما الأول: ففى الصحيحين عن سعيد بن المسيِّب قال: اجتمع على وعثمان بعُسفانَ، وكان عثمان ينهى عن المُتعة أو العُمرة، فقال علىُّ رضى اللَّه عنه: ((ما تريد إلى أمر فعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا مِنك . فقال: إنى لا أستطيعُ أن أدَعك . فلما رأى علىُّ رضى عنه ذلك، أهلَّ بهما جميعاً))هذا يُبين أن مَن جمع بينهما كان متمتعاً عندهم، وأن هذا هو الذى فعله النبى صلى الله عليه وسلم، ووافقه عثمان على أن النبى صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لكن كان النزاعُ بينهما: هل ذلك الأفضل فى حقنا أم لا؟ وهل شُرِع فسخُ الحج إلى العُمْرة فى حقنا كما تنازع فيه الفقهاء؟ فقد اتفق علىٌّ وعثمان، على أنه تمتَّع، والمراد بالتمتع عندهم القِران، وفى الصحيحين عن مطرِّف قال: قال عِمران بن حصين ((إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جمع بين حجٍّ وعُمْرة، ثم إنه لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرِّمه)) . وفى رواية عنه: تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه، فهذا عِمران وهو من أجلِّ السابقين الأوَّلين، أخبر أنه تمتع، وأنه جمع بين الحجِّ والعُمْرة، والقارِن عند الصحابة متمتِّع، ولهذا أوجبوا عليه الهَدْىَ، ودخل فى قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} [البقرة: 196]، وذكر حديث عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم: ((أتانى آتٍ مِنْ ربِّى فقال: صَلِّ فى هذَا الوَادِى المُبارَكِ وقل: عُمْرَةٌ فى حَجَّة)) . قال: فهؤلاء الخلفاء الراشدون: عمر، وعثمان، وعلىّ، وعِمران بن حُصين، روىَ عنهم بأصح الأسانيد، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرن بين العُمرة والحج، وكانوا يسمون ذلك تمتعاً، وهذا أنس يذكر أنه سِمع النبى صلى الله عليه وسلم يُلبِّى بالحجِّ والعُمرة جميعاً . وما ذكره بكرُ بن عبد اللَّه المزنى، عن ابن عمر، أنه لبَّى بالحج وحده، فجوابه أن الثقات الذين هم أثبتُ فى ابن عمر من بكر مثل سالم ابنه، ونافع رَوَوْا عنه أنه قال: تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعُمْرة إلى الحج، وهؤلاء أثبتُ فى ابن عمر من بكر . فتغليطُ بكر عن ابن عمر أولى من تغليط سالم ونافع عنه، وأولى من تغليطه هو على النبىِّ صلى الله عليه وسلم، ويُشبه أن ابن عمر قال له: أفردَ الحج، فظن أنه قال: لبَّى بالحج، فإن إفراد الحج، كانوا يُطلقونه ويُريدون به إفراد أعمال الحج، وذلك رد منهم على مَن قال: إنه قرن قِراناً طاف فيه طوافين، وسعى فيه سعيين، وعلى مَن يقول: إنه حلَّ من إحرامه، فرواية مَن روى من الصحابة أنه أفرد الحج، تردُّ على هؤلاء، يبين هذا ما رواه مسلم فى صحيحه عن نافع، عن ابن عمر، قال: أهللنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحجِّ مُفرداً، وفى رواية: أهل بالحجِّ مفرداً . فهذه الرواية إذا قيل: إن مقصودها أن النبى صلى الله عليه وسلم أهلَّ بحج مفرداً، قيل: فقد ثبت بإسناد أصحَّ من ذلك، عن ابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم تمتع بالعُمْرة إلى الحَج، وأنه بدأ، فأهلَّ بالعُمْرة ثم أهلَّ بالحَج، وهذا مِن رواية الزهرى، عن سالم، عن ابن عمر وما عارض هذا عن ابن عمر، إما أن يكون غلطاً عليه، وإما أن يكون مقصُوده موافقاً له، وإما أن يكون ابن عمر لما علم أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَحِلَّ، ظنَّ أنه أفرد، كما وَهِمَ فى قوله: إنه اعتمر فى رجب، وكان ذلك نسياناً منه، والنبى صلى الله عليه وسلم لما يَحِلَّ من إحرامه، وكان هذا حال المفرد ظن أنه أفرد، ثم ساق حديث الزهرى، عن سالم، عن أبيه: ((تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ...)) الحديث . وقول الزهرى: وحدثنى عُروة، عن عائشة بمثل حديث سالم عن أبيه قال: فهذا مِن أصح حديثٍ على وجه الأرض، وهو من حديث الزهرى أعلم أهلِ زمانه بالسُّـنَّة، عن سالم، عن أبيه، وهو من أصح حديث ابن عمر وعائشة . وقد ثبت عن عائشة رضى اللَّه عنها فى الصحيحين ((أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعَ عُمَر، الرابعة مع حَجَّته)) . ولم يعتمِرْ بعد الحَجِّ باتفاق العلماء، فيتعينُ أن يكون متمتِّعاً تمتُّع قِران، أو التمتع الخاص . وقد صح عن ابن عمر، أنه قرن بين الحَجِّ والعُمْرة، وقال: ((هكذا فعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم)) رواه البخارى فى الصحيح . قال: وأما الذين نُقِلَ عنهم إفراد الحج، فهم ثلاثة: عائشة، وابن عمر، وجابر، والثلاثة نُقِلَ عنهم التمتع، وحديث عائشة وابن عمر:أنه تمتع بالعُمْرة إلى الحَجِّ أصحُّ من حديثهما، وما صح فى ذلك عنهما، فمعناه إفرادُ أعمال الحج، أو أن يكون وقعَ منه غلط كنظائره، فإن أحاديث التمتع متواترة رواها أكابرُ الصحابة، كعمر، وعثمان، وعلى، وعِمران بن حصين، ورواها أيضاً:عائشة، وابنُ عمر، وجابر، بل رواها عن النبى صلى الله عليه وسلم بضعة عشر من الصحابة. قلت: وقد اتفق أنس، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، على أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَر، وإنما وهم ابنُ عمر فى كون إحداهن فى رجب، وكلهم قالوا: وعُمْرة مع حَجَّته، وهم سوى ابن عباس . قالوا: إنه أفرد الحج، وهم سوى أنس، قالوا: تمتع . فقالوا: هذا، وهذا، وهذا، ولا تناقض بين أقوالهم، فإنه تمتعَ تَمَتُّعَ قِران، وأفرد أعمال الحج، وقرن بين النُّسكين، وكان قارناً باعتبار جمعه بين النُّسكين، ومفرداً باعتبار اقتصاره على أحد الطوافين والسعيين، ومتمتِّعاً باعتبار ترفُّهه بترك أحد السفرين . ومَن تأمل ألفاظَ الصحابة ، وجمع الأحاديث بعضها إلى بعض ، واعتبر بعضها ببعض ، وفهم لغةَ الصحابة ، أسفر له صُبْحُ الصواب ، وانقشعت عنه ظلمة الاختلاف والاضطراب ، واللَّه الهادى لسبيل الرشاد ، والموفق لطريق السداد . فمَن قال : إنه أفرد الحج وأراد به أنه أتى بالحج مفرداً ، ثم فرغ منه ، وأتى بالعُمْرة بعده من التنعيم أو غيره ، كما يظن كثيرٌ من الناس ، فهذا غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا الأئمة الأربعة ، ولا أحد من أئمة الحديث . وإن أراد به أنه حَجَّ حَجَّاً مفرداً ، لم يعتمِرْ معه كما قاله طائفة من السَلَف والخَلَف ، فوهم أيضاً ، والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده كما تبَيَّن ، وإن أراد به أنه اقتصر على أعمال الحج وحده ولم يفرد للعُمْرة أعمالا ، فقد أصاب ، وعلى قوله تدل جميع الأحاديث . ومَن قال : إنه قرن ، فإن أراد به أنه طاف للحَجِّ طوافاً على حدة ، وللعُمْرة طوافاً على حدة ، وسعى للحَجِّ سعياً ، وللعُمْرة سعياً ، فالأحاديث الثابتة ترد قوله ، وإن أراد أنه قرن بين النُّسكين ، وطاف لهما طوافاً واحداً ، وسعى لهما سعياً واحداً ، فالأحاديث الصحيحة تشهد لقوله ، وقولُه هو الصواب . ومَن قال : إنه تمتَّع ، فإن أراد أنه تمتَّع تَمَتُّعاً حلَّ منه ، ثم أحرم بالحَجِّ إحراماً مستأنفاً ، فالأحاديث تردُّ قوله وهو غلط ، وإن أراد أنه تمتع تمتعاً لم يَحِلَّ منه ، بل بقى على إحرامه لأجل سَوْق الهَدْى ، فالأحاديث الكثيرة تردُّ قولَه أيضاً ، وهو أقلُّ غلطاً ، وإن أراد تمتع القِران ، فهو الصوابُ الذى تدل عليه جميع الأحاديث الثابتة ، ويأتلف به شملُها ، ويزول عنها الإشكالُ والاختلاف . فصل فى الأغاليط التى وقع فيها بعض العلماء فى عُمَر النبى صلى الله عليه وسلم غَلِط فى عُمَر النبىَّ صلى الله عليه وسلم خمسُ طوائف . إحداها : مَن قال : إنه اعتمر فى رجب ، وهذا غلط ، فإن عُمَرَهُ مضبوطةٌ محفوظة ، لم يخرُج فى رجب إلى شئ منها البتة . الثانية : مَن قال : إنَّه اعتمر فى شوَّال ، وهذا أيضاً وهم ، والظاهر واللَّه أعلم أن بعضَ الرواة غَلِطَ فى هذا ، وأنه اعتكف فى شوَّال فقال : اعتمر فى شوَّال ، لكن سياق الحديث ، وقوله : (( اعتمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث عُمَرٍ : عُمْرة فى شوَّال ، وعُمْرتين فى ذى القِعْدَة )) يدل على أن عائشة ، أو مَنْ دونها ، إنما قصد العُمْرة . الثالثة : مَن قال : إنَّه اعتمر من التَّنعيم بعد حَجه ، وهذا لم يقُلْه أحد من أهل العلم ، وإنما يظنُّه العوام ، ومن لا خِبرة له بالسُّـنَّة . الرابعة : مَن قال : إنَّه لم يعتمِرْ فى حَجَّته أصلاً ، والسُّـنَّة الصحيحةُ المستفيضة التى لا يُمكن ردُّها تُبطِلُ هذا القول . الخامسة : مَن قال : إنَّه اعتمر عُمْرة حلَّ منها ، ثم أحرم بعدها بالحج من مكة ، والأحاديث الصحيحةُ تُبطِلُ هذا القول وترده . فصل فى الأوهام التى وقع فيها بعض العلماء فى حج النبى صلى الله عليه وسلم ووهم فى حَجه خمسُ طوائف . الطائفة الأولى : التى قالت : حَجَّ حَجّاً مفرداً لم يعتمِرْ معه . الثانية : مَن قال : حجَّ متمتعاً تمتعاً حلَّ منه ، ثم أحرم بعده بالحج ، كما قاله القاضى أبو يعلى وغيره . الثالثة : مَن قال : حج متمتعاً تمتعاً لم يَحِلَّ منه لأجل سَوْق الهَدْى ، ولم يكن قارناً ، كما قاله أبو محمد بن قدامة صاحب (( المغنى )) وغيره . الرابعة : مَن قال : حجَّ قارناً قِراناً طاف له طوافين ، وسعى له سعيين . الخامسة : مَن قال : حجَّ حَجّاً مفرداً ، واعتمر بعده من التنعيم . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#77 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
فى الأغاليط التى وقع فيها بعض العلماء فى إحرام النبى صلى الله عليه وسلم وغلط فى إحرامه خمسُ طوائف . إحداها : مَن قال : لبَّى بالعُمرة وحدَها ، واستمر عليها . الثانية : مَن قال : لبَّى بالحَجِّ وحده ، واستمر عليه . الثالثة : مَن قال : لبَّى بالحَجِّ مُفرداً ، ثم أدخل عليه العُمْرة ، وزعم أن ذلك خاص به . الرابعة : مَن قال : لبَّى بالعُمرة وحدها ، ثم أدخل عليها الحَج فى ثانى الحال . الخامسة : مَن قال : أحرم إحراماً مطلقاً لم يعيِّن فيه نُسُكاً ، ثم عيَّنه بعد إحرامه . والصوابُ : أنه أحرم بالحَجِّ والعُمرة معاً مِنْ حين أنشأ الإحرام ، ولم يحلَّ حتى حلَّ منهما جميعاً ، فطاف لهما طوافاً واحداً ، وسعى لهما سعياً واحداً . وساق الهَدْى ، كما دلَّت عليه النصوصُ المستفيضة التى تواترت تواتراً يعلمُه أهلُ الحديث .. واللَّه أعلم . فصل فى أعذار القائلين بهذه الأقوال ، وبيان منشأ الوهم والغلط أما عُذر مَن قال : اعتمر فى رجب ، فحديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما ، أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر فى رجب متفق عليه . وقد غلَّطته عائشةُ وغيرُها ، كما فى ((الصحيحين )) عن مجاهد ، قال : دخلتُ أنا وعُروةُ بن الزبير المسجد ، فإذا عبد اللَّه بن عمر جالساً إلى حُجْرَةِ عائشة ، وإذا ناسٌ يُصلُّون فى المسجد صلاةَ الضحى ، قال : فسألناه عن صلاتهم . فقال : بدعة . ثم قُلنا له : كم اعتمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أربعاً . إحداهن : فى رجب ، فكرهنا أن نَرُدَّ عليه . قال : وسمعنا استنانَ عائشةَ أُمِّ المؤمنين فى الحُجْرَةِ ، فقال عروةُ : يا أُمَّه أو يا أُمَّ المؤمنين ألا تسمعينَ ما يقولُ أبو عبد الرحمن ؟ قالت : ما يقولُ؟ قال : يقول : إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربَع عُمَرٍ ، إحداهن فى رجب . قالت : يرحَمُ اللَّهُ أبا عبد الرحمن ، ما اعتمر عُمْرةً قطُّ إلا وهو شاهِدٌ ، وما اعتمر فى رجب قط . وكذلك قال أنس ، وابنُ عباس : إن عُمَرَه كُلَّها كانت فى ذى القِعْدة ، وهذا هو الصواب . فصل فيمن قال إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر فى شوَّال وأما مَنْ قال : اعتمر فى شوَّال ، فعذُره ما رواه مالك فى (( الموطأ )) ، عن هشام بنِ عُروة ، عن أبيه ، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لم يعتمر إلا ثلاثاً ، إحداهُنَّ فى شوَّال ، واثنتين فى ذى القِعْدة . ولكن هذا الحديث مرسل ، وهو غلط أيضاً، إما مِن هشام ، وإما مِن عُروة أصابه فيه ما أصاب ابن عمر . وقد رواه أبو داود مرفوعاً عن عائشة ، وهو غلط أيضاً لا يَصِحُّ رفعُه . قال ابنُ عبد البر : وليس روايته مسنداً مما يُذكر عن مالك فى صحة النقل . قلت : ويدلُّ على بطلانه عن عائشة : أن عائشة ، وابن عباس ، وأنسَ بنَ مالك قالوا : لم يعتَمِرْ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا فى ذى القِعْدة . وهذا هو الصواب ، فإن عُمْرة الحُدَيْبِيَةِ وعُمرة القَضِيَّة ، كانتا فى ذى القِعْدة ، وعُمرة القِران إنما كانت فى ذى القِعْدة ، وعُمرة الجِعْرَانَة أيضاً كانت فى أوَّل ذى القِعْدة ، وإنما وقع الاشتباه أنه خرج من مكة فى شوَّال للقاء العدو ، وفرغ من عدوه ، وقسم غنائِمَهم ، ودخلَ مكة ليلاً معتمِراً من الجِعرانة ، وخرج منها ليلاً ، فخفيت عُمْرتُه هذه على كثير من الناس ، وكذلك قال مُحرِّشٌ الكعبىُّ .. واللَّه أعلم . فصل فى خطأ مَن ظن أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر من التنعيم بعد الحج وأما مَن ظن أنه اعتمر مِن التنعيم بعد الحج ، فلا أعلم له عُذراً ، فإن هذا خلافُ المعلومِ المستفيض من حَجَّته ، ولم ينقلْه أحدٌ قط ، ولا قاله إمامٌ ، ولعل ظانَّ هذا سَمِع أنه أفرد الحَجَّ ، ورأى أن كلَّ مَنْ أفرد الحَج مِن أهلِ الآفاق لا بُد له أن يخرُج بعده إلى التنعيم ، فنَزَّل حَجَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وهذا عينُ الغَلَطِ . فصل فى عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر فى حَجته أصلاً وأما مَن قال : إنه لم يعتمرْ فى حَجته أصلاً ، فعذرُه أنه لما سمع أنه أفرد الحج ، وعلم يقيناً أنه لم يَعتمِرْ بعد حَجته قال : إنه لم يعتمِرْ فى تلك الحَجة اكتفاءً منه بالعُمْرة المتقدِّمة ، والأحاديثُ المستفيضة الصحيحة ترُدُّ قولَه كما تقدَّم من أكثر من عشرين وجهاً ، وقد قال : (( هذه عمرةٌ استمتعنا بها )) وقالت حفصة : ما شأن الناسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ أنت من عُمرتك ؟ وقال سراقة بن مالك : تمتَّعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قال ابن عمر ، وعائشة ، وعِمران بن حصين ، وابن عباس ، وصرَّح أنس ، وابن عباس ، وعائشة ، أنه اعتمر فى حَجته وهى إحدى عُمَرِهِ الأربع . فصل فى عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر عُمْرة حلَّ منها وأما مَن قال : إنه اعتمر عُمْرة حلَّ منها ، كما قاله القاضى أبو يعلى ومَنْ وافقه ، فعذرُهم ما صحَّ عن ابن عمر وعائشة ، وعِمرانَ بنِ حصين وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم تمتَّع ، وهذا يحتمِل أنه تمتُّعٌ حَلَّ منه ، ويحتمل أنه لم يَحِلَّ ، فلما أخبر معاويةُ أنه قصر عن رأسه بمِشْقَص على المروة ، وحديثه فى (( الصحيحين )) دلَّ على أنه حَلَّ من إحرامه ، ولا يُمكنُ أن يكونَ هذا فى غير حَجَّةِ الوداع ، لأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح ، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يكن زمن الفتح مُحرِماً ، ولا يمكن أن يكون فى عُمْرة الجعْرانةِ لوجهين : أحدهما : أن فى بعض ألفاظ الحديثِ الصحيح : (( وذلك فى حَجَّته )) . والثانى : أن فى رواية النسائى بإسناد صحيح : (( وذلك فى أيام العشر )) ، وهذا إنما كان فى حَجته ، وحمل هؤلاء رواية مَن روى أن المتعة كانت له خاصة ، على أن طائفةً منهم خصُّوا بالتحليل من الإحرام مع سَوْق الهَدْى دون مَنْ ساق الهَدْىَ من الصحابة ، وأنكر ذلك عليهم آخرون ، منهم شيخُنا أبو العباس. وقالوا : مَن تأمل الأحاديث المستفيضة الصحيحة ، تبيَّن له أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَحِلَّ ، لا هو ولا أحدٌ ممن ساق الهَدْى . فصل فى أعذار الذين وهموا فى صفة حَجَّته أما مَن قال : إنه حجَّ حجاً مفرداً ، لم يعتمِرْ فيه، فعذره ما فى (( الصحيحين )) عن عائشة ، أنها قالت : خرجنا مَعَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عامَ حَجَّةِ الوداع ، فَمِنَّا مَنْ أهلَّ بعُمْرة ، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بحَجٍّ وعُمْرة ، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بحَج ، وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحَجِّ . وقالوا : هذا التقسيمُ والتنويع ، صريح فى إهلاله بالحَجِّ وحده . ولمسلم عنها : ((أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أهلَّ بالحَجِّ مُفرداً )). وفى (( صحيح البخارى )) عن ابن عمر : ((أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبَّى بالحجِّ وَحْدَهُ )). وفى (( صحيح مسلم )) ، عن ابن عباس : ((أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحج )). وفى (( سنن ابن ماجه )) ، عن جابر (( أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أفرد الحج )). وفى (( صحيح مسلم )) عنه (( خرجنا مَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نَنْوِى إلا الحَجَّ ، لسنا نعرِفُ العُمْرَةَ )). وفى (( صحيح البخارى )) ، عن عُروة بن الزبير قال : ((حَجَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأخبرتنى عائشةُ أنَّ أوَّل شئ بدأ به حين قَدِمَ مكة ، أنه توضَّأ ، ثم طافَ بالبيت ، [ ثم لم تكن عُمْرَةٌ ] ، ثم حجَّ أبو بكر رضى اللَّه عنه ، فكان أوَّل شئ بدأ به ، الطَّوَافُ بالبيت ، ثم لم تكُن عُمرةٌ ، ثم عُمَرُ رضى اللَّه عنه مِثلُ ذلك ، ثم حجَّ عُثمانُ ، فرأيتُه أوَّلُ شئ بدأ به الطُوافُ بالبَيْتِ ، ثم لم تَكُن عُمرةٌ ، ثم مُعاوية ، وعبد اللَّه بنُ عمر ، ثم حججتُ مع أبى : الزبيرِ بن العوّام ، فكان أوَّل شئ بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تَكُن عُمرةُ ، ثم رأيتُ فعل ذلك ابنُ عمر ، ثم لم ينقُضْها عُمْرَةً ، وهذا ابن عُمر عندهم ، فلا يسألُونَه ولا أحد ممن مَضَى ما كانُوا يبدؤون بشئ حين يَضَعُون أقدامهم أوَّلَ من الطَّواف بالبيت ، ثم لا يَحِلُّون ، وقد رأيتُ أُمى وخالتى حين تَقْدَمَانِ ، لا تبدآن بشئ أوَّل مِن البَيْتِ تطُوفان به ، ثم إنهما لا تَحِلاَّنِ ، وقد أخبرتنى أُمِّى أنها أهلَّت هى وأُختُها والزُبيرُ ، وفلانٌ ، وفلانٌ بعُمْرة ، فلما مسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا.)) وفى (( سنن أبى داود )) : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، ووُهَيْبُ بنُ خالد ، كلاهما عن هشام بن عُروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت (( خرجْنَا مع رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُوَافِين لِهلالِ ذىِ الحِجَّة ، فلما كان بذى الحُليفةِ قال: ( مَنْ شَاءَ أَنْ يُهلَّ بحَجٍّ فَلْيُهِلَّ ، ومَنْ أرادَ أَنْ يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بعُمْرَةِ ))) ، ثم انفرد وُهَيْب فى حديثه بأن قال عنه صلى الله عليه وسلم : (( فإنِّى لولا أنِّى أَهْدَيْتُ ، لأَهْلَلْتُ بعُمْرَةٍ )) . وقال الآخر : (( وأَمَّا أنا فأُهِلُّ بالحَجِّ )) . فصحَّ بمجموع الروايتين ، أنه أهلَّ بالحَجِّ مفرداً . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#78 |
![]() ![]() |
![]()
فأرباب هذا القولِ عذرُهم ظاهر كما ترى ، ولكن ما عذرُهم فى حُكمه وخبره الذى حكم به على نفسه ، وأخبر عنها بقوله : (سُقتُ الهَدْىَ وقرنت )، وخبر مَن هو تحت بطن ناقته ، وأقربُ إليه حينئذ من غيره ، فهو من أصدق الناس يسمعهُ يقول
![]() أحدها : الإهلال به مفرداً . الثانى : إفرادُ أعماله . الثالث : أنه حجَّ حَجةً واحدة لم يَحُجَّ معها غيرها ، بخلافِ العُمْرة ، فإنها كانت أربع مرات . وأما قولهما : تمتَّع بالعُمرة إلى الحج ، وبدأ فأهلَّ بالعُمْرة ، ثم أهلَّ بالحج ، فحكيا فِعلَه ، فهذا صريح لا يحتمِل غير معنى واحد ، فلا يجوز ردُّه بالمجمل ، وليس فى رواية الأسود بن يزيد وعمرة عن عائشة ، أنه أهلَّ بالحجِّ ما يُناقض رواية مجاهد وعُروة عنها أنه قرن ، فإن القارِن حاج مُهِل بالحجِّ قطعاً ، وعُمْرته جزء من حَجته ، فمن أخبر عنها أنه أهلَّ بالحج ، فهو غيرُ صادق ، فإن ضُمت رِواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود ، ثم ضُمتا إلى رواية عُروة ، تبيَّن من مجموع الروايات أنه كان قارناً ، وصدَّق بعضُّها بعضاً ، حتى لو لم يحتَمِلْ قولُ عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفرداً ،لَوَجَبَ قَطْعاً أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر : اعتمر فى رجب ، وقول عائشة أو عروة : إنه صلى اللَّه عليه وسلم اعتمر فى شوَّال ، إلا أن تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة لا سبيل أصلاً إلى تكذيب رواتها ولا تأويلها وحملها على غير ما دلَّت عليه ، ولا سبيل إلى تقديم هذه الرواية المجملة التى قد اضطربت على رواتها ، واختُلِفَ عنهم فيها ، وعارضهم مَنْ هو أوثق منهم أو مثلُهم عليها . وأما قول جابر : إنه أفرد الحَجَّ ، فالصريحُ من حديثه ليس فيه شئ من هذا ، وإنما فيه إخبارُه عنهم أنفسهم أنهم لا ينوون إلا الحج ، فأين فى هذا ما يدل على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبَّى بالحجِّ مفرداً . وأما حديثه الآخرُ الذى رواه ابن ماجه ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفرد الحَج ، فله ثلاث طرق . أجودها : طريق الدراوردى عن جعفر بن محمد عن أبيه ، وهذا يقيناً مختصر من حديثه الطويل فى حَجَّة الوداع ، ومروى بالمعنى ، والناس خالفوا الدراوردى فى ذلك . وقالوا : أهلَّ بالحَجِّ ، وأهلَّ بالتوحيد . والطريق الثانى : فيها مُطرِّف بن مُصعب ، عن عبد العزيز بن أبى حازم ، عن جعفر ومُطرِّف ، قال ابن حزم : هو مجهول ، قلتُ : ليس هو بمجهول ، ولكنه ابنُ أخت مالك ، روى عنه البخارى ، وبشر بن موسى، وجماعة . قال أبو حاتم : صدوق مضطرب الحديث ، هو أحبُّ إلىَّ من إسماعيل بن أبى أويس ، وقال ابن عدى : يأتى بمناكير ، وكأنَّ أبا محمد ابن حزم رأى فى النسخة مُطرِّف بن مُصعب فجهله ، وإنما هو مُطرِّف أبو مصعب ، وهو مطرِّف ابن عبد الله بن مطرِّف بن سليمان بن يسار ، وممن غَلِطَ فى هذا أيضاً ، محمد بن عثمان الذهبى فى كتابه( الضعفاء) فقال : مُطرِّف بن مُصعب المدنى عن ابن أبى ذئب منكر الحديث . قلتُ : والراوى عن ابن أبى ذئب ، والدراوردى ، ومالك ، هو مُطرِّف أبو مُصعب المدنى ، وليس بمنكر الحديث ، وإنما غرَّه قولُ ابنِ عدى : يأتى بمناكير ، ثم ساق له منها ابنُ عدى جملة ، لكن هى من روايةِ أحمد بن داود بن صالح عنه ، كذَّبه الدارقطنى ، والبلاء فيها منه . والطريق الثالث : لحديث جابر فيها محمد بن عبد الوهَّاب يُنظر فيه مَن هو وما حالُه عن محمد بن مسلم ، إن كان الطائفى ، فهو ثقة عند ابن معين ، ضعيف عند الإمام أحمد ، وقال ابن حزم : ساقط البتة ، ولم أر هذه العبارة فيه لغيره ، وقد استشهد به مسلم ، قال ابنُ حزم : وإن كان غيره ، فلا أدرى مَن هو ؟ قلت : ليس بغيره ، بل هو الطائفى يقيناً ، وبكلِّ حال فلو صح هذا عن جابر ، لكان حكمه حكم المروىِّ عن عائشة وابنِ عمر ، وسائر الرواة الثقات ، إنما قالوا : أهلَّ بالحَجِّ ، فلعلَّ هؤلاء حملوه على المعنى ، وقالوا : أفرد الحَج ، ومعلوم أن العُمرة إذا دخلت فى الحجِّ ، فمَن قال : أهلَّ بالحَج ، لا يُناقِضُ مَن قال : أهلَّ بهما ، بل هذا فصَّل ، وذاك أجمل . ومَن قال : أفرد الحجَّ ، يحتمِل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ، ولكن هل قال أحدٌ قطُّ عنه : إنه سمعه يقول ![]() فصل فى الترجيح لرواية مَن روى القِران فحصل الترجيحُ لرواية مَن روى القِران لوجوه عشرة . أحدها : أنهم أكثرُ كما تقدَّم . الثانى : أن طُرق الإخبار بذلك تنوّعت كما بيَّناه . الثالث : أن فيهم مَن أخبر عن سماعه ولفظه صريحاً ، وفيهم مَن أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك ، وفيهم مَن أخبر عن أمر ربه له بذلك ، ولم يجئ شئٌ من ذلك فى الإفراد . الرابع : تصديقُ روايات مَن روى أنه اعتمر أربع عُمَر لها . الخامس : أنها صريحة لا تحتمِلُ التأويل ، بخلاف روايات الإفراد . السادس : أنها متضمِّنة زيادةً سكت عنها أهلُ الإفراد أو نَفَوْها ، والذاكر الزائد مقدَّم على الساكت ، والمُثْبِتُ مقدَّم على النافى . السابع : أن رواة الإفراد أربعة : عائشة ، وابنُ عمر ، وجابر ، وابنُ عباس ، والأربعة رَوَوُا القِران ، فإن صِرنا إلى تساقُطِ رواياتهم ، سَلِمَتْ رواية مَن عداهم للقِران عن معارض ، وإن صِرنا إلِى الترجيح ، وجب الأخذُ برواية مَن لم تضطِرب الروايةُ عنه ولا اختلفت ، كالبرَّاء ، وأنس ، وعمرَ بن الخطاب ، وعِمران بن حصين ، وحفصة ، ومَن معهم ممن تقدَّم . الثامن : أنه النُّسُك الذى أُمِرَ به من ربِّه ، فلم يكن ليعدل عنه . التاسع : أنَّه النُّسُك الذى أُمر به كُلُّ مَن ساق الهَدْى ، فلم يكن لِيأمرهم به إذا سَاقُوا الهَدْى ، ثم يسوق هو الهَدْى ويُخالفه . العاشر : أنَّه النُّسُك الذى أَمر به آله وأهلَ بيتِهِ ، واختاره لهم ، ولم يكن لِيختارَ لهم إلا ما اختارَ لنفسه . وَثَمَّتَ ترجيحٌ حادى عشر ، وهو قوله ![]() وترجيح ثانى عشر : وهو قولُ عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه للصُّـبَىّ ابن معبد وقد أهلَّ بحجٍّ وعُمرة ، فأنكر عليه زيد بن صُوحان ، أو سلمان ابن ربيعة ، فقال له عمر : هُدِيتَ لسُّـنَّة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يُوافق رواية عمر عنه صلى اللَّه عليه وسلم أن الوحى جاءه من اللَّه بالإهلالِ بهما جميعاً ، فدلَّ على أن القِران سُّـنَّتُه التى فَعَلَها ، وامتثلَ أمرَ اللَّه له بِها . وترجيح ثالث عشر : أن القارنَ تقعُ أعمالُه عن كُلٍّ من النُّسُكين ، فيقع إحرامُه وطوافُه وسعيُه عنهما معاً ، وذلك أكملُ مِن وقوعه عن أحدهما ، وعمل كل فعل على حِدة . وترجيح رابع عشر : وهو أن النُّسُكَ الذى اشتمل على سَوْق الهَدْى أفضلُ بلا ريب مِن نُسُكٍ خلا عن الهَدْى ، فإذا قَرنَ ، كان هَدْيُه عن كل واحد من النُّسُكين ، فلم يَخْلُ نُسُكٌ منهما عن هَدْى ، ولهذا واللَّه أعلم أمرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَن ساق الهَدْى أن يُهِلَّ بالحَجِّ والعُمْرة معاً ، وأشار إلى ذلك فى المتفق عليه من حديث البرَّاء بقوله : (( إنى سُقْتُ الهَدْىَ وَقَرنْتُ )) . وترجيح خامس عشر : وهو أنه قد ثبت أن التمتع أفضلُ من الإفراد لوجوه كثيرة منها : أنه صلَّى اللَّه عليه وسلم أمرهم بفسخ الحَجِّ إليه ، ومُحالٌ أن يَنْقُلَهُم من الفاضِل إلى المفضُول الذى هو دونه . ومنها : أنه تأسَّف على كونه لم يفعله بقوله : (( لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ لمَا سُقْتُ الهَدْىَ ولَجَعَلْتُها عُمْرةً )) . ومنها : أنه أَمر به كُلَّ مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ . ومنها : أن الحجَّ الذى استقر عليه فعله وفعل أصحابه القِران لمن ساق الهَدْىَ ، والتمتع لمن لم يَسُق الهَدْى ، ولوجوه كثيرة غير هذه ، والمتمتع إذا ساق الهَدْى ، فهو أفضلُ مِن متمتع اشتراه من مكة ، بل فى أحد القولين : لا هَدْى إلا ما جمع فيه بين الحِلِّ والحَرَم . فإذا ثبت هذا ، فالقارِن السائق أفضلُ من متمتع لم يسق ، ومِن متمتع ساق الهَدْى لأنه قد ساق من حين أحرم ، والمتمتع إنما يسوقُ الهَدْى مِن أدنى الحِلِّ ، فكيف يُجعل مُفرِدٌ لم يَسُقْ هَدْياً ، أفضل من متمتِّع ساقه من أدنى الحل ؟ فكيف إذا جُعِل أفضل من قارن ساقه من الميقات ، وهذا بحمد اللَّه واضح . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#79 |
![]() ![]() |
![]()
فصل
فى عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعاً تمتعاً حلَّ فيه من إحرامه وأما قول مَن قال : إنه حَجَّ متمتعاً تمتعاً حلَّ فيه من إحرامه ، ثم أحرم يومَ التَّرويةِ بالحجِّ مع سَوْق الهَدْى ، فعذره ما تقدَّم من حديث معاوية ، أنه قصَّرَ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ فى العشر وفى لفظ : وذلك فى حُجَّته . وهذا مما أنكره الناسُ على معاوية ، وغلَّطوه فيه ، وأصابه فيه ما أصاب ابنَ عمر فى قوله : إنه اعتمر فى رجب ، فإن سائر الأحاديث الصحيحة المستفيضة من الوجوه المتعدِّدة كلها تدل على أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يَحِلَّ من إحرامه إلاَّ يوم النحر ، ولذلك أخبر عن نفسه بقوله : (( لَوْلاَ أَنَّ مَعىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ )) ، وقوله : (( إِنِّى سُقْتُ الهَدْىَ وَقَرَنْتُ فَلاَ أُحِلُّ حتَّى أَنْحَرَ )) . وهذا خبرٌ عن نفسه ، فلا يدخله الوهمُ ولا الغلطُ ، بخلاف خبر غيره عنه ، لا سيما خبراً يخالِفُ ما أخبر به عن نفسه ، وأخبر عنه به الجمُّ الغفيرُ ، أنه لم يأخذ من شعره شيئاً ، لا بتقصير ولا حلق ، وأنه بقى على إحرامه حتى حَلَق يومَ النحر ، ولعل معاوية قصَّرَ عن رأسه فى عمرة الجِعْرانة ، فإنه كان حينئذ قد أسلم ، ثم نسى ، فظن أن ذلك كان فى العشر ، كما نسى ابنُ عمر أن عُمَرَهُ كانت كلُّها فى ذى القِعْدةَ . وقال : كانت [ إحداهن ] فى رجب ، وقد كان معه فيها ، والوهم جائزٌ على مَن سوى الرسول صلى الله عليه وسلم . فإذا قام الدليل عليه ، صار واجباً . وقد قيل : إن معاوية لعله قصَّرَ عن رأسه بقية شعر لم يكن استوفاه الحلاَّقُ يوم النحر ، فأخذه معاوية على المروة ، ذكره أبو محمد بن حزم ، وهذا أيضاً مِن وهمه ، فإن الحلاَّق لا يُبقى غلطاً شعراً يُقصَّر منه ، ثم يُبقى منه بعد التقصير بقية يوم النحر ، وقد قسم شعر رأسه بين الصحابة ، فأصاب أبا طلحة أحد الشِّقين ، وبقية الصحابة اقتسموا الشِّقَ الآخر ، الشعرة ، والشعرتين ، والشعرات ، وأيضاً فإنه لم يسعَ بين الصَّفا والمروةِ إلا سعياً واحداً وهو سعيُه الأول ، لم يسعَ عقب طوافِ الإفاضة ، ولا اعتمر بعد الحَجِّ قطعاً ، فهذا وهم مَحْضٌ . وقيل : هذا الإسناد إلى معاوية وقع فيه غلط وخطأ ، أخطأ فيه الحسن ابن علىٍّ ، فجعله عن معمر ، عن ابن طاووس ، وإنما هو عن هشام ابن حُجير، عن ابن طاووس ، وهشام : ضعيف . قلت : والحديثُ الذى فى البخارى عن معاوية : قصَّرْتُ عن رأس رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بمشْقَصٍ ، وَلَمْ يَزِدْ على هَذَا ، والذى عند مسلم : قَصَّرْتُ عَنْ رَأسِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ عَلَى المَرْوَةِ . وليس فى (( الصحيحين )) غير ذلك . وأما روايةُ مَن روى : (( فى أيام العشر )) فليست فى الصحيح ، وهى معلولة ، أو وهم من معاوية . قال قيس بن سعد راويها عن عطاء عن ابن عباس عنه ، والناس يُنكِرُونَ هذا على معاوية . وصدق قيس ، فنحن نحلِفُ باللَّهِ : إن هذا ما كان فى العشر قطُّ . ويشبه هذا وهم معاوية فى الحديث الذى رواه أبو داود ، عن قتادة ، عن أبى شيخ الهُنائى ، أن معاوية قال لأصحاب النبىِّ صلى الله عليه وسلم : هل تعلمُون أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كَذَا ، وَعَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ ؟ قالوا : نَعَم . قال : فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ ؟ قَالوا : أَمَّا هذِهِ ، فَلاَ ، فَقَالَ : أَما إنَّهَا مَعَهَا وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُم . ونحن نَشْهَدُ باللَّهِ : إن هذا وهم مِن معاوية ، أو كذبٌ عليه ، فلم ينهَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك قطُّ ، وأبو شيخ شيخ لا يُحتج به ، فضلاً عن أن يقدَّم على الثقات الحفَّاظ الأعلام ، وإن روى عنه قتادة ويحيى بن أبى كثير واسمه خيوان ابن خلدة بالخاء المعجمة وهو مجهول . فصل فى الرد على مَن زعم أنه صلى الله عليه وسلم حَجَّ متمتعاً وأما مَن قال : حجَّ متمتُّعاً تمتُّعاً لم يَحِلَّ منه لأجل سَوْق الهَدْى كما قاله صاحب (( المغنى )) وطائفة ، فعذرُهم قولُ عائشة وابن عمر : تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم . وقول حفصة : ما شأن الناس حلُّوا ولم تَحلَّ من عمرتك ؟ وقول سعد فى المتعة : قد صنعها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وصنعناها معهُ ، وقول ابن عمر لمن سأله عن متعة الحَجِّ : هى حلال ؟ فقال له السائلُ : إن أباكَ قد نهى عنها ، فقال : أرأيتَ إن كان أبى نهى عنها ، وصَنَعَهَا رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ، أأمَر أبى تَتَّبِعُ ، أم أمَر رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ؟ فقال الرجل : بل أمرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فقال : لقد صَنَعَها رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآلهِ وسلَّم . قال هؤلاء : ولولا الهَدْىُ لحلَّ كما يحلُّ المتمتعُ الذى لا هَدْىَ معه ، ولهذا قال : (( لولا أنَّ مَعىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ )) فأخبر أن المانع له مِن الحلِّ سوقُ الهَدْى ، والقارنُ إنما يمنعه من الحلِّ القِرانُ لا الهَدْىُ ، وأربابُ هذا القول قد يُسمُّون هذا المتمتَع قارناً ، لِكونه أحرَم بالحَجِّ قبل التحلل من العُمْرةِ ولكنَّ القِران المعروفَ أن يُحرِم بهما جميعاً ، أو يُحرمِ بالعُمْرة ، ثم يُدخِلَ عليها الحَج قبل الطواف . والفرق بين القارِن والمتمتع السائق من وجهين ، أحدهما : من الإحرام ، فإن القارن هو الذى يُحرِم بالحَجِّ قبل الطواف ، إما فى ابتداء الإحرام ، أو فى أثنائه . والثانى : أن القارن ليس عليه إلا سعىٌ واحد ، فإن أتى به أولاً ، وإلا سعى عقيبَ طواف الإفاضة ، والمتمتعُ عليه سعى ثانٍ عند الجمهور . وعن أحمد رواية أخرى : أنه يكفيه سعى واحد كالقارن ، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يسعَ سعياً ثانياً عقيبَ طوافِ الإفاضة ، فكيف يكونُ متمتعاً على هذا القولِ . فإن قيل : : فعلى الرواية الأخرى ، يكون متمتعاً ، ولا يتوجه الإلزام ، ولها وجه قوى من الحديث الصحيح ، وهو ما رواه مسلم فى (( صحيحه )) ، عن جابر قال : لم يطفِ النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابهُ بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً . طوافَه الأول هذا ، مع أنَّ أكثرَهم كانُوا متمتِّعين . وقد روى سفيانُ الثورىُّ ، عن سلمةَ بن كُهيل قال : حلف طاووس : ما طاف أحدٌ من أصحاب رسولِ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم لِحَجِّه وعُمرته إلا طوافاً واحداً . قيل : الذين نظروا أنه كان متمتعاً تمتعاً خاصاً ، لا يقولُون بهذا القول ، بل يُوجِبون عليه سَعيين ، والمعلومُ مِن سُّـنَّته صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ، أنه لم يسعَ إلا سعياً واحداً ، كما ثبت فى الصحيح ، عن ابن عمر ، أنه قرن ، وقدم مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم يزد على ذلك ، ولم يحلِقْ ولا قصَّر ، ولا حَلَّ مِن شئ حرم منه ، حتى كان يومُ النحر ، فنحَرَ وحلَق رأسه ، ورأى أنه قد قضى طوافَ الحجِّ والعُمْرة بطوافِه الأول ، وقال : هكذا فعل رسولُ الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم . ومراده بطوافه الأول الذى قضى به حَجَّه وعُمْرته : الطوافُ بين الصفا والمروة بلا ريب . وذكر الدارقطنى ، عن عطاء ونافع ، عن ابن عمر ، وجابر : أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، إنما طاف لحَجِّه وعُمرته طوافاً واحداً ، وسعى سعياً واحداً ، ثم قَدِمَ مكة ، فلم يسعَ بينهما بعد الصَّدَرِ فهذا يدل على أحدِ أمرين ، ولا بُد إما أن يكون قارناً ، وهو الذى لا يُمكن مَن أوجبَ على المتمتع سعيينِ أن يقولَ غيرَه ، وإما أن المتمتع يكفيه سعىٌ واحد ، ولكن الأحاديث التى تقدَّمت فى بيان أنه كان قارناً صريحةٌ فى ذلك ، فلا يُعدَل عنها . فإن قيل فقد روى شعبةُ ، عن حُميد بن هلال ، عن مُطرِّف ، عن عِمران بن حُصين ، أن النبىَّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم ، طاف طوافين ، وسعى سعيين . رواه الدارقطنى عن ابن صاعد : حدثنا محمد بن يحيى الأزدى ، حدثنا عبد اللَّه بن داود ، عن شعبة . قيل : هذا خبر معلول وهو غلط . قال الدارقطنى : يقال : إن محمد بن يحيى حدَّث بهذا من حفظه ، ]فوهم فى متنه والصواب بهذا الإسناد : أن النبىَّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم قرن بين الحَجِّ والعُمرة واللَّه أعلم . وسيأتى إن شاء اللَّه تعالى ما يدل على أن هذا الحديث غلط . وأظن أن الشيخ أبا محمد بن قدامة ، إنما ذهب إلى أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم كان متمتعاً ، لأنه رأى الإمام أحمد قد نصَّ على أن التمتعَ أفضلُ مِن القِران ، ورأى أن اللَّه سُبحانه لم يكن لِيختارَ لِرسوله إلا الأفضلَ ، ورأى الأحاديثَ قد جاءت بأنه تمتع ، ورأى أنها صريحةٌ فى أنه لم يَحِلَّ ، فأخذ من هذه المقدمات الأربع أنه تمتع تمتعاً خاصاً لم يَحِلَّ منه ، ولكن أحمد لم يُرجح التمتع ، لكون النبىَّ صلى الله عليه وسلم حجَّ متمتعاً ، كيف وهو القائل : لا أشكُّ أن رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم كان قارناً ، وإنما اختار التمتع لِكونه آخِرَ الأمرين مِن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ، وهو الَّذى أمر به الصحابة أن يَفسخُوا حَجَّهم إليه ، وتأسَّف على فوته . ولكن نقل عنه المَرْوَزِى ، أنه إذا ساق الهَدْىَ ، فالقِران أفضل ، فمِن أصحابه مَنْ جَعل هذا رواية ثانية ، ومِنهم مَن جعل المسألة روايةً واحدةً ، وأنه إن ساق الهَدْىَ ، فالقِران أفضلُ ، وإن لم يَسُقْ فالتمتُّع أفضلُ ، وهذه طريقة شيخنا ، وهى التى تليق بأصولِ أحمد ، والنبىُّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم لم يتمنَّ أنه كان جعلها عُمْرةٌ مع سوقه الهَدْىَ ، بل ودَّ أنه كان جعلها عُمْرة ولم يَسُقِ الهدىَ . بقى أن يُقال : فأىُّ الأمرين أفضلُ ، أن يسوقَ ويَقْرِنَ ، أو يترك السَّوْق ويتمتَّعَ كما ودَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم أنه فعله . قيل : قد تعارض فى هذه المسألة أمرانِ . أحدُهما : أنه صلى الله عليه وسلم قرن وساق الهَدْى ، ولم يكن اللَّه سبحانه لِيختار له إلا أفضلَ الأمور ، ولا سيما وقد جاءه الوحى به من ربه تعالى ، وخيرُ الهَدْى هَدْيه صلى الله عليه وسلم . والثانى قوله : (( لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ لمَا سُقْتُ الهَدْىَ ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً )) . فهذا يقتضى ، أنه لو كان هذا الوقتُ الذى تكلم فيه هو وقت إحرامه ، لكان أحرم بعُمْرة ولم يَسُق الهَدْى ، لأن الذى استدبره هو الذى فعله ، ومضى فصار خلفه ، والذى استقبله هو الذى لم يفعله بعدُ ، بل هو أمامَهُ ، فبيَّن أنه لو كان مستقبلاً لما استدبره ، وهو الإحرام بالعُمْرة دون هَدْى ، ومعلوم أنه لا يختارُ أن ينتقِلَ عن الأفضل إلى المفضولِ ، بل إنما يختارُ الأفضلَ ، وهذا يَدلُّ على أن آخِر الأمرينِ منه ترجيحُ التمتع . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#80 |
![]() ![]() |
![]()
ولمن رجَّح القِرانَ مع السَّوقِ أن يقولَ : هو صلى اللَّه عليه وسلم لم يَقُلْ هذا ، لأجل أن الذى فعله مفضولٌ مرجُوح ، بل لأن الصحابة شقَّ عليهم أن يَحِلُّوا من إحرامهم مع بقائه هو مُحِرماً ، وكان يختار موافقتهم لِيفعلوا ما أُمِرُوا به مع انشراحٍ وقبول ومحبة ، وقد ينتقِل عن الأفضل إلى المفضول ، لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب ، كما قال لعائشة : (( لَوْلاَ أنَّ قَومَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بَجَاهِلَّيةٍ لَنَقَضْتُ الكَّعْبَةَ وجَعَلْتُ لهَا بَابَيْنِ )) فهذا تركُ ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف ، فصار هذا هو الأَوْلى فى هذه الحال ، فكذلك اختيارُه للمُتعة بلا هَدْى . وفى هذا جمع بين ما فعله وبين ما ودَّه وتمنَّاه ، ويكون اللَّه سبحانه قد جمع له بين الأمرين ، أحدُهما بفعله له ، والثانى : بتمنِّيه وودِّه له ، فأعطاه أجرَ ما فعله ، وأجرَ ما نواه من الموافقة وتمنَّاه ، وكيف يكون نُسُكٌ يتخلَّلُه التَّحللُ ولم يَسُقْ فيه الهَدْىَ أفضلَ مِن نُسُكٍ لم يتخلَّله تحلُّل ، وقد ساق فيه مائةَ بَدَنةٍ ، وكيف يكون نُسُكٌ أفضل فى حقه من نُّسُك اختاره اللَّه له ، وأتاه به الوحىُ من ربه
فإن قيل : التمتع وإن تخلله تحلل ، لكن قد تكرَّرَ فيه الإحرامُ ، وإنشاؤه عبادة محبوبة للرب ، والقِران لا يتكرر فيه الإحرام ؟ قيل : فى تعظيم شعائر اللَّه بسوق الهَدْى ، والتقرب إليه بذلك من الفضل ما ليس فى مجرد تكرر الإحرام ، ثم إن استدامته قائمةٌ مقام تكرُّره ، وسوقُ الهَدْى لا مقابل له يقومُ مقامه . فإن قيل : فأيُّما أفضلُ ، إفراد يأتى عقيبَه بالعُمْرة أو تمتع يَحِلُّ منه ، ثم يُحِرمُ بالحج عقيبَه ؟ قيل : معاذ اللَّه أن نظن أن نُسُكاً قطُّ أفضلُ من النُّسُكِ الذى اختاره اللَّه لأفضل الخلق ، وسادات الأُمَّة ، وأن نقول فى نُسُك لم يفعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من الصحابة الذين حَجُّوا معه ، بل ولا غيرُهم من أصحابه : إنه أفضلُ مما فعلوه بأمره ، فكيف يكون حَج على وجه الأرض أفضلَ مِن الحَجِّ الذى حجَّه النبى صلواتُ اللَّه عليه ، وأُمِرَ به أفْضَلُ الخلق ، واختاره لهم ، وأمرهم بفسخ ما عداه من الأنساك إليه ، وودَّ أنه كان فعله ، لا حَجَّ قطُّ أكملُ من هذا . وهذا وإن صح عنه الأمر لمن ساق الهَدْىَ بالقِران ، ولمن لم يسقْ بالتمتع ، ففى جوازِ خِلافه نظر ، ولا يُوحشْك قِلَّةُ القائلين بوجوب ذلك ، فإن فيهم البحرَ الذى لا يَنْزِفُ عبدَ اللَّه بن عباس وجماعةً من أهل الظاهر ، والسُّـنَّة هى الحَكَمُ بين الناس .. واللَّه المستعان . فصل فى عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم حج قارناً قِراناً طاف له طوافين ، وسعى له سعيين وأما مَن قال : إنه حَجَّ قارِناً قِراناً طاف له طوافين ، وسعى له سعيين ، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة ، فعُذْرُه ما رواه الدارقطنى من حديث مجاهد ، عن ابن عمر : أنه جمع بين حَجٍّ وعُمْرة معاً ، وقال : سبيلهما واحد ، قال : وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين . وقال : هكذا رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت . وعن علىِّ بن أبى طالب ، أنه جمع بينهما ، وطافَ لهما طوافين ، وسَعَى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صنعَ كما صنعتُ . وعن علىِّ رضى اللَّه عنه أيضاً أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قارناً ، فطاف طوافَيْنِ ، وسعى سعيين . وعن علقمة ، عن عبد اللَّه بن مسعود قال : طافَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لحَجَّته وعُمرته طوافين ، وسعى سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلىّ ، وابن مسعود . وعن عِمران بن حُصين : أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم طاف طوافَيْنِ ، وسعى سعيين وما أحسن هذا العذرَ ، لو كانت هذه الأحاديثُ صحيحةً ، بل لا يَصِحُّ منها حرف واحد . أما حديث ابن عمر ، ففيه الحسن بن عُمارة ، وقال الدارقطنى : لم يروه عن الحكم غيرُ الحسن بن عُمارة ، وهو متروك الحديث . وأما حديثُ علىّ رضى اللَّه عنه الأول ، فيرويه حفص بن أبى داود . وقال أحمد ومسلم : حفص متروك الحديث ، وقال ابن خراش : هو كذَّاب يضع الحديث ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبى ليلى ، ضعيف . وأما حديثه الثانى : فيرويه عيسى بن عبد اللَّه بن محمد بن عمر بن على ، حدثنى أبى عن أبيه عن جده قال الدارقطنى : عيسى بن عبد اللَّه يقال له : مبارك ، وهو متروك الحديث . وأما حديث علقمة عن عبد اللَّه ، فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد ، عن حماد عن إبراهيم ، عن علقمة . قال الدارقطنى : وأبو بردة ضعيف ، ومَنْ دونه فى الإسناد ضعفاء .. انتهى . وفيه عبد العزيز بن أبان ، قال يحيى : هو كذَّاب خبيث . وقال الرازى والنسائى : متروك الحديث . وأما حديث عِمران بن حصين ، فهو مما غَلِطَ فيه محمد بن يحيى الأزدى ، وحدَّث به من حفظه ، فوهم فيه ، وقد حدَّث به على الصواب مِراراً ، ويقال : إنه رجع عن ذكر الطواف والسعى . وقد روى الإمام أحمد ، والترمذى ، وابن حبان فى (( صحيحه )) من حديث الدراوردى ، عن عُبيد اللَّه بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ قَرَنَ بين حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ ، أَجْزَأَهُ لَهُمَا طَوافٌ واحِدٌ )) . ولفظ الترمذى : (( مَنْ أَحْرَمَ بالحَجِّ والعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوافٌ وَسَعْىٌ وَاحِدٌ عنهما ، حَتَّى يَحِلَّ مِنهما جَميعاً )) . وفى (( الصحيحين )) ، عن عائشةَ رضى اللَّه عنها قالت : خرجنا مَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حَجَّةِ الوداع ، فأهللنا بعُمرة ، ثم قال : مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهلَّ بالحَجِّ والعُمْرَةِ ، ثُمَّ لا يَحِلّ حتَّى يَحلَّ مِنْهُمَا جَمِيعاً ، فطاف الَّذِينَ أَهَلُّوا بالعُمْرةِ ، ثُمَّ حَلُّوا ، ثم طَافُوا طَوَافاً آخَرَ بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنَى ، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ ، فإنَّمَا طَافُوا طَوَافَاً واحِداً )) . وصحَّ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لِعائِشة : (( إنَّ طوافَكِ بالبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ ، يَكْفِيكِ لحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ )) . وروى عبد الملك بن أبى سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، طاف طوافاً واحِداً لحَجِّه وعُمرته . وعبد الملك : أحد الثقات المشهورين ، احتج به مسلم ، وأصحاب السنن . وكان يقال له : الميزان ، ولم يُتكلم فيه بضعف ولا جرح ، وإنما أُنكر عليه حديثُ الشفعة، وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عنه عَارُهَا وقد روى الترمذى عن جابر رضى اللَّه عنه ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قَرنَ بين الحجِّ والعُمرة ، وطاف لهما طوافاً واحداً وهذا ، وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة ، فقد روى عنه سفيان ، وشعبة ، وابن نمير ، وعبد الرزاق ، والخلق عنه . قال الثورى : وما بقىَ أحد أعرفُ بما يخرُجُ من رأسه منه ، وعيب عليه التدليسُ ، وقلَّ من سَلِمَ منه . وقال أحمد : كان من الحفاظِ ، وقال ابن معين : ليس بالقوى ، وهو صدوق يدلس . وقال أبو حاتم : إذا قال : حدَّثنا ، فهو صادق لا نرتابُ فى صدقه وحفظه . وقد روى الدارقطنى ، من حديث ليث بن أبى سليم قال : حدثنى عطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، عن جابرٍ ، وعن ابن عمر ، وعن ابن عباس : أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَطُفْ هو وأصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافاً واحِداً لعُمْرتهم وحَجهم . وليث بن أبى سليم ، احتج به أهلُ السنن الأربعة ، واستشهد به مسلم ، وقال ابنُ معين : لا بأس به ، وقال الدارقُطنى : كان صاحبَ سُـنَّة ، وإنما أنكروا عليه الجمعَ بين عطاء وطاووس ومجاهد فحسب. وقال عبد الوارث : كان من أوعية العلم ، وقال أحمد : مضطرِب الحديث ، ولكن حدَّث عنه الناس ، وضعَّفه النسائى ، ويحيى فى رواية عنه ، ومثل هذا حديثه حسن . وإن لم يبلغ رتبة الصحة . وفى (( الصحيحين )) عن جابر قال : دخل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على عائشة ، ثم وجدَها تبكى فَقَالَ : (( ما يُبْكِيكِ )) ؟ فقالت : قد حِضْتُ وقد حَلَّ الناس ولم أَحِلَّ ولم أطُفْ بالبَيْتِ ، فقال : (( اغْتَسِلى ثُمَّ أهلِّى )) ففعلت ، ثم وقفت المواقِفَ حتى إذا طهُرت ، طافت بالكعبة وبالصفا والمَرْوَةِ ، ثم قال : (( قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعاً )) . وهذا يدل على ثلاثة أُمور ، أحدها : أنها كانت قارنة ، والثانى : أن القارن يكفيه طوافٌ واحدٌ وسعىٌ واحد . والثالث : أنه لا يجب عليها قضاءُ تِلك العُمْرةِ التى حاضت فيها ، ثم أدخلت عليها الحجَّ ، وأنها تَرْفُض إحرام العُمْرة بحيضها ، وإنما رفضت أعمالها والاقتصارَ عليها ، وعائشة لَم تَطُفْ أولاً طوافَ القُدوم ، بل لم تَطُفْ إلا بعْدَ التَّعريفِ ، وسعت مع ذلك ، فإذا كان طوافُ الإفاضة والسعىُ بعدُ يكفى القارِنَ ، فلأن يكفيه طوافُ القدوم مع طواف الإفاضة ، وسعى واحد مع أحدهما بطريق الأَوْلى ، لكن عائشة تعذَّر عليها الطواف الأول ، فصارت قصَّتها حُجَّةً ، فإن المرأة التى يتعذَّر عليها الطوافُ الأول ، تفعلُ كما فعلت عائشة ، تُدخِلُ الحَجَّ على العُمْرة ، وتصيرُ قارنةً ، ويكفيها لهما طوافُ الإفاضة والسعىُ عقيبه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ومما يبين أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يَطُفْ طَوافينِ ، ولا سعى سعيين قولُ عائشة رضى اللَّه عنها : وأما الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرة ، فإنما طافوا طوافاً واحداً متفق عليه وقول جابر : لم يطف النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً ، طوافه الأول )) ((رواه مسلم)) وله لعائشة : (( يُجْزِئ عَنْكِ طَوافُكِ بالصَّفَا والمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ )) ((رواه مسلم )) وقوله لها فى رواية أبى داود : (( طَوافُكِ بالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جميعاً )). وقوله لها فى الحديث المتفق عليه لما طافت بالكعبة وبين الصفا والمروة : (( قد حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جميعاً )) قال : والصحابة الذين نقلوا حجةَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . كُلُّهم نقلوا أنهم لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ، أمرهم بالتحليلِ إلا مَن ساق الهَدْى . فإنه لا يَحلُّ إلا يومَ النَّحْرِ ، ولم يَنْقُلْ أحد منهم أن أحداً منهم طاف وسعى ، ثم طاف وسعى . ومن المعلوم ، أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله . فلما لم ينقله أحدٌ من الصحابة ، عُلِمَ أنه لم يكن . وعمدة مَن قال بالطوافين والسعيين ، أثرٌ يرويه الكوفيون ، عن علىّ ، وآخر عن ابن مسعود رضى اللَّه عنهما . وقد روى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علىّ رضى اللَّه عنه ، أن القارنَ يكفيه طوافٌ واحد ، وسعىٌ واحد ، خلاف ما روى أهل الكوفة ، وما رواه العراقيون ، منه ما هو منقطع ، ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون ، ولهذا طعن علماءُ النقل فى ذلك حتى قال ابنُ حزم : كل ما رُوى فى ذلك عن الصحابة ، لا يَصِحُّ منه ولا كلمةٌ واحدة . وقد نُقِلَ فى ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم ، ما هو موضوع بلا ريب . وقد حلف طاووس : ما طاف أحدٌ من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحَجَّته وعُمْرته إلا طوافاً واحداً ، وقد ثبت مثلُ ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس ، وجابر ، وغيرهم رضى اللَّه عنهم ، وهُمْ أعلمُ الناس بحَجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلم يُخالفوها ، بل هذه الآثار صريحة فى أنهم لم يطوفوا بالصَّفَا والمروة إلا مرةً واحدة . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#81 |
![]() ![]() |
![]()
وقد تنازع الناسُ فى القارن والمتمتع ، هل عليهما سعيان أو سَعىٌ واحد ؟ على ثلاثة أقوال : فى مذهب أحمد وغيره .
أحدها : ليس على واحد منهما إلا سعى واحد ، كما نص عليه أحمد فى رواية ابنه عبد اللَّه . قال عبد اللَّه : قلت لأبى : المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة ؟ قال : إن طاف طوافين ، فهو أجود . وإن طاف طوافاً واحداً ، فلا بأس . قال شيخنا : وهذا منقول عن غير واحد من السَلَف . الثانى : المتمتع عليه سعيان والقارن عليه سعى واحد ، وهذا هو القول الثانى فى مذهبه ، وقول مَن يقوله من أصحاب مالك والشافعى رحمهما اللَّه . والثالث : أن على كل واحدٍ منهما سعيين ، كمذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه ، ويُذكر قولاً فى مذهب أحمد رحمه اللَّه ، واللَّه أعلم . والذى تقدَّم هو بسط قول شيخنا وشرحه .. واللَّه أعلم . فصل فى أنه لا عذر البتة فيمن قال إنه صلى الله عليه وسلم حج حجاً مفرداً اعتمر عقيبه من التنعيم وأما الذين قالوا : إنه حجَّ حجاً مفرِداً اعتمر عقَيبه من التنعيم ، فلا يُعلم لهم عذرٌ البتة إلا ما تقدَّم من أنهم سمعوا أنه أفرد الحج ، وأن عادَة المفردين أن يعتَمِرُوا من التنعيم ، فتوهموا أنه فعل كذلك . فصل فيمن غلط فى إهلاله صلى الله عليه وسلم وأما الذين غلطوا فى إهلاله ، فمَن قال : إنه لبَّى بالعُمْرة وحدها واستمر عليها ، فعذرُه أنه سمع أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تمتع ، والمتمتع عنده مَن أهلَّ بعُمْرة مفردة بشروطها . وقد قالت له حفصة رضى اللَّه عنها : ما شأن النَّاسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ مِن عُمرتك ؟ وكل هذا لا يدل على أنه قال : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ ، ولم يَنْقُلْ هذا أحد عنه البتة ، فهو وهم محض ، والأحاديثُ الصحيحةُ المستفيضةُ فى لفظه فى إهلاله تُبْطِلُ هذا . فصل فى عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم لبَّى بالحج وحده واستمر عليه وأما مَن قال : إنه لبَّى بالحَجِّ وحده واستمر عليه ، فعذُره ما ذكرنا عمن قال : أفرد الحَجَّ ولبَّى بالحَجِّ ، وقد تقدّم الكلامُ على ذلك ، وأنه لم يقل أحد قط إنه قال : لَبَّيْكَ بحَجَّة مفردة ، وإن الذين نقلوا لفظه ، صرَّحوا بخلاف ذلك . فصل فى عذر مَن قال إنه لبَّى بالحج وحده ثم أدخل عليه العُمْرة وأما مَن قال : إنه لبَّى بالحجِّ وحده ، ثم أدخل عليه العُمْرة ، وظن أنه بذلك تجتمع الأحاديث ، فعذره أنه رأى أحاديث إفراده بالحج صحيحة ، فحملها على ابتداء إحرامه ، ثم إنه أتاه آتٍ من ربِّه تعالى فقال : قل : عُمْرة فى حَجة ، فأدخل العُمْرة حينئذ على الحَجِّ ، فصار قارناً . ولهذا قال للبرَّاء بن عازب : (( إنِّى سُقْتُ الهَدْىَ وَقَرَنْتُ )) ، فكان مفرِداً فى ابتداء إحرامه ، قارناً فى أثنائه ، وأيضاً فإن أحداً لم يَقُل إنه أهَلَّ بالعُمْرة ، ولا لبَّى بالعُمْرة ، ولا أفرد العُمْرة ، ولا قال : خرجنا لا ننوى إلا العُمْرة ، بل قالوا : أَهلَّ بالحَجِّ ، ولبَّى بالحَجِّ ، وأفرد الحَجَّ ، وخرجنا لا ننوى إلا الحجّ ، وهذا يدل على أن الإحرام وقع أولاً بالحَجَِّ ، ثم جاءه الوحىُ من ربه تعالى بالقِران ، فلبَّى بهما فَسمعه أنس يُلبِّى بهما ، وصدق ، وسمعته عائشةُ ، وابنُ عمر ، وجابر يُلبِّى بالحَجِّ وحده أولاً وصدقوا . قالوا : وبهذا تتفق الأحاديث ، ويزولُ عنها الاضطراب . وأربابُ هذِه المقالة لا يُجيزونَ إدخال العُمْرة على الحج ، ويرونه لغواً ، ويقولون : إن ذلك خاص بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم دون غيره . قالوا : ومما يدل على ذلك : أن ابن عمر قال : لبَّى بالحَجِّ وحده ، وأنس قال : أهلَّ بهما جميعاً ، وكلاهما صادق فلا يمكن أن يكون إهلاله بالقِران سابقاً على إهلاله بالحَجِّ وحده ، لأنه إذا أحرم قارناً ، لم يمكن أن يحْرِم بعد ذلك بحَجٍّ مفرد ، وينقل الإحرام إلى الإفراد ، فتعيَّن أنه أحرم بالحجِّ مُفرِداً ، فسمعه ابنُ عمر ، وعائشة ، وجابر ، فنقلوا ما سَمِعُوه ، ثم أدخل عليه العُمرة ، فأهلَّ بهما جميعاً لما جاءه الوحى من ربه ، فسمِعه أنس يهل بهما ، فنقل ما سمعه ، ثم أخبر عن نفسه بأنه قرن ، وأخبر عنه مَن تقدم ذِكره من الصحابة بالقِران ، فاتفقت أحاديثهم ، وزال عنها الاضطرابُ والتناقضُ . قالوا : ويدلُّ عليه قولُ عائشة : خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . فقال : (( مَن أراد منكم أن يُهِلَّ بِحَجٍّ وعُمرةٍ فَلْيُهِلَّ ، وَمَنْ أرادَ أنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ ، ومَنْ أَرادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ )) . قالت عائشةُ : فأهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهلَّ به ناس معه ، فهذا يدل على أنه كان مُفِرداً فى ابتداء إحرامه ، فعُلِم أن قِرانه كان بعد ذلك . ولا رَيبَ أن فى هذا القولِ من مخالفة الأحاديث المتقدِّمة ، ودعوى التخصيصِ للنبى صلى الله عليه وسلم بإحرام لا يَصحُّ فى حقِّ الأُمة ما يردُّه ويُبطله ، ومما يردُّه أن أنساً قال : صلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر بالبيداء ، ثم ركب ، وصَعِدَ جبل البيداء ، وأهلَّ بالحَجِّ والعُمْرة حين صلَّى الظهر . وفى حديث عمر، أن الذى جاءهُ مِن ربهِ قال له : (( صَلِّ فى هَذَا الوَادى المُبارَكِ وقُلْ : عُمْرَةٌ فى حَجَّةٍ )) . فكذلك فعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فالذى روى عمر أنه أُمِرَ به ، وروى أنس أنه فعله سواء ، فصلَّى الظُّهر بذى الحُليفة ، ثم قال : (( لبيك حَجّاً وعُمْرة )) . واختلف الناسُ فى جواز إدخالِ العُمرةِ على الحَجِّ على قولين ، وهما روايتان عن أحمد ، أشهرهما : أنه لا يَصِحُّ ، والذين قالوا بالصحِّة كأبى حنيفة وأصحابه رحمهم اللَّه ، بَنَوْه على أُصولهم ، وأن القارِن يطوف طوافين ، ويسعى سعيين ، فإذا أدخل العُمْرة على الحَجِّ ، فقد التزم زيادة عملِ على الإحرام بالحَجِّ وحدَه ، ومَن قال : يكفيه طوافٌ واحد ، وسعىٌ واحد ، قال : لم يستفد بهذا الإدخال إلا سقوط أحد السفرين ، ولم يلتزم به زيادَة عمل ، بل نُقصانه ، فلا يجوز ، وهذا مذهب الجمهور . فصل فى عذر القائلين إنه صلى الله عليه وسلم أحرم بعُمْرة ، ثم أدخل عليها الحج وأما القائلون : إنه أحرم بعُمْرة ، ثم أدخل عليها الحَجَّ ، فعُذرهم قولُ ابنِ عمر : ((تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حَجَّة الوداع بالعُمْرة إلى الحَجِّ ، وأهدى ، فساق معه الهَدْىَ من ذى الحُليفة ، وبدأ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأ هلَّ بالعُمْرةِ ثم أهلَّ بالحَجِّ ) متفق عليه وهذا ظاهر فى أنه أحرم أولاً بالعُمْرة ، ثم أدخل عليها الحَجَّ ، ويُبين ذلك أيضاً أن ابن عمر لما حَجَّ زمن ابن الزبير أهلَّ بعُمرة ثم قال : أُشْهِدُكم أنى قد أوجبتُ حَجّاً مع عُمْرتى ، وأهدى هَدْياً اشتراه بقُدَيْد ، ثم انطلق يُهِلُّ بهما جميعاً حتى قَدِمَ مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم يزد على ذلك ، ولم ينحر ، ولم يحلقْ ولم يُقصِّرْ ، ولم يَحِلَّ من شئ حرم منه حتى كان يوم النحر ، فنحر وحلق ، ورأى أن ذلك قد قضى طوافَ الحَج والعُمْرة بطَوافه الأول . وقال : هكذا فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . فعند هؤلاء ، أنه كان متمتعاً فى ابتداء إحرامه ، قارِناً فى أثنائه ، وهؤلاء أعذُر مِن الذين قبلهم ، وإدخالُ الحجِّ على العُمرة جائز بلا نزاع يُعرف ، وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم عائشة رضى اللَّه عنها بإدخال الحج على العُمرة ، فصارت قارِنةً ، ولكن سياقُ الأحاديث الصحيحة ، يردُّ على أرباب هذه المقالة . فإن أنساً أخبر أنه حين صلى الظهر أهلَّ بهما جميعاً، وفى ( الصحيح )عن عائشة ، قالت : خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حَجَّة الوداع مُوَافِينَ لهِلال ذى الحِجَّة ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أَرادَ مِنْكُم أَنْ يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ ، فلوْلاَ أَنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ ) قالت : وكان مِن القوم مَن أهلَّ بعُمْرة ، ومنهم مَن أهلَّ بالحج ، فقالت : فكنت أنا ممن أهلَّ بعُمْرة ... وذكرت الحديث رواه مسلم فهذا صريح فى أنه لم يُهِل إذ ذاك بعمرةٍ ، فإذا جمعت بين قولِ عائشة هذا ، وبين قولها فى (الصحيح): تمتع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حَجَّة الوداع ، وبَيْنَ قولهـا : وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحجِّ ، والكُلُّ فى (الصحيح)، علمتَ أنها إنما نفت عُمْرةً مفردة ، وأنها لم تنف عُمْرة القِران ، وكانوا يُسمونها تمتعاً كما تقدَّم ، وأن ذلك لا يُناقض إهلالَه بالحج ، فإن عُمْرة القِران فِى ضمنه ، وجزء منه ، ولا يُنافى قولها : أفرد الحَج ، فإن أعمالَ العُمْرة لما دخلت فى أعمال الحَج ، وأُفِردَتْ أعمالُه ، كان ذلك إفراداً بالفعل . وأما التلبية بالحَجِّ مفرِداً ، فهو إفراد بالقول ، وقد قيل : إن حديثَ ابنِ عمر : أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تمتع فى حَجَّة الوداع بالعُمْرة إلى الحَجِّ ، وبدأ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعُمْرة ، ثم أهلَّ بالحَج ، مروى بالمعنى من حديثه الآخر ، وأن ابن عمر هو الذى فعل ذلك عام حَجه فى فتنة ابن الزبير ، وأنه بدأ فأهلَّ بالعمرة ، ثم قال : ما شأنُهما إلا واحد ، أُشهِدُكم أنى قد أوجبت حَجّاً مع عُمرتى ، فأهلَّ بهما جميعاً ، ثم قال فى آخر الحديث : هكذا فعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم . وإنما أراد اقتصاره على طواف واحد ، وسَعىٌ واحد ، فَحُمِلَ على المعنى ، ورُوى به : أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بدأ فأهلَّ بالعُمْرة ، ثم أهلَّ بالحَجِّ ، وإنما الذى فعل ذلك ابنُ عمر ، وهذا ليس ببعيد ، بل متعيِّن ، فإن عائشة قالت عنه : (لولا أن مَعِى الهَدْىَ لأَهَلَلْتُ بِعُمْرَةٍ) وأنس قال عنه : إنه حين صلَّى الظهر ، أوجب حَجَّاً وعُمْرة ، وعمر رضى اللَّه عنه ، أخبر عنه أن الوحى جاءه من ربه فأمره بذلك . فإن قيل : فما تصنعون بقول الزهرى : إن عروة أخبره عن عائشة بمثل حديث سالم ، عن ابن عمر ؟ قيل : الذى أخبرت به عائشة من ذلك ،هو أنه صلى اللَّه عليه وسلم طاف طوافاً واحداً عن حَجِّه وعُمْرته ، وهذا هو الموافقُ لِرواية عروة عنها فى (الصحيحين )، وطاف الَّذين أهلُّوا بالعُمْرة بالبيت وبينَ الصَّفا والمروة ، ثم حلُّوا ، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من مِنَى لحَجِّهم ، وأما الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرة ، فإنما طافوا طوافاً واحداً ، فهذا مثلُ الذى رواه سالم عن أبيه سواء . وكيف تقول عائشة :إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدأ فأهلَّ بالعُمرة ، ثم أهلَّ بالحَجِّ ، وقد قالت : إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال ![]() فصل فيمن قالوا إنه أحرم إحراماً مطلقاً ، لم يعين فيه نُسُكاً ثم عيَّنه وأما الذين قالوا : إنَّه أحرم إحراماً مطلقاً ، لم يعيِّن فيه نُسكاً ، ثم عيَّنه بعد ذلك لما جاءه القضاء وهو بين الصَّفَا والمروة ، وهو أحدُ أقوال الشافعى رحمه اللَّه ، نص عليه فى كتاب(اختلاف الحديث) قال : وثبت أنه خرج ينتظر القضاء ، فنزل عليه القضاء وهو ما بين الصَّفَا والمروة ، فأمر أصحابَه أن مَن كان منهم أهلَّ ولم يكن معه هَدْى أن يجعله عُمْرةً ، ثم قال : ومن وصف انتظار النبى صلى الله عليه وسلم القضاء ، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلباً للاختيار فيما وسَّع اللَّه من الحَجِّ والعُمْرة ، فيُشبه أن يكون أحفظ ، لأنه قد أُتى بالمتلاعِنَيْنِ ، فانتظر القضاء ، كذلك حُفِظَ عنه فى الحَجِّ ينتظِرُ القضاء ، وعذر أرباب هذا القول ، ما ثبت فى(الصحيحين)عن عائشة رضى اللَّه عنها ، قالت ![]() ![]() |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#82 |
![]() ![]() |
![]()
وقال طاووس : خرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يُسمِّى حَجّاً ولا عُمْرة ينتظِرُ القضاءَ ، فنزل عليه القضاءُ وهو بين الصَّفَا والمروة ، فأمر أصحابَه مَن كان منهم أهلَّ بالحَجِّ ولم يكن معه هَدْى أن يجعلها عُمْرة ... الحديثَ .
وقال جابر فى حديثه الطويل فى سياق حَجَّة النبى صلى الله عليه وسلم : فصلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى المسجد ، ثم ركب القَصْواءَ حتى إذا استوت به ناقتُه على البيداءِ نَظرتُ إلى مدِّ بصرى بين يديه من راكب وماشٍ ، وعن يمينه مثلُ ذلك ، وعن يَسارِه مثلُ ذلك ، ومِنْ خلفه مِثلُ ذلك ، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهُرِنا ، وعليه يَنْزِلُ القرآنُ وهو يعلم تأويلَه ، فما عَمِلَ به من شئ ، عَمِلْنَا بِهِ ، فأهلَّ بالتوحيدِ : (( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ ، لا شَريكَ لَكَ )) . وأهلَّ الناسُ بهذا الذى يُهِلُّون به، ولَزِمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تلبيتُه فأخبر جابر ، أنه لم يزد على هذه التلبية ، ولم يذكرُ أنه أضاف إليها حَجّاً ولا عُمْرة ، ولا قِراناً ، وليس فى شئ من هذه الأعذار ما يُناقض أحاديث تعيينه النُّسُكَ الذى أحرم به فى الابتداء ، وأنه القِران . فأما حديثُ طاووس ، فهو مرسَل لا يُعارَضُ به الأساطينُ المسندَاتُ ، ولا يُعرف اتصاله بوجه صحيح ولا حسن . ولو صح ، فانتظارُه للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات ، فجاءه القضاء وهو بذلك الوادى ، أتاه آتٍ مِنْ ربه تعالى فقال : (( صَلِّ فى هَذَا الوَادى المُبَارَكِ وَقُلْ : عُمْرَةٌ فى حَجَّةٍ )) ، فهذا القضاءُ الذى انتظره ، جاءه قبل الإحرام ، فعيَّن له القِرانَ . وقول طاووس : نزل عليه القضاءُ وهو بين الصَّفَا والمروة ، هو قضاء آخر غير القضاء الذى نزل عليه بإحرامه ، فإن ذلك كان بوادى العقيق ، وأما القضاءُ الذى نزل عليه بين الصَّفا والمروة ، فهو قضاءُ الفسخ الذى أمرَ به الصحابةَ إلى العُمْرة ، فحينئذ أمر كُلَّ مَنْ لم يكن معه هَدْى منهم أن يفسَخَ حَجَّهُ إلى عُمْرة وقال : (( لو اسْتَقْبَلْتُ منْ أمْرِى ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْى وَلَجَعَلْتُها عُمْرَةً )) ، وكان هذا أمرَ حتم بالوحى ، فانهم لما توقَّفوا فيه قال : (( انظُرُوا الَّذِى آمرُكُمْ بِهِ فَاْفعَلُوه )) . فأما قول عائشة : خرجنا لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة . فهذا إن كان محفوظاً عنها ، وجب حمله على ما قبل الإحرام ، وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها ، أن منهم مَن أهلَّ عند الميقات بحَجٍّ ، ومنهم مَنْ أهلّ بعُمْرة ، وأنها ممن أهلَّ بعُمْرة . وأما قولها : نلبِّى لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة ، فهذا فى ابتداء الإحرام ، ولم تقل : إنهم استمروا على ذلك إلى مكة ، هذا باطل قطعاً فإن الذين سمعوا إحرامَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما أهلَّ به ، شهدوا على ذلك ، وأخبروا به ، ولا سبيل إلى رد رواياتهم . ولو صح عن عائشةَ ذلك ، لكان غايتُه أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات ، فنفته وحفظه غيرها من الصحابة فأثبته ، والرجالُ بذلك أعلمُ من النساء . وأما قول جابر رضى اللَّه عنه : وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ، فليس فيه إلا إخبارُه عن صفة تلبيته ، وليس فيه نفىٌ لتعيينه النُّسُكَ الذى أحرم به بوجه من الوجوه . وبكل حال ، ولو كانت هذه الأحاديث صريحة فى نفى التعيين ، لكانت أحاديثُ أهلِ الإثبات أولى بالأخذ منها ، لكثرتها ، وصحتها ، واتصالها ، وأنها مُثْبِتَة مبيِّنة متضمنة لزيادة خفيت على مَن نفى ، وهذا بحمد اللَّه واضح ، وباللَّه التوفيق . فصل ولنرجع إلى سياق حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم ولبَّد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه بالغِسْل وهو بالغين المعجمة على وزن كِفلٍ وهو ما يُغسل به الرأس مِن خَطْمِىٍّ ونحوه يُلبَّدُ به الشعر حتى لا ينتشِر ، وأهلَّ فى مُصلاه ، ثم ركب على ناقته ، وأهلَّ أيضاً ، ثم أهلَّ لما استقلَّت به على البيداء . قال ابن عباس : وايمُ اللَّه .. لقد أوجب فى مصلاه ، وأهلَّ حين استقلت به ناقته ، وأهلَّ حين علا على شرف البيداء . وكان يُهِلَّ بالحَجِّ والعُمرة تارة ، وبالحَجِّ تارة ، لأن العُمْرة جزء منه ، فمن ثَمَّ قيل : قَرَنَ ، وقيل : تمتع ، وقيل : أفرد ، قال ابن حزم : كان ذلك قبلَ الظُّهر بيسير ، وهذا وهم منه ، والمحفوظُ : أنه إنما أهلَّ بعد صلاة الظهر ، ولم يقل أحد قط إن إحرَامه كان قبل الظهر ، ولا أدرى من أين له هذا . وقد قال ابنُ عمر : ما أهلَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلا مِن عند الشجرة حين قام به بعيرُه . وقد قال أنس : إنه صلَّى الظهرَ ، ثم ركب ، والحديثان فى (( الصحيح )) . فإذا جمعت أحدَهما إلى الآخر ، تبيَّن أنَّه إنما أهلَّ بعدَ صلاةِ الظُّهر ، ثم لبَّى فقال : (( لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيك لا شَريكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ )) . ورفع صوتَه بهذه التلبيةِ حتى سَمِعَها أصحابُه ، وأمرَهم بأمر اللَّه له أن يرفعُوا أصواتَهم بالتلبية . وكان حَجَّه على رَحْل ، لا فى مَحْمِلٍ ، ولا هَوْدَج ، ولا عمَّارِية وزَامِلتُه تحته . وقد اختُلِف فى جواز ركوبِ المُحْرِم فى المَحْمِلِ ، والهَوْدَجِ ، والعَمَّارِية ، ونحوها على قولين ، هما روايتان عن أحمد أحدهما : الجوازُ وهو مذهبُ الشافعى وأبى حنيفة . والثانى : المنع وهو مذهب مالك . فصل ثم إنَّه صلى اللَّه عليه وسلم خيَّرهم عند الإحرام بين الأنساكِ الثلاثة ، ثم ندبَهم عند دُنوِّهم من مكة إلى فسخ الحَج والقِران إلى العُمْرة لمن لم يكن معه هَدْىٌ ، ثم حتَّم ذلك عليهم عند المروةِ . وولَدَتْ أسماءُ بِنتُ عُميسٍ زوجةُ أبى بكر رضى اللَّه عنها بذى الحُليفة محمَّدَ بن أبى بكر ، فأمرها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تغتسِلَ ، وتَسْتَثْفِرَ بثوب ، وتُحرم وتُهِلَّ . وكان فى قِصتها ثلاثُ سُنن ، إحداها : غسلُ المحرم ، والثانية : أن الحائضَ تغتسِل لإحرامها ، والثالثة : أن الإحرام يَصِحُّ مِن الحائض . ثم سار رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يُلبِّى بتلبيتِه المذكورةِ ، والناسُ معه يزيدُون فيها ويَنقُصُون ، وهو يُقِرُّهم ولا يُنكِرُ عليهم . ولزم تلبيتَه ، فلما كانُوا بالرَّوحاء ، رأى حِمار وحْشٍ عَقيراً ، فقال : ((دَعوه فإنَّه يُوشِكُ أَنْ يَأتىَ صَاحِبُه )) فَجاء صَاحِبُه إلىَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ،فَقَالَ : يا رسُولَ اللَّه ، شَأْنَكُم بِهَذَا الحِمارِ ، فَأَمرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ . وفى هذا دليل على جواز أكلِ المُحْرِمِ مِن صيد الحَلال إذا لم يَصِدْه لأجله ، وأما كونُ صاحبه لم يُحْرِم ، فلعلَّه لم يمرَّ بذى الحُليفة ، فهو كأبى قتادة فى قصته، وتدل هذه القصةُ على أن الهِبة لا تفتقِرُ إلى لفظ : وهبتُ لك ، بل تَصِحُّ بما يَدُلُّ عليها ، وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحرِّى ، وتَدُلُّ على أن الصيدَ يُملَكُ بالإثبات ، وإزالة امتناعه ، وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه ، وعلى حِلِّ أكلِ لحم الحِمار الوحشى ، وعلى التوكيل فى القِسمة ، وعلى كون القاسم واحداً . فصل ثم مضى حتى إذا كان بالأُثَايةِ بين الرُّويثَةِ والعَرْجِ ، إذا ظبىٌ حَاقِفٌ فى ظِلٍّ فيه سهم ، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يَرِيبُه أحدٌ من الناس ، حتى يُجاوِزوا . والفرقُ بين قصة الظبى ، وقصةِ الحمار ، أن الذى صاد الحمار كان حلالاً ، فلم يمنع من أكله ، وهذا لم يعلم أنه حلال وهم محرِمون ، فلم يأذنْ لهم فى أكله ، ووكَّل مَن يَقِفُ عنده ، لئلا يأخذه أحدٌ حتى يُجاوزوه . وفيه دليل : على أن قتلَ المُحْرِم للصيد يجعلُه بمنزلة الميتة فى عدم الحِلِّ ، إذ لو كان حلالاً ، لم تَضِعْ مالِيَّتُه . فصل ثم سار حتى إذا نزل بالعَرْجِ ، وكانت زِمالتُه وزِمَالَةُ أبى بكر واحدة ، وكانت مع غلام لأبى بكر ، فجلس رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه ، وعائشةُ إلى جانبه الآخر ، وأسماءُ زوجته إلى جانبه ، وأبو بكر ينتظِر الغلام والزمالة ، إذ طلع الغلام ليس معه البعير ، فقال : أين بعيرُك ؟ فقال : أضللتُه البارحة ، فقال أبو بكر : بعير واحد تُضِلُّه . قال : فَطفِق يضربُه ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يتبسَّم ، ويقول : انظُروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنَعُ ، وما يزيد رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك ويتبسم . ومن تراجم أبى داود على هذه القصة ، باب (( المحرم يؤدِّب غلامه )) . فصل ثم مضى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بالأبواءِ ، أهدى له الصَّعبُ بن جَثَّامَةَ عَجُزَ حِمَارٍ وحشىٍّ ، فردَّه عليه ، فقال : (( إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أَنَّا حُرُمٌ)). وفى (( الصحيحين )) : (( أنه أهدى له حِماراً وحشياً )) ، وفى لفظ لمسلم: (( لحم حمار وحْشٍ )) . وقال الحُميدى : كان سفيانُ يقولُ فى الحديث : أُهْدِىَ لرسولِ الله صلى اللَّه عليه وسلم لحمُ حِمار وحْشٍ ، وربما قال سفيان : يقطُرُ دماً ، وربما لم يقُلْ ذلك، وكان سفيان فيما خلا ربما قال : حِمارَ وحش ، ثم صار إلى لحم حتَّى مات . وفى رواية : شقَّ حِمارِ وحشٍ ، وفى رواية : رِجل حمار وحشٍ . وروى يحيى بن سعيد ، عن جعفر ، عن عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى عن أبيه ، عن الصَّعبِ ، أُهدى للنبى صلى الله عليه وسلم عَجُزَ حِمارِ وحْشٍ وهو بالجُحفة ، فأكل منه وأكل القوم . قال البيهقى : وهذا إسناد صحيح . فإن كان محفوظاً ، فكأنه ردَّ الحى ، وقبل اللَّحم . وقال الشافعى رحمه اللَّه : فإن كان الصَّعبُ بن جَثَّامة أهدى للنبى صلى الله عليه وسلم الحمارَ حيًّّاً ، فليس للمُحْرِم ذبحُ حمار وحش ، وإن كان أهدى له لحم الحمار ، فقد يحتمِلُ أن يكون علم أنه صِيد له ، فردَّه عليه ، وإيضاحه فى حديث جابر . قال : وحديثُ مالك : أنه أُهدى له حماراً أثبتُ من حديث مَن حدَّث أنه أُهدى له من لحم حمار . قلت : أما حديث يحيى بن سعيد ، عن جعفر ، فغلط بلا شك ، فإن الواقعةَ واحدة ، وقد اتفق الرواةُ أنه لم يأكل منه ، إلا هذه الرواية الشاذَّة المنكرة . وأما الاختلافُ فى كون الذى أهداه حيَّا ، أو لحماً ، فرواية مَن روى لحماً أولى لثلاثة أوجه . أحدها : أن راويها قد حفظها ، وضبطَ الواقعةَ حتى ضبطها : أنه يقطر دماً ، وهذا يدل على حفظه للقصة حتى لهذا الأمر الذى لا يُؤبه له . الثانى : أن هذا صريح فى كونه بعضَ الحِمار ، وأنه لحم منه ، فلا يُناقض قوله : أُهدى له حماراً ، بل يُمكن حمله على رواية مَن روَى لحماً ، تسمية للحم باسم الحيوان ، وهذا مما لا تأباه اللغة . الثالث : : أن سائر الروايات متفقة على أنه بعض من أبعاضه ، وإنَّما اختلفوا فى ذلك البعض ، هل هو عجزُه ، أو شِقُّه ، أو رِجله ، أو لحم منه ؟ ولا تناقضَ بين هذه الروايات ، إذ يمكن أن يكون الشِّق هو الذى فيه العَجُز ، وفيه الرِّجل ، فصح التعبيرُ عنه بهذا وهذا ، وقد رجع ابنُ عيينة عن قوله : (( حماراً )) وثبت على قوله : (( لحم حمار )) حتى مات . وهذا يدل على أنه تبيَّن له أنه إنما أُهدى له لحماً لا حيواناً ، ولا تعارض بين هذا وبين أكله لما صاده أبو قتادة ، فإنَّ قصة أبى قتادة كانت عام الحُديبية سنة ست ، وقصة الصَّعب قد ذكر غيرُ واحد أنها كانت فى حَجَّة الوداع ، منهم : المحبُّ الطبرى فى كتاب (( حجة الوداع )) له . أو فى بعض عُمَره وهذا مما يُنظر فيه . وفى قصة الظبى وحمار يزيد بن كعب السلمى البَهزى ، هل كانت فى حَجَّة الوداع ، أو فى بعض عُمَره واللَّه أعلم ؟ فإن حُمِل حديثُ أبى قتادة على أنه لم يصده لأجله ، وحديث الصَّعب على أنه صيد لأجله ، زال الإشكالُ ، وشهد لذلك حديث جابر المرفوع : (( صَيْدُ البَرِّ لَكُم حَلالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ )) . وإن كان الحديثُ قد أُعِلَّ بأن المطلب ابن حنطب راويه عن جابر لا يُعرف له سماع منه ، قاله النسائى . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#83 |
![]() ![]() |
![]()
قال الطبرى فى (( حَجة الوداع )) له : فلما كان فى بعض الطريق ، اصطاد أبو قتادة حماراً وحشياً ، ولم يكن مُحرماً ، فأحلَّه النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن سألهم : هل أمره أحد منكم بشئ ، أو أشار إليه ؟ وهذا وهم منه رحمه اللَّه ، فإن قِصة أبى قتادة إنما كانت عام الحُديبية ، هكذا روى فى (( الصحيحين )) من حديث عبد اللَّه ابنه عنه قال : انطلقنا مع النبىِّ صلى الله عليه وسلم عامَ الحُديبية ، فأحرم أصحابُه ولم أحرِم ، فذكر قِصة الحمار الوحشى .
فصل فلما مرَّ بوادى عُسْفَان : قال : (( يا أبا بكر ؛ أىُّ وادٍ هذا )) ؟ قال : وادى عُسْفان . قال : (( لقد مَرَّ به هُودٌ وصَالِحٌ على بَكْرَيْنِ أَحْمَرَيْن خُطُمُهُما اللِّيفُ وَأُزُرُهُم العبَاءُ ، وأرْدِيتُهُم النِّمارُ ، يُلَبُّونَ يَحَجُّونَ البَيْتَ العَتِيقَ )) ذكره الإمام أحمد فى المسند فلما كان بَسَرِفَ ، حاضت عائشةُ رضى اللَّه عنها ، وقد كانت أهلَّت بعُمْرة ، فدخل عليها النبىُّ صلى الله عليه وسلم وهى تبكى ، قال : (( ما يُبْكِيكِ ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ )) ؟ قالت : نَعَمْ ، قال : (( هَذَا شئٌ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ ، افْعَلى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفى بالبَيْتِ )) . وقد تنازع العلماءُ فى قصة عائشة : هل كانت متمتعة أو مفرِدة ؟ فإذا كانت متمتعةً ، فهل رفضت عُمْرتَها ، أو انتقلت إلى الإفراد ، وأدخلت عليها الحَجَّ ، وصارت قارنةً ، وهل العُمرة التى أتت بها مِن التنعيم كانت واجبة أم لا ؟ وإذا لم تكن واجبةً ، فهل هى مُجزِئةٌ عن عُمْرة الإسلام أم لا ؟ واختلفوا أيضاً فى موضع حيضها ، وموضع طُهرها ، ونحن نذكر البيان الشافى فى ذلك بحول اللَّه وتوفيقه . واختلف الفقهاءُ فى مسألة مبنية على قصة عائشة ، وهى أن المرأة إذا أحرمت بالعُمْرة ، فحاضت ، ولم يُمكنها الطوافُ قبلَ التعريفِ ، فهل ترفُضُ الإحرامَ بالعُمْرة ، وتُهِلُّ بالحَجِّ مفرداً ، أو تُدخل الحج على العُمْرة وتصير قارِنة ؟ فقال بالقول الأول : فقهاءُ الكُوفة ، منهم أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثانى : فقهاء الحجاز . منهم : الشافعى ومالك ، وهو مذهبُ أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه . قال الكوفيون : ثبت فى (( الصحيحين )) ، عن عُروة ، عن عائشة ، أنها قالت : (( أهللتُ بعُمْرة ، فقدِمتُ مكَّةَ وأنا حائِض لم أَطُفْ بالبَيْتِ ولا بين الصفا والمروة ، فشكوتُ ذلك إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فقال : (( انقُضِى رَأسَكِ ، وامْتَشِطِى ، وأَهلِّى بالحَجِّ ، ودَعِى العُمْرَةَ )) . قَالَتْ : فَفَعَلْتُ فَلَّما قَضَيْتُ الحَجَّ ، أرْسَلَنى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحمنَ بْنِ أبى بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ ، فَاعْتَمَرْتُ مِنْه . فَقَالَ : (( هذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِك )) . قالوا : فهذا يدلُّ على أنها كانت متمتعة ، وعلى أنها رفضت عُمْرتها وأحرمَتْ بالحَجِّ ، لقوله صلى اللَّه عليه وسلم : (( دعى عُمْرَتَكِ )) ولقوله : (( انقُضى رَأسَكِ وامْتَشِطِى )) ، ولو كانت باقية على إحرامها ، لما جاز لها أن تمتشِطَ ، ولأنه قال للعُمْرة التى أتت بها من التنعيم : (( هذه مكانُ عُمْرَتِكِ )) . ولو كانت عُمْرَتُها الأولى باقية ، لم تكن هذه مكانَها ، بل كانت عُمْرةً مستقلةً . قال الجمهور : لو تأملتم قِصةَ عائشة حقَّ التأمُّلِ ، وجمعتُم بين طرقها وأطرافها ، لتبيَّن لكم أنها قرنت ، ولم ترفُضِ العُمْرة ، ففى (( صحيح مسلم )) : عن جابر رضى اللَّه عنه ، قال : أهلَّت عائشة بعُمْرة ، حتى إذا كانت بِسَرِفَ ، عَرَكَتْ ، ثم دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عائشة ، فوجدها تبكى ، فقال : (( ما شأنُكِ )) ؟ قالت : شأنى أنى قد حِضتُ وقد أَحلَّ الناس ، ولم أَحِلَّ ، ولم أطُفْ بِالبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلى الحَجِّ الآنَ ، قال : (( إنَّ هذَا أمر قد كَتَبَهُ اللَّهُ على بَناتِ آدَمَ ، فاغْتَسِلى ، ثُمَّ أَهلِّى بالحَجِّ )) ففعلت ، ووقفتِ المواقِف كُلَّها ، حتى إذا طهُرت ، طافت بالكعبةِ وبالصّفا والمروة . ثم قال : (( قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وعُمْرَتكِ )) قالت : يا رسولَ اللَّه إنى أَجِدُ فى نفسى أنى لم أطف بالبيت حتى حججتُ . قال : (( فاذَْهَبْ بِها يا عَبْدَ الرَّحْمَن فَأعْمِرْها مِنَ التَّنْعِيمِ )) . وفى (( صحيح مسلم )) : من حديث طاووس عنها : أهللتُ بعُمرة ، وقَدِمْتُ ولم أَطُفْ حتَّى حِضْتُ ، فَنَسَكْتُ المَناسِكَ كُلَّها ، فقالَ لها النبىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّفر : (( يَسَعُكِ طَوَافُكِ لَحِجِّكِ وعُمْرَتِكِ )) . فهذه نصوص صريحة ، أنها كانت فى حَجٍّ وعُمْرة ، لا فى حَجٍّ مفرد ، وصريحة فى أن القارِن يكفيه طوافٌ واحد ، وسعىٌ واحِد ، وصريحةٌ فى أنها لم ترفُضْ إحرامَ العُمْرة ، بل بقيت فى إحرامها كما هى لم تَحِلَّ منه . وفى بعض ألفاظ الحديث : (( كونى فى عُمْرَتِك ، فَعَسى اللَّهُ أنْ يَرزُقَكيها )) . ولا يناقض هذا قوله : (( دَعى عُمْرَتَكِ )) . فلو كان المرادُ به رفضَها وتركَها ، لما قال لها : (( يسعُكِ طوافُكِ لِحَجِّك وعُمرتِكِ )) ، فعُلِم أن المراد : دعى أعمالها ليس المرادُ به رفضَ إحرامها . وأما قوله : (( انقُضِى رَأْسَكِ وامتَشِطِى )) ، فهذا مما أعضل على الناس ، ولهم فيه أربعة مسالك : أحدُها : أنه دليل على رفض العُمْرة ، كما قالت الحنفية . المسلك الثانى : أنه دليلٌ على أنه يجوز للمُحْرِم أن يمشُط رأسه ، ولا دليلَ من كتاب ولا سُّـنَّة ولا إجماع على منعه من ذلك ، ولا تحريمهِ وهذا قولُ ابن حزم وغيره . المسلك الثالث : تعليلُ هذه اللفظة ، وردُّها بأن عروةَ انفرد بها ، وخالف بها سائرَ الرواة ، وقد روى حديثَها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم ، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة . قالوا : وقد روى حماد بن زيد ، عن هشام ابن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، حديثَ حيضها فى الحج فقال فيه : حدَّثنى غيرُ واحد ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لها : (( دَعِى عُمْرَتَكِ وَانْقُضِى رَأْسَكِ وَاْمتَشِطِى َ)) وذكر تمام الحديث ، قالوا :فهذا يدلُّ على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة . المسلك الرابع : أن قوله : (( دَعِى العُمْرَةَ )) ، أى دَعِيها بحالها لا تخرجى منها ، وليس المرادُ تركَها ، قالوا : ويدل عليه وجهان : أحدُهما : قوله : (( يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِك )) . الثانى : قوله : (( كونى فى عُمرَتِكِ )) . قالوا : وهذا أولى مِن حمله على رفضها لسلامته من التناقض . قالوا : وأما قولُه : (( هذِه مَكَانُ عُمْرَتِكِ )) فعائشة أحبَّت أن تأتى بعُمْرة مفردة ، فأخبرها النبى صلى الله عليه وسلم أن طوافَها وقع عن حَجَّتها وعُمْرتها ، وأن عُمْرتها قد دخلت فى حَجِّها ، فصارت قارنة ، فأبت إلا عُمْرةً مفردةً كما قصدت أولاً ، فلما حصل لها ذلك ، قال : (( هذِه مَكَانُ عُمْرَتِكِ )) . وفى سنن الأثرم ، عن الأسود ، قال : قلتُ لِعائشة : اعتمرتِ بَعْدَ الحَجّ؟ قالت : واللَّهِ ما كانت عُمْرةٍ ، ما كانت إلا زيارةً زُرتُ البَيْتَ . قال الإمام أحمد : إنما أعمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم عائشةَ حين ألحَّت عليه ، فقالت : يَرْجِعُ الناسُ بنُسُكين ، وأرجِعُ بِنُسُكٍ ؟، فقال : (( يا عبد الرحمن ، أعْمِرْها )) فنظر إلى أدنى الحِلِّ ، فأعمرها مِنْه . فصل فى اختلاف الناس فيما أحرمت به عائشة أولاً واختلف الناسُ فيما أحرمت به عائشة أولاً على قولين : أحدهما : أنه عُمرة مفردة ، وهذا هو الصواب لِما ذكرنا من الأحاديث . وفى ((الصحيح )) عنها ، قالت : خرجنا معَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حَجَّةِ الودَاع مُوافين لهلال ذى الحِجَّةِ ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ أرادَ مِنْكُم أن يُهِلَّ بِعُمْرَة ، فَلْيُهِلَّ فَلَوْلاَ أنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ )) . قالت : وَكان مِنَ القَوْمِ مَنْ أهلَّ بِعُمْرَةٍ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ ، قَالت : فكُنْتُ أنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بعُمْرَةٍ ... )) ، وَذكَرَتِ الحَدِيثَ . وقوله فى الحديث : (( دَعِى العُمْرَةَ وأهِلِّى بالحَجِّ )) قاله لها بِسَرِفَ قريباً من مكة وهو صريح فى أن إحرامها كان بعُمْرة . القول الثانى : أنها أحرمت أولاً بالحَجِّ وكانت مُفرِدة ، قال ابنُ عبد البَرِّ : روى القاسِمُ بنُ محمد ، والأسودُ بن يزيد ، وعَمْرَةُ كلُّهم عن عائشة ما يَدُلّ على أنها كانت مُحْرِمة بحَجٍّ لا بعُمْرة ، منها : حديثُ عَمرة عنها : خرجنا مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لا نرى إلا أنَّه الحَجُّ ، وحديثُ الأسود بن يزيد مثله ، وحديث القاسم : (( لبَّينَا مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالحَجِّ . قال : وغلَّطوا عُروة فى قوله عنها : (( كُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ )) ، قال إسماعيل بن إسحاق : قد اجتمعَ هؤلاء يعنى الأسودَ ، والقاسم ، وعَمرة على الروايات التى ذكرنا ، فعلمنا بذلك أن الروايات التى رُويت عن عُروة غلط ، قال : ويُشبه أن يكون الغلطُ ، إنما وقع فيه أن يكون لم يُمكنها الطوافُ بالبيت ، وأن تَحِلَّ بعُمرةٍ كما فعل مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ ، فأمرها النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن تتركُ الطَّوافَ ، وتمضى على الحَجِّ ، فتوهَّمُوا بهذا المعنى أنها كانت معتمِرة ، وأنها تركت عُمْرتَها ، وابتدأت بالحَجِّ . قال أبو عمر : وقد روى جابرُ بن عبد اللَّه ، أنها كانت مُهٍلَّةً بعُمْرةٍ ، كما روى عنها عُروة . قالوا : والغلطُ الذى دخل على عُروة ، إنما كان فى قوله : (( انقُضِى رَأْسَكِ ، وامْتَشِِطى ، وَدَعِى العُمْرَة ، وأهِلِّى بالحَجِّ )) . وروى حماد بن زيد ، عن هِشام بن عُروة ، عن أبيه : حدَّثنى غيرُ واحد ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لها : (( دَعِى عُمْرَتَكِ ، وانْقُضِى رَأْسَكِ ، وامْتَشِطِى ، وافْعَلى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ )) . فبيَّن حماد ، أن عُروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة . قلت : مِن العجب ردّ هذه النصوصِ الصحيحةِ الصريحةِ التى لا مدفع لها ، ولا مطعنَ فيها ، ولا تحتمِل تأويلاً ألبتة بلفظ مجمل ليس ظاهراً فى أنها كانت مفرِدة ، فإن غايَة ما احتجَّ به مَن زعم أنها كانت مُفرِدة ، قولُها : خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنَّه الحَجّ ، فيا للّه العجب، أيُظَن بالمتمتِّع أنه خرج لغير الحَجّ ، بل خرج للحجّ متمتعاً ، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنِعُ أن يقول : خرجتُ لِغسلِ الجنابة ؟ وصدقت أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها ، إذ كانت لا ترى إلا أنَّه الحَجُّ حتَّى أحرمت بعُمرة ، بأمره صلى اللَّه عليه وسلم ، وكلامُها يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً . وأما قولُها : لبَّينَا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحجِّ ، فقد قال جابر عنها فى (( الصحيحين )) : إنها أهلَّت بعُمرة ، وكذلك قال طاووس عنها فى (( صحيح مسلم )) ، وكذلك قال مجاهد عنها ، فلو تعارضت الرواياتُ عنها ، فروايةُ الصحابة عنها أولى أن يُؤخذَ بها مِن رواية التابعين ، كيف ولا تعارُض فى ذلك البتة ، فإن القائلَ : فعلنا كذا ، يصدق ذلك منه بفعله ، وبفعل أصحابه . ومن العجب أنهم يقولون فى قول ابن عمر : تمتَّعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعُمْرة إلى الحَجِّ ، معناه : تمتع أصحابُه ، فأضاف الفعلَ إليه لأمره به ، فهلاَّ قُلتم فى قول عائشة : لبَّينا بالحَجِّ ، أن المرادَ به جنسُ الصحابة الَّذين لَبَّوْا بالحجِّ ، وقولها : فعلنا ، كما قالت : خرجنا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وسافرنا معه ونحوه. ويتعينُ قطعاً إن لم تكن هذه الرواية غلطاً أن تُحمل على ذلك للأحاديثِ الصحيحةِ الصريحة ، أنها كانت أحرمت بعُمرة وكيف يُنسب عُروة فى ذلك إلى الغلط ، وهم أعلمُ الناس بحديثها ، وكان يسمعُ منها مشافهةً بلا واسِطة . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#84 |
![]() ![]() |
![]()
وأما قوله فى رواية حماد : حدثنى غيرُ واحد أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لها : (( دَعِى عُمْرَتَكِ )) فهذا إنما يحتاجُ إلى تعليله ، وردِّه إذا خالف الرواياتِ الثابتة عنها ، فأما إذا وافقها وصدَّقها ، وشهد لها أنها أحرمت بعُمرة ، فهذا يدل على أنه محفوظ ، وأنَّ الذى حدَّث به ضبطه وحفظه ، هذا مع أن حمادَ بن زيد انفرد بهذه الرواية المعلَّلة ، وهى قوله : فحدَّثنى غيرُ واحد ، وخالفه جماعة ، فرووه متصلاً عن عُروة ، عن عائشة . فلو قُدِّرَ التعارضُ ، فالأكثرون أولى بالصواب ، فيا للّه العجب ، كيف يكون تغليطُ أعلم الناسِ بحديثها وهو عُروة فى قوله عنها : (( وكنت فيمن أهلَّ بعُمْرة )) سائغاً بلفظ مجمل محتمل ، ويُقضى به على النص الصحيح الصريح الذى شهد له سياقُ القِصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ؟، فهؤلاء ، أربعة رووا عنها ، أنها أهلَّت بعمرة : جابر ، وعُروة ، وطاووس ، ومجاهد ، فلو كانت روايةُ القاسم ، وعَمرة ، والأسود ، معارضة لرواية هؤلاء ، لكانت روايتُهم أولى بالتقديم لكثرتهم ، ولأن فيهم جابراً ، ولفضل عُروة ، وعلمه بحديث خالته رضى اللَّه عنها .
ومن العجب قوله : إن النبى صلى الله عليه وسلم لما أمرها أن تترك الطوافَ ، وتمضىَ على الحَجِّ ، توهَّموا لهذَا أنَّها كانت معتمِرة ، فالنبىُّ صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تدعَ العُمْرة وتُنشئ إهلالاً بالحَجِّ ، فقال لها : (( وأهلِّى بالحَجِّ )) ولم يقل : استمرى عليه ، ولا امضى فيه ، وكيف يُغلَّط راوى الأمر بالامتشاط بمجرَّد مخالفته لمذهب الرادِّ ؟ فأين فى كتاب اللَّهِ وسُّـنَّة رسوله ، وإجماع الأُمة ما يُحرِّم على المُحْرِم تسريحَ شعره ، ولا يَسوغ تغليطُ الثقات لنصرة الآراء ، والتقليد . والمُحْرِم وإن أمن من تقطيع الشعر ، لم يُمنع مِن تسريح رأسه ، وإن لم يأمن من سقوط شئ من الشعر بالتسريح ، فهذا المنعُ منه محلُّ نزاع واجتهاد ، والدليل يَفْصِلُ بين المتنازعين ، فإن لم يدل كتاب ولا سُّـنَّة ولا إجماع على منعه ، فهو جائز . فصل وللناس فى هذه العُمرة التى أتت بها عائشةُ من التنعيم أربعةُ مسالك . أحدها : أنها كانت زيادة تطييباً لقلبها وجبراً لها ، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حَجِّها وعُمْرتها ، وكانت متمتعة ، ثم أدخلت الحَجَّ على العُمْرة ، فصارت قارِنة ، وهذا أصحُّ الأقوالِ ، والأحاديثُ لا تدل على غيره ، وهذا مسلك الشافعى وأحمد وغيرهما . المسلك الثانى : أنها لما حاضت ، أمرها أن ترفُضَ عُمْرتَهَا ، وتنتقِلَ عنها إلى حَجٍّ مفرد ، فلما حلَّت من الحَج ، أمرها أن تعتمِر قضاءً لعُمْرتها التى أحرمت بها أولاً ، وهذا مسلكُ أبى حنيفة ومَن تبعه ، وعلى هذا القول ، فهذه العُمْرةُ كانت فى حقِّها واجبة ، ولا بُد منها ، وعلى القول الأول كانت جائزة ، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطوافُ قبل التعريف ، فهى على هذين القولين ، إما أن تُدْخِلَ الحَجَّ على العُمْرة ، وتصيرَ قارنة ، وإما أن تنتقلَ عن العُمْرة إلى الحَجِّ ، وتصيرَ مفرِدة ، وتقضى العُمْرة . المسلك الثالث : أنها لما قرنت ، لم يكن بُدٌّ من أن تأتىَ بعُمْرة مفردة ، لأن عُمرة القارن لا تُجزئ عن عُمْرة الإسلام ، وهذا أحد الروايتين عن أحمد . المسلك الرابع : أنها كانت مُفرِدة ، وإنما امتنعت من طوافِ القُدوم لأجل الحيض ، واستمرت على الإفراد حتى طهُرت ، وقضت الحَجَّ وهذه العُمْرةُ هى عُمْرة الإسلام ، وهذا مسلك القاضى إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية، ولا يخفى ما فى هذا المسلك مِن الضعف ، بل هو أضعفُ المسالك فى الحديث. وحديث عائشة هذا ، يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك : أحدها : اكتفاء القارِن بطواف واحد وسعى واحد . الثانى : سقوطُ طوافِ القدوم عن الحائض ، كما أن حديثَ صفيَّة زوج النبى صلى الله عليه وسلم أصل فى سُقوط طواف الوداع عنها . الثالث : أن إدخالَ الحجِّ على العُمْرة للحائض جائز ، كما يجوز للطاهر ، وأولى ، لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك . الرابع : أن الحائضَ تفعل أفعال الحجِّ كلَّها ، إلا أنها لا تطوفُ بالبيت . الخامس : أن التنعيم مِن الحِلِّ . السادس : جوازُ عُمْرتين فى سنة واحدة ، بل فى شهر واحد . السابع : أن المشروعَ فى حق المتمتِّع إذا لم يأمنِ الفوات أن يُدْخِلَ الحجَّ على العُمْرة ، وحديث عائشة أصل فيه . الثامن : أنه أصل فى العُمْرة المكية ، وليس مع مَن يستحبُّها غيره ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعتمر هو ولا أحد ممن حَجَّ معه من مكة خارجاً منها إلا عائشةَ وحدها ، فجعل أصحابُ العُمْرة المكية قصة عائشة أصلاً لقولهم ، ولا دلالة لهم فيها ، فإن عُمْرتها إما أن تكون قضاءًَ للعُمْرة المرفوضة عند مَن يقول : إنها رفضتها ، فهى واجبة قضاءً لها ، أو تكون زيادة محضة ، وتطييباً لقلبها عند مَن يقول : إنها كانت قارِنة ، وأن طوافها وسعيها أجزأها عن حَجِّها وعُمْرتها . واللَّه أعلم . فصل وأما كونُ عُمرتها تلك مجزئةً عن عُمرة الإسلام ، ففيه قولان للفقهاء ، وهما روايتان عن أحمد ، والذين قالوا : لا تُجزئ ، قالوا : العُمْرةُ المشروعة التى شرعها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وفعلها نوعان لا ثالثَ لهما : عُمرة التمتع وهى التى أذن فيها عند الميقات ، وندب إليها فى أثناء الطريق ، وأوجبها على مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ عند الصفا والمروة ، الثانية : العُمْرة المفردة التى يُنشأ لها سفر ، كعُمَره المتقدِّمة ، ولم يُشرع عُمْرة مفردة غير هاتين ، وفى كلتيهما المعتمِر داخل إلى مكة ، وأما عُمْرة الخارج إلى أدنى الحِلِّ ، فلم تُشرع ، وأما عُمرة عائشة ، فكانت زيارة محضة ، وإلا فعُمرة قِرانها قد أجزأت عنها بنصِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على أن عُمْرة القارِن تُجزئ عن عُمْرة الإسلام ، وهذا هو الصواب المقطوع به ، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : (( يَسَعُكِ طَوافُكِ لحجِّكِ وعُمرتِكِ )) وفى لفظ : (( يجزئك )) وفى لفظ : (( يَكْفِيك )) . وقال : (( دخلتِ العُمرةُ فى الحجِّ إلى يوم القِيامَة )) وأمر كلَّ مَن ساق الهَدْى أن يقرِنَ بين الحَجِّ والعُمْرة ، ولم يأمر أحداً ممن قرن معه وساق الهَدْى بعُمْرة أخرى غير عُمْرة القِران ، فصحَّ إجزاء عُمرة القارن عن عُمرة الإسلام قطعاً ، وباللَّه التوفيق . فصل وأما موضُع حيضِها، فهو بِسَرِفَ بلا ريب، وموضعُ طُهرها قد اختُلِف فيه، فقيل:بعرفة، هكذا روى مجاهد عنها ،وروى عُروة عنها أنها أظلّها يومُ عرفة وهى حائض ولا تنافى بينهما ،والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابنُ حزم على معنيين، فطُهْر عرفة : هو الاغتسال للوقوف بها عنده، قال : لأنها قالت: تطهَّرتُ بعرفة ، والتطهر غيرُ الطُهرِ ، قال : وقد ذكر القاسم يوم طُهرها، أنه يوم النحر، وحديثُه فى (( صحيح مسلم )) . قال : وقد اتفق القاسمُ وعروةُ على أنها كانت يومَ عرفة حائضاً، وهما أقربُ الناس منها، وقد روى أبو داود : حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عنها: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُوافين هلال ذى الحِجَّة...فذكرت الحديث، وفيه : فلما كانت ليلةُ البطحاء، طَهُرَتْ عائِشةُ ،وهذا إسناد صحيح. لكن قال ابنُ حزم : إنه حديث منكر، مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها ، وهو قوله : إنها طَهُرت ليلةَ البطحاء، وليلةُ البطحاء كانت بعد يومِ النحر بأربع ليال،وهذا محالٌ إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة ليست مِن كلام عائشة، فسقط التعلُّق بها، لأنها ممن دون عائشة، وهى أعلمُ بنفسها، قال: وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيبُ بن خالد، وحماد بن زيد، فلم يذكرا هذه اللفظة. قلت : يتعين تقديمُ حديث حمَّاد بن زيد ومَن معه على حديث حمَّاد بن سلمة لوجوه : أحدها : أنه أحفظُ وأثبت من حمَّاد بن سلمة . الثانى : أن حديثَهم فيه إخبارُها عن نفسها ، وحديثه فيه الإخبار عنها . الثالث : أن الزهرى روى عن عُروة عنها الحديثَ ، وفيه : فلم أزل حائضاً حتى يومُ عرفة ، وهذه الغاية هى التى بيَّنها مجاهد والقاسم عنها ، لكن قال مجاهد عنها : فتطهرت بعرفة ، والقاسم قال : يوم النحر . فصل عدنا إلى سياق حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم فلما كان بِسَرِف ، قال لأصحابه : (( مَنْ لَمْ يكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً ، فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدىٌ فَلاَ )) . وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات . فلما كان بمكة ، أمر أمراً حتماً : مَنْ لا هَدْى معه أن يجعلها عُمْرة ، ويَحِلَّ من إحرامه ، ومَن معه هَدْى ، أن يُقيم على إحرامه ، ولم ينسخ ذلك شئ البتة ، بل سأله سُراقة بنُ مالك عن هذه العُمرة التى أمرهم بالفسخ إليها ، هل هى لِعَامِهِمْ ذَلِكَ ، أَمْ لِلأبَدِ : قال : (( بَلْ لِلأبَد ، وإن العُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فى الحجِّ إلَى يَوْمِ القِيامَة )) . وقد روى عنه صلى اللَّه عليه وسلم الأمرَ بفسخِ الحَجِّ إلى العُمْرة أربعةَ عشرَ مِن أصحابه ، وأحاديثُهم كلُّها صحاح ، وهم : عائشةُ ، وحفصة أُمَّا المؤمنين ، وعلىُّ بن أبى طالب ، وفاطمةُ بنتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأسماءُ بنت أبى بكر الصِّدِّيق ، وجابرُ بن عبد اللَّه ، وأبو سعيد الخُدرى ، والبراءُ بن عازب ، وعبدُ اللَّه بن عمر ، وأنسُ بن مالك ، وأبو موسى الأشعرى ، وعبدُ اللَّه ابن عباس ، وسَبْرَةُ بنُ معبَدٍ الجُهنى ، وسُرَاقةُ بن مَالِكٍ المُدْلِجِىُّ رضى اللَّه عنهمْ .. ونحن نشير إلى هذه الأحاديث . ففى (( الصحيحين )) : عن ابن عباس ، قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه صَبِيحَةَ رابعةٍ مُهلِّين بالحَجِّ ، فأمرهم أن يجعلُوها عُمْرة ، فتعاظَم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول اللَّه ؛ أىُّ الحلِّ ؟ فقال : (( الحِلُّ كُلُّه )) . وفى لفظ لمسلم : قدِم النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابُه لأربع خَلَوْنَ من العشر إلى مكة ، وهم يُلبُّون بالحج ، فأمرهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عُمرةً ، وفى لفظ : وأمر أصحابه أن يجعلوا إحرامهم بعُمْرة إلا مَن كان معه الهَدْى . وفى (( الصحيحين )) عن جابر بنِ عبد اللَّه : أهلَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحجِّ ، وليس مع أحد منهم هَدْى غير النبى صلى الله عليه وسلم وطلحة ، وقَدِمَ على رضى اللَّه عنه من اليمن ومعه هَدْى ، فقال : أهللتُ بما أهلَّ به النبىُّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عُمْرة ، ويطوفوا ، ويقصروا ، ويَحِلُّوا إلا مَن كان معه الهَدْىُ ، قالوا: ننطلِقُ إلى مِنَى وَذَكَرُ أحدنا يقطُرُ ؟ فبلغ ذلك النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال : (( لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ ، ولَوْلا أنَّ معىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ )) . وفى لفظ : فقام فينا فقال : (( لَقَدْ عَلِمْتُم أنِّى أَتْقاكُم للّه ، وأَصْدَقُكُم ، وأَبَرُّكُمْ ، وَلَوْلاَ أنَّ معىَ الهَدْى لحَلَلْت كَما تَحِلُّون ، ولَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ ، لم أَسُق الهَدْىَ ، فحُلُّوا )) فَحَلَلْنا ، وسَمعنا وأطعَنا ، وفى لفظ : أمرنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أحللْنا ، أن نُحْرِمَ إذا تَوجَّهْنَا إلى مِنَى . قال : فأَهْلَلْنا من الأَبْطَح ، فَقَالَ سُرَاقَةُ بنُ مَالِك بْنِ جُعْشُم : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ للأَبَدِ ؟ قال : (( لِلأبَدِ )) . وهذه الألفاظُ كلُّها فى الصحيح وهذا اللفظُ الأخير صريح فى إبطال قولِ مَنْ قال : إن ذلك كان خاصاً بهم ، فإنه حينئذ يكون لِعامهم ذلك وحده لا للأبد ، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : إنَّهُ لِلأبَدِ . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#85 |
![]() ![]() |
![]()
وفى (( المسند )) : عن ابن عمر ، قَدِمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة وأصحابُه مُهلِّينَ بالحجِّ ، فقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ شَاءَ أنْ يَجْعَلَها عُمْرَةً إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَه الهَدْىُ )) . قالُوا : يا رسولَ اللَّه ؛ أيروحُ أحدُنا إلى مِنَى وَذَكَرُه يَقطُرُ مَنيَّاً ؟ قال : (( نَعَمْ )) وسَطَعتِ المَجامِرُ .
وفى السنن : عن الرَّبيع بن سَبْرَة ، عَنْ أَبِيه :خرجْنَا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كُنَّا بعُسفان ، قال سُراقة بن مَالك المُدْلجىُّ : يا رسول اللَّه ؛ اقْضِ لنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأنَّما وُلِدُوا اليَوْمَ ، فَقَال : (( إنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْكُم فى حَجَّة عُمْرَةً ، فإذا قَدِمْتم ، فَمن تَطَوَّفَ بالبَيْتِ وسَعَى بيْن الصَّفَا والمَرْوَة ، فَقدْ حَلَّ إلاَّ مَنْ مَعَهُ هَدْى )) . وفى (( الصحيحين )) عن عائشة : خرجْنَا معَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لا نَذْكُرُ إلا الحَجَّ ... فذكرتِ الحديثَ ، وفيه : فلما قَدِمْنَا مكة ، قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه : (( اجْعَلوهَا عُمْرَةً )) فأحلَّ الناسُ إلا مَنْ كان معه الهَدْى ... وذكَرَتْ باقى الحديث . وفى لفظ للبخارى : خرجْنَا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نَرى إلا الحَجَّ ، فلما قَدِمْنَا تطوَّفْنَا بالبيت ، فأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم مَن لم يكن ساق الهَدْى أن يَحِلَّ ، فحلَّ مَن لم يكن ساقَ الهَدْى ونساؤه لم يَسُقْن ، فأحللن . وفى لفظ لمسلم : ((دخل علىَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو غضبانُ ، فقلتُ : مَنْ أغضَبكَ يا رسولَ اللَّهِ أدخله اللَّه النار . قال : أوَ ما شَعَرْتِ أنِّى أمَرْتُ النَّاسَ بأَمْرٍ ، فإذا هُم يَتَرَدَّدُون ، ولو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ . ما سُقْتُ الهَدْىَ معى حَتَّى أَشْتَرِيَهُ ، ثُمَّ أحِلَّ كما حَلُّوا )) . وقال مالك : عن يحيى بن سعيد ، عن عَمْرة ، قالت : سمعتُ عائشة تقولُ : خرجْنَا معَ رسولِ صلى الله عليه وسلم لخمس ليالٍ بَقِينَ مِن ذى القِعْدة ، ولا نَرى إلا أنه الحَجُّ ، فلما دَنَونا مِن مكة ، أمرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَن لم يكن معه هَدْى إذا طافَ بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يَحِلَّ ، قال يحيى بن سعيد : فذكرتُ هذا الحديثَ للقاسم بن محمد ، فقال : أتتك واللَّهِ بالحديثِ على وجهه . وفى (( صحيح مسلم )) : عن ابن عمر ، قال : حدَّثتنى حفصةُ ، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يَحْلِلْنَ عَامَ حَجَّةِ الوَداعِ ، فَقُلْتُ : ما مَنَعَكَ أَنْ تَحِلَّ ؟ فقال : (( إِنِّى لَبَّدْتُ رَأْسِى ، وقَلَّدْتُ هَدْيى ، فَلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الهَدْىَ )) . وفى (( صحيح مسلم )) : عن أسماء بنت أبى بكر رضى اللَّه عنهما ، خرجنا مُحرِمِينَ ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَلْيَقُمْ عَلَى إحْرامِه ، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَلْيَحْلِلْ )) ... وذكرتِ الحديث . وفى (( صحيح مسلم )) أيضاً : عن أبى سعيد الخُدرى ، قال : خرجْنَا مَعَ رَسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، نَصْرُخُ بالحجِّ صُراخاً ، فلما قَدِمْنَا مكَّة أمَرنا أن نَجْعَلَها عُمْرةً إلا مَنْ سَاقَ الهَدْىَ ، فلما كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ، وَرُحْنَا إلى مِنَى ، أهللنَا بالحَجِّ . وفى (( صحيح البخارى )) : عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما ، قال : أهَلَّ المُهاجرُونَ والأَنْصارُ ، وأزواجُ النبى صلى الله عليه وسلم فى حَجَّةِ الوَدَاع ، وأهللنَا فلما قَدِمْنَا مَكَّة ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (( اجْعَلُوا إهْلاَلَكُم بالحَجِّ عُمْرَةً إلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْى))... وذكر الحديث . وفى (( السنن )) عن البرَّاء بن عازب : خرجَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه ، فأحرمْنَا بالحجِّ ، فلما قَدِمنَا مكة ، قال : (( اجْعَلوا حَجَّكُم عُمْرَة )) . فقال الناسُ: يا رسول اللَّهِ ؛ قد أحرمنا بالحَجِّ ، فكيف نجعلُها عُمْرَةً ؟ فقال : ((انْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلوهُ )) فردَّدُوا عليه القولَ ، فَغَضِبَ ، ثم انطلق حتَّى دخل على عائشة وهو غَضْبانُ ، فرأتِ الغضَب فى وجهه فقَالت : مَنْ أَغْضَبَكَ أغضبه اللَّهُ ، فَقَالَ : (( وَمَا لِىَ لا أَغْضَبُ وأَنَا آمُرُ أَمْراً فَلا يُتَّبَعُ )) . ونحن ، نُشهِدُ اللَّه علينا أنَّا لو أحرمنا بحَجٍّ ، لرأينا فرضاً علينا فسخهُ إلى عُمْرة تفادياً مِن غضبِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، واتباعاً لأمره . فواللَّهِ ما نُسِخَ هذا فى حَياتِهِ ولا بَعْدَهُ ، ولا صحَّ حَرْفٌ واحِد يُعارضه ، ولا خصَّ به أصحابَه دُونَ مَنْ بعدهم ، بل أجرى اللَّه سبحانه على لِسان سُراقة أن يسأله : هل ذلك مختصٌ بهم ؟ فأجاب بأنَّ ذلك كائن لأبد الأبد ، فما ندرى ما نُقدِّم على هذه الأحاديث ، وهذا الأمر المؤكَّد الذى غضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على مَن خالفه . وللّه دَرُّ الإمام أحمد رحمه اللَّه إذ يقول لسلمة بن شبيب وقد قال له : يا أبا عبد الله ؛ كُلُّ أمرِك عِندى حَسن إلا خَلَّةً واحِدةً : قال : وما هى ؟ قال : تقولُ بفسخ الحَجِّ إلى العُمْرة . فقال : يا سلمة ؛ كنتُ أرى لكَ عقلاً ، عندى فى ذلك أحد عشر حديثاً صحاحاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أأتركُها لِقَوْلكَ ؟، وفى (( السنن )) عن البرَّاء بن عازب ، أن علياً رضى اللَّه عنه لما قَدِمَ على رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من اليمن ، أدرك فاطمةَ وقد لبست ثياباً صَبِيغاً ، ونَضَحَتِ البَيْتَ بِنَضُوحٍ ، فَقَالَ : مَا بَالُكِ ؟ فَقالَت : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَر أصْحَابَه فَحَلُّوا . وقال ابنُ أبى شيبة : حدَّثنا ابنُ فضيل ، عن يزيد ، عن مجاهد ، قال : قال عبدُ اللَّهِ بنُ الزبير : أفرِدُوا الحَجَّ ، ودَعُوا قولَ أعماكُم هَذَا . فقال عبدُ اللَّهِ ابنُ عباس : إن الَّذى أعمى اللَّه قلبَه لأنتَ ، ألا تسألُ أُمَّك عَنْ هذا ؟ فأرسلَ إليها، فقالَتْ : صَدَقَ ابْنُ عَبَّاس ، جِئنا مَعَ رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلَّم حُجَّاجاً ، فجعلناها عُمْرَةً ، فحللنا الإحلالَ كُلَّه ، حتَّى سَطَعَتِ المَجَامِرُ بَيْنَ الرِّجَالِ والنِّساء . وفى (( صحيح البخارى )) عن ابن شِهاب ، قال : دخلتُ على عطاء أستفتِيه ، فقال : حدّثنى جابرُ بنُ عبد اللَّه : أنه حجَّ مع النبى صلى الله عليه وسلم يوم ساق البُدن معه ، وقد أهلُّوا بالحجِّ مفرداً ، فقال لهم : (( أَحِلُّوا مِنْ إحْرامِكُم بِطَوَافٍ بالبَيْتِ ، وبَيْنَ الصَّفَا والْمروَة ، وقَصِّرُوا ، ثُمَّ أقِيمُوا حَلالاً ، حَتَّى إذَا كَانَ يَومُ التَّرْوِيَةِ ، فأهِلُّوا بالحَجِّ واجْعَلُوا التى قَدِمْتُم بها مُتْعَةٌ )) . فقالُوا : كَيْفَ نَجْعَلُها مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ ؟ فقال : (( افْعَلُوا مَا آمُرُكُم به ، فَلَوْلا أنى سُقْتُ الهَدْى ، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذى أَمَرْتُكُم بِهِ ، وَلَكِنْ لا يحِلُّ مِنِّى حَرَامٌ ، حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّه )) ، ففعلُوا . وفى (( صحيحه )) أيضاً عنه : أهلَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحَجِّ ... وذكر الحديث . وفيه : فأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عُمرةً ، ويطوفوا ، ثم يقصِّروا إلا مَن ساق الهَدْى : فقالوا : أننطلق إلى مِنَى وذَكَرُ أحَدنا يقطُر ؟ فبلَغ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فقال : (( لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ ما أَهْدَيْتُ ولوْلا أنَّ معى الهَدْى ، لأَحْلَلْتُ )) . وفى (( صحيح مسلم )) عنه فى حَجة الوداع : حتى إذا قَدِمنا مكَّة ، طُفنا بالكعبة وبالصَّفا والمروة ، فأمرنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أن يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لم يكُن معه هَدْى ، قال : فقُلنا : حِلُّ ماذا ؟ قال : (( الحِلُّ كُلُّه )) ، فواقعنا النِّسَاءَ ، وتَطيَّبنَا بالطِّيب ، ولَبِسْنَا ثيابَنا ، ولَيْس بيننا وبَيْنَ عَرفة إلا أربعُ ليال ، ثم أهللنا يَوْمَ التروية . وفى لفظ آخَر لمسلم : (( فمَنْ كَانَ منْكُم لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْها عُمْرَةً ، فحلَّ الناسُ كُلُّهُم وقصَّروا إلا النبىَّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ كَان مَعَهُ هَدْى ، فلما كان يَوْمُ التروية ،توجَّهُوا إلى مِنَى ، فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ وفى (( مسند البزار )) بإسناد صحيح : عن أنس رضىَ اللَّه عنه ، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، أهلَّ هُوَ وأصحابُه بالحَجِّ والعُمْرة ، فلما قدموا مكة ، طافوا بالبيت والصفا والمروة ، وأمرهم رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن يَحِلُّوا ، فهابوا ذلك ، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم : (( أَحِلُّوا فَلَوْلاَ أَنَّ مَعى الهَدْىَ ، لأَحْلَلْتُ )) ، فأحلُّوا حَتَّى حَلُّوا إلى النِّسَاءِ . وفى (( صحيح البخارى )) : عن أنس ، قال : (( صلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ونحنُ معه بالمدينة الظهرَ أربعاً ، والعصر بذى الحُليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به راحلتُه على البيداءِ ، حَمِدَ اللَّه ، وسبَّح ، ثم أهلَّ بحَجٍّ وعُمرة ، وأهلَّ الناسُ بهما ، فلما قَدِمْنَا أمر الناس فحلُّوا ، حتى إذا كان يومُ التَّروية ، أهلُّوا بالحَجِّ )) .... وذكر باقى الحديث . وفى (( صحيحه )) أيضاً : عن أبى موسى الأشعرى ، قال : بعثنى رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى قومى باليمن ، فجئت وهو بالبطحاء ، فَقَالَ : (( بِمَ أَهْلَلْتَ )) ؟ فَقُلْتُ : أَهْلَلْتُ بإِهَلالِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ : (( هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْى )) ؟ قلتُ : لا ، فأَمَرَنى ، فطُفْتُ بالبَيْتِ وَبِالصَّفَا والمَرْوَةِ ، ثمَّ أَمرَنى فَأَحْلَلْتُ . وفى (( صحيح مسلم )) : أن رجلاً من بنى الهُجَيْمِ قال لابن عبَّاس : ما هَذِه الفُتيا التى قَدْ تشغَّبَت بالنَّاس ، أنَّ مَنْ طَافَ بالبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ ؟ فَقَالَ : سُّـنَّة نَبِيِّكُم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسَلَّم وإنْ رَغِمْتُم . وصدق ابنُ عباس ، كُلُّ مَن طاف بالبيت ممن لا هَدْى معه مِن مفرِد ، أو قارِن ، أو متمتِّع ، فقد حلَّ إما وجوباً ، وإما حكماً ، هذه هى السُّـنَّة التى لا رادَّ لها ولا مدفع ، وهذا كقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم : (( إذَا أدْبَرَ النَّهارُ مِنْ هاهنا ، وأقْبَلَ الليل مِنْ هاهنا ، فقد أفْطَرَ الصَّائِم )) ، إما أن يكون المعنى : أفطر حكماً ، أو دخل وقت إفطاره ، وصار الوقتُ فى حقه وقتَ إفطار . فهكذا هذا الذى قد طاف بالبيت ، إما أن يكون قد حلَّ حُكماً ، وإما أن يكون ذلك الوقت فى حقه ليس وقتَ إحرام ، بل هو وقتُ حِلٍّ ليس إلا ، ما لم يكن معه هَدْى ، وهذا صريحُ السُّـنَّة . وفى (( صحيح مسلم )) أيضاً عن عطاء قال : كان ابنُ عباس يقولُ : لا يطوف بالبيتِ حَاج ولا غيرُ حاجٍّ إلا حَلَّ . وكانَ يقولُ : هُوَ بَعْدَ المُعَرَّفِ وَقَبْلَهُ ، وكان يأخذُ ذلك مِن أمر النبىَّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، حين أمرهم أن يَحِلَّوا فى حَجَّةِ الوَدَاع . وفى (( صحيح مسلم )) : عن ابن عباس ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : (( هذه عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بها ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الهَدْىُ ، فَلْيَحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ فَقَدْ دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَةَ )) . وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أبى الشَّعثاء ، عنِ ابن عباس قال : مَنْ جَاءَ مُهِلاً بالحَجِّ ، فإنَّ الطَّوافَ باليَيْتِ يُصَيِّرُه إلى عُمْرَةٍ شَاءَ أوْ أَبَى ، قُلْتُ : إن النَّاسَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَيْكَ ، قَالَ : هِيَ سُّـنَّة نَبِّيهِمْ وإنْ رَغِمُوا. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#86 |
![]() ![]() |
![]()
وقد روى هذا عنِ النبى صلى الله عليه وسلم مَنْ سمَّيْنا وغيرهم ، وروى ذلك عنهم طوائفُ مِن كبار التابعين ، حتى صار منقولاً نقلاً يرفع الشكَّ ، ويُوجب اليقينَ ، ولا يُمكن أحداً أن ينكره ، أو يقول : لم يقع ، وهو مذهبُ أهل بيت رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، ومذهبُ حَبْر الأُمة وبحرها ابنِ عباس وأصحابهِ ، ومذهبُ أبى موسى الأشعرى ، ومذهبُ إمام أهل السُّـنَّة والحديث أحمد بن حنبل وأتباعه ، وأهل الحديث معه ، ومذهب عبد اللَّه بن الحسن العنبرى قاضى البصرة ، ومذهب أهل الظاهر .
والذين خالفوا هذه الأحاديث ، لهم أعذار . العذر الأول : أنها منسوخة . العذر الثانى : أنها مخصوصة بالصحابة ، لا يجوزُ لِغيرهم مشاركُتهم فى حكمها . العذر الثالث : معارضُتها بما يَدُلُّ على خلاف حُكمها ، وهذا مجموعُ ما اعتذروا به عنها . ونحن نذكر هذه الأعذار عُذْراً عُذْراً ، ونبيِّنُ ما فيها بمعونة اللَّه وتوفيقه . أما العذر الأول ، وهو النسخ ، فيحتاج إلى أربعة أُمور ، لم يأتوا منها بشئ يحتاج إلى نصوص أُخر ، تكون تِلك النصوصُ معارضة لهذه ، ثم تكونُ مع هذه المعارضة مقاومة لها ، ثم يُثبت تأخرُّها عنها . قال المدَّعون للنسخ : قال عمر بن الخطاب السِّجستانى : حدثنا الفريابى ، حدثنا أبان بن أبى حازم ، قال: حدثنى أبو بكر بن حفص ، عن ابن عُمر ، عن عُمَرَ بنِ الخطاب رضى اللَّه عنه أنه قال لما ولى : (( يا أيُّها الناس ؛ إن رسولَ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، أحلَّ لنا المتُعة ثم حرَّمها علينا )) رواه البزار فى (( مسنده )) عنه قال المبيحون للفسخ : عجباً لكم فى مُقاومة الجبال الرَّواسى التى لا تُزعزِعُها الرِّياحُ بِكَثِيبٍ مَهيلِ ، تسفيه الرَّياحُ يميناً وشمالاً ، فهذا الحديثُ ، لا سند ولا متن ، أما سندُه ، فإنه لا تقومُ به حُجة علينا عند أهلِ الحديث ، وأما متنُه ، فإن المراد بالمتعة فيه مُتعة النساء التى أحلَّها رسولُ الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، ثم حرَّمها ، لا يجوز فيها غيرُ ذلك البتة ، لوجوه . أحدها : إجماعُ الأُمة على أنَّ مُتعة الحَجِّ غيرُ محرَّمة ، بل إما واجبة ، أو أفضلُ الأنساك على الإطلاق ، أو مستحبة ، أو جائزة ، ولا نعلم للأُمة قولاً خامساً فيها بالتحريم . الثانى : أن عُمَرَ بنَ الخطاب رضى اللَّه عنه ، صحَّ عنه مِن غير وجه ، أنه قال: لو حججتُ لتمتعتُ ، ثم لو حججتُ لتمتعتُ . ذكره الأثرم فى ((سننه )) وغيره وذكر عبد الرزاق فى (( مصنفه )) : عن سالم بن عبد اللَّه ، أنه سئل : أنهى عمر عن مُتعة الحَجّ ؟ قال : لا ، أَبَعْدَ كِتابِ اللَّه تعالى ؟ وذكر عن نافع ، أن رجلاً قال له : أنهى عمر عن مُتعة الحج ؟ قال : لا . وذكر أيضاً عن ابن عباس ، أنه قال : هذا الذى يزعمون أنه نهى عن المُتعة يعنى عمَر سمعتُه يقول : لو اعتمرتُ ، ثم حججتُ ، لتمتَّعتُ . قال أبو محمد بن حزم : صحَّ عن عمر الرجوعُ إلى القول بالتمتع بعد النهى عنه ، وهذا محال أن يرجعَ إلى القول بما صح عنده أنه منسوخ . الثالث : أنه من المحال أن ينهى عنها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله : هل هى لِعامِهم ذلك أم للأبد ؟ فقال : (( بل للأبد )) ، وهذا قطع لتوهم ورود النسخ عليها ، وهذا أحدُ الأحكام التى يستحيل ورود النسخ عليها ، وهو الحكمُ الذى أخبر الصادق المصدوق باستمراره ودوامه ، فإنه لا خلف لِخبره . فصل فى دعوى اختصاص ذلك بالصحابة العذر الثانى : دعوى اختصاصِ ذلك بالصحابة ، واحتجوا بوجوه : أحدها : ما رواه عبدُ اللَّهِ بنُ الزبير الحُميدى ، حدثنا سُفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن المُرَقِّعِ ، عن أبى ذر أنه قال : كان فسخُ الحجِّ مِن رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لنَا خاصة . وقال وكيع : حدثنا موسى بن عُبيدة ، حدثنا يعقوب بنُ زيد ، عن أبى ذر قال : لم يَكُنْ لأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ حَجَّتَهُ عُمْرَةً ، إنَّها كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أَصْحَابَ مَحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم . وقال البزار : حدّثنا يوسف بن موسى ، حدثنا سلمةُ بنُ الفضل ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن الأسدى ، عن يزيد بن شريك ، قُلنا لأبى ذر : كيف تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنتُم معه ؟ فقال : ما أَنْتُمْ وَذَاكَ ، إنَّما ذَاكَ شَئٌ رُخِّصَ لَنَا فيه ، يعنى المتعة . وقال البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عُبيد اللَّه بن موسى ، حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن أبى بكر التيمى ، عن أبيه والحارث بن سويد قالا : قال أبو ذر فى الحجِّ والمتعةِ : رخصةٌ أعطاناها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم . وقال أبو داود : حدثنا هنّاد بن السِّرِى ، عن ابن أبى زائدة ، أخبرنا محمد ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن سليمان أو سليم بن الأسود أن أبا ذر كان يقولُ فيمن حَجَّ ثُمَّ فَسَخَها إلى عُمْرَةٍ ، لم يَكُنْ ذَلِكَ إلاَّ لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وفى (( صحيح مسلم )) : عن أبى ذر . قال : كانَتِ المُتْعَةُ فى الحَجِّ لأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم خَاصَّةً . وفى لفظ : (( كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً )) ، يَعْنى المُتْعَةَ فى الحَجِّ ، وفى لفظ آخر : (( لا تَصِحُّ المُتْعَتَانِ إلاَّ لَنَا خَاصةً )) ، يَعنِى مُتْعَةَ النِّسَاءِ ومُتْعَةَ الحَجِّ . وفى لفظ آخر : (( إنَّمَا كَانَتْ لَنَا خَاصّةً دُونَكُم )) ، يَعْنِى مُتْعَةَ الحَجِّ . وفى (( سنن النسائى )) بإسناد صحيح : عن إبراهيم التيمى ، عن أبيه ، عن أبى ذر ، فى مُتعِة الحجِّ : لَيْسَتْ لَكُمْ ، ولَسْتُم مِنْهَا فى شَئٍ ، إنَّمَا كَانَتْ رُخْصَةً لَنَا أصحابَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم . وفى (( سنن أبى داود والنسائى )) ، من حديث بلال بن الحارث قال : قلت : يا رسول اللَّه ؛ أرأيتَ فسخَ الحجِّ إلى العُمرة لنا خاصَّة ، أم للناس عامة ؟ فقال رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم : (( بَلْ لَنَا خًَاصَّة )) ، ورواه الإمام أحمد . وفى مسند أبى عوانة بإسناد صحيح : عن إبراهيم التيمى ، عن أبيه ، قال: سُئِلَ عُثْمَانُ عن مُتْعَةِ الحَجِّ فَقَال : كَانَتْ لَنَا ، لَيْسَتْ لَكُمْ . هذا مجموعُ ما استدلوا به على التخصيص بالصحابة . قال المجوِّزون للفسخ ، والموجِبُون له : لا حُجة لكم فى شئ من ذلك ، فإنَّ هذه الآثار بين باطل لا يَصِحُّ عمن نُسِب إليه البتة ، وبين صحيح عن قائل غيرِ معصوم لا تُعارَض به نصوصُ المعصوم . أما الأول : فإن المُرَقِّع ليس ممن تقوم بروايته حُجة ، فضلاً عن أن يُقدَّم على النصوص الصحيحة غيرِ المدفوعة . وقد قال أحمد بن حنبل وقد عُورِضَ بحديثه : ومَن المُرقِّع الأسدى ؟ وقد روى أبو ذر عن النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، الأمر بفسخ الحَجّ إلى العُمْرة . وغاية ما نقل عنه إنْ صح : أنّ ذلك مختصٌّ بالصحابة ، فهو رأيه . وقد قال ابن عباس ، وأبو موسى الأشعرى : إنَّ ذلك عام للأُمة ، فرأى أبى ذر معارَض برأيهما ، وسلمت النصوصُ الصحيحةُ الصريحة ، ثم من المعلوم أن دعوى الاختصاص باطلةٌ بنص النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن تلك العُمْرة التى وقع السؤال عنها وكانت عُمْرة فسخ لأبد الأبد ، لا تَختصُّ بقَرن دونَ قرن ، وهذا أصح سنداً من المروى عن أبى ذر ، وأولى أن يُؤخذ به منه لو صحَّ عنه . وأيضاً .. فإذا رأينا أصحابَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم قد اختلفوا فى أمر قد صحَّ عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أنه فعله وأمر به ، فقال بعضُهم : إنه منسوخ أو خاص ، وقال بعضهم : هو باقٍ إلى الأبد ، فقولُ مَن ادَّعى نسخَه أو اختصاصَه مخالف للأصل ، فلا يُقبَلُ إلا ببرهان ، وإنَّ أقلَّ ما فى الباب معارضتُه مَن ادَّعى بقاءه وعمومه ، والحجةُ تفصِل بين المتنازعين ، والواجبُ الردُّ عند التنازع إلى اللَّه ورسوله . فإذا قال أبو ذر وعثمان : إن الفسخ منسوخ أو خاص ، وقال أبو موسى وعبد اللَّه بن عباس : إنه باقٍ وحكمُه عام ، فعلى مَن ادَّعى النسخ والاختصاص الدليل . وأما حديثه المرفوع حديث بلال بن الحارث فحديث لا يـُكْتَبُ ، ولا يُعارَض بمثله تلك الأساطين الثابتة . قال عبد اللَّه بن أحمد : كان أبى يرى للمُهِلِّ بالحج أن يفسخَ حجَّه إن طاف بالبيت وبين الصفا والمروة . وقال فى المتعة : هى آخِرُ الأمرين من رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم . وقال صلى اللَّه عليه وآله وسلم .: (( اجْعَلُوا حَجَّكُم عُمْرَةً )) . قال عبد اللَّه : فقلت لأبى : فحديث بلال بن الحارث فى فسخ الحج، يعنى قوله : (( لنا خاصة )) ؟ قال : لا أقول به ، لا يُعرف هذا الرجل ، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف ، ليس حديثُ بلال بن الحارث عندى يثبتُ . هذا لفظه . قلت : ومما يدل على صحة قول الإمام أحمد ، وأن هذا الحديث لا يَصِحُّ أن النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم أخبر عن تلك المُتعة التى أمرهم أن يفسخوا حَجَّهم إليها أنها لأَبَدِ الأبدِ ، فكيف يثبُت عنه بعد هذا أنها لهم خاصة ؟ هذا من أمحل المحال . وكيف يأمرهم بالفسخ ويقول : (( دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَة )) ، ثم يثبت عنه أن ذلك مختص بالصحابة دون مَن بعدهم : فنحن نَشْهَدُ باللَّهِ ، أن حديث بلال بن الحارث هذا ، لا يصح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو غلط عليه ، وكيف تُقدَّم روايةُ بلال بن الحارث ، على روايات الثقات الأثبات ، حملةِ العلم الذين رووا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم خلافَ روايته ، ثم كيف يكون هذا ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وابنُ عباس رضى اللَّه عنه يُفتى بخلافه ، ويناظر عليه طول عمره بمشهد من الخاص والعام ، وأصحابُ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم متوافِرون ، ولا يقول له رجلٌ واحد منهم : هذا كان مختصاً بنا ، ليس لغيرنا حتى يظهر بعد موت الصحابة ، أن أبا ذر كان يرى اختصاص ذلك بهم ؟ وأما قول عثمان رضى اللَّه عنه فى متعة الحج : إنها كانت لهم ليست لغيرهم ، فحكمه حكم قول أبى ذر سواء ، على أن المروى عن أبى ذر وعثمان يحتمل ثلاثة أُمور : أحدها : اختصاص جواز ذلك بالصحابة ، وهو الذى فهمه مَنْ حرَّم الفسخ . الثانى : اختصاصُ وجوبه بالصحابة ، وهو الذى كان يراه شيخنا قدَّس اللَّهُ روحه يقول : إنهم كانوا قد فُرِض عليهم الفسخ لأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لهم به ، وحتمه عليهم ، وغضبه عندما توقفوا فى المبادرة إلى امتثاله . وأما الجواز والاستحباب ، فللأُمة إلى يوم القيامة ، لكنْ أبَى ذلك البحرُ ابنُ عباس ، وجعل الوجوب للأُمة إلى يوم القيامة ، وأن فرضاً على كل مفرد وقارن لم يسق الهَدْى ، أن يحلَّ ولا بد ، بل قد حَلَّ وإن لم يشأ ، وأنا إلى قوله أميلُ منى إلى قول شيخنا . الاحتمال الثالث : أنه ليس لأحد من بعد الصحابة أن يبتدئ حجاً قارِناً أو مفرداً بلا هَدْى ، بل هذا يحتاج معه إلى الفسخ ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أَمَرَ به النبىُّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم أصحابه فى آخر الأمر من التمتع لمن لم يَسُقِ الهَدْىَ ، والقِران لمن ساق ، كما صح عنه ذلك . وأمّا أن يَحرم بحج مفرد ، ثم يفسخه عند الطواف إلى عُمرة مُفردةٍ ، ويجعله متعة ، فليس له ذلك ، بل هذا إنما كان للصحابة ، فإنهم ابتدؤوا الإحرام بالحج المفرد قبل أمر النبىِّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالتمتع والفسخ إليه ، فلما استقر أمره بالتمتع والفسخ إليه ، لم يكن لأحد أن يُخالفه ويُفرد ، ثم يفسخه . وإذا تأملتَ هذين الاحتمالين الأخيرين ، رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأول ، أو مساويين له ، وتسقط معارضةُ الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة ، وباللَّه التوفيق . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#87 |
![]() ![]() |
![]()
وأما ما رواه مسلم فى (( صحيحه )) عن أبى ذر : أن المتعة فى الحج كانت لهم خاصَّة . فهذا ، إن أريد به أصل المتعة ، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين ، بل المسلمون متفقون على جوازها إلى يوم القيامة . وإن أريد به متعة الفسخ ، احتمل الوجوه الثلاثة المتقدِّمة . وقال الأثرم فى (( سننه )) : وذكر لنا أحمد بن حنبل ، أن عبد الرحمن بن مهدى حدَّثه عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمى ، عن أبى ذر ، فى متعة الحج ، كانت لنا خاصة . فقال أحمد بن حنبل: رحم اللَّه أبا ذر ، هى فى كتاب اللَّه عَزَّ وجَلَّ : {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196].
قال المانعون من الفسخ : قول أبى ذر وعثمان : إن ذلك منسوخ أو خاص بالصحابة ، لا يُقال مثلُه بالرأى ، فمع قائله زيادة علم خفيت على مَن ادَّعى بقاءه وعمومه ، فإنه مستصحِب لحال النص بقاءً وعموماً ، فهو بمنزلة صاحب اليد فى العَيْن المدَّعاة ، ومدَّعى فسخه واختصاصه بمنزلة صاحب البيِّنة التى تُقدَّم على صاحب اليد . قال المجوِّزون للفسخ : هذا قول فاسد لا شك فيه ، بل هذا رأى لا شك فيه ، وقد صرَّح بأنه رأى مَنْ هو أعظمُ من عثمان وأبى ذر عِمرانُ بن حصينْ ، ففى (( الصحيحين )) واللفظ للبخارى : تمتعنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ونزل القُرآنُ ، فقال رجل برأيه ما شاء . ولفظ مسلم : نزلت آيةُ المتعة فى كتاب اللَّه عَزَّ وجَلَّ : يعنى مُتعة الحج ، وأمرنا بها رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، ثم لم تنزل آية تنسخ مُتعة الحج ، ولم ينه عنها رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حتى مات ، قال رجلٌ برأيه ما شاء . وفى لفظ : يريد عمر . وقال عبد اللَّه بن عمر لمن سأله عنها ، وقال له : إن أباك نهى عنها : أَأَمْرُ رَسُولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أحقُّ أن يُتَّبَعَ أو أَمْرُ أَبى ؟، . وقال ابن عباس لمن كان يُعارِضه فيها بأبى بكر وعمر : يُوشِكُ أن تَنْزِلَ عليكم حِجَارَةٌ من السماء ، أقولُ : قالَ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، وتقولُون : قال أبو بكر وعمر ؟ فهذا جوابُ العلماء ، لا جوابُ مَن يقول : عثمانُ وأبو ذر أعلمُ برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم منكم ، فهلاَّ قال ابنُ عباس ، وعبدُ اللَّه بن عمر : أبو بكر وعمرُ أعلمُ برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم منا ، ولم يكن أحدٌ مِن الصحابة ، ولا أحدٌ من التابعين يرضى بهذا الجواب فى دفع نصٍ عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهم كانوا أعلمَ باللَّهِ ورسوله ، وأتقى له من أن يُقَدِّمُوا على قول المعصوم رأىَ غيرِ المعصوم ، ثم قد ثبت النصُّ عن المعصوم ، بأنها باقية إلى يوم القيامة . وقد قال ببقائها : علىُّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه ، وسعدُ بن أبى وقَّاص ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو موسى ، وسعيد بن المسيِّب ، وجمهور التابعين ، ويدل على أن ذلك رأى محض لا يُنسب إلى أنه مرفوع إلى النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، أن عمرَ بن الخطَّاب رضى اللَّه عنه لما نهى عنها قال له أبو موسى الأشعرى : يا أمير المؤمنين ؛ ما أحدثتَ فى شأنِ النُّسُك ؟ فقال : إن نَأخُذْ بِكِتَاب رَبِّنَا ، فإنَّ اللَّه يقُول : {وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وإنْ نَأْخُذْ بِسُّـنَّةِ رَسُولِ اللَّه صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم ، فإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ ، فَهَذَا اتِّفَاقٌ من أبى موسى وعمر ، على أن منع الفسخ إلى المتعة والإحرام بها ابتداءً ، إنما هو رأى مِنه أحدثه فى النُّسُك ، ليس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وإن استدل له بما استدل ، وأبو موسى كان يُفتى الناسَ بالفسخ فى خلافة أبى بكر رضى اللَّه عنه كُلِّها ، وصدراً من خلافة عمر حتى فاوض عمرُ رضى اللَّه عنه فى نهيه عن ذلك ، واتفقا على أنه رأى أحدثه عمر رضى اللَّه عنه فى النُسُك ، ثم صحَّ عنه الرجوعُ عنه . فصل فى معارضة أحاديث الفتح بما يدل على خلافها وأما العذر الثالث : وهو معارضةُ أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها ، فذكروا منها ما رواه مسلم فى (( صحيحه )) من حديث الزهرى ، عن عُروة ، عن عائشة رضى اللَّه عنها ، قالت : خرجنا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فى حَجة الوداع ، فمنا مَن أهلَّ بعُمرة ، ومنا مَنْ أهلَّ بحج ، حتى قَدِمْنَا مكة فقالَ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم : (( مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرةٍ وَلَمْ يُهْدِ ، فَلْيَحْلِلْ ، ومَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وأهْدَى ، فلا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَه ، ومَنْ أهَلَّ بِحَجٍّ ، فَلْيُتمَّ حَجَّه )) ، وذكر باقى الحديث . ومنها : ما رواه مسلم فى (( صحيحه )) أيضاً من حديث مالك ، عن أبى الأسود ، عن عُروة عنها : خَرجنا مع رسولِ صلى اللَّه عليه وآله وسلم عامَ حَجَّةِ الوَداع ، فمِنا مَن أهلَّ بعُمرة ، ومنَّا من أهلَّ بحج وعُمرة ، ومِنا مَنْ أهلَّ بالحجِّ ، وأهلَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم بالحجِّ ، فأمَّا مَنْ أهلَّ بعمرة فحلَّ ، وأمَّا مَنْ أهلَّ بحجٍّ ، أو جَمَعَ الحجَّ والعُمرة ، فلم يَحِلُّوا حتى يومُ النحر . منها : ما رواه ابنُ أبى شيبة : حدثنا محمد بن بشر العبدى ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، حدثنى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطِب ، عن عائشة ، قالت : خَرَجْنَا مع رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلَّم لِلحجِّ على ثلاثة أنواع: فمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بعُمرةٍ وحَجَّةٍ ، ومنا مَن أهلَّ بِحَجِّ مُفرد ، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بعُمرة مفردة ، فمَن كانَ أهلَّ بحجٍّ وعُمرةٍ معاً ، لم يحِلَّ مِن شئٍ مما حَرُمَ منه حتَّى قضى مناسِكَ الحجِّ ، ومَنْ أهلَّ بحجٍّ مفرد ، لم يَحِلَّ مِن شئ مما حَرُمَ منه حتى قضى مناسِكَ الحج ، ومَنْ أهلَّ بعُمرةٍ مفردةٍ ، فطافَ بالبيتِ وبالصَّفا والمروة، حلَّ مما حرُم منه حتى استقبل حَجّاً . ومنها : ما رواه مسلم فى (( صحيحه )) من حديث ابن وهب ، عن عمرو بنِ الحارِث ، عن محمد بن نَوْفَلٍ ، أنَّ رجُلاً مِن أهلِ العِراق ، قال له : سل لى عُروة بن الزبير ، عن رجل أهلَّ بالحجِّ ، فإذا طافَ بالبيت ، أيحِلُّ أم لا ؟ فذكَر الحديث ، وفيه : قد حجَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ، فأخبرتنى عائشة ، أن أول شئ بدأ به حين قَدِمَ مكة ، أنه توضأ ، ثمَّ طَافَ بالبَيْتِ .. ثم حجَّ أبو بكر ، ثم كان أوَّلَ شئٍ بدأ به الطوافُ بالبيت ، ثم لم تكن عُمْرَةٌ .. ثم عُمَرُ مثلُ ذلك .. ثم حجَّ عثمانُ ، فرأيتُه أوَّلُ شئ بدأ به الطوافُ بالبيت ، ثم لم تكن عُمْرةٌ . ثم معاوية وعبدُ اللَّه بنُ عمر ، ثم حججتُ مع أبى الزبير بن العوَّام ، فكان أوَّلَ شئ بدأ به الطوافُ بالبيت ، ثم لم تكن عُمْرَةٌ ، ثمَّ رأيتُ المهاجرين والأنصار ، يفعلُون ذلك ، ثم لم تَكُنْ عُمْرَةٌ ، ثم آخِرُ مَنْ رأيت فعل ذلك ابنُ عمر ، ثم لم ينقُضْها بعُمرة ، فهذا ابنُ عمرَ عندهم ، أفلا يسألونه ؟ ولا أحدٌ ممن مضى ما كانوا يَبدؤون بشىء حِينَ يضعون أقدامَهم أوَّلَ مِنَ الطَّواف بالبَيْتِ ، ثم لا يَحِلُّون ، وقد رأيتُ أُمى وخالتى حين تَقْدَمَانِ لا تَبْدآنِ بشىءٍ أوَّلَ من الطواف بالبيت ، تطوفان بِه ثم لا تَحِلاَّنِ . فهذا مجموع ما عارضوا به أحاديثَ الفسخ ، ولا مُعارضة فيها بحمد اللَّه ومَنِّـهِ . أما الحديثُ الأول وهو حديث الزهرى ، عن عُروة ، عن عائشة فَغَلِطَ فيه عبدُ الملك بن شعيب ، أو أبوه شعيب ، أو جَدُّه الليث ، أو شيخه عقيل ، فإن الحديث رواه مالك ومعمر ، والناسُ ، عن الزهرى ، عن عروة ، عنها وبيَّنُوا أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر مَنْ لم يَكُنْ معه هَدْى إذا طاف وسعى ، أن يَحِلَّ . فقال مالك : عن يحيى بن سعيد ، عن عَمْرَةَ ، عنها : خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لِخَمس ليالٍ بقين لذى القِعدة ، ولا نرى إلا الحجَّ ، فلما دنونا من مكة ، أمر رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم مَنْ لم يكن معه هَدْى ، إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، أن يَحِلَّ وذكر الحديث . قال يحيى : فذكرتُ هذا الحديثَ لقاسم بن محمد ، فقال : أتتك واللَّهِ بالحديثِ على وجهه . وقال منصور : عن إبراهيم ، عن الأسود ، عنها ، خرجنا مع رسول اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ولا نرى إلا الحجَّ ، فلما قَدِمْنَا ، تَطَوَّفْنَا بالبَيْتِ ، فأمر النبىُّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم مَن لم يكن ساق الهَدْىَ ، أن يَحِلَّ ، فحلَّ مَنْ لم يكن ساق الهَدْىَ ، ونساؤه لم يَسُقْنَ فأحْلَلْنَ . وقال مالك ومعمر كلاهُما عن ابن شهاب ، عن عُروة ، عنها : خرجنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عام حَجة الوداع ، فأهللنا بعُمرة ، ثم قال رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم : (( مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ ، فلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَة ، ولاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ منهما جَميعاً )) . وقال ابن شهاب عن عُروة عنها بمثل الذى أخبر به سالم ، عن أبيه ، عن النبى صلى الله عليه وسلم . ولفظه : تمتع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فى حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحَجِّ ، فأهدى ، فساق معه الهدىَ من ذى الحُليفة ، بدأ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فأهلَّ بالعُمرة ، ثم أهلَّ بالحَجِّ ، وتمتَّع الناسُ مع رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالعُمرة إلى الحَجِّ ، فكانَ مِنَ الناس مَنْ أهدى ، فساق معه الهَدْىَ ، ومنهم مَن لم يُهْدِ ، فلمَّا قَدِمَ النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم مَكَّةَ ، قال الناس : (( مَنْ كَانَ مِنْكُم أهْدى ، فإنَّه لا يَحِلُّ مِنْ شئ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَجَّهُ ، ومَنْ لمْ يَكُنْ أهْدَى فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ ، وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَة ، وَليُقصِّرْ وَلْيَحِلَّ ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بالحَجِّ ولْيُهْدِ ، فمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً ، فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيَّام فى الحَجِّ ، وسَبْعَةٍ إذا رَجَعَ إلى أهْلِه َ)) ... وذكر باقى الحديث . وقال عبد العزيز الماجِشُون : عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة : خرجنا معَ رسولِ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، لا نَذْكُرُ إلا الحَجَّ ... فذكر الحديث . وفيه ، قالت : فلما قَدمْتُ مَكَّة ، قال رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لأصحابه : (( اجْعَلُوها عُمْرَةً ، فأحَلَّ النَّاسُ إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْى )) . وقال الأعمش : عن إبراهيم ، عن عائشة : خرجنا مع رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم لا نذْكُر إلا الحَجَّ ، فلما قَدِمْنَا ، أُمِرْنَا أَنْ نَحِلَّ ... وذكرَ الحديثَ . وقال عبد الرحمن بن القاسم : عن أبيه ، عن عائشة : خرجنا مَعَ رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ، ولا نذكر إلا الحَجَّ ، فلما جِئْنَا سَرِفَ ، طَمِثْتُ . قالت : فدخلَ عَلَىَّ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم وأنا أبكى . فقال : (( ما يُبْكِيك )) ؟ قالت : فَقُلْتُ : واللَّهِ لَوِدِدْتُ أنِّى لاَ أَحُجُّ العَامَ فذكر الحديثَ . وفيه : فلما قَدِمْتُ مكة ، قال النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم : (( اجْعَلُوهَا عُمْرةً )) ، قالت : فَحَلَّ الناسُ إلاَّ مْن كَانَ مَعَهُ الهَدْىُ . وكل هذه الألفاظ فى (( الصحيح )) ، وهذا موافق لما رواه جابر ، وابن عمر ، وأنس ، وأبو موسى ، وابن عباس ، وأبو سعيد ، وأسماء ، والبراء ، وحفصة ، وغيرهم ، من أمره صلى اللَّه عليه وآله وسلم أصحابَه كُلَّهم بالإحلال، إلا مَنْ ساق الهَدْى ، وأن يجعلوا حجهم عُمْرَةً . وفى اتفاق هؤلاء كُلِّهم ، على أن النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، أمر أصحابه كلَّهم أن يحلوا ، وأن يجعلوا الذى قدموا به مُتعةً ، إلا مَنْ ساق الهَدْى ، دليلٌ على غلط هذه الرواية ، ووهمٍ وقع فيها ، يُبين ذلك أنها من رواية الليث ، عن عقيل ، عن الزهرى ، عن عروة ، والليث بعينه ، هو الذى روى عن عقيل ، عن الزهرى ، عن عروة ، عنها مثلَ ما رواه ، عن الزهرى عن سالم ، عن أبيه ، فى تمتع النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، وأمره لمن لم يكن أهدى أن يَحِلَّ . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#88 |
![]() ![]() |
![]()
ثم تأملنا ، فإذا أحاديث عائشة يُصدِّقُ بعضُها بعضاً ، وإنما بعضُ الرواة زاد على بعض ، وبعضهم اختصر الحديث ، وبعضُهم اقتصر على بعضه ، وبعضهم رواه بالمعنى . والحديث المذكور : ليس فيه منع مَنْ أهلَّ بالحجِّ من الإحلال ، وإنما فيه أمره أن يُتِمَّ الحج ، فإن كان هذا محفوظاً ، فالمراد به بقاؤه على إحرامه ، فيتعين أن يكون هذا قبل الأمر بالإحلال ، وجعله عمرة ، ويكون هذا أمراً زائداً قد طرأ على الأمر بالإتمام ، كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقِران ، ويتعين هذا ولا بُد ، وإلا كان هذا ناسخاً للأمر بالفسخ ، والأمر بالفسخ ناسخاً للإذن بالإفراد ، وهذا محالٌ قطعاً ، فإنه بعد أن أمرهم بالحِلِّ لم يأمرهم بنقضه ، والبقاءِ على الإحرام الأول ، هذا باطل قطعاً ، فيتعيَّنُ إن كان محفوظاً أن يكون قبل الأمر لهم بالفسخ ، ولا يجوز غير هذا البتة .. واللَّه أعلم .
فصل وأما حديثُ أبى الأسود ، عن عروة ، عنها . وفيه : (( وأما مَنْ أهلَّ بحجٍّ أو جمعَ الحجَّ والعُمرة ، فلم يَحِلُّوا حتى كان يوم النحر )) . وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها : ((فمَن كان أهلَّ بحجٍّ وعُمرة معاً ، لم يَحِلَّ من شئ مما حَرُمَ منه حتى يَقْضِىَ مَناسِكَ الحَجِّ ، ومَنْ أهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرِدٍ كَذَلِكَ )) . فحديثان ، قد أنكرهما الحفاظُ ، وهما أهلٌ أن يُنكَرا ، قال الأثرم : حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدى ، عن مالك بن أنس ، عن أبى الأسود ، عن عُروة ، عن عائشة : ((خرجنا مع رسول اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فمنَّا مَنْ أَهلَّ بالحَجِّ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ والعُمرَةِ ، وأَهلَّ بالحَجِّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم ، فأمَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ ، فأحلُّوا حِينَ طَافُوا بِالبَيْتِ وَبالصَّفَا والمَرْوَةِ . وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ والعُمْرَةِ ، فَلَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ ))، فقال أحمد بن حنبل : أَيْش فى هذا الحديثِ مِن العَجَبِ ، هذا خطأ ، فقال الأثرم : فقلتُ له : الزهرى ، عن عروة ، عن عائشة ، بخلافه ؟ فقال : نعم ، وهشام بن عروة . وقال الحافظ أبو محمد بن حزم : هذان حديثان منكران جداً ، قال : ولأبى الأسود فى هذا النحو حديثٌ لا خفاء بِنُكرَتِه ، وَوَهْنِهِ ، وبُطلانه . والعجب كيف جاز على مَن رواه ؟ ثم ساق من طريق البخارى عنه ، أن عبد اللَّه مولى أسماء ، حدّثه أنه كان يَسْمَعُ أسماء بنتَ أبى بكر الصِّدِّيق رضى اللَّه عنهما تقول كُلما مَرَّتْ بالحَجُونِ : صلَّى اللَّه على رسوله : لقد نزلنا معه هاهنا ، ونحنُ يومئذ خِفافٌ ، قليلٌ ظهرُنا ، قليلةٌ أزوادُنا ، فاعتمرتُ أنا وأختى عائشة ، والزبيرُ ، وفلان ، وفلان . فلما مسحنا البيتَ ، أَحْلَلْنَا ، ثُمَّ أَهْلَلَنْا مِنَ العَشِىِّ بِالحَجِّ . قال : وهذه وهلةٌ لا خفاءَ بها على أحد ممن له أقلُّ علم بالحديثِ لوجهين باطلين فيه بلا شك : أحدُهما : قوله : فاعتمرتُ أنا وأُختى عائشة ، ولا خلاف بين أحد من أهل النقل ، فى أن عائشة لم تعتمر فى أول دخولها مكة ، ولذلك أعمرها من التنعيم بعد تمام الحج ليلة الحصبة ، هكذا رواه جابر بن عبد اللَّه ، ورواه عن عائشة الأثبات ، كالأسود بن يزيد ، وابنِ أبى مُليكة ، والقاسم بن محمد ، وعروة ، وطاووس ، ومجاهد . الموضع الثانى : قوله فيه : فلما مسحنا البيتَ ، أحللنا ، ثم أهللنا من العشى بالحج ، وهذا باطل لا شكَّ فيه ، لأن جابراً ، وأنسَ بن مالك ، وعائشة ، وابنَ عباس ، كُلُّهم روَوْا أن الإحلال كان يومَ دخولهم مكة ، وأن إحلالهم بالحجِّ كان يوم التروية ، وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيام بلا شك . قلت : الحديثُ ليس بمنكر ولا باطل ، وهو صحيح وإنما أُتى أبو محمد فيه مِن فهمه ، فإن أسماء أخبرت أنها اعتمرت هى وعائشة ، وهكذا وقع بلا شك . وأما قولها : فلما مسحنا البيت أحْلَلْنَا ، فإخبار منها عن نفسها ، وعمن لم يُصبه عذرُ الحيض الذى أصابَ عائشة ، وهى لم تُصرِّحْ بأن عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكة ، وأنها حلَّت ذلك اليوم ، ولا ريبَ أن عائشة قدمت بعُمرة ، ولم تزل عليها حتى حاضتْ بِسَرِفَ ، فأدخلت عليها الحجَّ ، وصارت قارِنةً . فإذا قيل : اعتمرت عائشة مع النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، أو قدمت بعمرة ، لم يكن هذا كذباً . وأما قولها : ثم أهللنا مِن العَشِىِّ بالحج ، فهى لم تَقُلْ : إنهم أَهلُّوا من عشى يوم القدوم ، ليلزم ما قال أبو محمد ، وإنما أرادت عشىَّ يوم التروية . ومثل هذا لا يحتاج فى ظهوره وبيانه إلى أن يُصرَّح فيه بعشى ذلك اليوم بعينه ، لعلم الخاص والعام به ، وأنه مما لا تذهبُ الأوهام إلى غيره ، فردُّ أحاديث الثقات بمثل هذا الوهم مما لا سبيل إليه . قال أبو محمد : وأسلمُ الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة ، يعنى اللذين أنكرَهُما ، أن تُخرَّجَ روايتهما على أن المراد بقولها : إن الَّذينَ أهلَّوا بحجٍّ ، أو بحجٍّ وعُمرة ، لم يَحِلُّوا حتى كان يومُ النحر حين قَضَوْا مناسِك الحج ، إنما عنت بذلك مَنْ كان معه الهَدْى ، وبهذا تنتفى النُّكرةُ عن هذين الحديثين ، وبهذا تأتلِف الأحاديثُ كلها ، لأن الزهرى عن عُروة يذكر خلاف ما ذكره أبو الأسود عن عروة ، والزهرى بلا شك أحفظُ من أبى الأسود ، وقد خالف يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة فى هذا الباب مَنْ لا يُقرَن يحيى بن عبد الرحمن إليه ، لا فى حفظ ، ولا فى ثقة ، ولا فى جَلالة ، ولا فى بطانة لعائشة ، كالأسود ابن يزيد ، والقاسم بن محمد بن أبى بكر ، وأَبى عمرو ذكوان مولى عائشة ، وعَمْرَةَ بنت عبد الرحمن ، وكانت فى حجر عائشة ، وهؤلاء هم أهلُ الخصوصية والبطانة بها ، فكيف ؟ ولو لم يكونوا كذلك ، لكانت روايتُهم أو روايةُ واحد منهم ، لو انفرد هى الواجبُ أن يؤخذ بها ، لأن فيها زيادة على رواية أبى الأسود ويحيى ، وليس مَن جَهَلَ ، أو غَفَلَ حُجَّةَ على مَن علم ، وذكر وأخبر ، فكيف وقد وافق هؤلاء الجِلَّةُ عن عائشة فسقط التعلُّق بحديث أبى الأسود ويحيِى اللذين ذكرنا . قال : وأيضاً ، فإن حديثى أبى الأسود ويحيى ، موقوفان غير مسندين ، لأنهما إنما ذكرا عنها فعل مَن فعل ما ذكرت ، دون أن يذكُرا أن النبىَّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، أمرهم أن لا يَحِلُّوا ، ولا حُجَّة فى أحد دون النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فلو صحَّ ما ذكراه ، وقد صح أمرُ النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم مَنْ لا هَدْى معه بالفسخ ، فتمادى المأمورون بذلك ، ولم يَحِلُّوا لكانوا عصاة للّه تعالى ، وقد أعاذهم اللَّه من ذلك ، وبرَّأهم منه ، فثبت يقيناً أن حديث أبى الأسود ويحيى ، إنما عنى فيهما : مَن كان معه هَدْى ، وهكذا جاءت الأحاديثُ الصحاح التى أوردناها ، بأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر مَن معه الهَدْى ، بأن يجمع حجاً مع العُمرة ، ثم لا يَحِلَّ حتى يحلَّ منهما جميعاً . ثم ساق من طريق مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عنها ترفعه : (( مَنْ كانَ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَلْيُهْلِلْ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعَا )) ، قال : فهذا الحديث كما ترى ، من طريق عروة ، عن عائشة ، يُبين ما ذكرنا أنه المراد بلا شك ، فى حديث أبى الأسود ، عن عروة وحديث يحيى عن عائشة ، وارتفع الآن الإشكال جملة ، والحمد للّه رب العالمين . قال : ومما يُبيِّنُ أن فى حديثِ أبى الأسود حذفاً قوله فيه : عن عُروة : (( أن أُمَّه وخالَته والزُّبير ، أقبلوا بعُمرة فقط ، فلما مسحُوا الركن ، حلُّوا )) . ولا خلاف بين أحد ، أن مَن أقبل بعُمرة لا يَحِلُّ بمسحِ الرّكن ، حتى يسعى بين الصَّفا والمَرْوَةِ بعد مسح الركن ، فصحَّ أن فى الحديث حذفاً بيَّنه سائرُ الأحاديث الصحاح التى ذكرنا ، وبطل التشغيبُ به جملة .. وباللَّه التوفيق . فصل وأما ما فى حديث أبى الأسود ، عن عروة ، من فعل أبى بكر ، وعمر ، والمهاجرين ، والأنصار ، وابن عمر ، فقد أجابه ابن عباس ، فأحسن جوابه ، فيُكتفى بجوابه . فروى الأعمش ، عن فضيل بن عمرو ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، تمتعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال عروة : نهى أبو بكر وعُمَرُ عن المُتعة . فقال ابن عباس : أراكم ستهلكون ، أقول : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتقول : قال أبو بكر وعمر . وقال عبد الرزاق : حدثنا مَعمر ، عن أيوب ، قال : قال عُروة لابن عباس : ألا تتَّقى اللَّه تُرَخِّصُ فى المُتعة ؟، فقال ابنُ عباس : سل أُمَّك يا عُرَيَّةُ . فقال عُروة : أمَّا أبو بكر وعمر ، فلم يفعلا ، فقال ابنُ عباس : واللَّهِ ما أراكم مُنتهين حتى يُعَذِّبَكُمُ اللَّه ، أُحدِّثُكم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتُحدِّثُونا عن أبى بكر وعمر ؟ فقال عُروة : لَهُما أعلمُ بِسُّـنَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأتبعُ لها منك . وأخرج أبو مسلم الكجى ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب السختيانى ، عن ابن أبى مُلَيكة ، عن عُروة بن الزبير ، قال لرجل مِن أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : تأمُرُ النَّاس بالعُمرَةِ فى هؤلاء العَشْرِ ، وليس فيها عُمرة ؟، قال : أوَ لاَ تَسألُ أُمَّك عن ذلك ؟ قال عُروة : فإن أبا بكر وعُمَرَ لم يفعلا ذلك ، قال الرجل : مِن هاهنا هلكتُم ، ما أرى اللَّه عزَّ وجلَّ إلا سَيُعَذِّبُكُم ، إنِّى أحدِّثكم عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتُخبرونى بأبى بكر وعمر . قال عروةُ : إنهما واللَّهِ كانا أعلَم بِسُّـنَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكَ ، فسكت الرجلُ . ثم أجاب أبو محمد بن حزم عُروة عن قوله هذا ، بجواب نذكره ، ونذكر جواباً أحسَن منه لشيخنا . قال أبو محمد : ونحن نقول لعروة : ابنُ عباس أعلمُ بِسُـنَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وبأبى بكر وعمَر منك ، وخيرٌ منك ، وأولى بهم ثلاثتهم منك ، لا يشكُّ فى ذلك مسلم . وعائشةُ أم المؤمنين ، أعلم وأصدق منك . ثم ساق من طريق الثورى ، عن أبى إسحاق السَّبِيعى ، عن عبد اللَّه قال : قالت عائشة : من استُعْمِلَ على المَوْسِمِ ؟ قالوا : ابن عباس . قالت : هو أعلم الناس بالحج . قال أبو محمد : مع أنه قد روى عنها خلاف ما قاله عروة ، ومَن هو خير من عروة ، وأفضل ، وأعلم ، وأصدق ، وأوثق . ثم ساق من طريق البزار ، عن الأشج ، عن عبد اللَّه بن إدريس الأودى ، عن ليث ، عن عطاء ، وطاووس ، عن ابن عباس : تمتع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، وأبو بكر ، وعمر . وأول مَن نهى عنها معاوية . ومن طريق عبد الرزاق ، عن الثورى ، عن ليث ، عن طاووس ، عن ابن عباس : تمتع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر . حتى مات ، وعمر ، وعثمان كذلك . وأول مَن نهى عنها : معاوية . قلت : حديث ابن عباس هذا ، رواه الإمام أحمد فى (( المسند )) والترمذى . وقال : حديث حسن . وذكر عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر عن ابن طاووس ، عن أبيه ، قال : قال أُبىُّ بن كعب ، وأبو موسى لعمر بن الخطاب : ألا تقومُ فتبيِّنَ للنَّاسِ أمرَ هذه المتعة ؟ فقال عمر : وهل بَقى أحد إلا وقد عَلِمَهَا ، أما أنا فأفعلُها . وذكر على بنُ عبدِ العزيز البغوى ، حدثنا حجاجُ بن المنهال ، قال : حدثنا حمادُ بنُ سلمة ، عن حماد بن أبى سليمان أو حميد عن الحسن ، أن عمر أراد أن يأخذ مال الكعبة ، وقال : الكعبة غَنِيَّةٌ عن ذلِكَ المالِ ، وأراد أن يَنْهى أهل اليمن أن يَصْبِغُوا بالبَولِ ، وأراد أن ينهى عن مُتعة الحج ، فقال أُبىُّ بنُ كعب : قد رأى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه هذا المالُ ، وبه وبأصحابه الحاجةُ إليه، فلم يأخذه ، وأنت فلا تأخذْه ، وقد كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يلبَسون الثيابَ اليمانية ، فلم ينهَ عنها ، وقد علم أنها تُصْبَغُ بالبول، وقد تمتَّعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم ينه عنها ، ولم يُنْزِلِ اللَّهُ تعالى فيها نهياً . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#89 |
![]() ![]() |
![]()
وقد تقدَّم قولُ عمر : لو اعتمرتُ فى وسط السنة ، ثم حججتُ لتمتعتُ ، ولو حججتُ خمسين حَجة ، لتمتعتُ . ورواه حماد بن سلمة . عن قيس ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، عنه : لو اعتمرتُ فى سنة مرتين ، ثم حججت ، لجعلت مع حَجتى عُمرة . والثورى ، عن سلمة بن كهيل ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، عنه : لو اعتمرتُ ، ثم اعتمرتُ ، ثم حججت ، لتمتعت . وابن عيينة : عن هشام بن حُجير ، وليث ، عن طاووس ، عن ابن عباس ، قال: هذا الذى يزعمُون أنه نهى عن المتعة يعنى عمر سمعتُه يقول : لو اعتمرتُ ، ثم حججت ، لتمتعت . قال ابن عباس : كذا وكذا مرة ، ما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة
وأما الجواب الذى ذكره شيخنا ، فهو أن عُمَرَ رضى اللَّه عنه ، لم ينه عن المتعة البتة، وإنما قال : إنَّ أَتَمَّ لِحَجِّكم وعُمرتِكم أن تَفْصِلُوا بينهما، فاختار عُمَرُ لهم أفضلَ الأُمور، وهو إفرادُ كل واحد منهما بسفر يُنشئه له من بلده ، وهذا أفضل من القِران والتمتع الخاص بدون سَفرة أُخرى ، وقد نصَّ على ذلك : أحمد، وأبو حنيفة ، ومالك، والشافعى رحمهم اللَّه تعالى وغيرهم . وهذا هو الإفراد الذى فعله أبو بكر وعمر رضى اللَّه عنهما ، وكان عُمر يختاره للناس، وكذلك علىٌ رضى اللَّه عنهما. وقال عمر وعلى رضى اللَّه عنهما فى قوله تعالى : {وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ للَّهِ} [البقرة: 196] قالا: إتمامهُما أن تُحرِمَ بهما مِن دُوَيْرَةِ أهلِكِ وقد قال صلى اللَّه عليه وسلم لعائشة فى عُمرتها ![]() قلت: فهذا الذى اختاره عمر للناس، فظنَّ مَن غَلِطَ منهم أنه نهى عن المتعة ، ثم مِنهم مَن حمل نَهيه على متعة الفسخ ، ومنهم مَن حمله على تركِ الأولى ترجيحاً للإفراد عليه ، ومنهم مَن عارض رواياتِ النهى عنه بروايات الاستحباب ، وقد ذكرناها ، ومنهم مَن جعل فى ذلك روايتين عن عمر ، كما عنه روايتان فى غيرهما من المسائل ، ومنهم مَن جعل النهى قولاً قديماً ، ورجع عنه أخيراً ، كما سلك أبو محمد بن حزم ، ومنهم مَن يَعُدُّ النهى رأياً رآه من عنده لكراهته أن يَظَلَّ الحاجُّ مُعرِسِينَ بِنسائهم فى ظِلِّ الأرَاكِ . قال أبو حنيفة : عن حماد ، عن إبراهيم النخعى ، عن الأسود بن يزيد ، قال : بينما أنا واقف مع عُمَرَ بن الخطاب بعرفة عشيةَ عرفة ، فإذا هو برجل مُرَجِّلٍ شعرَه ، يفوحُ منه ريحُ الطِّيب ، فقال له عمر : أمحرِمٌ أنت ؟ قال : نعم . فقال عمر : ما هيئتك بهيئة محرم ، إنما المحرِمُ الأشْعَثُ الأَغْبَرُ الأدْفَرُ . قال : إنى قَدِمتُ متمتِّعاً ، وكان معى أهلى ، وإنما أحرمتُ اليومَ ، فقال عمر عند ذلك : لا تتمتَّعُوا فى هذه الأيام ، فإنى لو رَخَّصْتُ فى المُتعة لهم ، لعرَّسُوا بِهِنَّ فى الأراك ، ثم راحوا بِهِنّ حُجَّاجاً . وهذا يبين ، أن هذا من عمر رأى رآه. قال ابن حزم : فكان ماذا ؟ وحبذا ذلك ؟ وقد طاف النبى صلى الله عليه وسلم على نسائه، ثم أصبح محرِماً ، ولا خلاف أن الوطء مباح قبل الإحرام بطرفة عين واللَّه أعلم . فصل وقد سلك المانعون من الفسخ طريقتين أخريين ، نذكرهُما ونبيِّنُ فسادهما .. الطريقة الأولى : قالوا : إذا اختلف الصحابَةُ ومَنْ بعدهم فى جواز الفسخ ، فالاحتياطُ يقتضى المنعَ منه صِيانةً للعبادة عما لا يجوزُ فيها عند كثير من أهل العلم ، بل أكثرهم . والطريقة الثانية : أن النبى صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفسخ لِيبيِّن لهم جوازَ العُمرة فى أشهر الحج ، لأن أهْلَ الجاهلية كانوا يكرهون العُمرة فى أشهر الحج ، وكانوا يقُولون : إذا بَرَأَ الدَّبَرُ ، وعَفَا الأَثَرُ ، وانْسَلَخَ صَفَرُ ، فقد حلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ ، فأمرهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم بالفسخ ، ليبين لهم جوازَ العُمرة فى أشهر الحج ، وهاتان الطريقتان باطلتان . أما الأولى : فلأن الاحتياطَ إنما يشرع ، إذا لم تتبين السُّـنَّةُ ، فإذا تبيَّنت فالاحتياطُ هو اتِّباعُها وتركُ ما خالفها ، فإن كان تركُها لأجل الاختلاف احتياطاً ، فتركُ ما خالفها واتَباعُها ، أحوطُ وأحوطُ ، فالاحتياطُ نوعان : احتياطٌ للخروج مِن خلاف العلماء ، واحتياطٌ للخروج من خِلاف السُّـنَّة ، ولا يخفى رُجحانُ أحدهما على الآخر . وأيضاً .. فإن الاحتياط ممتنعٌ هنا ، فإنَّ للناس فى الفسخ ثلاثةَ أقوال : أحدها : أنه محرَّم . الثانى : أنه واجب ، وهو قولُ جماعة من السَلَف والخَلَف . الثالث : أنه مستحَبٌ ، فليس الاحتياط بالخروج من خلاف مَن حرَّمه أولى بالاحتياط بالخروج من خلاف مَن أوجبه ، وإذا تعذَّر الاحتياطُ بالخروج من الخلاف ، تعيَّن الاحتياطُ بالخروج من خلاف السُّـنَّة . فصل وأما الطريقة الثانية : فأظهرُ بُطلاناً من وجوه عديدة . أحدُها : أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عُمَرَهُ الثلاث فى أشهر الحج فى ذى القِعْدَة ، كما تقدَّم ذلك ، وهو أوسطُ أشهرِ الحج ، فكيف يُظن أن الصحابة لم يعلموا جوازَ الاعتمار فى أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى العُمرة ، وقد تقدَّم فعله لذلك ثلاثَ مرات ؟ الثانى : أنه قد ثبت فى(الصحيحين)، أنه قال لهم عند الميقات ![]() الثالث : أنه أمَرَ مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ أن يتحلَّل ، وأمرَ مَن ساق الهَدْىَ أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدىُ مَحِلَّه ، ففرق بين محرِم ومحرِم ، وهذا يدل على أن سوقَ الهَدْى هو المانعُ من التحلل ، لا مجردُ الإحرام الأول ، والعِلَّة التى ذكروها لا تختص بمحرِم دوم محرم ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم جعل التأثير فى الحِل وعدمه للهَدْى وجوداً وعدماً لا لغيره . الرابع : أن يقال : إذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم قصَد مخالفَة المشركين ، كان هذا دليلاً على أن الفسخَ أفضلُ لهذه العِلَّة ، لأنه إذا كان إنما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين ، كان يكونُ دليلاً على أن الفسخ يبقى مشروعاً إلى يوم القيامة ، إما وجوباً وإما استحباباً ، فإن ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم وشرعه لأُمته فى المناسك مخالفةً لهَدْى المشركين ، هو مشروع إلى يوم القيامة ، إما وجوباً أو استحباباً ، فإن المشركين كانوا يُفِيضُون من عرفةَ قبل غروب الشمس ، وكانوا لا يُفيضون من مزدلفة حتى تَطْلُع الشمسُ ، وكانوا يقولون : أشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرَ ، فخالفهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم ، وقال ![]() وهذه المخالفة ، إما ركن ، كقول مالك ، وإما واجبٌ يَجبرُه دم ، كقول أحمد ، وأبى حنيفة ، والشافعى فى أحد القولين ، وإما سُّـنَّة ، كالقول الآخر له . والإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سُّـنَّة باتفاق المسلمين ، وكذلك قريشٌ كانت لا تَقفُ بعرفة ، بل تفيض من جَمْع ، فخالفهم النبى صلى الله عليه وسلم ، ووقف بعرفاتٍ ، وأفاضَ منها ، وفى ذلك نزل قوله تعالى : {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وهذه المخالفة من أركانِ الحجِّ باتفاق المسلمين ، فالأمُور التى نُخَالِفُ فيها المشركين هى الواجبُ أو المستحبُّ ، ليس فيها مكروه ، فكيف يكون فيها مُحرَّم ؟ وكيف يُقال : إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بِنُسُكٍ يُخالِفُ نُسُك َ المشركين ، مع كون الذى نهاهم عنه ، أفضلَ مِن الذى أمرهم به ؟ أو يقال : مَنْ حجَّ كما حج المشركون فلم يتمتع ، فحجُّه أفضلُ مِن حجِّ السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار ، بأمرِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . الخامس : أنه قد ثبت فى(الصحيحين)عنه ، أنه قال ![]() ![]() وكان سؤالهم عن عُمْرة الفسخ ، كما جاء صريحاً فى حديث جابر الطويل . قال : حتى إذا كان آخرُ طوافه عَلَى المروَةِ ، قال ![]() ![]() وفى لفظ : قَدِمَ رسولُ صلى الله عليه وسلم صبح رابِعةٍ مَضَتْ مِن ذى الحِجة ، فأمرنا أن نحلَّ ، فقلنا : لما لم يكن بيننا وبين عرفةَ إلا خَمْسٌ أَمَرَنَا أنْ نُفْضِىَ إلى نِسَائِنا ، فَنَأْتىَ عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا المَنِىَّ .. فذكر الحديثَ . وفيه : فقال سُراقة بنُ مالك : لِعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال ![]() وفى(صحيح البخارى)عنه : أن سُراقة قال للنبىِّ صلى الله عليه وسلم : ألَكُمْ خَاصَةً هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّه ؟ قَالَ ![]() وقد اعترض بعضُ الناس على الاستدلال بقوله ![]() عتراضين ، أحدهما : أن المراد ، أن سقوطَ الفرض بها لا يختصُّ بذلك العام ، بل يُسقِطُه إلى الأبد ، وهذا الاعتراضُ باطل ، فإنه لو أراد ذلك لم يَقُلْ : للأبد ، فإن الأبد لا يكون فى حق طائفة معيَّنة ، بل إنما يكون لجميع المسلمين ، ولأنه قال ![]() ![]() ![]() ![]() الثانى : قوله : إن ذلك إنما يُريد به جوازَ الاعتمار فى أشهرِ الحجِّ ، وهذا الاعتراضُ أبطلُ مِن الذى قبله ، فإن السائلَ إنما سأل النبىَّ صلى الله عليه وسلم فيه عن المُتعة التى هى فَسخُ الحجِّ ، لا عن جواز العُمرة فى أشهرِ الحجِّ ، لأنه إنما سأله عَقِبَ أمره مَن لا هَدْىَ معه بفسخ الحجِّ ، فقال له سراقةُ حينئذ : هذا لِعامِنَا ، أم للأبد ؟ فأجابه صلى اللَّه عليه وسلم عن نفس ما سأله عنه ، لا عمَّا لم يسأله عنه . وفى قوله ![]() السادس : أن هذه العِلَّة التى ذكرتموها ، ليست فى الحديثِ ، ولا فيه إشارةٌ إليها ، فإن كانت باطلةً ، بطل اعتراضُكم بها ، وإنْ كانت صحيحةً ، فإنها لا تلزم الاختصاص بالصحابة بوجه مِن الوجوه ، بل إن صحَّتْ اقتضت دوامَ معلولها واستمراره ، كما أن الرَّمَلَ شُرِعَ لِيُرِىَ المشركينَ قوَّتَه وقوَّةَ أصحابه ، واستمرت مشروعيتُه إلى يوم القيامة ، فبطل الاحتجاجُ بتلك العِلَّة على الاختصاص بهم على كل تقدير . |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
#90 |
![]() ![]() |
![]()
السابع : أنَّ الصحابَةَ رضى اللَّه عنهم ، إذا لم يكتفوا بالعلم بجواز العُمرة فى أشهر الحجِّ على فعلهم لها معه ثلاثةَ أعوام ، ولا بإذنه لهم فيها عند الميقات حتى أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العُمرة ، فَمَنْ بعدهم أحرى أن لا يَكْتَفىَ بذلك حتى يَفْسَخَ الحجَّ إلى العُمرة ، اتِّباعاً لأمر النبى صلى الله عليه وسلم ، واقتداءً بأصحابه ، إلا أن يقولَ قائل : إنَّا نحن نكتفى من ذلك بدون ما اكتفى به الصحابَة ، ولا نحتاج فى الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه ، وهذا جهلٌ نعوذُ باللَّه منه .
الثامن : أنه لا يُظَنُّ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أن يأمر أصحابَه بالفسخ الذى هو حرام ، لِيعلِّمهم بذلك مباحاً يُمكن تعليمُه بغير ارتكاب هذا المحظور ، وبأسهل منه بياناً ، وأوضح دلالةً ، وأقل كلفةً . فإن قيل : لم يكن الفسخ حين أمرهم به حراماً . قيل : فهو إذاً إما واجب أو مستحَب . وقد قال بكل واحد منهما طائفة ، فمَن الذى حرَّمه بعد إيجابه أو استحبابه ، وأىُّ نص أو إجماع رفع هذا الوجوبَ أو الاستحبابَ ، فهذه مطالبة لا محيص عنها . التاسع : أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال : (( لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِى ما اسْتَدْبَرْتُ، لَمَا سُقْتُ الهَدْىَ ، ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً )) ، أفترى تجدَّد له صلى اللَّه عليه وسلم عند ذلك العلم بجواز العمرة فى أشهر الحج ، حتى تأسَّف على فواتها ؟ هذا من أعظم المحال . العاشر : أنه أمر بالفسخ إلى العُمرة ، مَن كان أفرد ، ومَنْ قرن ، ولم يَسُقِ الهَدْى . ومعلوم : أن القارن قد اعتمر فى أشهر الحج مع حجته ، فكيف يأمره بفسخِ قِرانه إلى عُمرة ليبيِّن له جواز العُمرة فى أشهر الحج ، وقد أتى بها ، وضم إليها الحج ؟ الحادى عشر : أن فسخ الحجِّ إلى العُمرة ، موافق لقياس الأصول ، لا مخالف له . ولو لم يرد به النصُّ ، لكان القياسُ يقتضى جوازه ، فجاء النصُّ به على وفق القياس ، قاله شيخ الإسلام ، وقرره بأن المحرِم إذا التزم أكثرَ مما كان لزمه ، جاز باتفاق الأئمة . فلو أحرم بالعُمرة ، ثم أدخل عليها الحج ، جاز بلا نزاع ، وإذا أحرم بالحجِّ ، ثم أدخل عليه العُمرة ، لم يجز عند الجمهور ، وهو مذهب مالك ، وأحمد ، والشافعى فى ظاهر مذهبه ، وأبو حنيفة يُجوِّز ذلك ، بناءً على أصله فى أن القارن يطوف طوافين ، ويسعى سعيين . قال : وهذا قياس الرواية المحكيَّةِ عن أحمد فى القارن : أنه يطوفُ طوافين ، ويسعى سعيين . وإذا كان كذلك ، فالمحرِمُ بالحج لم يلتزم إلا الحج . فإذا صار متمتعاً ، صار ملتزماً لعُمرة وحج ، فكان ما التزمه بالفسخ أكثرَ مما كان عليه ، فجازَ ذلك . ولما كان أفضلَ ، كان مستحباً ، وإنما أشكل هذا على مَن ظنَّ أنه فسخ حجاً إلى عُمرة ، وليس كذلك ، فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى عُمرة مفردة ، لم يجز بلا نزاع ، وإنما الفسخُ جائز لمن كان مِن نِيَّته أن يحج بعد العُمرة ، والمتمتع من حين يحرم بالعُمرة فهو داخل فى الحج ، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : (( دَخَلَتِ العُمْرَةُ فى الحجِّ إلى يَوْمِ القِيَامَة )) . ولهذا ، يجوز له أن يصومَ الأيامَ الثلاثةَ مِن حين يُحرِمُ بالعُمرة ، فدل على أنه فى تلك الحال فى الحج . وأما إحرامُه بالحج بعد ذلك ، فكما يبدأ الجُنبُ بالوضوء ، ثم يغتسِلُ بعده . وكذلك كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم يفعل ، إذا اغتسل من الجنابة . وقال لِلنسوة فى غسل ابنته : (( ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا ، ومَوَاضِع الوُضُوءِ مِنْهَا )) . فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل . فإن قيل : هذا باطل لثلاثة أوجه . أحدها : أنه إذا فسخ ، استفاد بالفسخ حِلاً كان ممنوعاً منه بإحرامه الأول ، فهو دون ما التزمه . الثانى : أن النُّسُكَ الَّذى كان قد التزمه أولاً ، أكملُ مِن النُّسُكِ الذى فسخ إليه ، ولهذا لا يحتاج الأول إلى جُبران ، والذى يُفسخ إليه ، يحتاج إلى هَدْى جُبراناً له ، ونُسُكٌ لا جُبران فيه ، أفضلُ من نُسُكٍ مجبور . الثالث : أنه إذا لَم يَجُزْ إدخالُ العُمرة على الحج ، فلأن لا يجوزَ إبدالها به وفسخه إليها بطريق الأَوْلى والأحرى . فالجواب عن هذه الوجوه ، من طريقين ، مجمل ومفصَّل . أما المجمل : فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على مجرد السُّـنَّة ، والجواب عنها بالتزام تقديم الوحى على الآراء ، وأن كل رأى يُخالف السُّـنَّة ، فهو باطل قطعاً ، وبيان بطلانه لمخالفة السُّـنَّة الصحيحة الصريحة له ، والآراء تبع للسُّـنَّة ، وليست السُّـنَّة تبعاً للآراء . وأما المفصَّل : وهو الذى نحن بصدده ، فإنَّا التزمنا أن الفسخَ على وفق القياس ، فلا بد من الوفاء بهذا الالتزام ، وعلى هذا فالوجه الأول جوابه : بأن التمتع وإن تَخلَّله التحلل فهو أفضل من الإفراد الذى لا حِلَّ فيه ، لأمر النبى صلى الله عليه وسلم مَن لا هَدْى معه بالإحرام به ، ولأمره أصحابه بفسخ الحجِّ إليه ، ولتمنِّيه أنه كان أحرم به ، ولأنه النُّسكُ المنصوصُ عليه ، فى كتاب اللَّه ، ولأن الأُمَّة أجمعت على جوازه ، بل على استحبابه ، واختلفُوا فى غيره على قولين ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم ، غَضِبَ حين أمرهم بالفسخ إليه بعدَ الإحرام بالحجِّ ، فتوقَّفوا ، ولأنه من المُحال قطعاً أن تكون حَجَّة قطُّ أفضلَ من حَجَّة خيرِ القرون ، وأفضل العالمين مع نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، وقد أمرهم كُلَّهم بأن يجعلوها متعة إلا مَنْ ساق الهَدْى ، فمن المحال أن يكون غيرُ هذا الحج أفضلَ منه ، إلا حَجَّ من قرن وساق الهَدْى ، كما اختاره اللَّهُ سبحانه لنبيِّه ، فهذا هو الذى اختاره اللَّه لنبيِّه ، واختار لأصحابه التمتعَ ، فأىُّ حجٍّ أفضلُ من هذين . ولأنه من المحال أن ينقُلَهم من النُّسُكِ الفاضِل إلى المفضول المرجوحِ ، ولوجوه أُخَر كثيرة ليس هذا موضِعَها ، فرجحان هذا النُّسُكِ أفضلُ من البقاء على الإحرام الذى يفوته بالفسخ ، وقد تبين بهذا بطلانُ الوجه الثانى . وأما قولُكم : إنه نُسُك مجبور بالهَدْى ، فكلام باطل من وجوه . أحدها : أن الهَدْىَ فى التمتع عبادة مقصودة ، وهو مِن تمام النُسُك ، وهو دم شُكران لا دم جُبران ، وهو بمنزلة الأُضحية للمقيم ، وهو من تمام عبادة هذا اليوم ، فالنُّسُكُ المشتمِل على الدم ، بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية ، فإنه ما تُقُرِّبَ إلى اللَّه فى ذلك اليوم ، بمثل إراقة دم سائل . وقد روى الترمذى وغيره ، من حديث أبى بكر الصِّدِّيق ، أن النبى صلى الله عليه وسلم سُئِل : أىُّ الحجِّ أَفْضَلُ ؟ فقال : (( العَجُّ والثَّجُّ )) . والعجُّ رفعُ الصوت بالتلبية ، والثَّجُّ : إراقةُ دم الهَدْى . فإن قيل : يُمكِنُ المفردُ أن يُحصِّلَ هذه الفضيلة . قيل : مشروعيتها إنما جاءت فى حق القارِن والمتمتِّع ، وعلى تقدير استحبابها فى حقه ، فأين ثوابُها من ثواب هَدْى المتمتع والقارن ؟ الوجه الثانى : أنه لو كان دمَ جُبران ، لما جاز الأكلُ منه ، وقد ثبت عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه أكلَ مِن هَدْيه ، فإنه أَمَرَ مِن كل بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ ، فَجُعِلَتْ فى قِدْرِ ، فأكلَ مِن لحمها ، وشَرِبَ مِن مَرَقِهَا، وإن كان الواجبُ عليه سُبْعَ بدنة ، فإنَّه أكَلَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةِ مِنَ المِائة ، والواجبُ فيها مُشاعٌ لم يتعيَّن بقسمة ، وأيضاً : فإنه قد ثبت فى (( الصحيحين )) : أنه أطعَم نِسَاءَه مِنَ الهَدْى الَّذِى ذَبحَهُ عَنْهُنَّ وَكُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ ، احتج به الإمام أحمد ، فثبت فى (( الصحيحين )) عن عائشة رضى اللَّه عنها ، أنَّه أهدى عَنْ نسائه ، ثم أرْسَلَ إليهنَّ مِن الهَدْى الذى ذَبَحَهُ عَنْهُنَّ ، وأيضاً : فإن سبحانه وتعالى قال فيما يُذبح بمِنَى مِنَ الهَدِى : {فَكُلُوا مِنْهَا وَأطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج: 28]، وهذا يتناولُ هَدْىَ التمتع والقِران قطعاً إن لم يختصَّ به ، فـإن المشروعَ هناك ذبحُ هَدْى المُتعة والقِران . ومن هاهنا واللَّهُ أعلمُ أمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم ، من كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ ، فُجعِلَتْ فى قِدر امتثالاً لأمر ربه بالأكل لِيَعُمَّ به جميع هَدْيه . الوجه الثالث: أن سبب الجُبران محظورٌ فى الأصل، فلا يجوز الإقدامُ عليه إلا لعذر، فإنه إما تركُ واجب، أو فعلُ محظور، والتمتُع مأمور به، إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره، أو أمر استحباب عند الأكثرين، فلو كان دَمُهُ دَمَ جُبران . لم يَجُزِ الإقدامُ على سببه بغير عذر، فبطل قولُهم: إنه دمجُبران، وعُلِم أنه دم نُسُك، وهذا وسَّعَ اللَّه به على عباده، وأباح لهم بسببه التحلل فى أثناء الإحرام لما فى استمرار الإحرام عليهم من المشقة، فهو بمنزلة القصر والفِطر فى السفر، وبمنزلة المسح على الخُفَّين، وكان من هَدْى النبى صلى الله عليه وسلم وهَدْى أصحابه فعلُ هذا وهذا، ((واللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ، كَما يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيتُهُ)) فمحبتُه لأخذ العبد بما يَسَّرَه عليه وسهَّله له، مثلُ كراهته منه لارتكاب ما حرَّمه عليه ومنعه منه، والهَدْىُ وإن كان بدلاً عن ترفُّهه بسقُوط أحد السفرين، فهو أفضلُ لمن قدم فى أشهر الحج من أن يأتىَ بحجٍّ مفرد ويعتمِر عقيبه، والبدل قد يكون واجباً كالجمعة عند مَن جعلها بدلاً، وكالتيمم للعاجز عن استعمال الماء، فإنه واجب عليه وهو بدل، فإذا كان البدلُ قد يكون واجباً، فكونه مستحَباً أولى بالجواز، وتخلل التحلُّلِ لا يمنع أن يكون الجميعُ عبادة واحدة كطواف الإفاضة، فإنه ركن بالاتفاق، ولا يُفعل إلا بعد التحلُّل الأول، وكذلك رمىُ الجمار أيام مِنَى، وهو يُفعل بعد الحِلِّ التام، وصومُ رمضان يتخلَّله الفطرُ فى لياليه، ولا يمنع ذلك أن يكون عبادةً واحدة، ولهذا قال مالك وغيره: إنه يجزئ بِنِيَّة واحدة للشهر كله، لأنه عبادة واحدة... واللَّه أعلم. فصل وأما قولُكم: إذا لم يجز إدخالُ العُمرة على الحجِّ، فلأن لا يجوزَ فسخُه إليها أولى وأحرى، فنسمع جَعَجَعَةً ولا نرى طِحناً. وما وجهُ التلازُم بين الأمرين، وما الدليلُ على هذه الدعوى التى ليس بأيديكم برهانٌ عليها؟ ثم القائلُ بهذا إن كان مِن أصحاب أبى حنيفة رحمه اللَّه، فهو غيرُ معترف بفساد هذا القياس. وإن كان من غيرهم، طولب بصحة قياسه فلا يجد إليه سبيلاً، ثم يُقال: مُدْخِلُ العُمرة قد نقص مما كان التزمه، فإنه كان يطوفُ طوافاً للحجِّ، ثم طوافاً آخر للعمرة. فإذا قرن، كفاه طوافٌ واحد وسعىٌ واحد بالسُّـنَّة الصحيحة، وهو قول الجمهور، وقد نقص مما كان يلتزمه. وأما الفاسخ، فإنه لم ينقُضْ مما التزمه، بل نقل نُسُكه إلى ما هو أكملُ منه، وأفضلُ، وأكثر واجبات، فبطل القياسُ على كل تقدير، وللّه الحمد. |
![]()
الــــــــalwaafiــــــــوافي
![]() |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
::: حق الله على العباد ::: لشيخنا الدكتور محمد سعيد رسلان حفظه الله تعالى | Aboabdalah | الصوتيات والمرئيات الإسلامية وأناشيد الأطفال | 2 | 09-16-2009 02:15 AM |