الإهداءات | |
|
التسجيل | التعليمـــات | التقويم | مشاركات اليوم | البحث |
رياض الصالحين على مذهب أهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
12-19-2003, 03:41 PM | #406 |
|
قالوا: ولو كان رضاعُ الكبير محرِّماً لما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد تغيَّر وجهُه، وكَرِه دخولَ أخيها من الرضاعة عليها لما رآهُ كبيراً: ((انظُرنَ مَنْ إخوانكن)) فلو حرَّم رَضَاع الكبير، لم يكن فرق بينه وبين الصغير، ولما كره ذلك وقال: ((انظرن مَن إخوانُكن)) ثم قال: ((فإنَّما الرضَاعَةُ مِنَ المجَاعَة)) وتحتَ هذا من المعنى خشيةَ أن يكونَ قد ارتضع فى غير زمن الرضاع وهو زمن المجاعة، فلا ينشر الحرمة، فلا يكون أخاً. قالوا: وأما حديثُ سهلة فى رضاع سالم، فهذا كان فى أوَّل الهجرة لأن قصته كانت عقيبَ نزول قوله تعالى: {ادْعُوهُم لآبائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وهى نزلت فى أول الهجرة.
وأما أحاديث اشتراط الصغر، وأن يكون فى الثدى قبل الفطام، فهى من رواية ابن عباس، وأبى هريرة، وابنُ عباس إنما قدم المدينة قبل الفتح، وأبو هريرة إنما أسلم عامَ فتح خيبر بلا شك، كِلاهُما قدم المدينة بعد قصة سالم فى رضاعه من امرأة أبى حذيفة. قال المثبتون للتحريم برضاع الشيوخ: قد صحَّ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم صحة لا يمترى فيها أحد أنه أمر سهلة بنتَ سُهيل أن تُرْضِع سالماً مولى أبى حذيفة، وكان كبيراً ذا لحية، وقال: ((أَرْضعِيهِ تَحْرُمى))، ثم ساقوا الحديث، وطرقَهَ وألفاظَه وهى صحيحةٌ صريحة بلا شك. ثم قالوا: فهذه الأخبارُ ترفع الإشكال، وتُبين مراد اللَّه عز وجل فى الآيات المذكوراتِ أن الرضاعة التى تَتِمُّ بتمام الحولين، أو بتراضى الأبوين قبل الحولين إذا رأيا فى ذلك صلاحاً للرضيع، إنما هى الموجبة للنفقة على المرأة المرضعة، والتى يُجبر عليها الأبوان أحبا أم كرها. ولقد كان فى الآية كفاية من هذا لأنه تعالى قال: {والوَالِدَاتُ يُرضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وعلى الموْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمعرُوفِ} [البقرة: 233]، فأمر اللَّه تعالى الوالدات بإرضاعِ المولود عامين، وليس فى هذا تحريمٌ للرضاعة بعد ذلك ولا أن التحريم ينقطِعُ بتمام الحولين، وكان قولُه تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِى أَرْضَعْنكُم وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]؟، ولم يقل فى حولين، ولا فى وقت دونَ وقت زائداً على الآيات الأخر، وعمومها لا يجوزُ تخصيصُه إلا بنص يبُين أنه تخصيص له، لا بظن، ولا محتمل لا بيانَ فيه، وكانت هذِهِ الآثارُ يعنى التى فيها التحريمُ برضاع الكبير قد جاءت مجىء التواتُرِ، رواها نساء النبى صلى الله عليه وسلم، وسهلةُ بنت سهيل، وهي من المهاجرات، وزينبُ بنت أم سلمة وهى ربيبةُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، ورواها من التابعين: القاسمُ بن محمد، وعروةُ بن الزبير، وحُميد بن نافع، ورواها عن هؤلاء: الزهرى، وابنُ أبى مليكة، وعبدُ الرحمن بن القاسم، ويحيى بن سعيد الأنصارى وربيعة، ثم رواها عن هؤلاء: أيوب السَّخْتيانى، وسفيانُ الثورى، وسفيانُ بن عيينة، وشعبةُ، ومالك، وابنُ جريج، وشعيب، ويونس، وجعفر بن ربيعة، ومعمر، وسليمان بن بلال، وغيرهم، ثم رواها عن هؤلاء الجمُّ الغفيرُ، والعددُ الكثير، فهى نقلُ كافة لا يختلفُ مُؤالف ولا مخالف فى صحتها، فلم يبق مِن الاعتراض إلا قول القائل: كان ذلك خاصاً بسالم، كما قال بعضُ أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومَنْ تبعهن فى ذلك، فليعلمْ من تعلَّق بهذا أنه ظنٌ ممن ظن ذلك منهن رضى اللَّه عنهن. هكذا فى الحديث أنهن قُلن: ما نرى هذا إلا خاصاً بسالم، وما ندرى لعلها كانت رخصة لسالم. فإذا هو ظن بلا شك فإن الظن لا يُعارض به السنن الثابتة، قال اللَّه تعالى: {إنَّ الظَّنَّ لا يُغنى مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36] وشتانَ بين اجتجاجِ أمِّ سلمة رضى اللَّه عنها بظنها، وبين احتجاج عائشة رضى اللَّه عنها بالسنة الثابتة، ولهذا لما قالت لها عائشة: أمالكِ في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، سكتت أم سلمة، ولم تنطق بحرف، وهذا إما رجوعُ إلى مذهب عائشة، وإما انقطاع فى يدها. قالُوا: وقولُ سهلة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيف أرضِعهُ وهو رجل كبير؟ بيان جلى أنه بعد نزول الآيات المذكورات. قالُوا: ونعلم يقيناً أنه لو كان ذلك خاصاً بسالم، لقطع النبىُّ صلى الله عليه وسلم الإلحاق، نص على أنه ليس لأحد بعده، كما بيَّن لأبى بُردة بن نيار، أن جذعته تُجزىْء عنه، ولا تجزىْء عن أحد بعده.. وأين يقعُ ذبح جَذعةٍ أضحية من هذا الحكم العظيم المتعلق به حلُّ الفرج وتحريمه، وثبوت المحرمية، والخلة بالمرأة والسفر بها؟ فمعلوم قطعاً، أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان خاصاً. قالوا: وقول النبى صلى الله عليه وسلم ((إنَّما الرّضاعةُ من المَجَاعَةِ)) حجة لنا، لأن شُرب الكبير للبن يُؤثر فى دفع مجاعته قطعاً، كما يُؤثر فى الصغير أو قريباً منه. فإن قلتم: فما فائدة ذكره إذا كان الكبيرُ والصغيرُ فيه سواء؟ قلنا: فائدتُه إبطال تعلق التحريم بالقطرة من اللبن، أو المصَّة الواحدة التى لا تُغنى من جوع، ولا تُنبت لحماً، ولا تُنشز عظماً. قالوا: وقولُه صلى الله عليه وسلم: ((لا رضاع إلا ما كان فى الحولين، وكان فى الثدى قبلَ الفطام)) ليس بأبلغَ مِن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ربا إلاّ فى النسيئة))، ((وإنما الربا فى النسيئة))، ولم يمنع ذلك ثبوتُ ربا الفضل بالأدلة الدالة عليه، فكذا هذا. فأحاديثُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسنُنه الثابتة كُلُّهَا حق يجب اتباعُها لا يضرب بعضها ببعض، بل تستعمل كلاً منها على وجهه. قالوا: ومما يدلُّ على ذلك أن عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها، وأفقه نساء الأمة هى التى روت هذا وهذا، فهى التى روت: ((إنَّماالرَضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ)) وروت حديث سهلة، وأخذت به فلو كان عندها حديث ((إنما الرضاعة من المجاعة)) مخالفاً لحديث سهلة، لما ذهبت إليه وتركت حديثاً واجهها به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتغيَّرَ وجهه، وكره الرجل الذى رآه عندها، وقالت: هو أخى. قالوا: وقد صحَّ عنها أنها كانت تُدْخلُ عليها الكبير إذا أرضعته فى حال كبره أختٌ مِن أخواتها الرضاع المُحَرم، ونحن نشهدُ بشهادة اللَّه، ونقطع قطعاً نلقاه به يوم القيامة، أن أمّ المؤمنين لم تكن لِتبيحَ سِترَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحيث ينتهِكُه من لا يَحِلُّ له انتهاكُه، ولم يكن اللَّه عز وجل ليبيح ذلك على يدِ الصِّديقة المبرأةِ من فوق سبع سَمَاوات، وقد عصم اللَّه سبحانه ذلك الجنابَ الكريم، والحمى المنيع، والشرفَ الرفيع أتمَّ عِصمة، وصانه أعظمَ صيانة، وتولَّى صيانته وحمايتَه، والذبَّ عنه بنفسه ووحيه وكلامه، قالوا: فنحن نُوقِنُ ونقطعُ، ونَبُتُّ الشهادة للَّه، بأن فعلَ عائشة رضى اللَّه عنها هو الحقُّ، وأن رضاعَ الكبير يقع به من التحريم والمحرميةِ ما يقع برضاع الصغير، ويكفينا أمُّنا أفقه نساء الأمة على الإطلاق، وقد كانت تُناظر فى ذلك نساءه صلى الله عليه وسلم، ولا يُجِبْنَها بغيرِ قولهن: ما أحدٌ داخلٌ علينا بتلك الرضاعة، ويكفينا فى ذلك أنه مذهبُ ابن عم نبينا، وأعلم أهل الأرض على الإطلاق حين كان خليفة، ومذهبُ الليث بن سعد الذى شهد له الشافعى بأنه كان أفقه من مالك، إلا أنه ضيَّعهُ أصحابُه، ومذهبُ عطاء بن أبى رباح ذكره عبدُ الرزاق عن ابن جريج عنه. وذكر مالك عن الزهرى، أنه سُئلَ عن رضاع الكبير، فاحتج بحديثِ سهلة بنت سهيل فى قصة سالم مولى أبى حذيفة، وقال عبد الرزاق: وأخبرنى ابن جريج، قال: أخبرنى عبد الكريم، أن سالم ابن أبى جعد المولى الأشجعى أخبره أن أباه أخبره، أنه سأل على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه فقال: أردت أن أتزوَّج امرأة قد سقتنى من لبنها وأنا كبير تداويتُ به، فقال له على: لا تَنْكِحْهَا، ونهاه عنها. فهؤلاء سلفنا فى هذه المسألة، وتلك نصوصنا كالشمسِ صحة وصراحة. قالوا: وأصرحُ أحاديثكم حديثُ أم سلمة ترفعه: ((لا يُحَرِّمُ مِن الرّضَاعِ إلا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فى الثَّدْى وكَانَ قَبْلَ الفِطَام)) فما أصرحه لو كان سليماً من العلة، لكن هذا حديثٌ منقطع، لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئاً، لأنها كانت أسنَّ مِن زوجها هشام باثنى عشر عاماً، فكان مولده فى سنة ستين، ومولد فاطمة فى سنة ثمان وأربعين، وماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين، وفاطمة صغيرة لم تبلغها، فكيف تحفظُ عنها، ولم تسمعْ مِن خالة أبيها شيئاً وهى فى حَجْرها، كما حصل سماعُها من جدتها أسماء بنت أبى بكر؟ قالوا: وإذا نظر العالمُ المنصف فى هذا القول، ووازن بينه وبينَ قول من يحدد مدةَ الرضاع المُحرِّمِ بخمسة وعشرين شهراً، أو ستة وعشرين شهراً أو سبعة وعشرين شهراً، أو ثلاثين شهراً من تلك الأقوال التى لا دليل عليها مِن كتاب اللَّه، أو سُنة رسوله، ولا قوِلِ أحد من الصحابة، تبيَّن له فضلُ ما بين القولين، فهذا منتهى أقدام الطائفتين فى هذه المسألة، ولعل الواقف عليها لم يكن يخطر له أن هذا القول تنتهى قوتُه إلى هذا الحد، وأنه ليس بأيدى أصحابه قدرةٌ على تقديره وتصحيحه، فاجلس أيها العالمُ المنصف مجلِسَ الحَكَم بين هذين المتنازعين، وافصل بينهما بالحجةِ والبيان لا بالتقليد، وقال فلان. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:42 PM | #407 |
|
واختلف القائلون بالحولين فى حديث سهلة هذا على ثلاثة مسالك، أحدها: أنه منسوخ، وهذا مسلكُ كثير منهم، ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى، فإنهم لا يُمكنهم إثباتُ التاريخ المعلوم التأخر بينه وبينَ تلك الأحاديث. ولو قلَبَ أصحابُ هذا القول عليهم الدعوى، وادعوا نسخَ تلك الأحاديث بحديث سهلة، لكانت نظيرَ دعواهم.
وأما قولهم: إنها كانت فى أوَّلِ الهجرة، وحين نزول قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لآبائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، ورواية ابن عباس رضى اللَّه عنه، وأبى هريرة بعد ذلك، فجوابه من وجوه.أحدها: أنهما لم يصرحا بسماعه مِن النبى صلى الله عليه وسلم، بل لم يسمع منه ابنُ عباس إلا دونَ العشرين حديثاً، وسائرُها عن الصحابة رضى اللَّه عنهم. الثانى: أن نساء النبىِّ صلى الله عليه وسلم لم تحتج واحدةٌ منهن، بل ولا غيرُهن على عائشة رضى اللَّه عنها بذلك، بل سلكن فى الحديث بتخصيصه بسالم، وعدم إلحاق غيره به. الثالث: أن عائشةَ رضى اللَّه عنها نفسَها روت هذا وهذا، فلو كان حديثُ سهلة منسوخاً، لكانت عائشةُ رضى اللَّه عنها قد أخذت به، وتركتِ الناسخَ، أو خفى عليها تقدُّمه مع كونها هى الراوية له، وكلاهما ممتنع، وفى غاية البعد. الرابع: أن عائشةَ رضى اللَّه عنها ابتُليت بالمسألة، وكانت تعمَلُ بها، وتُناظر عليها، وتدعو إليها صواحباتِها فلها بها مزيدُ اعتناء، فكيف يكون هذا حُكماً منسوخاً قد بطل كونهُ من الدين جملة، ويخفى عليها ذلك، ويخفى على نساءِ النبى صلى الله عليه وسلم فلا تذكُرُه لها واحدةٌ منهن. المسلك الثانى: أنه مخصوص بسالم دون من عداه، وهذا مسلك أمِّ سلمة ومَنْ معها من نساء النبى صلى الله عليه وسلم ومَنْ تبعهن، وهذا المسلكُ أقوى مما قبله، فإن أصحابه قالوا مما يُبين اختصاصَه بسالم أن فيه: أن سهلة سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب، وهى تقتضى أنه لا يَحِلُّ للمرأة أن تُبدى زينتها إلا لمن ذكر فى الآية وسُمِّىَ فيها، ولا يُخص من عموم من عداهم أحد إلا بدليل. قالُوا: والمرأة إذا أرضعت أجنبياً، فقد أبدت زينتها له، فلا يجوزُ ذلك تمسكاً بعموم الآية، فعلمنا أن إبداء سهلة زينتها لسالم خاصٌّ به. قالوا: وإذا أمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم واحداً مِن الأمة بأمر، أو أباح له شيئاً أو نهاه عن شىء وليس فى الشريعة ما يُعارضه ثبت ذلك فى حق غيره من الأمة ما لم ينصَّ على تخصيصه، وأما إذا أمر الناس بأمرٍ، أو نهاهم عن شىء، ثم أمر واحداً من الأمة بخلاف ما أمرَ به الناس، أو أطلقَ له ما نهاهم عنه، فإن ذلك يكون خاصاً به وحدَه، ولا يقولُ فى هذا الموضع: إن أمره للواحد أمرٌ للجميع، وإباحته. للواحد إباحةٌ للجميع، لأن ذلك يُؤدى إلى إسقاط الأمر الأول، والنهى الأول، بل نقول: إنه خاص بذلك الواحد لتتفق النصوصُ وتأتلفَ ولا يُعارض بعضها بعضاً، فحرم اللَّه فى كتابه أن تبدىَ المرأةُ زينتها لغير مَحْرَمٍ، وأباح رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لسهلة أن تُبدى زينتها لسالم وهو غيرُ مَحْرَمٍ عند إِبداء الزينة قطعاً، فيكون ذلك رخصةً خاصة بسالم، مستثناة من عموم التحريم، ولا نقول: إن حكمها عام، فيبطل حكم الآية المحرمة. قالوا: ويتعيَّن هذا المسلك لأنا لو لم نسلكه، لزمنا أحدُ مسلكين، ولا بد منهما إما نسخ هذا الحديث بالأحاديثِ الدالة على إعتبار الصِّغر فى التحريم، وإما نسخُها به، ولا سبيلَ إلى واحد من الأمرين لعدم العلم بالتاريخ، ولعدم تحقق المعارضة، ولإمكان العمل بالأحاديث كُلِّها، فإنا إذا حملنا حديثَ سهلة على الرخصة الخاصة، والأحاديث الأخرَ على عمومها فيما عدا سالماً، لم تتعارض، ولم ينسخ بعضُها بعضاً، وعُمِلَ بجميعها. قالوا: وإذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم قد بَّين أن الرضاع إنما يكون فى الحولين، وأنه إنما يكون فى الثدى، وإنما يكون قبل الفِطام، كان ذلك ما يَدُلُّ على أن حديث سهلة على الخصوص، سواء تقدم أو تأخر، فلا ينحصِرُ بيانُ الخصوص فى قوله هذا لك وحدك حتى يتعيَّن طريقاً. قالوا: وأما تفسيرُ حديث ((إنَّما الرَّضَاعَةُ مِنَ المجَاعَةِ)) بما ذكرتموه، ففى غاية البُعد من اللفظ، ولا تتبادر إليه أفهامُ المخاطبين، بل القولُ فى معناه ما قاله أبو عُبيد والناس، قال أبو عبيد: قوله: ((إنما الرَّضاعةُ مِنَ المجاعة)) يقول: إن الذى إذا جاع كان طعامُه الذى يُشبعه اللبن، إنما هو الصبىُّ الرضيعُ. فأما الذى شبعُه من جوعه الطعامُ، فإن رضاعه ليس برضاع، ومعنى الحديث: إنَّما الرضاعُ فى الحولين قبل الفطام، هذا تفسير أبى عُبيد والناس، وهو الذى يتبادر فهمُه مِن الحديث إلى الأذهان، حتى لو احتمل الحديثُ التفسيرين على السواء، لكان هذا المعنى أولى به لمساعدة سائر الأحاديثِ لهذا المعنى، وكشفها له، وإيضاحها، ومما يبين أن غيرَ هذا التفسير خطأ، وأنه لا يَصحّ أن يُراد به رضاعة الكبير، أن لفظة ((المجاعة)) إنما تدل على رضاعة الصغير، فهى تُثبتُ رضاعة المجاعة، وتَنفى غيرها، ومعلوم يقيناً أنه إنما أراد مجاعةَ اللبن لا مجاعةَ الخبز واللحم، فهذا لا يخطُر ببالِ المتكلم ولا السامع، فلو جعلنا حكم الرضاعة عاماً لم يبق لنا ما ينفى ويُثبت. وسياق قوله: لما رأى الرجل الكبير، فقال: ((إنما الرضاعةُ مِن المجاعة)) يبينُ المرادِ، وأنه إنما يُحرِّم رضاعة من يجوعُ إلى لبن المرأة، والسياق يُنزِّلُ اللفظ منزلة الصريح، فتغيرُ وجهه الكريم صلوات اللَّهِ وسلامه عليه وكراهتُه لذلك الرجل، وقوله: ((انظرن مَنْ إخوانُكن)) إنما هو للتَحفظ فى الرضاعة، وأنها لا تُحرَّمُ كلَّ وقت، وإنما تُحَرِّمُ وقتاً دون وقت، ولا يفهم أحدٌ من هذا أنما الرضاعة ما كان عددُها خمساً فيعبر عن هذا المعنى بقوله: ((من المجاعة))، وهذا ضدُّ البيان الذى كان عليه صلى الله عليه وسلم. وقولكم: إن الرضاعة تطرُدُ الجوع عن الكبير، كما تطرد الجوعَ عن الصغير كلام باطل، فإنه لا يُعهد ذو لحية يُشبِعُهُ رضاعُ المرأة ويَطْردُ عنه الجوع، بخلاف الصغير فإنه ليس له ما يقومُ مقامَ اللبن، فهو يَطْرُدُ عنه الجوع، فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلاً، والذى يُوضِّحُ هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ حقيقة المجاعة، وإنما أراد مَظنتها وزمنها، ولا شك أنه الصِّغَرُ، فإن أبيتم إلا الظاهرية، وأنه أراد حقيقتها، لزمكم أن لا يُحرِّمَ رضاعُ الكبير إلا إذا ارتضع وهو جائعٌ، فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئاً. وأما حديث الستر المصون، والحُرمة العظيمة، والحِمى المنيع، فرضىَ اللَّه عن أم المؤمنين، فإنها وإن رأت أن هذا الرضاع يُثبت المحرمية، فسائرُ أزواج النبىِّ صلى الله عليه وسلم يخالفنها فى ذلك، ولا يرينَ دخولَ هذا السِّتر المصون، والحِمى الرفيع بهذه الرضاعة، فهى مسألة اجتهاد، وأحدُ الحزبين مأجور أجراً واحداً، والآخر مأجورٌ أجرين، وأسعدُهما بالأجرين من أصاب حكم اللَّهِ ورسوله فى هذه الواقعة، فكل من المدخل للستر المصونِ بهذهِ الرضاعة، والمانع مِن الدخول فائز بالأجر، مجتهد فى مرضاة اللَّه وطاعة رسوله، وتنفيذ حكمه، ولهما أسوة بالنبيين الكريمين داودَ وسُلَيْمانِ اللذين أثنى اللَّه عليهما بالحِكمة والحُكم، وخصَّ بفهم الحُكومة أحدَهُما. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:43 PM | #408 |
|
فصل
وأما ردُّكم لحديث أم سلمة، فتعسُّفٌ بارد، فلا يلزم انقطاعُ الحديثِ مِن أجل أن فاطمة بنت المنذر لقيت أمَّ سلمة صغيرة، فقد يعقِلُ الصغيرُ جداً أشياء، ويحفظُها، وقد عَقَل محمودُ بنُ الربيع المَجَّةَ وهو ابنُ سَبْعِ سِنين، ويَعْقِلُ أصغر منه. وقد قلتم: إن فاطمة كانت وقتَ وفاة أم سلمة بنت إحدى عشرة سنة، وهذا سِن جيد، لا سيما للمرأة، فإنها تَصلح فيه للزوج، فمن هى فى حد الزواج، كيف يقال: إنها لا تعقِلُ ما تسمع، ولا تدرِى ما تُحدِّثُ به؟ هذا هو الباطلُ الذى لا تُرد به السننُ، مع أن أم سلمة كانت مصادقةً لجدتها أسماء، وكانت دارهما واحدة، ونشأت فاطمة هذه فى حَجر جدتها أسماء مع خالة أبيها عائشة رضى اللَّه عنها وأم سلمة، وماتت عائشةُ رضى اللَّه عنها سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، وقد يُمكن سماعُ فاطمة منها، وأما جدتها أسماء، فماتت سنة ثلاث وسبعين، وفاطمة إذ ذاك بنت خمس وعشرين سنة، فلذلك كثر سماعُها منها، وقد أفتت أمُّ سلمة بمثل الحديث الذى روته أسماء. فقال أبو عُبيد: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أم سلمة، أنها سُئلت ما يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ فى الثَّدْى قَبْلَ الفِطَامِ. فروت الحديث، وأفتت بموجبه.وأفتى به عمرُ بنُ الخطاب رضى اللَّه عنه، كما رواهُ الدارقطنى من حديث سفيان عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر قال: سمعت عمرَ يقول: ((لارضاع إلا فى الحَوْلَيْنِ فى الصِّغَرِ)). وأفتى به ابنُه عبد اللَّهِ رضى اللَّه عنه، فقال مالك رحمه اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما: أنه كان يقول: لا رَضَاعَة إلا لمن أَرْضَعَ فى الصِّغَرِ، ولا رَضَاعَةَ لِكَبِيرٍ. وأفتى به ابن عباس رضى اللَّه عنهما، فقال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان الثورى، عن عاصم الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، قال: لا رَضَاعَ بَعْدَ فِطَام. وتناظر فى هذه المسألة عبدُ اللَّه بن مسعود، وأبو موسى، فأفتى ابنُ مسعود بأنه لا يُحَرِّمُ إلا فى الصغر، فرجع إليه أبو موسى، فذكر الدارقطنى، أن ابن مسعود قال لأبى موسى: أنت تُفتى بكذا وكذا، وقد قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((لا رَضَاع إلا ما شَدَّ العَظْمَ وأنبتَ اللَّحْمَ)). وقد روى أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنبارى، حدثنا وكيع، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن أبى موسى الهلالى، عن أبيه، عن ابن مسعود رضى اللَّه عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إلاَّ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وأَنْشَزَ العَظْم)). ثم أفتى بذلك كما ذكره عبد الرزاق عن الثورى، حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن أبى حُصين، عن أبى عطية الوادعى، قال: جاء رَجُلٌ إلى أبى موسى، فقال: إن امرأتى وَرِمَ ثديُها فَمَصِصْتُهُ، فدخل حلقى شىء سبقنى، فشدَّد عليه أبو موسى، فأتى عبدَ اللَّه بن مسعود، فقال: سألتَ أحداً غيرى؟ قال: نعم أبا موسى، فشدَّدَ على، فأتى أبا موسى، فقال: أرضيعٌ هذا؟ فقال أبو موسى: لا تسألونى ما دامَ هذا الحبرُ بينَ أظهركم. فهذه روايتُه وفتواه. وأما على بن أبى طالب، فذكر عبد الرزاق، عن الثورى، عن جُويبر، عن الضحاك، عن النزَّال بن سبرة، عن على: لارَضاع بَعْدَ الفِصَال. وهذا خلاف رواية عبد الكريم، عن سالم بن أبى الجعد، عن أبيه، عنه. لكن جُويبر لا يُحتج بحديثه، وعبد الكريم أقوى منه. فصل المسلك الثالث: أن حديثَ سهلة ليس بمنسوخ، ولا مخصوصٍ، ولا عامٍ فى حقِّ كُلِّ أحد، وإنما هو رخصةٌ للحاجة لمن لا يَستغنى عن دخوله على المرأة، ويَشقُّ احتجابُها عنه، كحال سالم مع امرأة أبى حُذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجَةِ أَثَّر رضاعُه، وأما مَنْ عداه، فلا يُؤثِّر إلا رضاعُ الصغير، وهذا مسلكُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى، والأحاديثُ النافية للرضاع فى الكبير إما مطلقة، فتقيَّد بحديث سهلة، أو عامة فى الأحوال فتخصيصُ هذه الحال من عمومها، وهذا أولى من النسخ ودعوى التخصيص بشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديثِ من الجانبين، وقواعدُ الشرع تشهد لهُ، واللَّه الموفق. ذكر حكمه صلى الله عليه وسلم فى العدد هذا البابُ قد تولى الله سبحانه بيانَه فى كتابه أتمَّ بيانٍ، وأوضحَه، وأجمَعه بحيث لا تَشِذُّ عنه معتدة، فذكر أربعة أنواعٍ من العِدَدِ، وهى جملة أنواعها. النوع الأول: عِدَّةُ الحامل بوضع الحمل مطلقاً بائنةً كانت أو رجعيةً، مفارقة فى الحياة، أو متوفَّى عنها،فقال:{وَأُولاتُ الأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، وهذا فيه عمومٌ مِن ثلاث جهات. أحدُها: عمومُ المخَبرِ عنه، وهو أولاتُ الأحمال، فإنه يتناولُ جميعَهُن. الثانى: عمومُ الأجَلِ، فإنه أضافه إليهن، وإضافةُ اسمِ الجمع إلى المعرفة يَعُمُّ، فجعل وضعَ الحمل جميعَ أجلهن، فلو كان لِبعضهن أجل غيره لم يكن جميعَ أجلهن. الثالث: أن المبتدأ والخبر معرفتان، أما المبتدأ: فظاهر، وأما الخبر وهو قوله تعالى: { أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، ففى تأويل مصدر مضاف، أى أجلهن وضع حملهن، والمبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين، اقتضى ذلك حصرَ الثانى فى الأول، كقوله:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ إلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِىُّ الحَمِيدُ} [فاطر: 15]، وبهذا احتج جمهورُ الصحابة على أن الحامِلَ المتوفى عنها زوجُها عِدتُها وضعُ حملها، ولو وضعته والزوجُ على المغتسل كما أفتى به النبىُّ صلى الله عليه وسلم لِسْبَيْعَةَ الأسلمية، وكان هذا الحكمُ والفتوى منه مشتقاً من كتاب اللَّه، مطابقاً له. فصل النوع الثانى: عدة المطلقة التى تحيضُ، وهى ثلاثةُ قُروُء، كما قال اللَّه تعالى: {والمطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. النوع الثالث: عدة التى لا حيضَ لها، وهى نوعان: صغيرة لا تحيض، وكَبِيرة قد يئست من الحيض. فبيَّن اللَّهُ سبحانَه عِدَّة النوعين بقوله: {واللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ المحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إن ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهر وَاللاَّئِى لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، أى: فعدتهن كذلك. النوع الرابع: المتوفّى عنها زوجها فبين عدتها سبحانه بقوله: {وَالَّذِين يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، فهذا يتناول المدخولَ بها وغيرَها، والصغيرةَ والكبيرة، ولا تدخل فيه الحامل، لأنها خرجت بقوله: {وَأُولاتُ الأحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فجعل وضع حملهن جميع أجلهن، وحصره فيه، بخلاف قوله فى المتوفى عنهن: {يَتَربَّصْنَ} [البقرة: 228]، فإِنَّهُ فِعْلٌ مطلقٌ لا عمومَ له، وأيضاً فإن قوله: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلهُنَّ} [الطلاق: 4]، متأخر فى النزول عن قوله: {يَتَربَّصْنَ} [البقرة: 228]، وأيضاً فإن قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 228]، فى غير الحامل بالاتفاق، فإنها لو تمادى حملها فوق ذلك تربصته، فعمومُها مخصوص اتفاقاً، وقوله: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] غيرُ مخصوص بالاتفاق، هذا لو لم تأت السنةُ الصحيحةُ بذلك، ووقعت الحوالةُ على القرآن، فكيف والسنة الصحيحة موافقة لذلك، مقررة له. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:44 PM | #409 |
|
فهذه أصول العدد فى كتاب اللَّه مفصَّلةً مبينة، ولكن اختلف فى فهم المراد من القرآن ودلالته فى مواضع من ذلك، وقد دلَّت السنةُ بحمد اللَّه على مرادِ اللَّه منها ونحن نذكرها ونذكر أوْلَى المعانى وأشبهها بها، ودلالة السنة عليها.
فمن ذلك اختلافُ السلف فى المتوفَّى عنها إذا كانت حاملاً، فقال على، وابن عباس، وجماعة من الصحابة: أبعدُ الأجلين من وضع الحمل، أو أربعة أشهر وعشراً، وهذا أحد القولين فى مذهب مالك رحمه اللَّه اختاره سحنُون. قال الإمام أحمد فى رواية أبى طالب عنه: على بن أبى طالب وابن عباس يقولان فى المعتدة الحامل: أبعد الأجلين، وكان ابن مسعود يقول: من شاء باهَلْتُهَ، إنَّ سورة النساء القُصرى نزلت بعدُ، وحديث سبيعة يقضى بينهم ((إذا وَضَعَتْ، فَقَدْ حَلَّتْ)). وابنُ مسعود يتأول القرآن: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، هى فى المتوفَّى عنها، والمطلقة مثلها إذا وضعت، فقد حلَّت، وانقضت عِدتها، ولا تنقضى عدة الحامِلِ إذا أسقطت حتى يتبين خلقُه، فإذا بان له يد أو رجل، عتقت به الأمة، وتنقضى به العدة، وإذا ولدت ولداً وفى بطنها آخر، لم تنقضِ العدةُ حتى تَلِدَ الآخر، ولا تغيبُ عن منزلها الذى أُصيب فيه زوجها أربعة أشهر وعشراً إذا لم تكن حاملاً، والعِدة مِن يومِ يموت أو يطلق، هذا كلام أحمد. وقد تناظر فى هذه المسألة: ابنُ عباس، وأبو هريرة رضى اللَّه عنهما، فقال أبو هريرة: عِدتُها وضع الحمل، وقال ابنُ عباس: تعتدُّ أقصى الأجلين، فحكَّما أمَّ سلمة رضى اللَّه عنها، فحكمت لأبى هريرة، واحتجت بحديث سُبَيْعَة. وقد قيل: إن ابن عباس رجع. وقال جمهورُ الصحابة ومَن بعدهم، والأئمةُ الأربعة: إن عدتها وضعُ الحمل، ولو كان الزوجُ على مغتسَلِه فوضعت، حلَّت. قال أصحاب الأجلين: هذه قد تناولها عمومان، وقد أمكن دخولُها فى كليهما، فلا تخرجُ مِن عدتها بيقين حتى تأتى بأقصى الأجلين، قالوا: ولا يُمكِنُ تخصيصُ عموم إحداهما بخصوص الأخرى، لأن كلَّ آية عامةٌ من وجه، خاصةٌ من وجه، قالوا: فإذا أمكن دخولُ بعض الصور فى عموم الآيتين، يعنى إعمالاً للعموم فى مقتضاه.فإذا اعتدت أقصى الأجلين دخل أدناهما فى أقصاهما. والجمهورُ أجابوا عن هذا بثلاثة أجوبة. أحدها: أن صريحَ السنة يدل على اعتبار الحمل فقط، كما فى ((الصحيحين)): أن سُبيعة الأسلميةَ توفِّى عنها زوجُها وهى حبلى، فوضعت، فأرادت أن تنكِحَ، فقال لها أبو السنابل: ما أنتِ بناكحة حتى تعتدى آخرَ الأجلين، فسألَت النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((كَذَبَ أَبو السَّنابِلِ، قَد حَلَلْتِ فَانْكِحِى مَنْ شِئْتِ)). الثانى أن قوله: {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، نزلت بعدَ قوله: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ، بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، وهذا جواب عبد اللَّه بن مسعود، كما فى صحيح البخارى عنه: أتجعلُون عليها التغليظَ، ولا تجعلون لها الرخصة، أشهد لنزلت سورةُ النساء القُصرى بعد الطولى: {وَأولاتُ الأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. وهذا الجوابُ يحتاج إلى تقرير، فإن ظاهِرَه أن آيةَ الطلاق مقدَّمة على آيةِ البقرة لتأخرِها عنها، فكانت ناسخةً لها، ولكن النسخ عند الصحابة والسلف أعمُّ مِنه عند المتأخرين، فإنهم يُريدون به ثلاثة معان. أحدُها: رفعُ الحكم الثابت بخطاب. الثانى: رفعُ دلالة الظاهر إما بتخصيص، وإما بتقييد، وهو أعمُّ مما قبله. الثالث: بيانُ المراد باللفظ الذى بيانه مِن خارج، وهذا أعمُّ مِن المعنيين الأولين، فابن مسعود رضى اللَّه عنه أشار بتأخر نزولِ سورةِ الطلاق، إلى أن آية الاعتداد بوضع الحملِ ناسخة لآية البقرة إن كان عمومُها مراداً، أو مخصَّصة لها إن لم يكن عمومُها مراداً مبيِّنة للمراد منها، أو مقيِّدة لإطلاقها، وعلى التقديرات الثلاث، فيتعينُ تقديمُها على عموم تلك وإطلاقها، وهذا مِن كمال فقهه رضى اللَّه عنه، ورسوخِه فى العلم، ومما يُبين أن أصولَ الفقه سجيةٌ للقوم، وطبيعةٌ لا يتكلفونها، كما أن العربيةَ والمعانى والبيان وتوابعَها لهم كذلك، فَمَنْ بعدهم فإنما يُجهد نفسه ليتعلق بغُبارهم وأنى له؟ الثالث:أنه لو لم تأت السنةُ الصريحةُ بإعتبار الحمل، ولم تكن آيةُ الطلاق متأخرة، لكان تقديمُها هو الواجب لما قررناه أولاً من جهات العموم الثلاثة فيها، وإطلاق قوله: {يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234]، وقد كانت الحوالةُ على هذا الفهم ممكنة، ولكن لِغموضه ودِقته على كثيرٍ من الناس، أُحيل فى ذلك الحكم على بيان السنة، وباللَّه التوفيق. فصل ودل قولُه سبحانه: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، على أنها إذا كانت حاملاً بتوأمين لم تنقض العِدةُ حتى تضعهما جيمعاً، ودلَّت على أن من عليها الاستبراء، فعِدتها وضعُ الحمل أيضاً، ودلت على أن العِدة تنقضى بوضعهِ على أىِّ صفة كان حياً أو ميتاً، تامَّ الخِلقة أو ناقِصَها، نُفِخَ فيه الروحُ أو لم يُنفخ. ودل قولُه: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، على الاكتفاء بذلك وإن لم تَحضْ وهذا قول الجمهور، وقال مالك: إذا كان عادتُها أن تحيض فى كل سنة مرة، فتوفى عنها زوجُها، لم تنقض عدتها حتى تحيضَ حيضتها، فتبرأ مِن عِدتها. فإن لم تَحِض، انتظرت تمام تسعة أشهر من يوم وفاته، وعنه رواية ثانية: كقول الجمهور، أنه تعتدُّ أربعة أشهر وعشراً، ولا تنتظِرُ حيضها. فصل ومن ذلك اختلافُهم فى الأقراء، هل هى الحيض أو الأطهار؟ فقال أكابر الصحابة: إنها الحيض، هذا قول أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، وأبى موسى، وعُبادة بن الصامت، وأبى الدرداء، وابن عباس، ومعاذ ابن جبل رضى اللَّه عنهم، وهو قولُ أصحاب عبد اللَّه ابن مسعود، كلهم كعلقمة، والأسود، وإبراهيم، وشُريح وقول الشعبى، والحسن، وقتادة، وقولُ أصحاب ابن عباس، سعيدِ ابن جبير، وطاووس، وهو قولُ سعيد بن المسيِّب، وهو قولُ أئمة الحديث: كإسحاق بن إبراهيم، وأبى عُبيد القاسم، والإمام أحمد رحمه اللَّه، فإنه رجع إلى القول به، واستقرَّ مذهبُه عليه، فليس له مذهب سواه، وكان يقول: إنها الأطهار، فقال فى رواية الأثرم: رأيتُ الأحاديث عمن قال: القروء الحيض، تختلِفُ. والأحاديث عمن قال: إنه أحقُّ بها حتى تدخل فى الحيضة الثالثة أحاديثُ صحاح قوية، وهذا النصُّ وحدَه هو الذى ظفر به أبو عمر بن عبد البر، فقال: رجع أحمد إلى أنَّ الأقراء: الأطهار، وليس كما قال: بل كان يقولُ هذا أولاً، ثم توقَّف فيه، فقال فى رواية الأثرم أيضاً: قد كنتُ أقول الأطهار، ثم وقفت كقول الأكابر، ثم جزم أنها الحيضُ، وصرح بالرجوع عن الأطهار، فقال فى رواية ابن هانىء. كنت أقول: إنها الأطهارُ، وأنا اليوم أذهبُ إلى أن الأقراء الحيض، قال القاضى أبو يعلى: وهذا هو الصحيح عن أحمد رحمه اللَّه، وإليه ذهب أصحابنا، ورجع عن قوله بالأطهار، ثم ذكر نصَّ رجوعه مِن رواية ابن هانىء كما تقدم، وهو قولُ أئمة أهل الرأى، كأبى حنيفة وأصحابه. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:46 PM | #410 |
|
وقالت طائفة: الأقراء: الأطهار، وهذا قولُ عائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن عمر.
ويُروى عن الفقهاء السبعة، وأبان بن عثمان والزهرى، وعامة فقهاء المدينة، وبه قال مالك، والشافعى، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه. وعلى هذا القول، فمتى طلقها فى أثناءِ طهر، فهل تحتسب ببقيته قرءاً؟ على ثلاثة أقوال. أحدها: تحتسب به، وهو المشهورُ. والثانى: لا تحتسِبُ به، وهو قولُ الزهرى. كما لا تحتسِبُ ببقية الحيضة عند مَنْ يقول: القرء: الحيض اتفاقاً. والثالث: إن كان قد جامعها فى ذلك الطهر، لم تحتسِب ببقيته، وإلا احتسبت، وهذا قولُ أبى عبيد. فإذا طعنت فى الحيضة الثالثة أو الرابعة على قول الزهرى، انقضت عدتها. وعلى قول الأول، لا تنقضى العدة حتى تنقضى الحيضةُ الثالثة. وهَلْ يقِفُ انقضاء عدتها على اغتسالها منها؟ على ثلاثة أقوال. أحدها: لا تنقضى عدتها حتى تغتسل، وهذا هو المشهُورُ عن أكابرِ الصحابة، قال الإمام أحمد: وعمر، وعلى، وابن مسعود يقولون: له رجعتُها قبل أن تغتسِلَ مِن الحيضة الثالثة، انتهى. ورُوى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبى موسى، وعبادة، وأبى الدرداء، ومعاذ بن جبل رضى اللَّه عنهم، كما فى مصنف وكيع، عن عيسى الخياط، عن الشعبى، عن ثلاثة عشر من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الخيَّر فالخيَّر، منهم: أبو بكر، وعمر، وابن عباس: أنه أحقُّ بها ما لم تغتسِلْ مِن الحيضة الثالثة. وفى ((مصنفه)) أيضاً، عن محمد بن راشد، عن مكحول، عن معاذ ابن جبل وأبى الدرداء مثلُه. وفى مصنف عبد الرزاق: عن معمر، عن زيد بن رفيع، عن أبى عُبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، قال: أرسل عثمان إلى أبىِّ بن كعب فى ذلك، فقال أبى بن كعب: أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من حَيضتها الثالثة، وتحل لها الصلاةُ، قال: فما أعلم عثمان إلا أخذ بذلك. وفى ((مصنفه)) أيضاً: عن عمر بن راشد، عن يحيى بن أبى كثير، أن عُبادة ابن الصامت قال: لا تبينُ حتى تغتسِلَ من الحَيْضَة الثالثة، وتَحِلُّ لها الصلاة. فهولاء بضعة عشر من الصحابة، وهو قولُ سعيد بن المسيب، وسفيان الثورى وإسحاق بن راهوية. قال شريك: له الرجعة وإن فرَّطت فى الغسل عشرينَ سنة، وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه اللَّه. والثانى: أنها تنقضى بمجرد طهرها من الحيضة الثالثة، ولا تَقِفُ على الغسل، وهذا قولُ سعيد بن جبير والأوزاعى، والشافعى فى قوله القديم حيث كان يقول: الأقراء: الحيض، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد اختارها أبو الخطاب. والثالث: أنها فى عدتها بعد انقطاع الدم، ولِزوجها رجعتها حتى يمضى عليها وقتُ الصلاة التى طهرت فى وقتها، وهذا قولُ الثورى، والرواية الثالثة عن أحمد: حكاها أبو بكر عنه، وهو قولُ أبى حنيفة رحمه اللَّه، لكن إذا انقطع الدم لأقلِّ الحيض، وإن انقطع الدم لأكثره، إنقضتِ العدة عنها بمجردِ انقطاعه. وأما من قال: إنها الأطهار، اختلفوا فى موضعين، أحدهما: هل يشترط كون الطهر مسبوقاً بدم قبله، أو لا يُشترط ذلك؟ على قولين لهم، وهما وجهان فى مذهب الشافعى وأحمد. أحدهما: يُحتسب، لأنه طهر بعده حيض فكان قرءاً، كما لو كان قبله حيض. والثانى: لا يُحتسب، وهو ظاهر نص الشافعى فى الجديد، لأنها لا تُسمى من ذوات الأقراء إلا إذا رأت الدم. الموضع الثانى: هل تنقضى العدة بالطعن فى الحيضة الثالثة أو لا تنقضى حتى تحيضَ يوماً وليلةً؟ على وجهين لأصحاب أحمد، وهما قولان منصوصان للشافعى، ولأصحابه وجه ثالث: إن حاضت للعادة، انقضت العِدةُ بالطعن فى الحيضة. وإن حاضت لِغير العادة، بأن كانت عادتها ترى الدم فى عاشر الشهر، فرأته فى أوله، لم تنقضِ حتى يمضَى عليها يوم وليلة. ثم اختلفوا: هل يكون هذا الدم محسوباً من العدة؟ على وجهين، تظهرُ فائدتهما فى رجعتها فى وقته، فهذا تقرير مذاهب الناس فى الأقراء. قال من نص: إنها الحيض: الدليل عليه وجوه. أحدها: أن قولَه تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُروُء} [البقرة: 228]، إما أن يراد به الأطهار فقط، أو الحيض فقط، أو مجموعُهما. والثالث: محال إجماعاً، حتى عند من يَحمِلُ اللفظ المشترك على معنييه. وإذا تعيَّن حمله على أحدهما، فالحيض أولى به لوجوه. أحدها: أنها لو كانت الأطهار فالمعتدة بها يكفيها قَرآنِ، ولحظةُ من الثالث، وإطلاق الثلاثة على هذا مجاز بعيد لنصية الثلاثة فى العدد المخصوص. فإن قلتم: بعض الطهر المطلق فيه عندنا قرء كامل، قيل: جوابه مِن ثلاثة أوجه. أحدها: أن هذا مختلف فيه كما تقدم، فلم تُجمع الأمة على أن بعض القَرء قرء قطُّ، فدعوى هذا يفتقِرُ إلى دليل. الثانى: أن هذا دعوى مذهبية، أوجب حملَ الآية عليها إلزامُ كون الأقراء الأطهار، والدعاوى المذهبية لا يُفسَّرُ بها القرآن، وتُحمل عليها اللغة، ولا يُعقل فى اللغة قطُّ أن اللحظة من الطُّهر تُسمى قرءاً كاملاً، ولا اجتمعت الأمة على ذلك، فدعواه لا تثبت نقلاً ولا إجماعاً، وإنما هو مجرد الحمل، ولا ريب أن الحمل شىء، والوضع شىء آخر، وإنما يُفيد ثبوتُ الوضع لغة أو شرعاً أو عرفاً. الثالث: أن القرء إما أن يكون اسماً لمجموع الطهر، كما يكون اسماً لمجموع الحيضة أو لبعضه، أو مشتركاً بين الأمرين اشتراكاً لفظيًّا، أو اشتراكاً معنويًّا، والأقسام الثلاثة باطلةٌ فتعيَّن الأول، أما بطلانُ وضعه لبعض الطهر، فلأنه يلزمُ أن يكون الطهرُ الواحِدُ عدَّةَ أقراء، ويكون استعمالُ لفظ ((القرء)) فيه مجازاً. وأما بطلانُ الاشتراك المعنوى، فمن وجهين، أحدهما: أنه يلزم أن يصْدُق على الطهر الواحد أنه عِدة أقراء حقيقة. والثانى: أن نظيرَهَ وهو الحيض لا يُسمى جزؤه قرءاً اتفاقاً، ووضع القرء لهما لغة لا يختلِفُ، وهذا لاخفاء به. فإن قيل: تختار من هذه الأقسام أن يكون مشتركاً بين كُلِّه وجزُئه اشتراكاً لفظيًّا، ويُحمل المشترك على معنييه، فإنه أحفظُ، وبه تحصل البراءة بيقين. قيل: الجوابُ من وجهين. أحدهما: أنه لا يَصِحُّ اشتراكه كما تقدم. الثانى: أنه لو صح اشتراكه، لم يجز حملُه على مجموع معنييه. أما على قول من لا يُجوِّزُ حمل المشترك على معنييه، فظاهر، وأما من يُجوِّز حمله عَليهما، فإنما يُجوزونه إذا دل الدليل على إرادتهما معاً. فإذا لم يدل الدليل وقفوه حتى يقوم الدليل على إرادة أحدهما، أو إرادتهما، وحكى المتأخرون عن الشافعى، والقاضى أبى بكر، أنه إذا تجرَّد عن القرائن، وجب حملُه على معنييه، كالاسم العام لأنه أحوط، إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر، ولا سبيل إلى معنى ثالث، وتعطيلُهُ غير ممكن، ويمتنِعُ تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة. فإذا جاء وقتُ العمل، ولم يتبيَّنْ أن أحدَهما هو المقصود بعينه، عُلِمَ أن الحقيقة غيرُ مرادة، إذ لو أريدت لبيّنت، فتعيَّن المجازُ، وهو مجموع المعنيين، ومن يقول: إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول: لما لم يتبين أن المرادَ أحدهما علم أنه أراد كليهما. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:47 PM | #411 |
|
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: فى هذه الحكاية عن الشافعى والقاضى نظر، أما القاضى، فمن أصله الوقف فى صيغ العموم، وأنه لا يجوز حملُها على الاستغراق إلا بدليل، فمن يَقِفُ فى ألفاظ العموم كيف يَجْزِمُ فى الألفاظ المشتركة بالاستغراقِ من غير دليل وإنما الذى ذكره فى كتبه إحالة الاشتراك رأساً، وما يُدعى فيه الاشتراك، فهو عنده من قبيل المتواطىء، وأما الشافعى، فمنصبُه فى العلم أجلُّ من أن يقول مثل هذا، وإنما استنبط هذا من قوله: إذا أوصى لمواليه تناول المولى مِن فوق ومِنْ أسفل، وهذا قد يكونُ قاله لاعتقاده أن المولى من الأسماء المتواطِئة، وأن موضعه القدر المشترك بينهما، فإنه من الأسماء المتضايقة، كقوله ((منْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلي مَوْلاَهُ)) ولا يلزمُ مِن هذا أن يُحكى عنه قاعدة عامة فى الأسماء التى ليس من معانيها قدرٌ مشترك أن تُحمَلَ عند الإطلاق على جميع معانيها.
ثم الذى يَدلُّ على فساد هذا القول وجوه. أحدها: أن استعمال اللفظ فى معنييه إنما هو مجاز، إذ وَضْعهُ لِكل واحد منهما على سبيل الانفراد هو الحقيقة، واللفظُ المطلق لا يجوزُ حمله على المجاز، بل يجب حملُه على حقيقته. الثانى: أنه لو قُدِّرَ أنه موضوع لهما منفردين، ولكل واحد منهما مجتمعين، فإنه يكون له حينئذ ثلاثةُ مفاهيم، فالحمل على أحد مفاهيمه دونَ غيره بغير موجب ممتنع. الثالث: أنه حينئذ يستحيلُ حملُه على جميع معانيه، إذ حملُه على هذا وحدَه، وعليهما معاً مستلزم للجمع بين النقيضين، فيستحيلُ حملُه على جميع معانيه، وحملُه عليهما معاً حملٌ له على بعض مفهوماته، فحملُه على جميعها يُبطِلُ حمله على جميعها. الرابع: أن ههنا أموراً. أحدها: هذه الحقيقة وحدها، والثانى: الحقيقة الأخرى وحدها، والثالث: مجموعهما، والرابع: مجاز هذه وحدها، والخامس: مجاز الأخرىوحدها، والسادس: مجازهما معاً، والسابع: الحقيقة وحدَها مع مجازِها، والثامن: الحقيقة مع مجاز الأخرى. والتاسع: الحقيقةُ الواحدة مع مجازهما، والعاشر: الحقيقة الأخرى مع مجازها، والحادى عشر: مع مجاز الأخرى، والثانى عشر: مع مجازهما، فهذه اثنا عشر محملاً بعضها على سبيل الحقيقة، وبعضها على سبيل المجاز، فتعيين معنى واحد مجازى دونَ سائر المجازات، والحقائق ترجيحٌ مِن غير مرجح، وهو ممتنع. الخامس: أنه لو وجب حملُه علىالمعنيين جميعاً لصار من صيغ العموم، لأن حكم الاسم العام وجوبُ حمله على جميع مفرداته عند التجرد مِن التخصيص، ولو كان كذلك، لجاز استثناء أحدِ المعنيين منه، ولسبق إلى الذهن منه عند الإطلاق العموم، وكان المستعمِلُ له فى أحد معنييه بمنزلة المستعملِ للاسم العام فى بعض معانيه، فيكون متجوزاً فى خطابه غير متكلم بالحقيقة، وأن يكون من استعمله فى معنييه غيرَ محتاج إلى دليل، وإنما يحتاج إليه من نفى المعنى الآخر، ولوجب أن يفهم منه الشمول قبل البحث عن التخصيص عند من يقول بذلك فى صيغ العموم، ولا ينفى الإجمِال عنه، إذ يصيرُ بمنزلة سائر الألفاظ العامة، وهذا باطل قطعاً، وأحكام الأسماء المشتركة لا تُفارق أحكام الأسماء العامة، وهذا مما يعلم بالاضطرار من اللغة، ولكانت الأمة قد أجمعت فى هذه الآية على حملها على خلاف ظاهرها ومطلقها إذ لم يصر أحدٌ منهم إلى حمل ((القرء)) على الطهر والحيض معاً، وبهذا يتبين بطلان قولهم: حمله عليهما أحوطُ، فإنه لو قُدِّرَ حملُ الآية على ثلاثةِ من الحيض والأطهار، لكان فيه خروجٌ عن الاحتياط. إن قيل: نحمله على ثلاثة من كل منهما، فهو خلاف نص القرآن إذ تصير الأقراء ستة. قولهم: إما أن يُحمل على أحدهما بعينه، أو عليهما إلى آخره قلنا: مثلُ هذا لا يجوز أن يَعرى عن دلالة تُبين المراد منه كما فى الأسماء المجملة، وإن خفيت الدلالة على بعض المجتهدين، فلا يلزمُ أن تكون خفية عن مجموع الأمة، وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث، فالكلام، إذا لم يكن مطلقُه يدل على المعنى المراد، فلا بد من بيان المراد. وإذا تعين أن المراد بالقرء فى الآية أحدُهما لا كلاهما، فإرادة الحيض أولى لوجوه. منها: ما تقدم. الثانى: أن استعمال القرء فى الحيض أظهر منه فى الطهر، فإنهم يذكرونه تفسيراً للفظه، ثم يُردفونه بقولهم: وقيل، أو قال فلان، أو يقال، على الطهر، أو وهو أيضاً الطهر، فيجعلون تفسيره بالحيض كالمستقر المعلوم المستفيض، وتفسيره بالطهرِ قول قيل. وهاك حكايةُ ألفاظهم. قال الجوهرى: القَرء بالفتح: الحيض، والجمع أقراء وقُروء، فى الحديث: ((لا صَلاَةَ أَيَّامَ أقْرائِك)). القَرء أيضاً: الطهر، وهو من الأضداد.وقال أبو عُبيد: الأقراء: الحيض، ثم قال: الأقراء الأطهار، وقال الكِسائى: والفَراء أقرأتِ المرأة: إذا حاضت. وقال ابن فارس: القُروء: أوقات، يكون للطهر مرة، وللحيض مرة، والواحد قَرء ويقال: القرء: وهو الطهر، ثم قال: وقوم يذهبون إلى أن القرء الحيض، فحكي قولَ مَنْ جعله مشتركاً بين أوقات الطهر والحيض، وقولَ من جعله لأوقات الطهر، وقولَ من جعله لأوقات الحيض، وكأنه لم يختر واحداً منهما، بل جعله لأوقاتهما. قال: وأقرأت المرأة إذا خرجت من حيض إلى طهر، ومن طهر إلى حيض، وهذا يدل على أنه لا بُدَّ من مسمى الحيض فى حقيقته يُوضح أن من قال: أوقاتُ الطهر تُسمى قروءاً، فإنما يريد أوقات الطهر التى يحتوِشُها الدم، وإلا فالصغيرة والآيسة لا يقال لزمن طهرهما أقراء، ولا هُما مِن ذوات الأقراء بإتفاق أهل اللغة. الدليل الثانى: أن لفظ القرء لم يستعمل فى كلام الشارع إلا للحيض، ولم يجىء عنه فى موضع واحد استعمالُه للطهر، فحملُه فى الآية على المعهود المعروفِ من خطاب الشارع أولى، بل متعين، فإنه صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة: ((دَعى الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ)) وهو صلى الله عليه وسلم المعبِّرُ عن اللَّه تعالى، وبلغة قومِه نزل القرآنُ، فإذا ورد المشتركُ فى كلامِهِ على أحد معنييه، وجب حملُه فى سائر كلامه عليه إذا لم تثبت إرادة الآخر فى شىء من كلامه البتة، ويصيرُ هو لغةَ القرآن التى خوطبنا بها، وإن كان له معنى آخر فى كلام غيره، ويصير هذا المعنى الحقيقة الشرعية فى تخصيص المشترك بأحد معنييه، كما يُخَصُّ المتواطىءُ بأحد أفراده، بل هذا أولى، لأن أغَلبَ أسباب الاشتراك تسمية أحدِ القبيلتين الشىء باسم، وتسمية الأخرى بذلك الاسم مسمى آخر، ثم تشيع الاستعمالات، بل قال المبرَّد وغيره: لا يقع الاشتراكُ فى اللغة إلا بهذا الوجه خاصة، والواضع لم يضع لفظاً مشتركاً البتة، فإذا ثبت استعمالُ الشارع لفظ القروء فى الحيض، علم أن هذا لغته، فيتعينُ حملُه على ما فى كلامه. ويوضح ذلك ما فى سياق الآية مِن قوله: {ولاَ يَحِّلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فى أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] وهذا هو الحيضُ، والحمل عند عامة المفسرين، والمخلوق فى الرحم إنما هو الحيض الوجودى، ولهذا قال السلف والخلف: هو الحمل والحيض، وقال بعضُهم: الحمل، وبعضهم: الحيض، ولم يقل أحد قطُّ: إنه الطهر، ولهذا لم ينقله من عُنىَ بجمع أقوال أهل التفسير، كابن الجوزى وغيره. وأيضاً فقد قال سبحانه: {واللاَّئى يَئِسْنَ مِنَ المحيضِ مِنْ نِسَائِكُم إن ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أشْهُرٍ، واللاَّئىْ لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]، فجعل كُلَّ شهر بإزاء حيضة، وعلَّق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر من الحيض. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:48 PM | #412 |
|
وأيضاً فحديث عائشة رضى اللَّه عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم:
((طَلاَقُ الأَمَةِ تَطْليقَتَانِ، وَعِدَّتُها حَيْضَتَانِ))، رواه أبو داود، ابن ماجه، والترمذى وقال: غريب لا نعرفه إلاّ من حديث مظاهر ابن أسلم، ومظاهر لا يُعرف له فى العلم غير هذا الحديث، وفى لفظ للدارقطنى فيه: ((طلاقُ العَبْدِ ثِنْتان))، وروى ابن ماجه من حديث عَطية العَوْفى، عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ((طَلاَقُ الأَمَةِ اثْنَتَانِ، وعِدَّتُها حَيْضَتَانِ)). أيضاً: قال ابن ماجه فى سننه: حدثنا على بن محمد، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: أمرت بريرة أن تعتدَّ ثلاث حيض.وفى ((المسند)): عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، أن النبى صلى الله عليه وسلم خير بريرة، فاختارت نفسها، وأمرها أن تعتد عدة الحرة. وقد فسر عدة الحرة بثلاث حيض فى حديث عائشة رضى اللَّه عنها. فإن قيل: فمذهب عائشة رضى اللَّه عنها، أن الأقراء: الأطهار؟ قيل: ليس هذا بأول حديث خالفه روايه، فأخذ بروايته دون رأيه، وأيضاً ففى حديث الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذ، أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابتِ بنِ قيس ابن شمَّاس لما اختلعت من زوجها أن تتربَّص حيضة واحدة، وتلحق بأهلها، رواه النسائى. وفى سنن أبى داود عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما، أن امرأة ثَابت ابن قَيْس اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا، فأمرها النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن تعتدَّ بحَيْضةٍ. وفى الترمذى: أن الرُّبَيِّعَ بنتَ معوذ اختلعَت على عهدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبىُّ صلى الله عليه وسلم أو أمِرَتْ أن تَعتَدَّ بحيضة. قال الترمذى: حديث الرُّبَيِّعِ الصحيحُ أنها أُمِرَتْ أن تعتد بحيضة. وأيضاً، فإن الاستبراء هو عِدَّةُ الأمة، وقد ثبت عن أبى سعيد: أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال فى سبايا أوطاس: ((لاَ تُوَطأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلِ حَتَّى تَحيضَ حَيْضَةً)) رواه أحمد وأبو داود. فإن قيل: لا نسلِّم أن استبراء الأمة بالحيضة، وإنما هو بالطهر الذى هو قبلَ الحيضة، كذلك قال ابنُ عبد البر، وقال: قولهم: إن استبراء الأمة حيضة بإجماع ليس كما ظنُّوا، بل جائز لها عندنا أن تنكِحَ إذا دخلت فى الحيضة، واستيقنت أن دمَها دمُ حيض، كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين أدخل عليه فى مناظرته إياه. قلنا: هذا يردُّه قولُه صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تُوطَأُ الحَامِلُ حَتَى تَضَعَ وَلا حَائِلٌ حَتَى تُسْتَبْرأ بِحَيْضَةٍ)). وأيضاً فَالمقصودُ الأصلى مِن العدة إنما هو استبراءُ الرحم، وإن كان لها فوائد أخر، ولِشرف الحرة المنكوحة وخطرها، جعل العلم الدال على براءة رحمها ثلاثة أقراء، فلو كان القرء: هو الطهر، لم تحصل بالقرء الأول دلالة، فإنه لو جامعها فى الطهر، ثم طلقها، ثم حاضت كان ذلك قرءاً محسوباً من الأقراء عند من يقول: الأقراء الأطهار. ومعلوم: أن هذا لم يدل على شىء، وإنما الذى يَدُلُّ على البراءة الحيض الحاصل بعد الطلاق، ولو طلقها فى طهر، لم يُصبها فيه، فإنما يعلم هنا براءة الرحم بالحيض الموجود قبلَ الطلاق، والعِدة لا تكونُ قبل الطلاق لأنها حُكمه، والحكم لا يسبِقُ سببه، فإذا كان الطهرُ الموجود بعد الطلاق لا دلالة له على البراءة أصلاً، لم يجز إدخالهُ فى العِدد الدالة على براءة الرحم، وكان مثلُه كمثل شاهدٍ غيرِ مقبول، ولا يجوزُ تعليقُ الحكم بشهادة شاهد لا شهادة له، يُوضحه أن العدة فى المنكوحات، كالاستبراء فى المملوكات. وقد ثبت بصريح السنة أن الاستبراء بالحيض لا بالطُّهر، فكذلك العِدَّةُ إذ لا فرق بينهما إلا بتعدد العِدة، والاكتفاءُ بالاستبراء بقرء واحد، وهذا لا يُوجب اختلافهما فى حقيقة القرء، وإنما يختلفان فى القدر المعتبر منهما، ولهذا قال الشافعى فى أصحَّ القولين عنه: إن استبراء الأمة يكون بالحيض، وفرق أصحابه بين البابين، بأن العدة وجبت قضاء لحق الزوج، فاختصَّت بأزمان حقه، وهى أزمان الطهر، وبأنها تتكرر، فتُعلم معها البراءة بتوسط الحيض بخلاف الاستبراء، فإنه لا يتكرر، والمقصودُ منه مجرد البراءة، فاكتفى فيه بحيضة. وقال فى القول الآخر: تُستبرأ بطهر طرداً لأصله فى العِدد، وعلى هذا، فهل تُحتسب ببعض الطهر؟ على وجهين لأصحابه، فإذا احتُسِبَتْ به، فلا بُد من ضمِّ حيضة كاملة إليه. فإذا طعنت فى الطهر الثانى، حلَّت، وإن لم تحتسب به، فلا بُدَّ من ضمِّ طهر كامل إليه، ولا تحتسب ببعض الطهر عنده قرءاً قولاً واحداً. والمقصود: أن الجمهورَ على أن عدة الاستبراء حيضة لا طُهر، وهذا الاستبراء فى حق الأمة كالعِدة فى حق الحرة، قالوا: بل الاعتداد فى حق الحرة بالحيض أولى من الأمة من وجهين. أحدهما: أن الاحتياط فى حقها ثابت بتكرير القرء ثلاث استبراءات، فهكذا ينبغى أن يكونَ الاعتدادُ فى حقها بالحيض الذى هو أحوطُ مِن الطهر، فإنها لا تُحسب بقية الحيضة قرءاً، وتُحتسب ببقية الطهر قرءاً. الثانى: أن استبراء الأمة فرع عدة الحُرَّةِ، وهى الثابتة بنص القرآن، والاستبراء إنما ثبت بالسنة، فإذا كان قد احتاط له الشارعُ بأن جعله بالحيض، فاستبراء الحرة أولى، فعِدة الحرة استبراء لها، واستبراء الأمة عِدة لها. وأيضاً فالأدلة والعلامات والحدود والغايات إنما تحصُل بالأمور الظاهرة المتميِّزة عن غيرها، والطهرُ هو الأمر الأصلى، ولهذا متى كان مستمراً مستصحباً لم يكن له حكم يُفرد به فى الشريعة، وإنما الأمر المتميز هو الحيضُ، فإن المرأة إذا حاضت تغيَّرت أحكامُها مِن بلوغها، وتحريم العبادات عليها من الصلاة والصوم والطواف واللُّبث فى المسجد وغيرِ ذلك من الأحكام. ثم إذا إنقطع الدمُ واغتسلت، فلم تتغير أحكامُها بتجدد الطهر، لكن لزوال المغير الذى هو الحيض، فإنها تعود بعد الطهر إلى ما كانت عليه قبل الحيض من غير أن يُجدد لها الطهر حكماً، والقرء أمر يُغير أحكام المرأة، هذا التغييرُ إنما يحصل بالحيض دون الطهر. فهذا الوجه دال على فساد قول من يحتسب بالطهر الذى قبل الحيضة قرءاً فيما إذا طلقت قبل أن تحيض، ثم حاضت، فإن من اعتد بهذا الطهر قرءاً، جعل شيئاً ليس له حكم فى الشريعة قرءاً من الأقراء، وهذا فاسد. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:52 PM | #413 |
|
فصل
قال من جعل الأقراء الأطهار: الكلامُ معكم فى مقامين: أحدهما: بيان الدليل على أنها الأطهار. الثانى: فى الجواب عن أدلتكم. أما المقام الأول: فقوله تعالى: {يا أيُّها النَّبىُّ إذا طَلَّقتم النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتهنَّ} [الطلاق: 1]، ووجه الاستدلال به: أن اللام هى لام الوقت، أى: فطلقوهن فى وقت عدتهن، كما فى قوله تعالى: {وَنَضَعُ الموَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، أى: فى يوم القيامة، وقوله: {أَقِم الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، أى: وقت الدلوك، وتقول العرب: جئتك لثلاث بقين من الشهر، أى: فى ثلاث بقين منه، وقد فسر النبى صلى الله عليه وسلم هذه الآية بهذا التفسير، ففى ((الصحيحين)): عن ابن عمر رضى اللَّه عنه: أنه لما طلّق امرأته وهى حائض، أمره النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يُراجِعَها، ثم يُطلِّقَها، وهى طاهر، قبل أن يمسَّها، ثم قال: ((فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لهَا النِّسَاءُ)) فبيَّن النبى صلى الله عليه وسلم أن العِدة التى أمر اللَّه أن تُطلق لها النساءُ هى الطهرُ الذى بعد الحيضة، ولو كان القرءُ هو الحيض، كان قد طلقها قبل العِدة لا فى العِدة، وكان ذلك تطويلاً عليها، وهو غيرُ جائز، كما لو طلقها فى الحيض. قال الشافعى: قال اللَّه تعالى:{وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فالأقراء عندنا واللَّه أعلم الأطهار، فإن قال قائل: ما دل على أنها الأطهار وقد قال غيرُكُم: الحيض؟ قيل: له دلالتان. إحداهما: الكتابُ الذى دلت عليه السنة، والأخرى: اللسان. فإن قال: وما الكتاب؟ قيل: قال اللَّه تبارك وتعالى: {إذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وأخبرنا مالك: عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه عنه، أنه طلَّق امرأته وهى حائض فى عهد النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((مُرْهُ فَلْيُراجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْها حَتَّى تَطْهُرَ، ثم تَحِيضَ، ثم تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وإنْ شاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطلَّقَ لهَا النِّسَاءُ)). أخبرنا مسلم، وسعيد بن سالم، عن ابن جُريج، عن أبى الزبير، أنه سمع ابن عمر يذكر طلاقَ امرأته حائضاً، فقال: قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((إذَا طهَرتْ فَلْيُطَلِّقْ أوْ يُمْسِكْ))، وتلا النبىُّ صلى الله عليه وسلم: {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] لِقُبُلِ أو فى قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ قال الشافعى رحمه اللَّه: أنا شككت، فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن اللَّه عز وجَلَّ: أن العِدة الطُهر دون الحيض، وقرأ: {فَطلِّقُوهُنَّ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ}وهو أن يُطلقها طاهراً، لأنها حينئذ تستقبِلُ عِدتها، ولو طُلِّقت حائضاً، لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض. فإن قال: فما اللسان؟ قيل: القرء: اسم وُضِعَ لمعنى، فلما كان الحيضُ دماً يُرخيه الرحم فيخرُج، والطهر دماً يحتبس، فلا يخرج، وكان معروفاً من لسان العرب، أن القرء: الحبس. تقولُ العرب: هو يَقري الماء فى حوضه وفى سقائه، وتقول العرب: هو يقري الطعام فى شِدقه، يعنى: يحبسه فى شدقه. وتقولُ العرب: إذا حبس الرجل الشىء، قرأه. يعنى: خبأه، وقال عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه: تُقرى فى صحافها، أى: تُحبس فى صحافها. قال الشافعى: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضى اللَّه عنها، أنها انتقلت حفصةُ بنتُ عبد الرحمن حين دخلت فى الدَّمِ مِن الحيضة الثالثة. قال ابنُ شهاب: فَذُكِرَ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صَدَقَ عروة. وقد جادلها فى ذلك ناس. وقالوا: إن اللَّه تعالى يقول: {ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة 228]، فقالت عائشة رضى اللَّه عنها: صدقتُم، وهل تدرونَ ما الأقراء؟ الأقراء: الأطهار. أخبرنا مالك، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركتُ أحداً من فقهائنا إلا وهو يقول هذا: يُريد الذى قالت عائشة رضى اللَّه عنها. قال الشافعى رحمه اللَّه: وأخبرنا سفيان، عن الزهرى، عن عمرة، عن عائشة رضى اللَّه عنها: إذا طعنَتِ المطلقةُ فى الدم مِن الحيضة الثالثة، فقد برئت منه. وأخبرنا مالك رحمه اللَّه، عن نافع، وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار، أن الأحوص يعنى ابنَ حكيم هلك بالشام حين دخلت امرأتُه فى الحيضة الثالثة، وقد كان طلقها، فكتب معاوية إلى زيد بن ثابت يسألُه عن ذلك؟ فكتب إليه زيد: إنها إذا دخلت فى الدَّمِ من الحيضة الثالثة، فقد برئت منه، وبرىء منها، ولا ترثه، ولا يَرِثُها. وأخبرنا سفيان، عن الزهرى، قال: حدثنى سليمان بن يسار، عن زيد بن ثابت، قال: إذا طعنتِ المرأة فى الحيضة الثالثة فقد برئت. وفى حديث سعيد بن أبى عَروبة، عن رجل، عن سليمان بن يسار، أن عثمان ابن عفان وابن عمر قالا: إذا دخلت فى الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها. وأخبرنا مالك: عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما قال: إذا طلَّق الرجلُ امرأتَه فدخلت فى الدم مِن الحيضة الثالثة، فقد برئت منه، ولا ترثه، ولا يرثها. أخبرنا مالك رحمه اللَّه، أنه بلغه عن القاسم بن محمد، وسالم بن عبد اللَّه، وأبى بكر بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وابن شهاب، أنهم كانوا يقولون: إذا دخلت المطلقة فى الدم مِن الحيضة الثالثة، فقد بانت منه، ولا ميراثَ بينهما. زاد غيرُ الشافعى عن مالك رحمهما اللَّه: ولا رجعة له عليها. قال مالك: وذلك الأمر الذى أدركتُ عليه أهلَ العلم ببلدنا. قال الشافعى رحمه اللَّه: ولا بُعد أن تكون الأقراء الأطهار، كما قالت عائشة رضى اللَّه عنها، والنساءُ بهذا أعلم، لأنه فيهن لا فى الرجال، أو الحيض، فإذا جاءت بثلاثِ حيض، حلَّت، ولا نجد فى كتاب اللَّه للغسل معنى، ولستم تقولون بواحد من القولين، يعنى: أن الذين قالوا: إنها الحيض، قالوا: وهو أحق برجعتها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، كما قاله على، وابن مسعود، وأبو موسى، وهو قول عمر بن الخطاب أيضاً. فقال الشافعى: فقيل لهم يَعنى للعراقيينَ: لم تقولوا بقول من احتججتم بقوله، ورويتُم هذا عنه، ولا بقول أحدٍ من السلف علمناه؟ فإن قال قائل: أين خالفناهم؟ قلنا. قالوا: حتى تغتسِل وتَحِل لها الصلاة، وقلتم: إن فرطت فى الغسل حتى يذهبَ وقتُ الصلاة حلَّت وهى لم تغتسل، ولم تحل لها الصلاة. انتهى كلام الشافعى رحمه اللَّه. قالُوا: ويدل على أنها الأطهار فى اللسان قولُ الأعشى: أفى كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ *** تَشُدُّ لأِْقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَــا مُوَرِّثّة عِزَّاً وفى الحَىِّ رِفْعَــة *** لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا فالقروء فى البيت: الأطهار، لأنه ضيع اطهارهن فى غزاته، وآثرها عليهن. قالوا: ولأن الطهر أسبقُ إلى الوجود مِن الحيض، فكان أولى بالاسم، قالُوا: فهذا أحدُ المقامين. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:54 PM | #414 |
|
وأما المقام الآخر، وهو الجواب عن أدلتكم: فنُجيبكم بجوابين مجملٍ ومفصل.
أما المجمل: فنقولُ: من أنزل عليه القرآن، فهو أعلمُ بتفسيره، وبمراد المتكلم به من كل أحد سواه، وقد فسر النبىُّ صلى الله عليه وسلم العدة التى أمر اللَّهُ أن تُطلَّق لها النساءُ بالأطهار، فلا التفاتَ بعد ذلك إلى شىء خالفه، بل كُلُّ تفسير يُخالف هذا فباطل. قالُوا: وأعلم الأمة بهذه المسألة أزواجُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأعلمُهن بها عائشة رضى اللَّه عنها، لأنها فيهن لا فى الرجال، ولأن اللَّه تعالى جعل قولَهن فى ذلك مقبولاً فى وجود الحيض والحمل، لأنه لا يُعلم إلا مِن جهتهن، فدلَّ على أنهنَّ أعلمُ بذلك من الرجال، فإذا قالت أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها: إن الأقراء الأطهار. فَقَدْ قَاَلتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا فَإنَّ القَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَام قالوا: وأما الجوابُ المفصَّلُ، فَنُفْرِدُ كلَّ واحد مِن أدلتكم بجواب خاص، فهاكم الأجوبة. أما قولكم: إما أن يُراد بالأقراء فى الآية الأطهار فقط، أو الحيض فقط، أو مجموعُهما إلى آخره. فجوابُه أن نقول: الأطهار فقط، لما ذكرنا من الدلالة. قولُكم النص اقتضى ثلاثة إلى آخره. قلنا: عنه جوابان. أحدهما: أن بقية الطهر عندنا قرء كامل، فما اعتدت إلا بثلاثِ كوامل. الثانى: أن العرب تُوقِع اسم الجمع على اثنين، وبعضَ الثالث، كقوله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، فإنها شوال، وذو القعدة، وعشر من ذى الحجة أو تسع، أو ثلاثة عشر. ويقولون: لفلان ثلاث عشرة سنة، إذا دخل فى السنة الثالثة عشر. فإذا كان هذا معروفاً فى لُغتهم، وقد دل الدليلُ عليه، وجب المصيرُ إليه. وأما قولكم: إن استعمال القرء فى الحيض أظهر منه فى الطهر، فمقابَل بقولِ منازعيكم. قولكم: إن أهل اللغة يُصدرون كتبهم بأن القرء هو الحيض، فيذكرونه تفسيراً للفظ، ثم يُردفونه بقولهم: بقيل، أو وقال بعضهم: هو الطهر. قلنا: أهل اللغة يحكون أن له مسميين فى اللغة، ويُصرحون بأنه يُقال على هذا وعلى هذا، ومنهم من يجعله فى الحيض أظهر، ومنهم من يحكى إطلاقه عليهما من غير ترجيح، فالجوهرى: رجَّح الحيض. والشافعى من أئمة اللغة، وقد رجح أنه الطهر، وقال أبو عبيد: القرء يصلحُ للطهر والحيض، وقال الزجاج: أخبرنى من أثق به، عن يونس، أن القرء عنده يصلحُ للطهر والحيض، وقال أبو عمرو بن العلاء: القرء الوقت، وهو يصلُح للحيض، ويصلح للطهر، وإذا كانت هذه نصوص أهل اللغة، فكيف يحتجون بقولهم: إن الأقراء الحيض؟ قولكم: إن من جعله الطهر، فإنه يُريد أوقات الطهر التى يحتوشُها الدم، وإلا فالصغيرة والآية ليستا مِن ذوات الأقراء، وعنه جوابان. أحدهما: المنع، بل إذا طلقت الصغيرة التى لم تحض ثم حاضت، فإنها تعتد بالطُّهر الذى طُلِّقت فيه قرءاً على أصح الوجهين عندنا، لأنه طهر بعده حيض، وكان قرءاً كما لو كان قبله حيض. الثانى: إنا وإن سلمنا ذلك، فإن هذا يدل على أن الطهر لا يُسمى قرءاً حتى يحتوِشَهُ دمانِ، وكذلك نقولُ: فالدم شرط فى تسميته قرءاً، وهذا لا يدل على أنَّ مسماه الحيض، وهذا كالكأس الذى لا يُقال على الإناء إلا بشرط كون الشراب فيه وإلا فهو زُجاجة أو قدح، والمائدة التى لا تُقال للخِوان إلا إذا كان عليه طعام، وإلا فهو خِوان، والكوز الذى لا يقال لمسماه: إلا إذا كان ذا عُروة، وإلا فهو كُوب، والقلم الذى يُشترط فى صحة إطلاقه على القصبة كونها مبرية، وبدون البرى، فهو أنبوب أو قصبة، والخاتم شرط إطلاقه أن يكون ذا فَصٍّ منه أَوْ مِنْ غيره، وإلا فهو فَتْحَةٌ، والفرو شرطُ إطلاقه على مسماه الصوف، وإلا فهو جلد. والرِّيطة شرط إطلاقها على مسماها أن تكون قِطعة واحدة، فإن كانت مُلفقة من قطعتين، فهى مُلاءة، والحُلة شرط إطلاقها أن تكون ثوبين، إزار ورداء، وإلا فهو ثوب، والأريكة لا تقال على السرير إلا إذا كان عليه حَجَلَة، وهى التى تُسمى بشخانة وخركاه، وإلا فهو سرير، واللَّطيمة لا تُقال للجِمال إلا إذا كان فيها طيب، وإلا فهى عِيْرٌ، والنَّفَق لا يقال إلا لما له منفذ، وإلا فهو سَرَبٌ، والعِهْنُ لا يقال للصوف إلا إذا كان مصبوغاً، وإلا فهو صوف، والخِدْر لا يقال إلا لما اشتمل على المرأة وإلا فهو سِتْر. والمِحْجَنُ لا يقال للعصا إلا إذا كان مَحْنَّيةِ الرأس، وإلا فهى عصا. والرَّكِيَّةُ لا تقال على البئر إلا بشرط كون الماء فيها، وإلا فهى بئر. والوَقُود لا يقال للحطب إلا إذا كانت النار فيه، وإلا فهو حطب، ولا يقال للتراب ثَرَى إلا بشرط نداوته، وإلا فهو تراب. ولا يقال للرسالة: مُغَلْغَلَة، إلا إذا حُمِلَتْ من بلد إلى بلد، وإلا فهى رسالة، ولا يقال للأرض فَرَاح إلا إذا هُيئت للزراعة، ولا يقال لهروب العبد: إباق إلا إذا كان هروبُه مِن غير خوف ولا جُوع ولا جَهد، وإلا فهو هروب، والريق لا يقال له رُضاب إلا إذا كان فى الفم، فإذا فارقه فهو بُصاق وبُساق والشجاعُ لا يقال له: كَمى إلا إذا كان شاكى السلاح، وإلا فهو بطل وفى تسميته بطلاً قولان أحدهما: لأنه تُبْطِلُ شجاعته قِرنه وضربه وطعنه والثانى: لأنه تَبْطُلُ شجاعةُ الشجعان عنده، فعلى الأول، فهو فَعَلَ بمعنى فاعل، وعلى الثانى، فَعَل بمعنى مفعول، وهو قياسُ اللغة. والبعير لا يقال له: راوية إلا بشرط حمله للماء، والطبق لا يُسمى مِهْدَى إلا أن يكون عليه هدية، والمرأة لا تُسمى ظَعينة إلا بشرطِ كونها فى الهودج، هذا فى الأصل، وإلا فقد تُسمى المرأة ظعينة، وإن لم تكن فى هودج، ومنه فى الحديث: ((فَمرَّتْ ظُعُنٌ يَجْرِينَ)) والدلو لا يُقال له: سَجْل إلا ما دام فيه ماء، ولا يُقال لها: ذَنوب، إلا إذا امتلأت به، والسريرُ لا يقال له: نعش، إلا إذا كان عليه ميِّت، والعظمُ لا يقال له: عَرْق، إلا إذا اشتمل عليه لحم، والخيطُ لا يُسمى سِمطاً إلا إذا كان فيه خَرَز، ولا يقال للحَبْلِ: قَرَن إلا إذا قُرِنَ فيه اثنان فصاعداً، والقوم لا يسمون رِفقة إلا إذا انضموا فى مجلس واحد، وسير واحد، فإذا تفرقوا زال هذا الاسمُ، ولم يَزُلْ عنهم اسمُ الرفيق، والحجارة لا تسمى رَضْفاً إلا إذا حُمِيَتْ بالشمس أو بالنار، والشمسُ لا يُقال لها: غزالة إلا عند ارتفاع النهار، والثوبُ لا يُسمى مِطْرَفاً، إلا إذا كان فى طرفيه عَلَمَان، والمجلس لا يُقِال له: النادى إلا إذا كان أهلُه فيه، والمرأة لا يُقال لها: عاتِق إلا إذا كانت فى بيت أبويها، ولا يسمى الماء الْمِلحُ أجُجاً، إلا إذا كان مع ملوحته مُرَّاً، ولا يُقال للسير: إهطاع إلا إذا كان معه خوفٌ، ولا يُقال للفرس: مُحَجَّل، إلا إذا كان البياض فى قوائمها كُلِّها، أو أكثرِها، وهذا باب طويل لو تقصيناه، فكذلك لا يُقال للطهر: قرء، إلا إذا كان قبلَه دم، وبَعدَه دم، فأين فى هذا ما يُدُلُّ على أنه حيض؟ قالوا: وأما قولُكم: إنه لم يجىء فى كلام الشارع إلا للحيض، فنحنُ نمنع مجيئَه فى كلام الشارع للحيض البتة، فضلاً عن الحصر. قالوا: إنه قال للمستحاضة: ((دعى الصلاة أيام أقرائك))، فقد أجاب الشافعى عنه فى كتاب حرملة بما فيه شفاء، وهذا لفظه. قال: وزعم إبراهيم ابن إسماعيل بن عُلية، أن الأقراء: الحيض، واحتج بحديث سفيان، عن أيوب، عن سُليمان بن يسار، عن أم سلمة رضى اللَّه عنها: أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال فى امرأة استُحيضت: ((تدعَ الصَّلاةَ أيَّامَ أَقْرَائِها)) قال الشافعى رحمه اللَّه: وما حدَّث بهذا سفيان قطُّ، إنما قال سفيان، عن أيوب، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة رضى اللَّه عنها، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ((تَدَعُ الصَّلاَةَ عَدَدَ اللَّيَالى والأيَّام الَّتى كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ)). أو قال: ((أَيَّامَ أَقْرَائِهَا))، الشك من أيوب لا يدرى. قال: هذا أو هذا، فجعله هو حديثاً على ناحية ما يريد، فليس هذا بصدق، وقد أخبر مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة رضى اللَّه عنها، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيالِى والأيَّامِ الَّتى كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أنْ يُصِيبَها الَّذِى أَصَابَها، ثُمَّ لِتَدَعِ الصَّلاَةَ، ثُمَّ لِتَغْتَسِلْ وَلُتصَلِّ)) ونافع أحفظ عن سليمان من أيوب وهو يقول: بمثل أحدِ معنيى أيوب اللذين رواهما، انتهى كلامه. قالوا: وأما الاستدلالُ بقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فى أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] وأنه الحيض، أو الحَبَلُ أو كِلاهما، فلا ريبَ أن الحيض داخِلٌ فى ذلك، ولكن تحريمُ كتمانه لا يدل على أن القُروء المذكورة فى الآية هى الحيض، فإنها إذا كانت الأطهار، فإنها تنقضى بالطعن فى الحيضة الرابعة أو الثالثة فإذا أرادت كِتمان انقضاء العِدة لأجل النفقة أو غيرها، قالت: لم أحض، فتنقضى عدتى، وهى كاذبة وقد حاضت وانقضت عِدتها، وحينئذ فتكون دلالة الآية على أن القروء الأطهار أظهر، ونحن نقنع بإتفاق الدلالة بها، وإن أبيتم إلا الاستدلالَ، فهو من جانبنا أظهر، فإن أكثر المفسرين قالوا: الحيض والولادة. فإذا كانت العِدة تنقضى بظهور الولادة، فهكذا تنقضى بظهور الحيض تسويةً بينهما فى إتيان المرأة على كل واحد منهما. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:55 PM | #415 |
|
وأما استدلالُكم بقوله تعالى: {والَّلائى يَئِسْنَ مِنَ المحِيضِ مِنْ نِسَائِكُم إن ارْتَبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4].
فجعل كل شهر بإزاء حيضة، فليس هذا بصريح فى أن القروء هى الحيض، بل غاية الآية أنه جعل اليأسَ من الحيض شرطاً فى الاعتداد بالأشهر، فما دامت حائضاً لا تنتقل إلى عدة الآيسات، وذلك أن الأقراء التى هى الأطهار عندنا لا تُوجد إلا مع الحيض، لا تُكون بدونه، فمن أين يلزم أن تكون هى الحيض؟ وأما استدلالُكم بحديثِ عائشة رضى اللَّه عنها: ((طَلاَقُ الأَمِةَ طَلْقَتَانِ وقَرؤُهَا حَيْضَتَان))، فهو حديث لو استدللنا به عليكم لم تقبلُوا ذلك منا، فإنه حديثٌ ضعيف معلول، قال الترمذى: غريب لانعرفه إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يُعرف له فى العلم غير هذا الحديث، انتهى. ومظاهر بن أسلم هذا، قال فيه أبو حاتم الرازى: منكر الحديث. وقال يحيى بن معين: ليس بشىء، مع أنه لا يعرف، وضعفه أبو عاصم أيضاً. وقال أبو داود: هذا حديث مجهول، وقال الخطابى: أهلُ الحديث ضعفوا هذا الحديث، وقال البيهقى: لو كان ثابتاً لقُلنا به إلا أنا لا نُثبت حديثاً يرويه من تُجهل عدالته، وقال الدارقطنى: الصحيح عن القاسم بخلاف هذا، ثم روى عن زيد بن أسلم قال: سئل القاسم عن الأمة كم تطلق؟ قال: طلاقها ثنتان، وعِدتها حيضتان. قال: فقيل له: هل بلغك عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى هذا؟ فقال: لا. وقال البخارى فى ((تاريخه)): مظاهر بن أسلم، عن القاسم، عن عائشة رضى اللَّه عنها يرفعه: ((طلاقُ الأمِة طلقتان، وعِدتُها حيضتَانِ)). قال أبو عاصم: أخبرنا ابنُ جريج، عن مظاهر، ثم لقيتُ مظاهراً، فحدثنا به، وكان أبو عاصم يُضَعِّفُ مظاهراً، وقال يحيى بن سليمان: حدثنا ابنُ وهب، قال: حدثنى أسامة بن زيد بن أسلم، أنه كان جالساً عند أبيه، فأتاه رسولُ الأمير، فقال: إن الأميرَ يقولُ لك: كم عِدةُ الأمة؟ فقال: عِدة الأمة حيضتان، وطلاقُ الحر الأمة ثلاث، وطلاقُ العبد الحرة تطليقتان، وعِدة الحرة ثلاثُ حيض، ثم قال للرسول: أين تذهبُ؟ قال أمرنى أن أسأل القاسم بن محمد، وسالم بن عبد اللَّه، قال: فأقْسِمُ عليك إلا رجعتَ إلىَّ فأخبرتنى ما يقولان، فذهب ورجع إلى أبى، فأخبره أنهما قالا كما قال، وقالا له: قل له: إن هذا ليس فى كتاب اللَّه، ولا سنةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكن عَمِلَ به المسلمون. وقال أبو القاسم بن عساكر فى ((أطرافه)): فدل ذلك على أن الحديثَ المرفوعَ غيرُ محفوظ. وأما استدلالكم بحديث ابن عمر مرفوعاً، ((طَلاقُ الأَمَةِ ثِنْتَانِ، وعِدَّتُها حَيْضَتَانِ))، فهو من رواية عطية بن سعدٍ العَوْفى، وقد ضعفه، غيرُ واحد من الأئمة. قال الدارقطنى: والصحيح عن ابن عمر رضى اللَّه عنه ما رواه سالم، ونافع من قوله، وروى الدارقطنى أيضاً عن سالم ونافع، أن ابن عمر كان يقول: طلاقُ العبد الحرة تطليقتان، وعِدتها ثلاثة قروء، وطلاقُ الحر الأمة تطليقتان، وعدتها عدة الأمة حيضتان. قالوا: والثابت بلا شك، عن ابن عمر رضى اللَّه عنه، أن الأقراء: الأطهار. قال الشافعى رحمه اللَّه: أخبرنا مالك رحمه اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا طلَّق الرجل امرأته، فدخلت فى الدم من الحيضة الثالثة، فقد برئت منه، ولا ترثه ولا يرثها. قالوا: فهذا الحديثُ مدارُه على ابن عمر، وعائشة، ومذهبُهما بلا شك أن الأقراء: الأطهار، فكيف يكون عندهما عن النبى صلى الله عليه وسلم خلافُ ذلك، ولا يذهبان إليه؟ قالوا: وهذا بعينه هو الجوابُ عن حديث عائشة الآخر: أمرت بريرة أن تعتدَّ ثلاثَ حيض. قالوا: وقد رُوى هذا الحديث بثلاثة ألفاظ: أمرت أن تعتد، وأمرت أن تعتد عدة الحرة، وأمرت أن تعتد ثلاثَ حيض، فلعل رواية من روى ((ثلاث حيض)) محمولة على المعنى، ومن العجب أن يكون عند عائشة رضى اللَّه عنها هذا وهى تقول: الأقراء: الأطهار، وأعجبُ منه أن يكون هذا الحديثُ بهذا السند المشهور الذى كُلُّهم أئمة، ولا يخرجه أصحاب الصحيح، ولا المسانِد، ولا من اعتنى بأحاديث الأحكام وجمعها، ولا الأئمة الأربعة، وكيف يصبر عن إخراج هذا الحديث من هو مضطر إليه، ولا سيما بهذا السندِ المعروف الذى هو كالشمس شُهرةً ولا شك بريرَة أمرت أن تعتد، وأما أنها أمرت بثلاثِ حيض، فهذا لو صحَّ لم نَعدُهُ إلى غيره، ولبادرنا إليه. قالوا: وأما استدلالكم بأن الاستبراء، فلا ريب أن الصحيحَ كونه بحيضة، وهو ظاهرُ النص الصحيح، فلا وجه للاشتغال بالتعلل بالقول: إنها تُستبرأ بالطهر، فإنه خلاف ظاهر نصِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلاف القول الصحيح من قول الشافعى، وخلاف قول الجمهور من الأمة، فالوجه العدولُ إلى الفرق بين البابين، فنقولٌ: الفرقُ بينهما ما تقدم أن العِدة وجبت قضاء لحق الزوج، فاختُصَّت بزمان حقه، وهو الطهرُ بأنها تتكرر، فيُعلم منها البراءة بواسطة الحيض بخلاف الاستبراء. قولكم: لو كانت الأقراء الأطهار لم تحصل بالقَرء الأول دلالة، لأنه لو جامعها ثم طلَّقها فيه حُسِبَتْ بقيته قَرءاً، ومعلوم قطعاً أن هذا الطهر لا يدل على شىء. فجوابه أنها إذا طهرت بعد طُهرين كاملين، صحت دِلالته بإنضمامه إليهما. قولُكم: إن الحدودَ والعلاماتِ والأدلة إنما تحصل بالأمور الظاهرة إلى آخره. جوابه أن الطهر إذا احتوشه دمانِ، كان كذلك، وإذا لم يكن قبله دم، ولا بَعده دم، فهذا لا يُعتد به البتة. قالوا: ويزيد ما ذهبنا إليه قوة، أن القَرء هو الجمع، وزمان الطهر أولى به، فإنه حينئذ يجتمع الحيضُ، وإما يخرج بعد معه. قالوا وإدخال التاء فى ثلاثة قروء يدل على أن القَرء مذكر، وهو الطهر فلو كان الحيض لكان بغير تاء لأن واحدها حيضة. فهذا ما احتج به أربابُ هذا القول استدلالاً وجواباً، وهذا موضع لا يُمكن فيه التوسطُ بينَ الفريقين، إذ لا توسط بين القولين، فلا بد من التحيُّزِ إلى أحد الفئتين ونحن متحيِّزون فى هذه المسألة إلى أكابر الصحابة وقائلون فيها بقولهم: إن القَرء الحيضُ، وقد تقدم الاستدلالُ على صحة هذا القول، فنُجيب عما عارض به أربابُ القول الآخر، ليتبين ما رجحناه، وباللَّه التوفيق. فنقول: أما استدلالُكم بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فهو إلى أن يكونَ حجة عليكم أقربُ منه إلى أن يكون حجة لكم، فإن المرأة طلاقها قبل العدة ضرورة، إذ لا يمكن حملُ الآية على الطلاق فى العِدة فإن هذا مع تضمنه لكون اللام للظرفية بمعنى- في - فاسد معنى، إذ لا يُمكن إيقاعُ الطلاق فى العِدة، فإنه سبُبها، والسببُ يتقدم الحكم، وإذا تقرر ذلك فمن قال: الأقراء الحيض، فقد عمل بالآية، وطلَّق قبل العدة. فإن قلتم: ومن قال: إنها الأطهار فالعِدة تتعقب الطلاق، فقد طلَّق قبل العدة، قلنا: فبطل احتجاجُكم حينئذ، وصحَّ أن المراد الطلاقُ قبل العدة لا فيها، وكلا الأمرين يصح أن يُراد بالآية، لكن إرادةُ الحيض أرجحُ، وبيانُه أن العِدة فعلة مما يعنى معدودة، لأنها تُعد وتُحصى، كقوله: {وَأَحْصُوا العِدَّةَ} [الطلاق: 1]، والطهرُ الذى قبل الحيضة، مما يعد ويُحصى، فهو من العِدة، وليس الكلامُ فيه، وإنما الكلام فى أمر آخر، وهو دخولُه فى مسمى القروء الثلاثة المذكورة فى الآية أم لا؟ فلو كان النصُّ: فطلقوهن لِقروئهن، لكان فيه تعلق، فهنا أمران. قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَة قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، والثانى: قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، ولا ريب أن القائل: افعل كذا لثلاث بَقِينَ مِن الشهر، إنما يكون المأمور ممتثلاً إذا فعله قبل مجىء الثلاث، وكذلك إذا قال: فعلته لثلاث مضين من الشهر، إنما يصدق إذا فعله بعد مضى الثلاث، وهو بخلاف حرف الظرف الذى هو ((فى)) فإنه إذا قال: فعلته فى ثلاث بقين، كان الفعل واقعاً فى نفس الثلاث، وههنا نكتة حسنة، وهى أنهم يقولون: فعلُته لثلاث ليال خَلَوْن أو بقين من الشهر، وفعلته فى الثانى أو الثالث من الشهر، أو فى ثانية أو ثالثة، فمتى أرادوا مضى الزمان أو استقباله، أتَوْا باللام، ومتى أرادوا وقوعَ الفعل فيه، أتوا بفى، وسِرُّ ذلك أنهم إذا أرادوا مضى زمن الفعل أو استقباله أتوا بالعلامة الدالة على اختصاص العدد الذى يلفظون به بما مضى، أو بما يُستقبل، وإذا أرادوا وقوع الفعل فى ذلك الزمان أتوا بالأداة المعينة له، وهى أداة ((فى))، وهذا خير من قول كثير من النحاة: إن اللام تكون بمعنى قبل فى قولهم: كتبته لثلاث بقين، وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وبمعنى بعد، كقولهم: لثلاث خلون. وبمعنى فى: كقوله تعالى: {ونضع الموازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، وقوله: {فَكَيْفَ إذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 25]، والتحقيقُ أن اللام على بابها للاختصاص بالوقت المذكور، كأنهم جعلوا الفِعل للزمان المذكور اتساعاً لاختصاصه به، فكأنه له، فتأمله. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:57 PM | #416 |
|
وفرق آخر: وهو أنك إذا أتيت باللام، لم يكن الزمانُ المذكورُ بعدَه إلا ماضياً أو منتظراً، ومتى أتيت بفى لم يكن الزمان المجرور بها إلا مقارناً للفعل، وإذا تقرَّر هذا مِن قواعد العربية، فقولُه تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، معناه: لاستقبال عدتهن لا فيها، وإذا كانت العدة التى يُطلق لها النساء مستقبلةً بعد الطلاق، فالمستقبَلُ بعدها إنما هو الحيضُ، فإن الطاهر لا تستَقْبِلُ الطهر إذ هى فيه، وإنما تستقبلُ الحيضَ بعد حالها التى هى فيها، هذا المعروفُ لغةً وعقلاً وعُرفاً، فإنه لا يُقال لمن هو فى عافية: هو مستقبل العافية، ولا لمن هو فى أمن: هو مستقبل الأمن، ولا لمن هو فى قبض مغله وإحرازه: هو مستقبل المغل، وإنما المعهودُ لغة وعُرفاً أن يستقبلَ الشىءَ منْ هو على حال ضِدْ، وهذا أظهرُ من أن نُكثَر شواهده.
فإن قيل: فيلزم من هذا أن يكون من طلق فى الحيض مطلقاً للعِدة عند مَنْ يقول: الأقراء الأطهار، لأنها تستقبلُ طهرها بعد حالها التى هى فيها، قلنا: نعم يلزمهم ذلك، فإنه لو كان أول العدة التى تُطلق لها المرأة هو الطهر، لكان إذا طلقها فى أثناء الحيض مطلقاً للعدة، لأنها تستقبِلُ الطهرَ بعد ذلك الطلاق. فإن قيل: ((اللام)) بمعنى ((فى))، والمعنى: فطلقوهن فى عدتهن، وهذا إنما يُمكن إذا طلقها فى الطهر، بخلاف ما إذا طلقها فى الحيض قيل: الجوابُ من وجهين. أحدهما: أن الأصل عدمُ الاشتراك فى الحروف، والأصل إفراد كل حرف بمعناه فدعوى خلافِ ذلك مردودة بالأصل. الثانى: أنه يلزم منه أن يكون بعض العِدة ظرفاً لزمن الطلاق، فيكون الطلاق واقعاً فى نفس العِدة ضرورة صحة الظرفية، كما إذا قلت: فعلته فى يوم الخميس بل الغالب فى الاستعمال مِن هذا، أن يكون بعضُ الظرف سابقاً على الفعل، ولا ريبَ فى امتناع هذا، فإن العِدة تتعقب الطلاق ولا تُقارنه، ولا تتقدم عليه. قالوا: ولو سلمنا أن ((اللام)) بمعنى ((فى))، وساعد على ذلك قراءةُ ابن عمر رضى اللَّه عنه وغيره: ((فطلقوهن فى قُبُلِ عدتهن))، فإنه لا يلزمُ مِن ذلك أن يكون القَرء: هو الطهر، فإن القَرء حينئذ يكون هو الحيضَ، وهو المعدودُ والمحسوب، وما قَبله من الطهر يدخل فى حكمه تبعاً وضمناً لوجهين. أحدهما: أن من ضرورة الحيض أن يتقدَّمه طهر، فإذا قيل: تربَّصى ثلاث حيض، وهى فى أثناء الطهر كان ذلك الطهر من مدة التربص، كما لو قيل لرجل: أقم ههنا ثلاثة أيام، وهو أثناء ليلة، فإنه يدخُل بقية تلك الليلة فى اليوم الذى يليها، كما تدخل ليلة اليومين الآخرين فى يوميهما. ولو قيل له فى النهار: أقم ثلاث ليال، دخل تمامُ ذلك النهار تبعاً لليلة التى تليه. الثانى: أن الحيض إنما يتم بإجتماع الدم فى الرحم قبله، فكان الطهر مقدمةً وسبباً لوجود الحيض، فإذا علق الحكم بالحيض، فَمِنْ لوازمه ما لا يُوجد الحيض إلا بوجوده، وبهذا يظهرُ أن هذا أبلغُ مِن الأيام والليالى، فإن الليلَ والنهار متلازمان، وليس أحدهما سبباً لوجود الآخر، وههنا الطهرُ سببٌ لاجتماع الدم فى الرحم، فقولُه سبحانه وتعالى: {لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أى: لاستقبال العدة التى تتربصها، وهى تتربص ثلاث حيض بالأطهار التى قبلها. فإذا طلقت فى أثناء الطهر، فقد طلقت فى الوقت الذى تستقبل فيه العدة المحسوبة، وتلك العِدة هى الحيض بما قبلها من الأطهار، بخلاف ما لو طلقت فى أثناء حيضة، فإنها لم تطلق لِعدة تحسبها، لأن بقية ذلك الحيض ليس هو العِدة التى تعتد بها المرأة أصلاً ولا تبعاً لأصل، وإنما تسمى عِدة لأنها تُحبس فيها عن الأزواج، إذا عرف هذا، فقوله: {ونَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، يجوز أن تكون اللامُ لامَ التعليل، أى: لأجل يومِ القيامة. وقد قيل: إن القِسط منصوب على أنه مفعول له، أى: نضعها لأجل القسط، وقد استوفى شروطَ نصبه، وأما قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، فليست اللام بمعنى ((فى)) قطعاً، بل قيل: إنها لام التعليل، أى: لأجل دلوك الشمس، وقيل: إنها بمعنى بعد، فإنه ليس المرادُ إقامتهَا وقتَ الدلوك سواء فسر بالزوال أو الغروب، وإنما يُؤمر بالصلاة بعده، ويستحيلُ حمل آية العدة على ذلك، وهكذا يستحيلُ حملُ آية العِدة عليه، إذ يصيرُ المعنى: فَطَلِّقُوهُنَّ بَعْدَ عِدَّتِهِنَّ. فلم يبق إلا أن يكون المعنى: فطلقوهن لاستقبال عِدتهن، ومعلوم أنها إذا طلقت طاهراً استقبلت العدةَ بالحيض. ولو كانت الأقراء الأطهار، لكانت السنة أن تطلق حائضاً لتستقبل العدة بالأطهار، فبيَّن النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن العدة التى أمر اللَّه أن تطلق لها النساء هى أن تطلَّق طاهراً لتستقبل عدتها بعد الطلاق. فإن قيل: فإذا جعلنا الأقراء: الأطهار، استقبلت عدتها بعد الطلاق بلا فصل، ومن جعلها الحيضَ لم تستقبلها على قوله حتى ينقضى الطُّهرُ. قيل: كلام الرب تبارك وتعالى لا بد أن يُحمل على فائدة مستقلة، وحملُ الآية على معنى: فطلقوهن طلاقاً تكون العدةُ بعده لا فائدة فيه، وهذا بخلاف ما إذا كان المعنى: فطلقوهن طلاقاً يستقبلن فيه العدة لا يستقِبْلنَ فيه طهراً لا تعتد به، فإنها إذا طُلقت حائضاً استقبلت طهراً لا تعتد به، فلم تُطلق لاستقبال العدة، ويُوضحه قراءة من قرأ: فَطَلِّقُوهُنَّ فى قُبُل عِدَّتِهِنَّ. وقُبُلُ العدة: هو الوقت الذى يكون بين يدى العدة تستقبل به، كقبل الحائض، يوضحه أنه لو أُريد ما ذكروه، لقيل: فى أوَّلِ عدتهن، فالفرق بَيِّنٌ بينَ قُبُلِ الشىء وأوله. وأما قولكم: لو كانت القروء هى الحِيض، لكان قد طلقها قَبْلَ العِدة. قلنا: أجل، وهذا هو الواجبُ عقلاً وشرعاً، فإن العِدة لا تُفارق الطلاقَ ولا تَسبِقُهُ، بل يجبُ تأخرها عنه. قولكم: وكان ذلك تطويلاً عليها، كما لو طلَّقها فى الحيض، قيل: هذا مبنى على أن العِلة فى تحريمِ طلاق الحائض خشية التطويل عليها، وكثيرٌ من الفقهاء لا يرضون هذا التعليلَ، ويفسدونه بأَنها لو رضيت بالطلاق فيه، واختارت التطويلَ، لم يُبح له، ولو كان ذلك لأجل التطويل، لم تبح له برضاها، كما يُباح إسقاطُ الرجعة الذى هو حقُّ المطلِّق بتراضيهما بإسقاطها بالعِوض اتفاقاً، وبدونه فى أحد القولين، وهذا هو مذهبُ أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد ومالك، ويقولون: إنما حرم طلاقُها فى الحيض، لأنه طلقها فى وقت رغبة عنها، ولو سلمنا أن التحريم لأجل التطويل عليها، فالتطويلُ المضر أن يُطلقها حائضاً، فتنتظرَ مضى الحيضة والطهر الذى يليها، ثم تأخُذ فى العدة، فلا تكون مستقبلةً لِعدتها بالطلاق وأما إذا طلقت طاهراً، فإنها تستقبِلُ العِدة عقيب انقضاء الطهر، فلا يتحقق التطويلُ. وقولكم: إن القَرء مشتق من الجمع، وإنما يُجمع الحيض فى زمن الطهر. عنه ثلاثة أجوبة. أحدها: أن هذا ممنوع، والذى هو مشتق من الجمع إنما هو مِن باب الياء مِن المعتل، من قرى يقرى، كقضى يقضى، والقَرء من المهموز من بنات الهمز، مِن قرأ يقرأ، كنحر يَنحر، وهما أصلان مختلفان فإنهم يقولون: قريتُ الماء فى الحوض أقريه، أى: جمعتُه، ومنه سميت القرية، ومنه قرية النمل: للبيت الذى تجتمع فيه، لأنه يقربها، أى: يضمُّها ويجمعُها. وأما المهموزُ، فإنه من الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد، ومنه قراءة القرآن، لأن قارئه يُظهره ويُخرجه مقداراً محدوداً لا يزيدُ ولا ينقُصُ، ويدل عليه قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْآنَه} [القيامة: 17]، ففرق بين الجمع والقُرْآنِ. ولو كانا واحداً، لكان تكريراً محضاً، ولهذا قال ابن عباس رضى اللَّه عنهما: {فإذَا قَرأْنَاهُ فاتَّبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، فإذا بيناه، فجعل قراءته نفس إظهاره وبيانه، لا كما زعم أبو عُبيدة أن القرآن مشتق من الجمع. ومنه قولهم: ما قرأت هذه الناقةُ سَلَى قَطُّ، وما قرأت جنيناً هو من هذا الباب، أى ما ولدته وأخرجته وأظهرته، ومنه: فلان يَقرؤك السلام، ويقرأ عليك السلام، هو من الظهور والبيان، ومنه قولهم: قرأت المرأة حيضة أو حيضتين، أى: حاضتهما، لأن الحيض ظهورُ ما كان كامناً، كظهور الجنين، ومنه: قروء الثريا، وقروء الريح: وهو الوقت الذى يظهر المطر والريح، فإنهما يظهران فى وقت مخصوص، وقد ذكر هذا الاشتقاق المصنفون فى كتب الاشتقاق، وذكره أبو عمرو وغيره، ولا ريب أن هذا المعْنَى فى الحيض أظهرُ منه فى الطهر. قولكم: إن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: القُروء: الأطهار، والنساء أعلم بهذا من الرجال. فالجواب أن يُقال: مَنْ جَعَلَ النساء أعلمَ بمراد اللَّه من كتابه، وأفهَم لمعناه مِن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعبد اللَّه بن مسعود وأبى الدرداء رضى اللَّه عنهم، وأكابر أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟، فنزولُ ذلك فى شأنهن لا يدل على أنهن أعلمُ به من الرجال، وإلا كانت كُلُّ آية نزلت فى النِّساءِ تكونُ النساءُ أعلَم بها من الرجال، ويجبُ على الرجال تقليدُهن فى معناها وحكمها فيكنَّ أعلَم مِن الرجال بآيةِ الرضاع، وآيةِ الحيض، وتحريمِ وطء الحائض، وآية عِدة المتوفى عنها، وآيةِ الحمل والفِصال ومدتهما، وآيةِ تحريم إبداء الزينة إلا لمن ذكر فيها، وغير ذلك من الآيات التى تتعلق بهن، وفى شأنهن نزلت، ويجبُ على الرجال تقليدُهن فى حكم هذه الآيات ومعناها، وهذا لا سبيل إليه البتة. وكيف ومدار العلم بالوحى على الفهم والمعرفة، ووفور العقل والرجال أحقُّ بهذا من النساء، وأوفر نصيباً منه، بل لا يكاد يختِلفُ الرجالُ والنساء فى مسألة إلا والصوابُ فى جانب الرجال، وكيف يُقال: إذا اختلفت عائشة، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعبد اللَّه بن مسعود فى مسألة: إن الأخذ بقول عائشة رضى اللَّه عنها أولى، وهل الأولى إلا قولٌ فيه خليفتان راشدان؟ وإن كان الصديق معهما كما حُكى عنه، فذلك القولُ مما لا يعدوه الصوابُ البتة، فإن النقل عن عمر وعلى ثابت، وأما عن الصديق، ففيه غرابة، ويكفينا قولُ جماعة من الصحابة فيهم مثلُ: عمر، وعلى، وابن مسعود، وأبى الدرداء، وأبى موسى، فكيف نقدم قول أُمِّ المؤمنين وفهمها على أمثال هؤلاء؟ ثم يقال: فهذه عائشة رضى اللَّه عنها ترى رضاعَ الكبير يَنْشُرُ الحُرمة، ويُثبت المحرمية، ومعها جماعة من الصحابة رضى اللَّه عنهم، وقد خالفها غيرُها من الصحابة، وهى روت حديثَ التحريم به، فهلاَّ قلتم: النساءُ أعلم بهذا من الرجال، ورجحتم قولَها على قول من خالفها؟ |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 03:59 PM | #417 |
|
ونقول لأصحاب مالك رحمه اللَّه: وهذه عائشة رضى اللَّه عنها لا ترى التحريمَ إلا بخمس رضعات، ومعها جماعةٌ من الصحابة، وروت فيه حديثين، فهلاَّ قلُتم: النساء أعلم بهذا من الرجال، وقدمتُم قولَها على قول من خالفها؟ فإن قلتم: هذا حكم يتعدَّى إلى الرجال، فيستوى النساءُ معهم فيه، قيل: ويتعدى حكمُ العِدة مثله إلى الرجال، فيجب أن يستوىَ النساءُ معهم فيه، وهذا لخفاءَ به. ثم يُرجح قولُ الرجال فى هذه المسألة، بأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهِد لِواحدٍ من هذا الحزب، بأن اللَّه ضرب الحقَّ على لِسانه وقلبه. وقد وافق ربَّه تبارك وتعالى فى عدة مواضع قال فيها قولاً، فنزل القرآنُ بمثل ما قال، وأعطاه النبىُّ صلى الله عليه وسلم فضلَ إنائه فى النوم، وأوله بالعلم وشهد له بأنه مُحَدَّثٌ مُلْهَمٌ، فإذا لم يكن بُد من التقليد، فتقليدُه أولى، وإن كانت الحجة هى التى تَفْصِلُ بين المتنازعين، فتحكيمُها هو الواجب.
قولكم: إن من قال: إن الأقراء الحِيَض، لا يقولُون بقول على وابن مسعود، ولا بقول عائشة، فإن علياً يقول: هو أحقُّ برجعتها ما لم تغتسل، وأنتم لا تقولون بواحدٍ من القولين، فهذا غايتُه أن يكون تناقضاً ممن لا يقول بذلك، كأصحاب أبى حنيفة، وتلْكَ شَكَاة ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا عمن يقول بقول على، وهو الإمام أحمد وأصحابه، كما تقدم حكاية ذلك، فإن العِدة تبقى عنده إلى أن تغتسل كما قاله على، ومن وافقه، ونحن نعتذِرُ عمن يقول: الأقراء الحِيض فى ذلك، ولا يقول: هو أحقُّ بها ما لم تغتسل فإنه وافق من يقول: الأقراء الحِيض فى ذلك، وخالفه فى توقف انقضائها على الغسل لمعارض أوجب مخالفته، كما يفعلُه سائر الفقهاء. ولو ذهبنا نعُدُّ ما تصرفتم فيه هذا التصرفَ بعينه، فإن كان هذا المعارض صحيحاً لم يكن تناقضاً منهم، وإن لم يكن صحيحاً، لم يكن ضعفُ قولهم فى إحدى المسألتين عندهم بمانع لهم مِن موافقتهم لهم فى المسألة الأخرى، فإن موافقة أكابر الصحابة وفيهم مَنْ فيهم مِن الخلفاء الراشدين فى معظم قولهم خيرٌ، وأولى من مخالفتهم فى قولهم جميعِه وإلغائه بحيث لايُعتبر البتة. قالوا: ثم لم نخالفهم فى توقف انقضائها على الغسل، بل قلنا: لا تنقضى حتى تغتسِلَ، أو يمضى عليها وقتُ صلاة، فوافقناهم فى قولهم بالغسل، وزدنا عليهم انقضاءَها بمضى وقت الصلاة، لأنها صارت فى حكم الطاهرات بدليل استقرار الصلاة فى ذمتها، فأين المخالفةُ الصريحة للخلفاء الراشدين رضوان اللَّه عليهم. وقولكم: لا نجد فى كتاب اللَّه للغسل معنى. فيقال: كتابُ اللَّه تعالى لم يتعرض للغسل بنفى ولا إثبات، وإنما علَّق الحِلَّ والبينونة بإنقضاء الأجل. وقد اختلف السلف والخلف فيما ينقضى به الأجلُ، فقيل: بإنقطاع الحيض. وقيل: بالغسل أو مضى صلاة، أو انقطاعه لأكثره. وقيل: بالطعن فى الحيضة الثالثة، وحجة من وقفه على الغسل قضاءُ الخلفاء الراشدين، قال الإمام أحمد: عمر، وعلى، وابن مسعود يقولون: حتى تغتسِلَ من الحيضة الثالثة. قالوا: وهم أعلمُ بكتاب اللَّه، وحدودِ ما أُنزِل على رسوله، وقد رُوِىَ هذا المذهب عن أبى بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبى موسى، وعُبادة، وأبى الدرداء، حكاه صاحب ((المغنى)) وغيره عنهم. ومن ههنا قيل: إن مذهب الصديق ومن ذُكِرَ معه، أن الأقراء: الحِيض. قالوا: وهذا القول له حظ وافر مِن الفقه، فإن المرأة إذا انقطع حيضها صارت فى حكم الطاهرات من وجه، وفى حكم الحُيَّضِ من وجه، والوجوه التى هى فيها فى حكم الحيض أكثر من الوجوه التى هى فيها فى حُكم الطاهرات، فإنها فى حُكم الطاهرات فى صحة الصيام، ووجوب الصلاة، وفى حُكم الحُيَّضِ فى تحريم قراءة القرآن عند من حرمه على الحائض، واللبث فى المسجد، والطواف بالبيت، وتحريم الوطء، وتحريم الطلاق فى أحد القولين، فاحتاطَ الخلفاءُ الراشدون وأكابر الصحابة للنكاح، ولم يُخرجوها منه بعد ثبوته إلا بقيد لا ريبَ فيه، وهو ثبوتُ حكم الطاهرات فى حقها من كل وجه، إزالةٌ لليقين بيقين مثله، إذ ليس جعلها حائضاً فى تلك الأحكام أولى من جعلها حائضاً فى بقاء الزوجية، وثبوت الرجعة، وهذا من أدق الفقه وألطفه مأخذاً. قالوا: وأما قول الأعشى: لِما ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائكا. فغايته استعمال القروء فى الطهر، ونحن لا ننكره. قولكم: إن الطهر أسبق من الحيض، فكان أولى بالاسم، فترجيحٌ طريف جداً فمن أين يكون أولى بالاسم إذا كان سابقاً فى الوجود؟ ثم ذلك السابق لا يُسمى قرءاً ما لم يسبقه دم عند جمهور من يقوله: الأقراء الأطهار، وهل يقال فى كل لفظ مشترك: إن أسبق معانيه إلى الوجود أحق به، فيكون عَسْعَسَ من قوله: {واللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]، أولى بكونه لإقبال الليل لسبقه فى الوجود، فإن الظلام سابق على الضياء. وأما قولكم: إن النبى صلى الله عليه وسلم فسر القروء بالأطهار، فلعمرُ اللَّه لو كان الأمر كذلك، لما سبقتمُونا إلى القول بأنها الأطهار، ولبادرنا إلى هذا القول اعتقاداً وعملاً، وهل المعوَّل إلا على تفسيره وبيانه: تَقُولٌ سُلَيْمَى لَوْ أَقَمْتُمْ بأرْضِنَا وَلَم تَدْرِ أَنىِّ لِلْمُقَامِ أَطُوفُ فقد بينا مِن صريح كلامه ومعناه ما يدل على تفسيره للقروء بالحيض، وفى ذلك كفاية. فصل فى الأجوبة عن اعتراضكم على أدلتنا قولكم فى الاعتراض على الاستدلال بقوله: ((ثلاثة قروء)) فإنه يقتضى أن تكون كواملَ، أى بقية الطهر قرء كامل، فهذا ترجمة المذهب، والشأن فى كونه قرءاً فى لسان الشارع، أو فى اللغة، فكيف تستدلون علينا بالمذهب، مع منازعة غيرِكم لكم فيه ممن يقول: الأقراء الأطهار كما تقدم؟ ولكن أوجدونا فى لسان الشارع، أو فى لغة العرب، أن اللحظة من الطهر تسمى قَرءاً كاملاً، وغايةُ ما عندكم أن بعض مَنْ قال: القروءُ الأطهار، لا كُلُّهم يقولُون: بقيةُ القرء المطلق فيه قَرء، وكَانَ ماذا؟، كيف وهذا الجزءُ مِن الطُّهر بعضُ طهرٍ بلا ريب؟ فإذا كان مسمى القَرء فى الآية هو الطهر، وجب أن يكون هذا بعضَ قرء يقيناً، أو يكون القرء مشتركاً بينَ الجميع والبعض، وقد تقدَّم إبطالُ ذلك، وأنه لم يقل به أحد. قولكم: إن العرب تُوقِعُ اسم الجمع على اثنين، وبعض الثالث، جوابه من وجوه. أحدها: أن هذا إن وقع، فإنما يقع فى أسماء الجموع التى هى ظواهرُ فى مسماها، وأما صيغ العدد التى هى نصوص فى مسماها، فكلاَّ ولَمَّا، ولم تَردْ صيغةُ العدد إلا مسبوقة بمسماها، كقوله: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرَاً فى كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36] وقوله: {ولَبِثُوا فى كَهْفِهِمْ ثلاثَ مِائةٍ سِنينَ وازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف: 25] وقوله: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فى الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةُ} [البقرة: 196]. وقوله: {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 15]، ونظائره مما لا يُراد به فى موضع واحد دون مسماه من العدد. وقوله:{ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، اسم عدد ليس بصيغة جمع، فلا يَصِحُّ إلحاقه بأشهر معلومات، لوجهين. أحدهما: أن اسم العدد نصٌّ فى مسماه لا يقبَلُ التخصيصَ المنفصل، بخلاف الاسم العام، فإنه يقبل التخصيصَ المنفصل، فلا يلزم من التوسعِ فى الاسم الظاهر التوسعُ فى الاسم الذى هو نص فيما يتناولُه. الثانى: أن اسم الجمع يَصِحُّ استعمالُه فى اثنين فقط مجازاً عند الأكثرين، وحقيقة عند بعضهم، فصحة استعماله فى اثنين، وبعض الثالث أولى بخلافِ الثلاثة، ولهذا لما قال اللَّه تعالى: {فَإنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 16]، حمله الجمهورُ على أخوين، ولما قال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6]، لم يحملها أحدٌ على ما دون الأربع. والجواب الثانى: أنه وإن صح استعمال الجمع فى اثنين، وبعض الثالث، إلا أنه مجاز، والحقيقةُ أن يكون المعنى على وفق اللفظ، وإذا دار اللفظُ بين حقيقته ومجازه، فالحقيقةُ أولى به. (يتبع...) @ الجواب الثالث: أنه إنما جاء استعمالُ الجمع فى اثنين، وبعض الثالث فى أسماء الأيام والشهور والأعوام خاصة، لأن التاريخ إنما يكون فى أثناء هذه الأزمنة، فتارة يُدخلون السنة الناقصة فى التاريخ، وتارة لا يُدخلونها. وكذلك الأيامُ، وقد توسَّعُوا فى ذلك ما لم يتوسعوا فى غيره، فأطلقوا الليالى، وأرادوا الأيامَ معها تارة، وبدونها أخرى وبالعكس. الجواب الرابع: أن هذا التجوزَ جاء فى جمع القِلة، وهو قوله: {الحجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}. [البقرة: 197] وقوله: {ثَلاَثَةَ قُروُءٍ} [البقرة: 228]، جمعُ كثرة، وكان مِن الممكن أن يُقال: ثلاثة أقراء، إذ هو الأغلبُ على الكلام، بل هو الحقيقة عند أكثر النحاة، والعدولُ عن صيغة القلة إلى صيغة الكثرة لا بد له من فائدة، ونفى التجوز فى هذا الجمع يصلح أن يكون فائدة، ولا يظهر غيرها، فوجب اعتبارُها. الجواب الخامس: أن اسم الجمع إنما يُطلق على اثنين، وبعض الثالث فيما يقبل التبعيض، وهو اليومُ والشهر والعامُ، ونحو ذلك دونَ ما لا يقبله، والحيض والطهر لا يتبعضان، ولهذا جُعِلَتْ عدة الأمة ذات الأقراء قرءين كاملين بالاتفاق، ولو أمكن تنصيفُ القرء، لجعلت قَرءاً ونصفاً، هذا مع قيام المقتضى للتبعيض، فأن لا يجوزَ التبعيض مع قيام المقتضى للتكميل أولى، وسِرُّ المسألة أن القرءَ ليس لبعضه حكم فى الشرع. الجواب السادس: أنه سبحانه قال فى الآيسة والصغيرة: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرِ} [الطلاق: 4] ثم اتفقت الأمة على أنها ثلاثة كوامل، وهى بدلٌ عن الحيض، فتكميلُ المبدل أولى. قولكم: إن أهل اللغة يُصرحون بأن له مسميين: الحيض والطهر، لا ننازعكم فيه، ولكن حمله على الحيض أولى للوجوه التى ذكرناها، والمشترك إذا اقترن به قرائنُ تُرجِّحُ أحدَ معانيه، وجب الحملُ على الراجح. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 04:01 PM | #418 |
|
قولكم: إن الطهر الذى لم يسبقه دم، قَرء على الأصح، فهذا ترجيحٌ وتفسير للفظة بالمذهب، وإلا فلا يُعرف فى لغة العرب قط أن طهر بنتِ أربع سنين يُسمى قرءاً، ولا تُسمى من ذوات الأقراء، لا لغة ولا عرفاً ولا شرعاً، فثبت أن الدم داخل فى مسمى القَرء، ولا يكون قرءاً إلا مع وجوده.
قولكم: إن الدم شرط للتسمية، كالكأس والقلم وغيرهما من الألفاظ المذكورة تنظِيرٌ فاسد، فإن مسمى تلك الألفاظَ حقيقة واحدة مشروطة بشروط، والقَرء مشترك بين الطهر والحيض، يقال: على كل منهما حقيقة، فالحيضُ مسماه حقيقة لا أنه شرط فى استعماله فى أحد مسمييه فافترقا. قولكم: لم يجىء فى لسان الشارع للحيض، قلنا، قد بينا مجيئَه فى كلامه للحيض، بل لم يجىء فى كلامه للطهر البتة فى موضع واحد، وقد تقدَّم أن سفيان ابن عيينة روى عن أيوب، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة رضى اللَّه عنها، عن النبى صلى الله عليه وسلم فى المستحاضة ((تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِها)). قولكم: إن الشافعى قال: ما حدث بهذا سفيان قط، جوابُه أن الشافعى لم يسمع سفيان يُحدث به، فقال بموجب ما سمعَه مِن سفيان، أو عنه من قوله: ((لتنظر عدد الليالى والأيام التى كانت تحيضهن من الشهر)) وقد سمعه من سفيان من لا يُستراب بحفظه وصدقه وعدالته. وثبت فى السنن، من حديث فاطمة بنت أبى حُبيش، أنها سألت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فشكت إليه الدَّمَ، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ، فانْظُرى، فإذا أَتَى قَرْؤُك، فَلاَ تُصَلِّى، وإذَا مَرَّ قَرْؤُكِ، فَتَطَهَّرِى، ثُمَّ صَلِّى مَا بَيْنَ القَرْءِ إلى القَرْءِ)). رواه أبو داود بإسناد صحيح، فذكرفيه لفظ القرء أربع مرات فى كل ذلك يريد به الحيض لا الطهر، وكذلك إسناد الذى قبله، وقد صححه جماعة من الحفاظ. وأما حديث سفيان الذى قال فيه: ((لِتنظُرْ عَدَدَ الليالى والأيامَ التى كانت تحيضُهن من الشهر))، فلا تعارض بينه وبين اللفظ الذى احتججنا به بوجه ما حتى يُطلب ترجيحُ أحدهما على الآخر، بل أحدُ اللفظين يجرى من الآخر مجرى التفسير والبيان، وهذا يدل على أن القَرء اسم لتلك الليالى والأيام، فإنه إن كانا جميعاً لفظَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو الظاهر فظاهر، وإن كان قد روى بالمعنى، فلولا أن معنى أحدِ اللفظين معنى الآخر لغة وشرعاً، لم تَحِلَّ للراوى أن يُبدِّلَ لفظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما لا يقوم مقامه، ولا يسوغُ له أن يُبَدِّلَ اللفظ بما يُوافق مذهبه، ولا يكون مرادفاً للفظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لا سيما والراوى لذلك من لا يُدفع عن الإمامة والصدق والورع، وهو أيوب السَّختيانى، وهو أجلُّ مِن نافع وأعلم. وقد روى عثمان بن سعد الكاتب، حدثنا ابن أبى مليكة، قال: جاءت خالتى فاطمة بنت أبى حُبيش إلى عائشة رضى اللَّه عنها، فقالت: إنى أخاف أن أقع فى النار، أَدَعُ الصلاةَ السنة والسنتين، قالت: انتظرى حَتى يجىءَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجاء، فقالت عائشةُ رضى اللَّه عنها: هذه فاطمةُ تقول: كذا وكذا، قال: ((قُولى لَهَا فَلْتَدَعِ الصَّلاَةَ فى كُلِّ شَهْرٍ أَيَّامَ قَرْئِهَا)). قال الحاكم: هذا حديث صحيح، وعثمان بن سعد الكاتب بصرى ثقة عزيز الحديث، يُجمع حديثه، قال البيهقى: وتكلم فيه غيرُ واحد. وفيه: أنه تابعه الحجاجُ بن أرطاة عن ابن أبى مليكة عن عائشة رضى اللَّه عنها. وفى ((المسند)): أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لِفاطمة: ((إذَا أَقْبَلَتْ أَيَّامُ أَقْرَائِكِ فأمْسِكى عَلَيْكِ...)) الحديثَ. وفى سنن أبى داود من حديث عدى بن ثابت، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبى صلى الله عليه وسلم، فى المستحاضة ((تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أقْرَائِهَا، ثم تَغْتَسِلُ وتُصَلى)). وفى ((سننه)) أيضاً: أن فاطمة بنت أبى حبيش سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فشكت إليه الدم، فقال لها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما ذلكَ عِرْقٌ فَانْظُرى، فَإذَا أَتى قَرْؤُكِ، فَلاَ تُصَلِّى، فإذا مَرَّ قَرْؤُكِ فَتَطَهَّرى ثُمَّ صَلِّى ما بَيْنَ القَرْءِ إلى القَرْءِ)). وقد تقدم. قال أبو داود: وروى قتادة، عن عروة، عن زينب، عن أم سلمة رضى اللَّه عنها، أن أمَّ حبيبة بنت جحش رضى اللَّه عنها استحيضت، فأمرها النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن تَدَعَ الصَّلاة أيَّامَ أقرائها. وتعليل هذه الأحاديث، بأن هذا مِن تغيير الرواة، رووه بالمعنى لا يُلتفت إليه، ولا يُعرج عليه، فلو كانت من جانب مَنْ عللها، لأعاد ذِكرها وأبداه، وشنَّع على من خالفها. وأما قولكم: إن اللَّه سبحانه وتعالى جعل اليأس من الحيض شرطاً فى الاعتداد بالأشهر، فمن أين يلزم أن تكون القُروء هى الحِيَض؟ قلنا: لأنه جعل الأشهرَ الثلاثة بدلاً عنِ الأقراءِ الثلاثة، وقال: {واللاَّئى يَئِسْنَ مِنَ المحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمُ} [الطلاق: 4]، فنقلهن إلى الأشهر عند تعذُّر مبدلهن، وهو الحيض، فدل على أن الأشهر بدل عن الحيضِ الذى يَئِسْنَ منه، لا عن الطهر، وهذا واضح. قولكم: حديثُ عائشة رضى اللَّه عنها معلول بمظاهر بن أسلم، ومخالفة عائشة له، فنحن إنما احتججنا عليكم بما استدللُتم به علينا فى كون الطلاق بالنساء لا بالرجال، فكُلُّ من صنف من أصحابكم فى طريق الخلاف، أو استدلَّ على أن طلاق العبد طلقتان، احتج علينا بهذا الحديث. وقال: جعل النبىُّ صلى الله عليه وسلم طلاقَ العبد تطليقتين، فاعتبر الطلاقَ بالرجال لا بالنساء، واعتبر العِدة بالنساء، فقال: وعدة الأَمَةِ حَيْضَتَانِ. فيا سُبحان اللَّه، يكونُ الحديث سليماً من العِلل إذا كان حجة لكم، فإذا احتجَّ به منازعوكم عليكم اعتورته العِلل المختلفة، فما أشبَهه بقول القائل: يَكُونُ أُجَاجاً دُونَكُم فَإذَا انْتَهى إلَيْكُم تَلقَّى نَشْركُمْ فَيَطِيبُ فنحن إنما كِلنا لكم بالصاع الذى كِلتم لنا به بخساً ببخس، وإيفاءً بإيفاء، ولا ريبَ أن مُظاهراً ممن لا يُحتج به، ولكن لا يمتنع أن يُعْتَضَدَ بحديثه، ويقوى به، والدليلُ غيرُه. وأما تعليلُه بخلاف عائشة رضى اللَّه عنها له، فأين ذلك من تقريرِكم، أن مخالفة الراوى لا تُوجب ردَّ حديثه، وأن الاعتبار بما رواه لا بما رآه، وتكثركم مِن الأمثلة التى أخذ الناسُ فيها بالرواية دونَ مخالفة راويها لها، كما أخذوا بروايةِ ابن عباس المتضمنة لبقاء النكاح مع بيع الزوجة، وتركوا رأيه بأن بيع الأمة طلاقُها، وغير ذلك. وأما ردكم لحديث ابن عمر رضى اللَّه عنه: ((طلاق الأمة طلقتان، وقَرؤها حيضتان)). بعطية العوفى، فهو وإن ضعفه أكثرُ أهل الحديث، فقد احتمل الناسُ حديثه، وخرجوه فى السنن، وقال يحيى بن معين فى رواية عباس الدورى عنه: صالح الحديث، وقال أبو أحمد بن عدى رحمه اللَّه: روى عنه جماعة من الثقات، وهو مع ضعفه يُكتب حديثه، فيُعتضد به وإن لم يُعتمد عليه وحده. وأما ردكم الحديث بأن ابن عمر مذهبه: أن القُروء الأطهار، فلا ريب أن هذا يُورث شبهة فى الحديث، ولكن ليس هذا بأوّلِ حديث خالفه راويه، فكان الاعتبارُ بما رواه لا بما ذهب إليه، وهذا هو الجوابُ عن ردكم لحديث عائشة رضى اللَّه عنها بمذهبان، ولا يُعترض على الأحاديث بمخالفة الرواة لها. وأما ردُّكم لحديث المختلعة، وأمرها أن تعتد بحيضة، فإنا لا نقول به، فللناس فى هذه المسألة قولان، وهما روايتان عن أحمد أحدهما: أن عدتها ثلاثُ حيض، كقول الشافعى، ومالك، وأبى حنيفة. والثانى: أن عدتها حيضة، وهو قولُ أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عباس، وهو مذهب أبان بن عثمان، وبه يقول إسحاق ابن راهويه، وابن المنذر، وهذا هو الصحيحُ فى الدليل، والأحاديث الواردة فيه لا معارضَ لها، والقياس يقتضيه حكماً، وسنبين هذه المسألة عند ذكر حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى عِدة المختلعة. قالُوا: ومخالفتنا لحديث اعتداد المختلعة بحيضة فى بعض ما اقتضاه من جواز الاعتداد بحيضة لا يكونُ عذراً لكم فى مخالفة ما اقتضاه من أن القُروء الحيض، فنحن وإن خالفناه فى حكم، فقد وافقناه فى الحكم الآخر، وهو أن القَرء الحيض، وأنتم خالفتموه فى الأمرين جميعاً، هذا مع أن من يقول: الأقراء الحِيض، ويقول: المختلعة تعتد بحيضة، قد سَلِمَ مِن هذه المطالبة، فماذا تردون به قولَه؟ |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 04:03 PM | #419 |
|
وأما قولُكم فى الفرق بين الاستبراء والعِدة: إن العِدة وجبت قضاءَ لحق الزوج، فاختصت بزمان حقه، كلامٌ لا تحقيق وراءه، فإن حقَّه فى جنس الاستمتاع فى زمن الحيض والطهر، وليس حقه مختصاً بزمن الطهر، ولا العِدة مختصة بزمن الطهر دون الحيض، وكلا الوقتين محسوب من العدة، وعدم تكرر الاستبراء لا يمنع أن يكون طهراً محتوشاً بدمين، كقُرء المطلقة، فتبين أن الفرق غيرُ طائل.
قولكم: إن انضمام قرءين إلى الطهر الذى جامع فيه يجعلُه علماً جوابُه أن هذا يُفضى إلى أن تكون العِدة قرءين حسب، فإن ذلك الذى جامع فيه لادلالة له على البراءة البتة، وإنما الدالُّ القَرآنِ بعده، وهذا خلاف موجب النص، وهذا لا يلزمُ مِن جعل الأقراء الحِيض، فإن الحيضة وحدها علم، ولهذا اكتفى بها فى استبراء الإماء. قولكم: إن القرء هو الجمع، والحيض يجتمع فى زمان الطهر، فقد تقدم جوابُه، وأن ذلك فى المعتل لا فى المهموز. قولكم: دخولُ التاء فى ثلاثة، يدل على أن واحدها مذكر، وهو الطهر، جوابُه أن واحد القروء قَرء، وهو مذكر، فأتى بالتاء مراعاةً للفظه، وإن كان مسماه حيضة، وهذا كما يُقال: جاءنى ثلاثة أنفس، وهُنَّ نساء بإعتبار اللفظ. واللَّه أعلم. فصل وقد احتج بعُموم آيات العِدد الثلاث مَنْ يرى أن عِدة الحرة والأمة سواء، قال أبو محمد ابن حزم: وعدة الأمة المتزوجة من الطلاق والوفاة، كعدة الحرة سواء بسواء، ولا فرق، لأن اللَّه تعالى علَّمنا العِدَدَ فى الكِتاب، فقال: {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَة قُروُءٍ} [البقرة: 228] وقال: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُم وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، وقال اللَّه تعالى: {واللاَّئى يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُم إن ارْتَبْتُم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاَّئى لَم يحِضْنَ وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: 4]، وقد علم اللَّه تعالى إذ أباح لنا زواج الإماء، أنه يكون عليهن العِدَدُ المذكورات. وما فرَّق عز وجل بين حُرَّةٍ ولا أَمَةٍ فى ذلك، وما كان ربك نسياً. وثبت عمن سلف مثل قولنا: قال محمد بن سِيرين رحمه اللَّه. ما أرى عِدَّة الأَمَةِ إلا كَعِدَّة الحُرَّة، إلا أن يكون مضت فى ذلك سُنَّةٌ، فالسُّنَّةُ أحقُّ أن تُتَّبَعَ. قال: وقد ذكر أحمد بن حنبل، أن قول مكحول: إنَّ عِدَّة الأمة فى كل شى، كَعِدَّة الحُرَّة، وهو قول أبى سليمان، وجميع أصحابنا، هذا كلامه. وقد خالفهم فى ذلك جمهور الأُمَّةِ، فقالوا: عِدَّتُها نصف عِدَّة الحرة، هذا قول فقهاء المدينة: سعيدِ بنِ المسيب، والقاسِم، وسالِم، وزيدِ بن أسلم، وعبدِ اللَّه بن عتبة، والزهرىِّ، ومالك، وفقهاءِ أهل مكة: كعطاءِ بنِ أبى رباح، ومسلم بنِ خالد وغيرهما، وفقهاءِ البصرة: كقتادة، وفقهاءِ الكوفة، كالثورىِّ وأبى حنيفةَ وأصحابِه رحمهم اللَّه. وفقهاءِ الحديثِ كأحَمدَ وإسحاق، والشافعى، وأبى ثور رحمهم اللَّه وغيرهم، وسلفُهم فى ذلك الخليفتان الراشدان: عمرُ بنُ الخطاب، وعلىُّ بنُ أبى طالب، رضى اللَّه عنهما، صح ذلك عنهما، وهو قولُ عبدِ اللَّه بنِ عمر رضى اللَّه عنه، كما رواه مالك، عن نافع، عنه: عِدَّةُ الأَمَةِ حيضتان، عِدَّةُ الحرة ثلاث حِيَض، وهو قول زيد ابن ثابت، كما رواه الزهرى، عن قَبيصة، بن ذُؤَيب، عن زيد بن ثابت: عِدَّةُ الأَمَةِ حيضتان، وعِدَّة الحرة ثلاثُ حِيَضِ. وروى حماد بن زيد، عن عمرو بن أوس الثقفى، أن عمرَ بنَ الخطاب رضى اللَّه عنه قال: لو استطعتُ أن أجعلَ عِدَّةَ الأَمَةِ حيضةً ونصفاً لفعلت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، فاجعلها شهراً ونصفاً. وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جريح، أخبرنى أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: جعل لها عمرُ رضى اللَّه عنه حيضتين، يعنى: الأَمَةَ المطَلَّقة. وروى عبد الرزاق أيضاً: عن ابن عيينة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن عمر رضى اللَّه عنه: ينكح العبد اثنتين، ويطلِّق تطليقتين، وتعتدُّ الأَمَةُ حيضتين، فإن لم تحض، فَشَهْرين أو قال: فشهراً ونصفاً. وذكر عبد الرزاق أيضاً: عن معمرَ، عن المغيرة، عن إبراهيم النخعى، عن ابن مسعود قال: يكون عليها نصف العذاب، ولا يكون لها نصف الرخصة. وقال ابن وهب: أخبرنى رجال من أهل العلم: أن نافعاً، وابنَ قُسَيْطٍ، ويحيى ابن سيعد، وربيعة، وغير واحد من أصحابِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، والتابعين، قالوا: عِدَّةُ الأَمَةِ حيضتان. قالوا: ولم يزل هذا عمل المسلمين. قال ابن وهب: أخبرنى هشام بن سَعْد، عن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصِّدِّيق رضى اللَّه عنهم، قال: عِدَّة الأَمَةِ حيضتان. قال القاسم: مع أن هذا ليس فى كتاب اللَّه عز وجل، ولا نعلمه سُنَّةً عَنْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكن قد مضى أمرُ النَّاس على هذا، وقد تقدَّم هذا الحديث بعينه، وقولُ القاسم وسالم فيه لرسول الأمير، قل له: إن هذا ليس فى كِتاب اللَّه، ولا سُنَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكن عمل به المسلمون. قالوا: ولو لم يكن فى المسألة إلا قولُ عمر، وابنِ مسعود، وزيدِ بن ثابت، وعبد اللَّه بن عمر، لكفى به. وفى قول ابن مسعود رضى اللَّه عنه: تجعلون عليها نصف العذاب، ولا تجعلون لها نصف الرخصة، دليل على اعتبار الصحابة للأَقْيسة والمعانى، وإلحاق النظير بالنظير. ولما كان هذا الأثر مخالفاً لقول الظاهرية فى الأصل والفرع، طعن ابنُ حزم فيه وقال: لا يصح عن ابن مسعود: قال وهذا بعيد على رجل من عُرْضِ الناس، فكيف عن مثل ابن مسعود؟ وإنما جَرَّأَه على الطعن فيه، أنه من رواية إبراهيم النخعى عنه، رواه عبد الرزاق عن معمر، عن المغيرة، عن إبراهيم، وإبراهيم لم يسمع من عبد اللَّه، ولكن الواسطة بينه وبينه أصحاب عبد اللَّه كعلقمة ونحوه، وقد قال إبراهيم: إذا قلتُ: قال عبد اللَّه، فقد حدثنى به غير واحد عنه، وإذا قلت: قال فلان عنه، فهو عمن سَمَّيْتُ، أو كما قال. ومن المعلوم: أن بين إبراهيم، وعبد اللَّه أئمة ثقات، لم يسمِّ قَطُّ مُتَّهماً، ولا مجروحاً، ولا مجهولاً، فشيوخه الذين أخذ عنهم عن عبد اللَّه أئمة أجلاء نبلاء، وكانوا كما قيل: مُرُجَ الكوفة، وكل من له ذَوْق فى الحديث إذا قال إبراهيم: قال عبد اللَّه، لم يتوقف فى ثبوته عنه، وإن كان غيره ممن فى طبقته، لو قال: قال عبد اللَّه، لا يحصل لنا الثبت بقوله، فإبراهيم عن عبد اللَّه نظيرُ ابنِ المسيِّب عن عمر، ونظير مالك عن ابن عمر، فإن الوسائط بين هؤلاء وبين الصحابة رضى اللَّه عنهم إذا سَمَّوْهم وُجِدُوا من أَجَلِّ الناس، وأوثقهم، وأصدقِهم، ولا يُسَمُّون سواهم البتة، وَدَعِ ابنَ مسعود فى هذه المسألة، فكيف يخالف عمرَ، وزيداً، وابن عمر، وهم أعلم بكتاب اللَّه وسُنَّةِ رسوله، ويخالف عمل المسلمين، لا إلى قول صاحبٍ البتة، ولا إلى حديث صحيح، ولا حسن، بل إلى عمومٍ أمره ظاهر عند جميع الأُمَّةِ، ليس هو مما تخفى دلالته، ولا موضعه، حتى يظفر به الواحد والاثنان دون سائر الناس، هذا من أبين المحال. ولو ذهبنا نذكر الآثار عن التابعين بتنصيف عِدَّة الأمة، لطالت جداً ثم إذا تأملتَ سياق الآيات التى فيها ذِكر العِدَد، وجدتَها لا تتناول الإماء، وإنما تتناول الحرائر، فإنه سبحانه قال: {وَالمطَلَّقَاتُ يَتَربَّصْنَ بأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فى أَرْحَامِهِنَّ إنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخرِ وبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فى ذلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذى عَلَيْهِنَّ بِالمعْرُوفِ} [البقرة: 228] إلى أن قال: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلاَّ أَنْ يَخَافَا أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتَدَتْ به} [البقرة: 229] وهذا فى حق الحرائر دون الإماء، فإن افتداءَ الأمة إلى سيدها، لا إليها ثم قال: {فَإنْ طَلَّقَهَا، فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَها فَلاَجُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]، فجعل ذلك إليهما، والتراجع المذكور فى حق الأمة، وهو العقد، إنما هو إلى سيدها، لا إليها، بخلاف الحرة، فإنه إليها بإذن وليها، وكذلك قوله سبحانه فى عدة الوفاة:{وَالَّذِينَ يُتَوَفُّوْنَ مِنْكُم ويَذرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فى أَنْفُسِهِنَّ بِالمعْرُوفِ} [البقرة: 234]، وهذا إنما هو فى حق الحرة، وأما الأمة، فلا فعل لها فى نفسها البتة، فهذا فى العدة الأصلية. وأما عدة الأشهر، ففرع وبدل. وأما عدة وضع الحمل، فيستويان فيها، كما ذهب إليه أصحابُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، والتابعون، وعمل به المسلمون، وهو محض الفقه، وموافق لكتاب اللَّه فى تنصيف الحدِّ عليها، ولا يعرف فى الصحابة مخالف فى ذلك، وفَهْمُ أصحابِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن اللَّه أولى من فَهْمِ مَنْ شَذَّ عنهم من المتأخِّرين، وباللَّه التوفيق. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
12-19-2003, 04:06 PM | #420 |
|
ولا تعرف التسوية بين الحُرَّة والأمة فى العِدَّة عن أحدٍ من السلف إلا عن محمد ابن سيرين، ومكحول. فأما ابنُ سيرين، فلم يَجزِمْ بذلك، وأخبر به عن رأيه، وعلَّق القولَ به على عدم سُنَّة تُتَّبَعُ. وأما قول مكحول، فلم يذكر له سنداً، وإنما حكاه عنه أحمد رحمه اللَّه، وهو لا يقبل عند أهل الظاهر، ولا يصح، فلم يبق معكم أحد من السلف إلا رأىُ ابنِ سيرين وحدَه المعلَّقُ على عدم سُنةٍ مُتَّبعةٍ، ولا ريب أن سُنَّةَ عمرَ بنِ الخطاب رضى اللَّه عنه فى ذلك مُتَّبَعَةُ، ولم يخالفه فى ذلك أحد من الصحابة رضى اللَّه عنهم، واللَّه أعلم.
فإن قيل: كَيفَ تَدَّعُون إجماع الصحابة وجماهير الأُمَّة، وقد صحَّ عن عمرَ بنِ الخطاب رضى اللَّه عنه، أن عِدَّةَ الأمَةِ التى لم تبلغْ ثلاثةُ أشهر، وصح ذلك عن عمرَ بنِ عبد العزيز، ومجاهدِ والحسنِ، وربيعةَ، والليثِ بن سَعْدٍ والزهرى، وبكر ابنِ الأشجِّ، ومالكٍ، وأصحابه، وأحمدَ بنِ حنبلٍ فى إحدى الروايات عنه ومعلوم أن الأشهر فى حق الآيسة والصغيرة بَدَلٌ عن الأَقراء الثلاث، فدل على أن بَدَلها فى حقها ثلاثةٌ. فالجواب: أن القائلين بهذا هم بأنفسهم القائلون: إن عِدَّتها حيضتان وقد أَفْنُوا بهذا، وهذا، ولهم فى الاعتداد بالأشهر ثلاثةُ أقوال، وهى للشافعى، وهى ثلاث روايات عن أحمد. فأكثر الرواياتِ عنه أنها شهران، رواه عنه جماعة من أصحابه، وهو إحدى الروايتين عن عمرَ بنِ الخطاب رضى اللَّه عنه، ذكرها الأثرم وغيره عنه. وحجةُ هذا القول: أن عِدَّتها بالأقراء حيضتان، فجعل كل شهر مكان حيضةٍ. والقول الثانى: أن عِدَّتها شهرٌ ونصف، نقلها عنه الأثرم، والميمونى، وهذا قول علىِّ بنِ أبى طالب، وابنِ عمر، وابنِ المسيِّب، وأبى حنيفة، والشافعىِّ فى أحد أقواله. وحجته: أن التنصيف فى الأشهر ممكن، فتنصفت، بخلاف القروء. ونظير هذا: أن المُحْرِمَ إذا وجبَ عليه فى جزاء الصيد نصفَ مدٍّ أخرجه، فإن أراد الصيام مكانه، لم يجزه إلا صوم يومٍ كاملٍ. والقول الثالث: أنَّ عِدَّتها ثلاثةُ أشهرٍ كواملَ، وهو إحدى الروايتين عن عمر رضى اللَّه عنه، وقول ثالث للشافعى: وهو فيمن ذكرتموه. والفرق عند هؤلاء بين اعتدادها بالأقراء، وبين اعتدادها بالشهور، أن الاعتبار بالشهور للعلم ببراءة رحمها، وهو لا يحصل بدون ثلاثة أشهر فى حق الحرة والأمة جميعاً، لأن الحمل يكون نُطفةُ أربعين يوماً، ثم عَلقةً أربعين، ثم مُضْغةً أربعين، وهو الطَّوْر الثالث الذى يمكن أن يظهر فيه الحمل، وهو بالنسبة إلى الحرة والأمة سواء، بخلاف الأقراء، فإن الحيضة الواحدة عَلَم ظاهر على الاستبراء، ولهذا اكتفى بها فى حَقِّ المملوكة، فإذا زُوِّجَتْ فقد أخذت شَبهاً من الحرائر، وصارت أشرفَ من ملك اليمين، فجعلت عِدَّتُها بين العدتين. قال الشيخ فى ((المغنى)): ومن ردَّ هذا القول، قال: هو مخالف لإجماع الصحابة، لأنهم اختلفوا على القولين الأَوَّلَيْن، ومتى اختلفوا على قولين، لم يجز إحداث قول ثالث، لأنه يفضى إلى تخطئتهم، وخروجِ الحق عن قول جميعهم. قلت: وليس فى هذا إحداثُ قولٍ ثالثٍ، بل هو إحدى الروايتين عن عمر، ذكرها ابن وهب وغيره، وقال به من التابعين من ذكرناهم وغيرهم. فصل وأما عِدَّة الآيسةِ، والتى لم تَحِضْ، فقد بينها سبحانه فى كتابه فقال: {وَاللاَّئى يَئِسْنَ مِنَ المحِيضِ مِنْ نِسَائِكُم إن ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاَّئى لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]. وقد اضطرب الناس فى حدِّه بخمسين سنة، وقال: لا تحيض المرأة بعد الخمسين. وهذا قول إسحاق ورواية عن أحمد رحمه اللَّه، واحتج أرباب هذا القول بقول عائشة رضى اللَّه عنها: إذا بلغتْ خمسين سنةً، خرجت من حَدِّ الحُيَّضِ. طائفةٌ بستِّين سنةً، وقالوا: لا تحيضُ بعد الستين، وهذه رواية ثانية عن أحمد. وعنه رواية ثالثة: الفرق بين نساءِ العرب وغيرِهم، فحدُّه ستون فى نساءِ العرب، وخمسون فى نساءِ العجم. وعنه رواية رابعة: أن ما بين الخمسين والستين دم مشكوك فيه، تصوم وتصلِّى، وتَقْضى الصومَ المفروضَ، وهذه اختيار الخِرَقىِّ. وعنه رواية خامسة: أن الدم إن عاود بعد الخمسين وتكرر، فهو حيض، وإلا فلا. وأما الشافعى رحمه اللَّه، فلا نص له فى تقدير الإياس بمدة، وله قولان بعدُ. أحدهما: أنه يُعْرَف بيأس أقاربِها. والثانى: أنه يعتبر بيأس جميع النساء، فعلى القول الأول: هل المعتبر جميعُ أقاربها، أو نساءُ عَصَبَاتِها، أو نساء بلدِهَا خاصة؟ فيه ثلاثة أوجه، ثم إذا قيل: يعتبر بالأقارب، فاختلفتْ عادتُهن، فهل يعتبر بأقَلِّ عادةٍ منهن، أو بأكثرهن عادةً، أو بأقصرِ امرأة فى العالم عادةً؟ على ثلاثة أوجه. والقول الثانى للشافعى رحمه اللَّه: أن المعتبر جميعُ النساء. ثم اختلف أصحابه: هل لذلك حَدٌّ، أم لا؟ على وجهين. أحدهما: ليس له حَدٌّ، وهو ظاهر نَصِّه. والثانى له حَدٌّ، ثم اختلفوا فيه على وجهين. أحدهما: أنه ستون سنة، قاله أبو العباس بن القاص، والشيخ أبو حامد. والثانى: اثنان وستون سَنَةً، قاله الشيخ أبو إسحاق فى ((المهذب))، وابن الصبَّاغ فى ((الشامل)). وأما أصحاب مالك رحمه اللَّه، فلم يَحُدُّوا سِنَّ الإياس بحدٍّ البتة. وقال آخرون، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية: اليأس يختلف بإختلاف النساء، وليس له حَدٌّ يَتَّفِقُ فيه النساء. والمراد بالآية، أن يأس كل امرأة من نَفْسها، لأن اليأسَ ضِدُّ الرجاء، فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض، ولم ترجُهُ، فهى آيسةٌ، وإن كان لها أربعون أو نحوها، وغيرها لا تيأس منه وإن كان لها خمسون. وقد ذكر الزبير بن بَكَّار: أن بعضهم قال: لا تَلِدُ لخمسين سَنَةَ إلا عربيةٌ، ولا تَلِدُ لسِّتين سَنَةً إلا قرشيَّةُ. وقال: إن هندَ بنتَ أبى عُبيدة بن عبد اللَّه ابن ربيعة، ولدت موسى بن عبد اللَّه بن حسن بن حسن بن على بن أبى طالب رضى اللَّه عنهم ولها ستون سنة. وقد صح عن عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه فى امرأة طُلِّقت، فحاضت حَيْضَةً أو حَيْضَتين، ثم يرتفع حيضها لا تدرى ما رفَعَهُ أنها تتربَّص تسعةَ أشهر، فإن استبان بها حَمْل، وإلا اعتدَّتْ ثلاثَة أشهر. وقد وافقه الأكثرون على هذا، منهم مالك، وأحمد، والشافعى فى القديم. قالوا: تتربَّص غالب مدة الحمل، ثمَّ تعتدُّ عِدَّة الآيسةِ، ثم تَحِلُّ للأزواج ولو كانت بنت ثلاثين سنةً، أو أربعين، وهذا يقتضى أن عمرَ بن الخطاب رضى اللَّه عنه، ومن وافقه من السَّلَفِ والخَلَفِ، تكون المرأةُ آيسةً عندهم قبل الخمسين، وقبل الأربعين، وأن اليأس عندهم ليس وقتاً محدوداً للنساء، بل مثل هذه تكون آيسةً وإن كانت بنت ثلاثين، وغيرُها لا تكون آيسةُ وإن بلغت خمسين. وإذا كانوا فيمن ارتفع حيضُها ولا تدرى ما رَفَعَهُ، جعلوها آيسةً بعد تسعة أشهر، فالتى تدرى ما رَفَعَهُ إما بدواءٍ يعلم أنه لا يعودُ مَعَهُ، وإما بعادةٍ مستقرَّةٍ لها من أهلها وأقاربها أولى أن تكون آيسةً. وإن لم تبلغ الخمسين، وهذا بخلاف ما إذا ارتفع لمرض، أو رضاع، أو حمل، فإن هذه ليست آيسةً، فإن ذلك يزول. |
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
::: حق الله على العباد ::: لشيخنا الدكتور محمد سعيد رسلان حفظه الله تعالى | Aboabdalah | الصوتيات والمرئيات الإسلامية وأناشيد الأطفال | 2 | 09-16-2009 02:15 AM |