الإهداءات


رياض الصالحين على مذهب أهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 12-16-2003, 07:19 PM
مركز تحميل الصور
الalwaafiـوافي غير متصل
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل : Sep 2003
 فترة الأقامة : 8021 يوم
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم : 1
 معدل التقييم : الalwaafiـوافي is an unknown quantity at this point
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي



قال ابن مسعود رضى الله عنه : لكل فرحةٍ تَرْحة ، وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إلا مُلِىءَ تَرحاً .

وقال ابن سيرين : ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء .

وقالت هند بنت النُّعمان : لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكاً ، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس ، وأنه حقٌ على الله ألا يملأ داراً خَيْرة إلا ملأها عَبرة .

وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن أمرها ، فقالت : أصبحنا ذا صباح ، وما فى العرب أحدٌ إلا يرجونا ، ثم أمسينا وما فى العرب أحد إلا يرحمُنا .

وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان يوماً ، وهى فى عِزِّها ، فقيل لها : ما يُبكيكِ ، لعل أحداً آذاك ؟ قالت : لا ، ولكن رأيتُ غَضارة فى أهلى ، وقلَّما امتلأت دارٌ سروراً إلا امتلأت حُزناً .

قال إسحاق بنُ طلحة : دخلتُ عليها يوماً ، فقلتُ لها : كيف رأيتِ عبراتِ الملوك ؟ فقالت : ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما كنا فيه الأمس ، إنَّا نجِدُ فى الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون فى خيْرة إلا سيُعقَبون بعدها عَبرة ، وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم يكرهونه ، ثم قالت :

فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا *** إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَـا *** تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ

ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها ، بل يُضاعفها ، وهو فى الحقيقة من تزايد المرض .

ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم ، وهو الصلاةُ والرحمة والهداية التى ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع ، أعظمُ مِن المصيبة فى الحقيقة .

ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الجَزَعَ يُشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويُغضب ربه ، ويَسرُّ شيطانه ، ويُحبط أجره ، ويُضعف نفسه ، وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه ، وردَّه خاسئاً ، وأرضى ربه ، وسرَّ صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه ، فهذا هو الثباتُ والكمال الأعظم ، لا لطمُ الخدودِ ، وشقُّ الجيوب ، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور ، والسخَطُ على المقدور .

ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب من اللَّذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه ، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذى يُبنى له فى الجنَّة على حمده لربه واسترجاعه ، فلينظرْ : أىُّ المصيبتين أعظمُ ؟ مصيبةُ العاجلة ، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد فى جنَّة الخلد ؟

وفى الترمذى مرفوعاً : ((يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ جُلُودَهُم كانت تُقْرَضُ بالمقارِيض فى الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ)) .

وقال بعضُ السَّلَف : لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا القيامة مفاليس .

ومِن عِلاجها : أن يُرَوِّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَفِ من الله ، فإنه من كُلِّ شىء عِوَض إلا الله ، فما مِنه عِوَضٌ كما قيل :

مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ *** وَمَا مِنَ اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ

ومن عِلاجها : أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له ، فمن رضى ، فله الرِّضى ، ومن سخِط ، فله السَّخَط ، فحظُّك منها ما أحدثته لك ، فاختر خيرَ الحظوظ أو شرَّها ، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً ، كُتِب فى ديوان الهالكين ، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً فى ترك واجب ، أو فى فعل مُحَرَّم ، كُتِبَ فى ديوان المفرِّطين ، وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صبرٍ ، كُتِبَ فى ديوان المغبونين ، وإن أحدثتْ له اعتراضاً على الله ، وقدحاً فى حكمته ، فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه ، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله ، كُتِبَ فى ديوان الصابرين ، وإن أحدثت له الرِّضى عن الله ، كُتِبَ فى ديوان الراضين ، وإن أحدثت له الحمدَ والشكرَ ، كُتِبَ فى ديوان الشاكرين ، وكان تحتَ لواء الحمد مع الحمَّادين ، وإن أحدثت له محبةً واشتياقاً إلى لقاء ربه ، كُتِبَ فى ديوان المُحبِّين المخلصين .

وفى ((مسند الإمام أحمد)) والترمذىِّ ، من حديثِ محمود بن لبيد يرفعه : ((إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم ، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى ، ومَن سَخِط فَلَهُ السُّخْطُ)) . زاد أحمد : ((ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ )) .

ومِن عِلاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ فى الجَزَع غايتَه ، فآخِرُ أمره إلى صبر الاضطرار ، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب ، قال بعض الحكماء : العاقلُ يفعل فى أوَّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ، ومَن لم يصبْر صَبْرَ الكِرَام ، سلا سُلُوَّ البهائم

وفى ((الصحيح)) مرفوعاً : ((الصَّبْرُ عند الصَّدْمَةِ الأُولى)) .

وقال الأشعث بن قيس : إنك إن صبرتَ إيماناً واحتساباً ، وإلا سَلَوْتَ سُلُوَّ البهائِم .

ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ أنفع الأدوية له موافقةُ ربه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له ، وأن خاصيَّة المحبة وسِرَّها موافقةُ المحبوب ، فمَن ادَّعى محبة محبوب ، ثم سَخِطَ مَا يُحِبُّه ، وأحبَّ ما يُسخطه ، فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتَمقَّتَ إلى محبوبه .

وقال أبو الدرداء : إنَّ الله إذا قضى قضاءً ، أحب أن يُرضَى به .

وكان عِمران بن حصين يقول فى عِلَّته : أحَبُّهُ إلىَّ أحَبُّهُ إليه ، وكذلك قال أبو العالية .

وهذا دواءٌ وعِلاجٌ لا يَعمل إلا مع المُحبِّين ، ولا يُمكن كُلّ أحد أن يتعالج به .

ومِن عِلاجها : أن يُوازِن بين أعظم اللَّذتين والتمتعين ، وأدْوَمِهما : لذَّةِ تمتعه بما أُصيب به ، ولَذَّةِ تمتُّعه بثواب الله له ، فإن ظهر له الرجحان ، فآثر الراجِحَ ، فليحمدِ الله على توفيقه ، وإن آثر المرجوحَ مِن كل وجه ، فليعلم أنَّ مصيبتَه فى عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التى أُصيب بها فى دنياه

ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الذى ابتلاه بها أحكمُ الحاكمين ، وأرحمُ الراحمين ، وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البلاءَ ليُهلكه به ، ولا ليُعذبه به ، ولا ليَجْتاحَه ، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرُّعه وابتهالَه ، وليراه طريحاً ببابه ، لائذاً بجنابه ، مكسورَ القلب بين يديه ، رافعاً قصصَ الشكوى إليه .

قال الشيخ عبد القادر : يا بُنَىَّ ؛ إنَّ المصيبةَ ما جاءت لِتُهلِكَكَ ، وإنَّما جاءت لتمتحِنَ صبرك وإيمانَك ، يا بُنَىَّ ؛ القَدَرُ سَبُعٌ ، والسَّبُعُ لا يأكل الميتةَ .

والمقصود : أنَّ المصيبة كِيرُ العبدِ الذى يُسبَك به حاصله ، فإما أن يخرج ذهباً أحمر ، وإما أن يخرج خَبَثاً كله ، كما قيل :

سَبَكْنَاه ونَحْسِبـــُهُ لُجَيْناً *** فأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ

فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ فى الدنيا ، فبيْنَ يديه الكِيرُ الأعظم ، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها خيرٌ له من ذلك الكِير والمسبك ، وأنه لا بد من أحد الكِيرَين ، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه فى الكِير العاجل .

ومِن عِلاجها : أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها ، لأصاب العبدَ مِن أدْواء الكِبْرِ والعُجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكه عاجلاً وآجلاً ، فمن رحمةِ أرحم الراحمين أن يتفقَّده فى الأحيان بأنواع من أدوية المصائب ، تكون حِمية له من هذه الأدواء ، وحِفظاً لصحة عُبوديتهِ ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه ، فسبحانَ مَن يرحمُ ببلائه ، ويبتلى بنعمائه كما قيل:

قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ *** وَيَبْتَلِى اللهُ بعْضَ الْقَـوْمِ بِالنِّعَمِ

فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء ، لطَغَوا ، وبَغَوْا ، وعَتَوْا ، واللهُ سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرِغُ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه ، أهَّلَه لأشرفِ مراتب الدنيا ، وهى عبوديتُه ، وأرفع ثواب الآخرة ، وهو رؤيتُه وقُربه ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ مرارةَ الدنيا هى بعينها حلاوةُ الآخرة ، يَقلِبُها الله سبحانه كذلك ، وحلاوة الدنيا بعينها مرارةُ الآخرة ، ولأَنْ ينتقل مِن مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك . فإن خَفِىَ عليك هذا ، فانظر إلى قول الصادق المصدوق : ((حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكَارهِ ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ))

وفى هذا المقام تفاوتت عقولُ الخلائق ، وظهرت حقائقُ الرجال ، فأكثرُهم آثرَ الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدائمة التى لا تزول ، ولم يحتمل مرارةَ ساعةٍ لِحلاوة الأبد ، ولا ذُلَّ ساعةٍ لِعزِّ الأبد ، ولا مِحنةَ ساعةٍ لعافيةِ الأبد ، فإنَّ الحاضر عنده شهادةٌ ، والمنتظر غيبٌ ، والإيمان ضعيفٌ ، وسلطانُ الشهوة حاكم ، فتوَلَّد من ذلك إيثارُ العاجلة ، ورفضُ الآخرة ، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأُمور ، وأوائلها ومبادئها ، وأما النظر الثاقب الذى يَخرِق حُجُب العاجلة ، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات ، فله شأنٌ آخرُ .

فادع نفسك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم ، والسعادة الأبدية ، والفوز الأكبر ، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزى والعقاب والحسرات الدائمة ، ثم اخترْ أىُّ القسمَيْن أليقُ بك ، وكُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ، وكُلُّ أحد يصبُو إلى ما يُناسبه ، وما هو الأَوْلَى به ، ولا تستطِلْ هذا العلاج ، فشدةُ الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه ، وبالله التوفيق.



 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي

رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 07:21 PM   #2
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



فصل

فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج الكرب والهم والغم والحزن

أخرجا فى ((الصحيحين)) من حديث ابن عباس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكَرْب : ((لا إلهَ إلا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العَظِيمُ ، لا إلهَ إلا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ السَّبْع ، ورَبُّ الأرْض
رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمُ)) .

وفى ((جامع الترمذىِّ)) عن أنس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ((كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ ، قال : ((يا حَىُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ)) .

وفيه عن أبى هُريرة : ((أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أهمَّهُ الأَمْرُ ، رفع طرفه إلى السماء فقال : ((سُبْحَانَ الله العظيمِ)) ، وإذا اجتهد فى الدعاء قال : ((يا حَىُّ يا قَيُّومُ)) .

وفى ((سنن أبى داود)) ، عن أبى بكر الصِّدِّيق ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((دَعَواتُ المكروبِ : اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو ، فَلا تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ ، لا إله إلا أنْتَ)) .

وفيها أيضاً عن أسماء بنت عُمَيس قالت : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ألا أُعلِّمُكِ كلماتٍ تقوليهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أو فى الكَرْبِ:
((اللهُ رَبِّى لا أُشْرِكُ به شيئاً)) .

وفى رواية أنها تُقال سبعَ مرات .

وفى ((مسند الإمام أحمد)) عن ابن مسعود ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال : ((ما أصابَ عبداً هَمٌ ولا حُزْنٌ فقال : اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ، ابنُ عَبْدِكَ ، ابنُ أمتِكَ ، ناصِيَتى بيَدِكَ ، مَاضٍ فِىَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌْ فىَّ قضاؤكَ ، اسألُكَ بكل اسْمٍ هُوَ لكَ سَمَّيْتَ به نَفْسَكَ ، أو أنزلْتَه فِى كِتَابِكَ ، أو عَلَّمْتَهُ أحداً من خَلْقِك ، أو استأثَرْتَ به فى عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ : أن تَجْعَل القُرْآنَ العظيم رَبيعَ قَلْبِى ، ونُورَ صَدْرى ، وجِلاءَ حُزنى ، وذَهَابَ هَمِّى ، إلا أذْهَبَ اللهُ حُزْنَه وهَمَّهُ ، وأبْدَلَهُ مكانَهُ فرحاً)) .

وفى ((الترمذىِّ)) عن سعد بن أبى وَقَّاص ، قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((دعوةُ ذى النُّون إذْ دَعَا رَبَّهُ وهو فى بَطْنِ الحُوتِ : {لاَ إلهَ إلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، لَمْ يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ فى شىءٍ قَطُّ إلا اسْتُجِيبَ له)) .

وفى رواية : ((إنِّى لأعلمُ كِلْمَةً لا يقولُهَا مكْروبٌ إلا فرَّج الله عنه : كَلِمَةَ أخى يُونُس)) .

وفى ((سنن أبى داود)) عن أبى سعيد الخدرى ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له : أبو أُمَامة ، فقال : ((يا أبا أُمامة ؛ ما لى أرَاكَ فى المسجدِ فى غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ)) ؟ فقال : هُمومٌ لَزِمَتْنى ، وديونٌ يا رسولَ الله ، فقال : ((ألا أُعَلِّمُكَ كلاماً إذا أنت قُلْتَهُ أذهبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ هَمَّكَ وقَضَى دَيْنَكَ)) ؟ قال : قلتُ : بلى يا رسول الله، قال : ((قُلْ إذا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ : اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ من الهَمِّ والحَزَنِ ، وأعوذُ بِكَ من العَجْزِ والكَسَلِ ، وأعوذُ بِكَ من الجُبْنِ والبُخْلِ ، وأعُوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَال)) ، قال : ففعلتُ ذلك ، فأذهب الله عَزَّ وجَلَّ هَمِّى ، وقَضى عنى دَيْنِى .

وفى ((سنن أبى داود)) ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَن لَزِمَ الاستغفارَ ، جَعَلَ اللهُ لَهُ من كلِّ هَمٍّ فَرَجاً ، ومِن كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً ، ورزَقَهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِب))

وفى ((المسند)) : أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ ، فَزِعَ إلى الصَّلاة ، وقد قال تعالى : {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالْصَّلاَة}

وفى ((السنن)) : ((عَلَيْكُم بالجِهَادِ ، فإنَّه بابٌ مِن أبوابِ الجَنَّةِ ، يدفعُ اللهُ به عن النُّفُوسِ الهَمَّ والغَمَّ)) .

ويُذكر عن ابن عباس ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم : ((مَن كَثُرَتْ هُمُومُهُ وغُمُومُهُ ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ : لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ)) .

وثبت فى ((الصحيحين)) : أنها كَنزٌ من كنوز الجَنَّة .

وفى ((الترمذى)) : أنها بابٌ من أبواب الجَنَّة .

هذه الأدوية تتضمَّن خمسةَ عشرَ نوعاً من الدواء ، فإن لم تقو على إذهاب داءِ الهَمِّ والغَمِّ والحزن ، فهو داءٌ قد استحكم ، وتمكنت أسبابه ، ويحتاج إلى استفراغ كُلِّى ..

الأول : توحيد الرُّبوبية .

الثانى : توحيد الإلهية .

الثالث : التوحيد العلمى الاعتقادى .

الرابع : تنزيه الرَّب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يُوجب ذلك .

الخامس : اعتراف العبد بأنه هو الظالم .

السادس : التوسُّل إلى الرَّب تعالى بأحبِّ الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعانى الأسماء والصفات : الحىُّ القَيُّوم .

السابع : الاستعانة به وحده .

الثامن : إقرار العبد له بالرجاء .

التاسع : تحقيقُ التوكلِ عليه ، والتفويضِ إليه ، والاعترافُ له بأنَّ ناصيتَه فى يده ، يُصرِّفُه كيف يشاء ، وأنه ماضٍ فيه حُكمُه ، عدلٌ فيه قضاؤه .

العاشر : أن يَرتَعَ قلبُه فى رياض القرآن ، ويجعلَه لقلبه كالربيع للحيوان ، وأن يَسْتَضِىءَ به فى ظُلُماتِ الشُّبهات والشَّهوات ، وأن يَتسلَّى به عن كل فائت ، ويَتعزَّى به عن كل مصيبة ، ويَستشفِىَ به من أدواء صدره ، فيكونُ جِلاءَ حُزْنِه ، وشفاءَ همِّه وغَمِّه .

الحادى عشر : الاستغفار .

الثانى عشر : التوبة .

الثالث عشر : الجهاد .

الرابع عشر : الصلاة .

الخامس عشر : البراءة من الحَوْل والقُوَّة وتفويضُهما إلى مَن هُما بيدِه .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 07:23 PM   #3
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



فصل

فى بيان جهة تأثير هذه الأدوية فى هذه الأمراض

خلق الله سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه ، وجعل لكل عُضو منها كمالاً إذا فقده أحسَّ بالألم ، وجعل لِمَلِكها وهو القلب كمالاً ، إذا فقده ، حضرتْه أسقامُه وآلامُه من الهموم والغموم والأحزان .

فإذا فقدت العَيْنُ ما خُلِقَتْ له مِن قوة الإبصار ، وفقدت الأُذنُ ما خُلِقتْ له مِن قوة السَّمْع ، واللِّسَانُ ما خُلِقَ له مِن قُوَّة الكلام ، فقدتْ كمالَها

والقلبُ : خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به ، والابتهاج بحبه ، والرضى عنه ، والتوكل عليه ، والحب فيه ، والبغض فيه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، ودوام ذكره ، وأن يكون أحبَّ إليه مِن كل ما سواه ، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه ، وأجَلَّ فى قلبه مِن كل ما سواه ، ولا نعيمَ له ولا سرورَ ولا لذَّةَ ، بل ولا حياة إلا بذلك ، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة ، فإذا فَقَدَ غذاءه وصحته وحياته ، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه ، ورهْنٌ مقيم عليه .

ومن أعظم أدوائه : الشِّركُ والذنوبُ والغفلةُ والاستهانةُ بِمَحابِّه ومَراضيه ، وتركُ التفويض إليه ، وقِلَّةُ الاعتماد عليه ، والركونُ إلى ما سواهُ ، والسخطُ بمقدوره ، والشكُّ فى وعده ووعيده .

وإذا تأملتَ أمراض القلب ، وجدتَ هذه الأُمور وأمثالها هى أسبابُها لا سببَ لها سِواها ، فدواؤه الذى لا دواءَ له سواه ما تضمنتْهُ هذه العلاجات النبوية من الأُمور المضادة لهذه الأدواء ، فإنَّ المرضَ يُزال بالضد ، والصِّحةُ تُحفظ بالمِثْل ، فصحتُه تُحفظ بهذه الأُمور النبوية ، وأمراضُه بأضدادها .

فالتوحيد .. يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج ، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التى هى سببُ أسقامه ، وحِميةٌ له من التخليط ، فهى تُغْلِق عنه بابَ الشرور ، فيُفتَح له بابُ السعادة والخير بالتوحيد ، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار .

قال بعض المتقدمين من أئمة الطب : مَن أراد عافية الجسم ، فليقلِّلْ مِن الطعام والشراب ، ومَن أراد عافية القلب ، فليترُكْ الآثام .

وقال ثابت بن قُرَّةَ : راحةُ الجسم فى قِلَّة الطعام ، وراحةُ الرَّوح فى قِلَّة الآثام، وراحةُ اللِّسان فى قِلَّة الكلام .

والذنوبُ للقلب ، بمنزلة السُّموم ، إن لم تُهلكْه أضعفتْه ، ولا بُدَّ ، وإذا ضعُفت قوته ، لم يقدرْ على مقاومة الأمراض ، قال طبيبُ القلوب عبدُ الله ابن المُبارَك :

رَأَيْتُ الذنُوبَ تُمِيتُ الْقُلـُوبَ *** وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهـَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلـُوبِ *** وَخَيرٌ لِنَفْسِــكَ عِصْيَانُهَا

فالهوى أكبرُ أدوائها ، ومخالفتُه أعظمُ أدويتها ، والنفس فى الأصل خُلِقَتْ جاهلة ظالمة ، فهى لجهلِها تظن شِفاءَها فى اتباع هواها ، وإنما فيه تلفُها وعطَبُها ، ولظلمِها لا تقبل مِن الطبيب الناصح ، بل تضَعُ الداء موضِعَ الدواء فتعتمده ، وتضعُ الدواء موضع الداء فتجتنبه ، فيتولَّدُ مِن بين إيثارِها للداء ، واجتنابِها للدواء أنواعٌ من الأسقام والعِلل التى تُعيِى الأطباء ، ويتعذَّرُ معها الشفاء . والمصيبةُ العظمى ، أنها تُرَكِّبُ ذلك على القَدَر ، فتُبرِّىء نفسَها ، وتلومُ ربَّها بلسان الحال دائماً ، وَيقوَى اللَّومُ حتى يُصرِّحَ به اللِّسان .

وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال ، فلا يُطمَع فى بُرئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه ، فيُحييه حياةً جديدة ، ويرزقُه طريقةً حميدة ، فلهذا كان حديث ابن عباس فى دُعاء الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية ، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم ، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة ، والإحسان والتجاوز ، ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ ، والعرش الذى هو سقفُ المخلوقات وأعظمها . والرُّبوبية التامة تستلزِمُ توحيدَه ، وأنه الذى لا تنبغى العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له . وعظمتُه المطلقة تستلزمُ إثباتَ كل كمال له ، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه . وحِلمُه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه .

فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه ، فيحصل له من الابتهاج واللَّذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم ، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه ، ويُقوِّى نفسه ، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى ، فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى .

ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى تضمَّنها دعاءُ الكرب ، وجدته فى غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق ، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور ، وهذه الأُمورُ إنما يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه أنوارُها ، وباشر قلبُه حقائقَها .

وفى تأثير قوله : ((يا حىُّ يا قَيُّومُ ، برحمتِك أستغيثُ)) فى دفع هذا الداء مناسبة بديعة ، فإنَّ صفة الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال ، مستلزمة لها ، وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال ، ولهذا كان اسمُ الله الأعظمُ الذى إذا دُعىَ به أجاب ، وإذا سُئِلَ به أعطى : هو اسمُ الحَىّ القَيُّوم ، والحياة التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام ، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل الجَنَّة لم يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا حَزَنٌ ولا شىء من الآفات . ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال ، وتنافى القيومية ، فكمالُ القيومية لكمال الحياة ، فالحىُّ المطلق التام الحياة لا يفوتُه صِفة الكمال ألبتة ، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ ألبتة ، فالتوسل بصفة الحياة والقَيُّومية له تأثيرٌ فى إزالة ما يُضادُّ الحياة ، ويضُرُّ بالأفعال .

ونظير هذا توسلُ النبى صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ أن يَهدِيَه لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه ، فإنَّ حياة القلب بالهداية ، وقد وكَّل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة ، فجبريلُ موَّكلٌ بالوحى الذى هو حياةُ القلوب ، وميكائيل بالقَطْر الذى هو حياةُ الأبدان والحيوان ، وإسرافيل بالنَّفْخ فى الصُّور الذى هو سببُ حياةِ العالَم وعَودِ الأرواح إلى أجسادها ، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير فى حصول المطلوب .

والمقصود : أن لاسم الحىّ القَيُّوم تأثيراً خاصاً فى إجابة الدعوات ، وكشف الكُربات .

وفى ((السنن)) و((صحيح أبى حاتم)) مرفوعاً : ((اسمُ اللهِ الأعْظَم فى هاتَيْنِ الآيتين : {وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ ، لا إلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة : 163]، وفاتحةِ آلِ عمران : { آلم * اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران : 1-2]، قال الترمذىُّ : حديث صحيح

وفى ((السنن)) و((صحيح ابن حِبَّان)) أيضاً : من حديث أنس أنَّ رجلاً دعا ، فقال : اللَّهُمَّ إنِّى أسألُكَ بأنَّ لَكَ الْحَمْدَ ، لا إلَهَ إلا أنتَ المنَّانُ ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ ، ياذا الجلال والإكرام ، يا حىُّ يا قَيُّومُ ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ((لقد دَعَا اللهَ باسمِهِ الأعْظَم الذى إذا دُعِىَ به أجابَ ، وإذا سُئِلَ به أعْطَى)) .

ولهذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد فى الدعاء ، قال : ((يَا حىُّ يا قَيُّومُ)) .

وفى قوله : ((اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو ، فلا تَكِلْنى إلى نفسى طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لى شأنى كُلَّهُ لا إلهَ إلاَّ أنتَ)) من تحقيق الرجاء لمن الخيرُ كُلُّهُ بيديه والاعتمادُ عليه وحده ، وتفويضُ الأمر إليه ، والتضرع إليه ، أن يتولَّى إصلاح شأنه ، ولا يَكِلَه إلى نفسه ، والتوسُّل إليه بتوحيده مما له تأثيرٌ قوى فى دفع هذا الداء ، وكذلك قوله : ((اللهُ ربِّى لا أُشْرِكُ بِه شَيْئاً)) .

وأما حديث ابن مسعود : ((اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ)) ، ففيه من المعارف الإلهية ، وأسرارِ العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب ، فإنه يتضمَّن الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته ، وأنَّ ناصيته بيده يُصرِّفها كيف يشاء ، فلا يملِك ُ العبدُ دونه لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياةً ، ولا نُشوراً ، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره ، فليس إليه شىءٌ من أمره ، بل هو عانٍ فى قبضته ، ذليل تحت سلطان قهرِه .

وقوله : ((ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ)) متضمنٌ لأصلين عظيمين عليهما مدارُ التوحيد .

أحدهما : إثباتُ القَدَر ، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى نافذةٌ فى عبده ماضيةٌ فيه ، لا انفكاكَ له عنها ، ولا حِيلةَ له فى دفعها .

والثانى : أنه سبحانه عدلٌ فى هذه الأحكام ، غير ظالم لعبده ، بل لا يخرُج فيها عن موجب العدل والإحسان ، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم ، أو جهلُه ،أو سفهُه ، فيستحيلُ صدورهُ ممن هو بكل شىء عليمٌ ، ومَن هو غنىٌ عن كل شىء ، وكلُّ شىء فقيرٌ إليه ، ومَنْ هو أحكم الحاكمين ، فلا تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده ، كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته ، فحِكمته نافذة حيثُ نفذتْ مشيئته وقُدرته ، ولهذا قال نبىُّ الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم ، وقد خَوَّفه قومُه بآلهتهم :{إنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *مِن دُونِهِ ، فَكِيدُونِى جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إنِّى تَوَكَّلْتُ علَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُم * مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ، إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[هود : 54-57] ، أى مع كونه سبحانه آخذاً بنَواصى خلقه وتصريفهم كما يشاء ، فهو على صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلا بالعدل والحكمة ، والإحسان والرحمة . فقوله : ((ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ)) ، مطابقٌ لقوله : {مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} ، وقولُه : ((عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ)) ، مطابقٌ لقوله :
{إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود : 57] ، ثم توسَّلَ إلى رّبِّه بأسمائه التى سمَّى بها نفسه ما عَلِمَ العبادُ منها وما لم يعلموا . ومنها : ما استأثره فى علم الغيب عنده ، فلم يُطلع عليه مَلَكاً مُقرَّباً ، ولا نبيّاً مرسلاً ، وهذه الوسيلةُ أعظمُ الوسائل ، وأحبُّها إلى الله ، وأقربُها تحصيلاً للمطلوب .

ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذى يرتَع فيه الحيوانُ ، وكذلك القرآنُ ربيعُ القلوب ، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه ، فيكونُ له بمنزلة الدواء الذى يستأصِلُ الداء ، ويُعيدُ البدن إلى صحته واعتداله ، وأن يجعله لحُزنه كالجِلاء الذى يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها ، فأحْرَى بهذا العلاج إذا صدق العليل فى استعماله أن يُزيلَ عنه داءه ، ويُعقبه شفاءً تاماً ، وصحةً وعافيةً .. والله الموفق .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 07:25 PM   #4
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



وأما دعوةُ ذى النون .. فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى ، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه فى قضاء الحوائج ، فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ وعيب وتمثيل عنه . والاعترافُ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب ، ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى الله ، واستقالته عثرتَه ، والاعترافَ بعبوديته ، وافتقاره إلى ربه ، فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها : التوحيد ، والتنزيه ، والعبودية ، والاعتراف .

وأما حديث أبى أمامة : ((اللَّهُمَّ إنِّى أعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ)) ، فقد تضمَّن الاستعاذة من ثمانية أشياء ، كُلُّ اثنين منها قَرينان مزدوجان ، فالهمُّ والحَزَنُ أَخوان ، والعجزُ والكسلُ أخوان ، والجُبنُ والبُخلُ أَخوان ، وضَلَعُ الدَّيْن وغلبةُ الرجال أخوان ، فإنَّ المكروه المؤلم إذا ورد على القلب ، فإما أن يكون سببهُ أمراً ماضياً ، فيُوجب له الحزن ، وإن كان أمراً متوقعاً فى المستقبل ، أوجب الهم ، وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه ، إما أن يكون مِن عدم القُدرة وهو العجز ، أو من عدم الإرادة وهو الكسل ، وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه وعن بنى جنسه ، إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه ، فهو الجُبن ، أو بماله ، فهو البخل ، وقهرُ النَّاس له إما بحق ، فهو ضَلَعُ الدَّيْن ، أو بباطل فهو غَلبَةُ الرِّجال ، فقد تضمَّن الحديثُ الاستعاذة من كل شَرٍّ .

وأما تأثيرُ الاستغفار فى دفع الهَّمِّ والغَمِّ والضِّـيق ، فلِمَا اشترَكَ فى العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كُلِّ أُمة أنَّ المعاصىَ والفسادَ تُوجب الهَمَّ والغَمَّ ، والخوفَ والحُزن ، وضيقَ الصدر ، وأمراض القلب ، حتى إنَّ أهلها إذا قضَوْا منها أوطارَهم ، وسئمتها نفوسُهم ، ارتكبوها دفعاً لما يَجِدُونه فى صدورهم من الضيق والهَمِّ والغَمِّ ، كما قال شيخُ الفسوق:

وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ *** وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا

وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام فى القلوب ، فلا دواءَ لها إلا التوبةُ والاستغفار

وأما الصَّلاةُ .. فشأنها فى تفريح القلب وتقويته ، وشرحِه وابتهاجه ولذَّته أكبرُ شأن ، وفيها من اتصالِ القلب والروح بالله ، وقربه والتنعم بذكره ، والابتهاجِ بمناجاته ، والوقوفِ بين يديه ، واستعمالِ جميع البدن وقُواه وآلاته فى عبوديته ، وإعطاء كل عضو حظَّه منها ، واشتغالهِ عن التعلُّق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم ، وانجذابِ قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره ، وراحتِه من عدوِّه حالةَ الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرِّحات والأغذية التى لا تُلائم إلا القلوبَ الصحيحة . وأمَّا القلوبُ العليلة ، فهى كالأبدان لا تُناسبها إلا الأغذية الفاضلة .

فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة ، وهى منهاةٌ عن الإثم ، ودافعةٌ لأدواء القلوب ، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد ، ومُنوِّرةٌ للقلب ، ومُبيِّضَةٌ للوجه ، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس ، وجالِبةٌ للرزق ، ودافعةٌ للظلم ، وناصِرةٌ للمظلوم ، وقامِعةٌ لأخلاط الشهوات ، وحافِظةٌ للنعمة ، ودافِعةٌ للنِّقمة ، ومُنزِلةٌ للرحمة ، وكاشِفة للغُمَّة ، ونافِعةٌ من كثير من أوجاع البطن .

وقد روى ابن ماجه فى ((سننه)) من حديث مجاهد ، عن أبى هريرة قال : رآنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم أشكو مِن وجع بطنى ، فقال لى : ((يا أبا هُرَيْرَة ؛ أشِكَمَتْ دَرْدْ)) ؟ قال : قلتُ : نعم يا رسولَ الله ، قال : ((قُمْ فَصَلِّ ، فإنَّ فى الصَّلاةِ شِفَاءً)) .

وقد رُوى هذا الحديثُ موقوفاً على أبى هُرَيرةَ ، وأنه هو الذى قال ذلك لمجاهد ، وهو أشبهُ . ومعنى هذه اللفظةِ بالفارسى : أيوجعُكَ بطنُكَ ؟

فإن لم ينشرح صدرُ زنديق الأطباء بهذا العلاج ، فيُخاطَبُ بصناعة الطب ، ويقالُ له : الصلاةُ رياضة النفس والبدن جميعاً ، إذ كانت تشتمِلُ على حركات وأوضاع مختلفة مِن الانتصاب ، والركوع ، والسجود ، والتورُّك ، والانتقالات وغيرها من الأوضاع التى يتحرَّك معها أكثرُ المفاصل ، وينغمِزُ معها أكثرُ الأعضاء الباطنة ، كالمَعِدَة ، والأمعاء ، وسائر آلات النَّفَس ، والغذاء ، فما يُنكر أن يكونَ فى هذه الحركات تقويةٌ وتحليلٌ للمواد ، ولا سِيَّما بواسطة قوةِ النفس وانشراحِها فى الصلاة ، فتقوى الطبيعة ، فيندفع الألم .

ولكن داء الزندقةِ والإعراض عما جاءت به الرُّسلُ ، والتَّعوُّضِ عنه بالإلحاد داءٌ ليس له دواء إلا نارٌ تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إلاَّ الأشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى

وأمَّا تأثيرُ الجهادِ فى دفع الهم والغم ، فأمرٌ معلوم بالوجدان ، فإنَّ النفس متى تركتْ صائِلَ الباطل وصَوْلته واستيلاءَه ، اشتد همُّها وغمُّها ، وكربُها وخوفها ، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ والحُزْنَ فرحاً ونشاطاً وقوةً ، كما قال تعالى : {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ*وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}[التوبة : 14-15]، فلا شىءَ أذهبُ لجوَى القلب وغَمِّه وهَمِّه وحُزنه من الجهاد .. والله المستعان .

وأمَّا تأثيرُ ((لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله)) فى دفع هذا الداءِ ، فلِما فيها من كمالِ التفويضِ ، والتبرِّى من الحَوْل والقُوَّة إلا به ، وتسليمِ الأمر كله له ، وعدمِ منازعته فى شىء منه ، وعموم ذلك لكلِّ تحوُّلٍ من حَال إلى حال فى العالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ ، والقوةِ على ذلك التحول ، وأنَّ ذلك كُلَّه باللهِ وحدَه ، فلا يقوم لهذه الكلمة شىء .

وفى بعض الآثار : إنه ما ينزِلُ مَلَكٌ من السماء ، ولا يَصعَدُ إليها إلا بـ ((لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله)) ، ولها تأثيرٌ عجيب فى طرد الشيطان .. والله المستعان .


فصل

فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاجِ الفَزَع ، والأرَقِ المانِع من النوم

روى الترمذىُّ فى ((جامعه)) عن بُريدةَ قال : شكى خالدٌ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ؛ ما أنام الليل مِن الأرَقِ ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم :
((إذا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فَقُلْ : اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ السَّـبْع وَمَا أظَلَّتْ ، ورَبَّ الأرَضِينَ ، وَمَا أَقَلَّتْ ، وربَّ الشَّيَاطينِ وما أضَلَّتْ ، كُنْ لَى جاراً مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جميعاً أنْ يَفْرُطَ علىَّ أحدٌ مِنْهُمْ ، أَوْ يَبْغىَ عَلَىَّ ، عَزَّ جَارُك ، وجَلَّ ثَنَـاؤُكَ ، ولا إلهَ غَيْرُك)) .

وفيه أيضاً : عن عمرو بن شُعيب ، عن أبيه ، عن جده أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، كان يُعَلِّمُهم مِنَ الفَزَعِ : ((أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التامَّةِ مِنْ غَضِبهِ ، وعِقَابِهِ ، وَشرِّ عِبَادِه ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ، وأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحضُرُونِ)) ، قال : وكان عبد الله بن عَمْرو يُعَلِّمُهنَّ مَن عَقَلَ من بنيه ، ومَن لم يَعْقِلْ كتبه ، فأعلقه عليه ، ولا يخفى مناسبةُ هذه العُوذَةِ لعلاج هذا الداءِ .


فصل

فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج داء الحريق وإطفائه

يُذكر عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ((إذَا رَأيتُمُ الحَرِيقَ فَكَبِّروا ، فإنَّ التكبيرَ يُطفِئُهُ)) .

لما كان الحريقُ سببهُ النارُ ، وهى مادةُ الشيطان التى خُلِقَ منها ، وكان فيه من الفساد العام ما يُنَاسب الشيطان بمادته وفعلِه ، كان للشيطان إعانةٌ عليه ، وتنفيذ له ، وكانت النارُ تطلبُ بطبعها العلوَ والفسادَ ، وهذان الأمران وهما العلوُّ فى الأرض والفسادُ هما هَدْىُ الشيطان ، وإليهما يدعو ، وبهما يُهلِكُ بنى آدم ، فالنار والشيطان كل منهما يُريد العلو فى الأرض والفسادَ ، وكبرياءُ الرب عَزَّ وجَلَّ تَقمَعُ الشيطانَ وفِعلَهُ .

ولهذا كان تكبيرُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ له أثرٌ فى إطفاء الحريق ، فإنَّ كبرياء الله عَزَّ وجَلَّ لا يقوم لها شىء ، فإذا كبَّر المسلمُ ربَّه ، أثَّر تكبيرُه فى خمودِ النار وخمودِ الشيطان التى هى مادته ، فيُطفىءُ الحريقَ ، وقد جرَّبنا نحن وغيرُنا هذا ، فوجدناه كذلك .. والله أعلم .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 07:27 PM   #5
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



فصل

فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى حفظ الصحة

لما كان اعتدالُ البدن وصحته وبقاؤه إنما هو بواسطة الرطوبة المقاوِمةِ للحرارة ، فالرطوبة مادته ، والحرارةُ تُنضِجُهَا ، وتدفع فضلاتِها ، وتُصلحها ، وتلطفها ، وإلا أفسدتْ البدن ولم يمكن قيامُه ، وكذلك الرطوبةُ هى غِذاءُ الحرارة ، فلولا الرطُوبة ، لأحرقتْ البدن وأيبَسَتْه وأفسدته ، فقِوامُ كُلِّ واحدة منهما بصاحبتها ، وقِوام البدنِ بهما جميعاً ، وكُلٌ منهما مادة للأُخرى ، فالحرارة مادة للرطوبة تحفظها وتمنعها من الفساد والاستحالة ، والرطوبة مادة للحرارة تغذُوها وتحمِلُها ، ومتى مالتْ إحداهما إلى الزيادة على الأُخرى ، حصل لمزاج البدن الانحرافُ بحسب ذلك ، فالحرارةُ دائماً تُحَلِّلُ الرطوبة ، فيحتاجُ البدن إلى ما به يُخلَف عليه ما حلَّلتْه الحرارة لضرورة بقائهِ وهو الطعامُ والشرابُ ، ومتى زاد على مقدار التحللِ ، ضعُفتِ الحرارةُ عن تحليل فضلاته ، فاستحالتْ موادَّ رديئة ، فعاثتْ فى البدن ، وأفسدتْ ، فحصلت الأمراضُ المتنوعة بحسب تنوُّع موادِّها ، وقبولِ الأعضاء واستعدادِها ، وهذا كُلُّه مستفَادٌ من قوله تعالى : {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ}[الأعراف : 31] ، فأرشدَ عِباده إلى إدخالِ ما يُقِيمُ البدنَ من الطعام والشراب عِوَضَ ما تحلَّل منه ، وأن يكون بقدر ما ينتفعُ به البدنُ فى الكمِّية والكيفية ، فمتى جاوز ذلك كان إسرافاً ، وكلاهما مانعٌ من الصحة جالبٌ للمرض ، أعنى عدم الأكل والشرب ، أو الإسراف فيه .

فحفظ الصحة كله فى هاتين الكلمتين الإلهيتين ، ولا ريب أنَّ البدن دائماً فى التحلل والاستخلاف ، وكُلَّما كثر التحلُّل ضعفت الحرارة لفناء مادتها ، فإنَّ كثرةَ التحلل تُفنى الرطوبة ، وهى مادة الحرارة ، وإذا ضعفت الحرارة ، ضعفَ الهضم ، ولا يزال كذلك حتى تَفنى الرطوبةُ ، وتنطفئ الحرارة جملةً ، فيستكملُ العبدُ الأجلَ الذى كتب اللهُ له أن يَصِلَ إليه .فغايةُ علاج الإنسان لنفسه ولغيره حراسةُ البدن إلى أن يصل إلى هذه الحالة ، لا أنه يستلزمُ بقاءَ الحرارة والرطوبة اللَّتين بقاءُ الشباب والصحة والقوَّة بهما ، فإنَّ هذا مما لم يحصُلْ لبَشَر فى هذه الدار ، وإنما غايةُ الطبيب أن يحمىَ الرطوبةَ عن مفسداتها من العفونة وغيرها ، ويحمىَ الحرارة عن مُضعِفاتها ، ويعدل بينهما بالعدل فى التدبير الذى به قام بدنُ الإنسان ، كما أنَّ به قامت السمواتُ والأرضُ وسائرُ المخلوقات ، إنما قوامُها بالعدل

ومَن تأمَّل هَدْىَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم وجده أفضلَ هَدْى يُمكن حِفظُ الصِّحة به ، فإنَّ حفظها موقوفٌ على حُسن تدبير المطعم والمشرب ، والملبس والمسكن ، والهواء والنوم ، واليقظة والحركة ، والسكون والمَنكَح ، والاستفراغ والاحتباس ، فإذا حصَلتْ هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبدن والبلد والسِّنِّ والعادة ، كان أقربَ إلى دوام الصحة أو غلبتها إلى انقضاء الأجل

ولـمَّا كانت الصحةُ والعافيةُ من أجَلِّ نِعَم الله على عبده ، وأجزل عطاياه ، وأوفر مِنحه ، بل العافيةُ المطلقة أجَلُّ النِّعَمِ على الإطلاق ، فحقيق لمن رُزق حظاً مِن التوفيق مراعاتها وحِفظها وحمايتُها عمَّا يُضادها .

وقد روى البخارىُّ فى ((صحيحه)) من حديث ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناس : الصِّحَّةُ والفَرَاغُ)) .

وفى ((الترمذى)) وغيره من حديث عُبَيْد الله بن مِحصَن الأنصارى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَن أصْبَحَ مُعَافىً فى جَسَدِهِ ، آمناً فى سِرْبِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فكأنما حِيزَتْ لَهُ الدُّنيا)) . وفى ((الترمذى)) أيضاً من حديث أبى هريرة ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((أوَّلُ ما يُسْألُ عنه العَبْدُ يومَ القيامَةِ مِنَ النَّعِيم ، أن يُقال له : أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ ، ونُرَوِّكَ مِنَ الماءِ البارد)) . ومن هاهنا قال مَن قال مِن السَّلَف فى قوله تعالى : {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر : 8] قال : عن الصحة

وفى ((مسند الإمام أحمد)) : أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال للعباس : (( يا عباس ، يا عَمَّ رسول اللهِ ؛ سَلِ اللهَ العافِيةَ فى الدُّنْيَا والآخِرَة)) .

وفيه عن أبى بكر الصِّدِّيق ، قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((سَلُوا اللهَ اليَقينَ والمُعافاةَ ، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ اليقينِ خَيراً من العافية)) ، فجمع بين عافيتى الدِّينِ والدنيا ، ولا يَتِمُّ صلاح العبد فى الدارين إلا باليقين والعافية ، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة ، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا فى قلبه وبدنه .

وفى ((سنن النسائى)) من حديث أبى هريرة يرفعه : ((سَلُوا اللهَ العَفْوَ والعافيةَ والمُعافاة ، فما أُوتِىَ أحدٌ بَعْدَ يقينٍ خيراً من مُعافاةٍ)) . وهذه الثلاثة تتضمَّن إزالة الشرور الماضية بالعفو ، والحاضرة بالعافية ، وَالمستقبلة بالمعافاة ، فإنها تتضمن المداومةَ والاستمرارَ على العافية .

وفى ((الترمذى)) مرفوعاً : ((ما سُئِلَ اللهُ شيئاً أحبَّ إلَيْهِ من العافيةِ)) .

وقال عبد الرحمن بن أبى ليلى : عن أبى الدرداء ، قلت : يا رسول الله ؛ لأن أُعافَى فأشكُر أحبُّ إلىَّ من أن أُبتََلى فأصبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ورسولُ اللهِ يُحِبُّ مَعَكَ العافِيَةَ)) .

ويُذكر عن ابن عباس أنَّ أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : ما أسألُ الله بعد الصلواتِ الخمس ؟ فقال : ((سَلِ اللهَ العافيةَ)) ، فأعاد عليه ، فقال له فى الثالثة : ((سَلِ اللهَ العَافِيةَ فى الدُّنيا والآخرَة)) .

وإذا كان هذا شأنَ العافية والصحةِ ، فنذكُرُ من هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى مراعاة هذه الأُمور ما يتبيَّنُ لمن نظر فيه أنه أكملُ هَدْى على الإطلاق ينال به حفظَ صحةِ البدن والقلب ، وحياة الدُّنيا والآخرة ، والله المستعانُ ، وعليه التُّكلان ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 07:37 PM   #6
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى المطعم والمشرب

فأما المطعمُ والمشرب ، فلم يكن مِن عادته صلى الله عليه وسلم حبسُ النفسِ على نوع واحد من الأغذية لا يتعدَّاه إلى ما سواه ، فإنَّ ذلك يضر بالطبيعة جداً ، وقد سيتعذَّر عليها أحياناً ، فإن لم يتناول غيرَه ، ضعفَ أو هلكَ ، وإن تناول غيره ، لم تقبله الطبيعة ، واسْتضرَّ به ، فقصرها على نوع واحد دائماً ولو أنه أفضل الأغذية خطرٌ مُضر.بل كان يأكل ما جرت عادةُ أهل بلده بأكله مِنَ اللَّحم ، والفاكهة ، والخُبز ، والتمر ، وغيره مما ذكرناه فى هَدْيه فى المأكول ، فعليك بمراجعته هناك

وإذا كان فى أحد الطعامين كيفيةٌ تحتاجُ إلى كسرٍ وتعديلٍ ، كسَرها وعدلها بضدها إن أمكن ، كتعديل حرارة الرُّطَبِ بالبطيخ ، وإن لم يجد ذلك ، تناوَله على حاجة وداعيةٍ من النفس من غير إسراف ، فلا تتضرر به الطبيعة

وكان إذا عافت نفسُه الطعامَ لم يأكله ، ولم يُحمِّلْها إيَّاه على كُره ، وهذا أصل عظيم فى حفظ الصحة ، فمتى أكل الإنسان ما تعافه نفسه ، ولا تشتهيه ، كان تضرُّره به أكثر من انتفاعه قال أنس : ما عابَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قَطُّ ، إن اشتهاه أكلَه ، وإلا تركه ، ولم يأكلْ منه . ولمَّا قُدِّمَ إليه الضَّبُّ المشوىُّ لم يأكلْ منه ، فقيل له : أهو حرامٌ ؟ قال : ((لا ، ولكنْ لم يكن بأرضِ قَوْمى ، فأجِدُنى أعافُه)) . فراعى عادتَه وشهوتَه ، فلمَّا لم يكن يعتادُ أكله بأرضه ، وكانت نفسُه لا تشتهيه ، أمسَكَ عنه ، ولم يَمنع مِن أكله مَن يشتهيه ، ومَنْ عادتُه أكلُه .

وكان يحبُّ اللَّحم ، وأحبُّه إليه الذراعُ ، ومقدم الشاة ، ولذلك سُمَّ فيه .وفى ((الصحيحين)) : ((أُتِىَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بلحم ، فرُفِع إليه الذراع ، وكانت تُعجبُه)) .وذكر أبو عُبيدة وغيره عن ضباعَة بنت الزُّبير ، أنها ذَبحتْ فى بيتها شاةً ، فأرسل إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ أطعِمِينا من شاتكم ، فقالت للرسول : ما بقىَ عندَنا إلاَّ الرَّقبةُ ، وإنى لأستحى أنْ أُرسلَ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع الرسولُ فأخبره ، فقال : ((ارْجِعْ إليها فقلْ لها : أَرْسِلى بِهَا ، فإنَّها هاديةُ الشَّاةِ وأقْرَبُ إلى الخَيْر ، وأبعدُها مِنَ الأذَى)) ولا ريب أن أخفَّ لحمِ الشاة لحمُ الرقبة ، ولحمُ الذراع والعَضُد ، وهو أخفُّ على المَعِدَة ، وأسرعُ انهضاماً ، وفى هذا مراعاةُ الأغذية التى تجمع ثلاثةَ أوصاف ؛ أحدها : كثرةُ نفعها وتأثيرها فى القُوَى . الثانى : خِفَّتُها على المَعِدَة ، وعدمُ ثقلها عليها . الثالث : سرعةُ هضمها ، وهذا أفضل ما يكون من الغِذاء . والتغذِّى باليسير من هذا أنفعُ من الكثير من غيره .

وكان يُحب الحَلْواءَ والعسلَ ، وهذه الثلاثة أعنى : اللَّحم والعسل والحلواء من أفضل الأغذية ، وأنفعها للبدن والكَبِد والأعضاء ، وللاغتذاء بها نفعٌ عظيم فى حفظ الصحة والقوة ، ولا ينفِرُ منها إلا مَن به عِلَّةٌ وآفة .

وكان يأكُلُ الخبز مأدُوماً ما وَجَدَ له إداماً ، فتارةً يَأدِمُه باللَّحم ويقول : ((هُوَ سَـيِّدُ طعامِ أهلِ الدُّنيا والآخرةِ)) رواه ابن ماجه وغيره ((وتارة بالبطيخ ، وتارةً بالتمر ،فإنه وضع تمرة على كِسْرة شعير ، وقال : ((هذا إدامُ هذه)) . وفى هذا من تدبير الغذاء أنَّ خبز الشعير بارد يابس ، والتمر حار رطب على أصح القولين ، فأَدمُ خبزِ الشعير به من أحسن التدبير، لا سِيَّما لمن تلك عادتُهم، كأهل المدينة ، وتارةً بالخَلِّ ، ويقول : ((نِعْمَ الإدَامُ الخَلُّ)) ، وهذا ثناءٌ عليه بحسب مقتضى الحال الحاضر ، لا تفضيلٌ له على غيرِه ، كما يظن الجُهَّالُ ، وسببُ الحديث أنه دخَلَ على أهله يوماً ، فقدَّموا له خبزاً ، فقال: ((هَل عِنْدَكُم مِن إدَامٍ)) ؟ قالوا : ما عِندَنا إلاَّ خَل . فقال : ((نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ)) .
والمقصود : أنَّ أكل الخبز مأدوماً من أسباب حِفظ الصحة ، بخلاف الاقتصار على أحدهما وحده . وسُمِىَ الأُدمُ أُدماً : لإصلاحه الخبزَ ، وجعلِه ملائماً لحفظ الصحة . ومنه قوله فى إباحته للخاطب النظرَ : ((إنه أحْرَى أنْ يُؤدَمَ بيْنَهما)) ، أى : أقربُ إلى الالتئام والموافقة ، فإنَّ الزوجَ يدخل على بصيرة ، فلا يندَم .

وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ، ولا يَحتمِى عنها ، وهذا أيضاً من أكبر أسباب حفظ الصحة ، فإنَّ الله سبحانه بحكمته جعل فى كل بلدةٍ من الفاكهة ما ينتفِعُ به أهلُها فى وقتِهِ ، فيكونُ تناولُه من أسباب صحتِهم وعافيتِهم ، ويُغنى عن كثير من الأدوية ، وقَلَّ مَن احتَمى عن فاكهة بلده خشيةَ السُّقم إلا وهو مِن أسقم الناس جسماً ، وأبعدِهم من الصحة والقوة .وما فى تلك الفاكهة من الرطوبات ، فحرارةُ الفصل والأرض ، وحرارةُ المَعِدَة تُنضِجُهَا وتدفع شرها إذا لم يُسْرِفْ فى تناولها ، ولم يُحمِّلْ منها الطبيعةَ فوق ما تَحْتَمِله ، ولم يُفسد بها الغذاء قبل هضمه ، ولا أفسَدَها بشرب الماء عليها ، وتناولِ الغذاء بعد التحلِّى منها ، فإن القُولَنْج كثيراً ما يَحدث عند ذلك ، فمَن أكل منها ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى ، كانت له دواءً نافعاً .


فصل

فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى هيئة الجلوسِ للأكل

صحَّ عنه أنه قال : ((لا آكُلُ مُتَّكِئاً)) ، وقال : ((إنما أجْلِسُ كما يَجْلِسُ العبدُ ، وآكُلُ كما يأكُلُ العبدُ)) .

وروى ابن ماجه فى ((سننه)) أنه نَهى أن يأكلَ الرجلُ وهو منبطحٌ على وجهه .وقد فُسِّر الاتكاءُ بالتربُّع ، وفُسِّر بالاتكاء على الشىء ، وهو الاعتمادُ عليه ، وفُسِّر بالاتكاء على الجنب . والأنواعُ الثلاثة من الاتكاء ، فنوعٌ منها يضرُّ بالآكل ، وهو الاتكاء على الجنب ، فإنه يمنعُ مجرَى الطعام الطبيعى عن هيئته ، ويَعوقُه عن سرعة نفوذه إلى المَعِدَة ، ويضغطُ المَعِدَةَ ، فلا يستحكم فتحُها للغذاء ، وأيضاً فإنها تميل ولا تبقى منتصبة ، فلا يصل الغذاء إليها بسهولة . وأما النوعان الآخران : فمن جلوس الجبابرة المنافى للعبودية ، ولهذا قال : ((آكُلُ كما يأكُلُ العبد)) وكان يأكل وهو مُقْعٍ ، ويُذكر عنه أنه كان يجلس للأكل مُتَورِّكاً على ركبتيه ، ويضعُ بطنَ قدمِه اليُسْرى على ظهر قدمه اليمنى تواضعاً لربه عَزَّ وجَلَّ ، وأدباً بين يديه ، واحتراماً للطعام وللمؤاكِل ، فهذه الهيئة أنفعُ هيئات الأكل وأفضلُها ، لأنَّ الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعى الذى خلقها الله سبحانه عليه مع ما فيها من الهيئة الأدبية ، وأجودُ ما اغتذى الإنسان إذا كانت أعضاؤه على وضعها الطبيعى ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصباً الانتصابَ الطبيعى ، وأردأ الجلسات للأكل الاتكاءُ على الجنب ، لما تقدم من أن المَرِىء ، وأعضاء الازدراد تضيقُ عند هذه الهيئة ، والمَعِدَةُ لا تبقى على وضعها الطبيعى ، لأنها تنعصر مما يلى البطن بالأرض ، ومما يلى الظهر بالحجاب الفاصل بين آلات الغذاء ، وآلات التنفس

وإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذى تحت الجالس ، فيكون المعنى أَنى إذا أكلت لم أقعد متكئاً على الأوْطِية والوسائد ، كفعل الجبابرة ، ومَن يُرِيد الإكثار من الطعام ، لكنى آكُلُ بُلْغةً كما يأكل العبد .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 07:39 PM   #7
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



فصل

وكان يأكُلُ بأصابعه الثَّلاث ، وهذا أنفعُ ما يكون من الأكلات ، فإنَّ الأكل بأصبع أو أُصبعين لا يَستلذُّ به الآكل ، ولا يُمريه ، ولا يُشبعه إلا بعدَ طول ، ولا تفرحُ آلاتُ الطعام والمَعِدَةُ بما ينالها فى كل أكلة ، فتأخذَها على إغماضٍ ، كما يأخذ الرجل حقَّه حبَّةً أو حبَّتَين أو نحوَ ذلك ، فلا يلتذُّ بأخذه ، ولا يُسَرُّ به ، والأكل بالخمسة والراحةِ يُوجب ازدحامَ الطعام على آلاته ، وعلى المَعِدَةُ ، وربما انسدَّت الآلات فمات ، وتُغصبُ الآلاتُ على دفعه ، والمَعِدَةُ على احتماله ، ولا يجد له لذةً ولا استمراءً ، فأنفعُ الأكل أكلُه صلى الله عليه وسلم وأكلُ مَن اقتدى به بالأصابع الثلاث .


فصل

ومَن تدبَّر أغذيته صلى الله عليه وسلم وما كان يأكلهُ ، وجَده لم يجمع قَطُّ بين لبن وسمك ، ولا بين لبن وحامض ، ولا بين غذائين حارَّين ، ولا بارِدين ، ولا لَزِجَين ، ولا قابضين ، ولا مُسهلين ، ولا غليظين ، ولا مُرخيين ، ولا مستحيلين إلى خلط واحد ، ولا بين مختلفَين كقابض ومسهل ، وسريع الهضم وبطيئه ، ولا بين شَوىٍّ وطبيخ ، ولا بين طَرىٍّ وقَديد،ولا بين لبن وبيض ، ولا بين لحم ولبن ، ولم يكن يأكل طعاماً فى وقت شدة حرارته ، ولا طبيخاً بائتاً يُسخَّن له بالغد ، ولا شيئاً من الأطعمة العَفِنَةِ والمالحة ، كالكَوامخ والمخلَّلات ، والملوحات . وكل هذه الأنواع ضار مولِّدٌ لأنواع من الخروج عن الصحة والاعتدال .وكان يُصلح ضرر بعض الأغذية ببعض إذا وَجد إليه سبيلاً ، فيكسرُ حرارةَ هذا ببرودة هذا ، ويُبوسةَ هذا برطُوبة هذا ، كما فعل فى القِثَّاء والرُّطَب ، وكما كان يأكل التمر بالسَّمن ، وهو الحَيْسُ ، ويشربُ نقيع التمر يُلطِّف به كَيْمُوساتِ الأغذية الشديدة وكان يأمر بالعَشاء ، ولو بكفٍّ من تمر ، ويقول : ((تَرْكُ العَشاءِ مَهْرَمةٌ)) ، ذكره الترمذىُّ فى ((جامعه)) ، وابن ماجه فى ((سننه))

وذكر أبو نُعيم عنه أنه كان ينهى عن النوم على الأكل ، ويذكر أنه يُقسى القلب ، ولهذا فى وصايا الأطباء لمن أراد حفظ الصحة : أن يمشىَ بعد العَشاء خُطواتٍ ولو مِائة خطوة ، ولا ينام عَقِبه ، فإنه مضر جداً ، وقال مسلموهم : أو يُصلِّى عقيبَه ليستقرَّ الغِذاء بقعرِ المَعِدَة ، فيسهلَ هضمه ، ويجودَ بذلك . ولم يكن من هَدْيه أن يشربَ على طعامه فيُفسده ، ولا سِيَّما إن كان الماء حاراً أو بارداً ، فإنه ردىءٌ جداً . قال الشاعر :

لا تَكنْ عِنْدَ أَكْلِ سُخْنٍ وَبَرْدٍ *** وَدخُولِ الْحَمَّـامِ تَـشربُ مَاءَ
فَإذَا مـا اجْتَنَبْتَ ذلـكَ حَقّاً *** لَمْ تَخَفْ ما حَيِيتَ فِىالْجَوْفِ داءَ

ويُكره شرب الماء عقيبَ الرياضة ، والتعبِ ، وعقيبَ الجِمَاع ، وعقيبَ الطعامِ وقبله ، وعقيبَ أكل الفاكهة ، وإن كان الشربُ عقيبَ بعضِها أسهلَ مِن بعض ، وعقب الحمَّام ، وعند الانتباه من النوم ، فهذا كُلُّهُ منافٍ لحفظ الصحة ، ولا اعتبار بالعوائد ، فإنها طبائع ثوانٍ .


فصل

فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الشراب


وأما هَدْيه فى الشراب ، فمن أكمل هَدْىٍ يحفظ به الصحة ، فإنه كان يشرب العسلَ الممزوجَ بالماء البارد ، وفى هذا مِن حفظ الصحة ما لا يَهتدى إلى معرفته إلا أفاضلُ الأطباء ، فإنَّ شُربه ولعقَه على الرِّيق يُذيب البلغم ، ويغسِلُ خَمْل المَعِدَة ، ويجلُو لزوجتها ، ويدفع عنها الفضلات ، ويُسخنها باعتدال ، ويفتحُ سددها ، ويفعل مثل ذلك بالكَبِد والكُلَى والمثَانة ، وهو أنفع للمَعِدَة من كل حلو دخلها ، وإنما يضر بالعَرَض لصاحب الصَّفراء لحدَّتِه وحِدَّة الصفراء ، فربما هيَّجها ، ودفعُ مضرَّته لهم بالخلِّ ، فيعودُ حينئذ لهم نافعاً جداً ، وشربه أنفع من كثير من الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرِها ، ولا سِيَّما لمن لم يعتد هذه الأشربة ، ولا ألِفَها طبعُه ، فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمةَ العسل ، ولا قريباً منه ، والمحكَّمُ فى ذلك العادة ، فإنها تهدم أُصولاً ، وتبنى أُصولاً

وأما الشراب إذا جَمَعَ وصْفَىْ الحلاوة والبرودة ، فمن أنفع شىء للبدن ، ومن أكبر أسباب حفظ الصحة ، وللأرواح والقُوى ، والكبد والقلب ، عشقٌ شديدٌ له ، واستمدادٌ منه ، وإذا كان فيه الوصفانِ ، حصَلتْ به التغذيةُ ، وتنفيذُ الطعام إلى الأعضاء ، وإيصاله إليها أتمَّ تنفيذ .

والماء البارد رطب يقمع الحرارة ، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ، ويرد عليه بدل ما تحلَّل منها ، ويُرقِّقُ الغِذاء ويُنفِذه فى العروق .

واختلف الأطباء : هل يُغذِّى البدن ؟ على قولين : فأثبتت طائفةٌ التغذية به بناءً على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة فى البدن به ، ولا سِيَّما عند شدة الحاجة إليه .

قالوا : وبينَ الحيوانِ والنبات قدرٌ مشترك مِن وجوه عديدة منها : النموُّ والاغتذاءُ والاعتدال ، وفى النبات قوةُ حِسٍّ تُناسبه ، ولهذا كان غِذاءُ النبات بالماء ، فما يُنكر أن يكون للحيوان به نوعُ غذاء ، وأن يكون جزءاً من غذائه التام .

قالوا : ونحن لا ننكر أنَّ قوة الغذاء ومعظمه فى الطعام ، وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية ألبتة . قالوا : وأيضاً الطعام إنما يُغذِّى بما فيه من المائية ، ولولاها لما حصلت به التغذيةُ .قالوا : ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ، ولا ريب أنَّ ما كان أقربَ إلى مادة الشىء ، حصلت به التغذية ، فكيف إذا كانت مادته الأصلية ، قال الله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ}[الأنبياء : 30]، فكيف ننكِرُ حصولَ التغذية بما هو مادة الحياة على الإطلاق ؟

قالوا : وقد رأينا العطشان إذا حصل له الرِّىُّ بالماء البارد ، تراجعت إليه قواه ونشاطُه وحركته ، وصبرَ عن الطعام ، وانتفع بالقدر اليسير منه ، ورأينا العطشانَ لا ينتفِعُ بالقدرِ الكثير مِن الطعام ، ولا يجد به القوة والاغتذاءَ ، ونحن لا ننكِرُ أنَّ الماءَ يُنفِذُ الغذاء إلى أجزاء البدن ، وإلى جميع الأعضاء ، وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به ، وإنما ننكر على مَن سلب قوةَ التغذية عنه ألبتة ، ويكاد قولُه عندنا يدخُل فى إنكار الأُمورالوجدانية .

وأنكرت طائفةٌ أُخرى حصولَ التغذية به ، واحتجَّت بأُمور يرجعُ حاصِلُها إلى عدم الاكتفاء به ، وأنه لا يقومُ مقام الطعام ، وأنه لا يزيد فى نموِّ الأعضاء ، ولا يخلف عليها بدل ما حلَّلتْه الحرارةُ ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية ، فإنهم يَجعلون تغذيته بحسب جوهره ، ولطافته ورقته ، وتغذيةُ كل شىء بحسبه ، وقد شُوهد الهواءُ الرَّطب البارد اللَّين اللَّذيذ يُغذِّى بحسبه ، والرائحة الطيبة تُغذِّى نوعاً من الغذاء ، فتغذية الماء أظهر وأظهر .

والمقصودُ : أنه إذا كان بارداً ، وخالطه ما يُحليه كالعسل أو الزبيب ، أو التمر أو السكر ، كان من أنفع ما يدخل البدن ، وحفِظَ عليه صحته ، فلهذا كان أحبُّ الشرابِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم البارِدَ الحلوَ . والماءُ الفاتِرُ ينفخ ، ويفعل ضدَّ هذه الأشياء .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 07:56 PM   #8
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



ولما كان الماء البائت أنفعَ من الذى يُشرب وقتَ استقائه ، قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان : ((هَلْ من ماءٍ بات فى شَـنَّة)) ؟ فأتاه به، فشرب منه ، رواه البخارى ولفظُه : ((إنْ كان عِنْدَكَ ماءٌ باتَ فى شَنَّة وإلاَّ كَرَعْنَا)) .والماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذى شُرِب لوقته بمنزلة الفطير ، وأيضاً فإنَّ الأجزاء الترابية والأرضية تُفارقه إذا بات ، وقد ذُكِر أنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كان يُسْتَعْذَبُ له الماء ، ويَختار البائت منه . وقالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُستقى له الماء العذب مِن بئر السقيا . والماء الذى فى القِرَب والشنان ، ألذُّ من الذى يكون من آنية الفَخَّار والأحجار وغيرهما ، ولا سِيَّما أسقيةَ الأدمَ ، ولهذا التَمسَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم ماءً بات فى شَـنَّة دون غيرها من الأوانى ، وفى الماء إذا وُضع فى الشِّنان ، وقِرب الأدم خاصةٌ لطيفةٌ لما فيها من المسامِّ المنفتحةِ التى يرشَح منها الماء ، ولهذا كان الماء فى الفَخَّار الذى يرشح ألذُّ منه ، وأبردُ فى الذى لا يرشَح ، فصلاةُ الله وسلامه على أكمل الخلق ، وأشرفهم نفساً ، وأفضلهم هَدْياً فى كل شىء ، لقد دَلَّ أُمته على أفضل الأُمور وأنفعها لهم فى القلوب والأبدان ، والدُّنيا والآخرة

قالت عائشةُ : كان أحبُّ الشرابِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُلوَ البارِدَ . وهذا يحتمل أن يريد به الماءَ العذبَ ، كمياه العيون والآبار الحلوة ، فإنه كان يُستعذَب له الماء . ويحتملُ أن يريد به الماءَ الممزوجَ بالعسل ، أو الذى نُقِعَ فيه التمرُ أو الزبيبُ . وقد يُقال وهو الأظهر : يعمُّهما جميعاً

وقولُه فى الحديث الصحيح : ((إن كان عندكَ ماء باتَ فى شَنٍ وإلا كَرَعْنَا)) ، فيه دليلٌ على جواز الكَرْع ، وهو الشرب بالفم من الحوضِ والمِقْراةِ ونحوها ، وهذه والله أعلم واقعةُ عَيْن دعت الحاجةُ فيها إلى الكَرْع بالفم ، أو قاله مبيِّناً لجوازه ، فإنَّ مِن الناس مَنْ يكرهُه ، والأطباءُ تكادُ تُحَرِّمُه ، ويقولون : إنه يَُضرُّ بالمَعِدَة ، وقد رُوى فى حديث لا أدرى ما حالُه عن ابن عمر ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم نهانا أنْ نشرب على بطوننا ، وهو الكَرْعُ ، ونهانا أنْ نغترِفَ باليد الواحدة وقال :
(( لا يَلَغْ أحدُكُم كَمَا يَلَغُ الكلبُ ، ولا يَشْرَبْ باللَّيْلِ مِن إنَاءٍ حَتَّى يَختبِرَه إلا أنْ يكونَ مُخَمَّراً ))
وحديثُ البخارى أصحُّ من هذا ، وإن صحَّ ، فلا تعارُضَ بينهما ، إذ لعلَّ الشربَ باليد لم يكن يمكن حينئذٍ ، فقال : ((وإلا كَرَعْنا)) ، والشربُ بالفم إنما يضرُّ إذا انكبَّ الشارِبُ على وجهه وبطنه ، كالذى يشربُ من النهر والغدِير ، فأمَّا إذا شرب مُنتصِباً بفمه من حوض مرتفع ونحوِه ، فلا فَرْقَ بين أن يشرب بيده أو بفمه .


فصل

وكان من هَدِْيه الشُّربُ قاعداً ، هذا كان هديَه المعتادَ

وصحَّ عنه أنه نهى عن الشُّرب قائماً ، وصحَّ عنه أنه أمر الذى شرب قائماً أن يَسْتَقىءَ ، وصَحَّ عنه أنه شرب قائماً .
فقالت طائفةٌ : هذا ناسخٌ للنهى ، وقالت طائفةٌ : بل مبيِّنٌ أنَّ النهىَ ليس للتحريم ، بل للإرشاد وتركِ الأوْلى ، وقالت طائفةٌ : لا تعارُضَ بينهما أصلاً ، فإنه إنما شَرِبَ قائماً للحاجة ، فإنه جاء إلى زمزمَ ، وهم يَستَقُون منها ، فاستَقَى فناولُوه الدَّلوَ ، فشرب وهو قائم ، وهذ كان موضعَ حاجة .

وللشرب قائماً آفاتٌ عديدة منها : أنه لا يحصل به الرِّىُّ التام ، ولا يستَقِرُّ فى المَعِدَة حتى يَقْسِمَه الكبدُ على الأعضاء ، وينزلُ بسرعة وَحِدَّة إلى المَعِدَة ، فيُخشى منه أن يُبردَ حرارتَها ، ويُشوشها ، ويُسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج ، وكلُّ هذا يَضُرُّ بالشارب ، وأمَّا إذا فعله نادراً أو لحاجة ، لم يَضره ، ولا يُعترض بالعوائد على هذا ، فإنَّ العوائد طبائعُ ثوانٍ ، ولها أحكامٌ أُخرى ، وهى بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء .


فصل

وفى ((صحيح مسلم)) من حديث أنس بن مالك ، قال : كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتنفَّسُ فى الشَّراب ثلاثاً ، ويقولُ : ((إنه أرْوَى وأمْرَأُ وأبْرَأُ)) .الشراب فى لسان الشارع وحمَلَةِ الشرع : هو الماء ، ومعنى تنفُّسِه فى الشراب : إبانتُه القَدَح عن فيه ، وتنفُّسُه خارجَه ، ثم يعود إلى الشراب ، كما جاء مصرَّحاً به فى الحديث الآخر : ((إذا شَرِبَ أحَدُكُم فَلا يَتنفَّسْ فى القَدَحِ ، ولكنْ لِيُبِنِ الإناءَ عن فيهِ))

وفى هذا الشرب حِكمٌ جَمَّة ، وفوائدٌ مهمة ، وقد نبَّه صلى الله عليه وسلم على مَجامِعها ، بقوله : ((إنه أروَى وأمرَأ وأبرأ)) فأروَى : أشدُّ ريَّاً ، وأبلغُه وأنفعُه ، وأبرأُ : أفعلُ من البُرء ، وهو الشِّفاء ، أى يُبرىء من شدة العطش ودائه لتردُّدِه على المَعِدَة الملتهبة دفعاتٍ ، فتُسَكِّن الدفعةُ الثانية ما عجزت الأُولى عن تسكينه ، والثالثةُ ما عجزت الثانية عنه ، وأيضاً فإنه أسلمُ لحرارة المَعِدَة ، وأبقَى عليها من أن يَهجُم عليها الباردُ وَهْلةً واحدة ، ونَهْلةً واحدة .وأيضاً فإنه لا يُروِى
لمصادفته لحرارة العطش لحظةً ، ثم يُقلع عنها ، ولما تُكسَرْ سَوْرتُها وحِدَّتُها ، وإن انكسرتْ لم تبطل بالكلية بخلاف كسرِها على التمهُّل والتدريج .
وأيضاً فإنه أسلمُ عاقبةً ، وآمنُ غائلةً مِن تناوُل جميع ما يُروِى دفعةً واحدة ، فإنه يُخاف منه أن يُطفىء الحرارة الغريزية بشدة برده ، وكثرةِ كميته ، أو يُضعفَها فيؤدِّى ذلك إلى فساد مزاج المَعِدَة والكَبِد ، وإلى أمراض رديئة ، خصوصاً فى سكان البلاد الحارة ، كالحجاز واليمن ونحوهما ، أو فى الأزمنة الحارة كشدة الصيف ، فإن الشرب وَهْلَةً واحدةً مَخُوفٌ عليهم جداً ، فإنَّ الحار الغريزى ضعيف فى بواطن أهلها ، وفى تلك الأزمنة الحارة .
وقوله : ((وأمْرَأُ)) : هو أفعلُ مِن مَرِئ الطعامُ والشرابُ فى بدنه : إذا دخله ، وخالطه بسهولة ولذة ونفع . ومنه : {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً}[النساء : 4] ، هنيئاً فى عاقبته ، مريئاً فى مذاقه . وقيل : معناه أنه أسرعُ انحداراً عن المَرِىء لسهولته وخفته عليه ، بخلاف الكثير ، فإنه لا يسهُل على المرىء انحدارُه .

ومن آفات الشرب نَهْلَةً واحدة أنه يُخاف منه الشَّرَق بأن ينسدَّ مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه ، فيغَصَّ به ، فإذا تنفَّس رُويداً ، ثم شرب ، أمِنَ من ذلك .
ومن فوائده : أنَّ الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخارُ الدخانىُّ الحارُّ الذى كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه ، فأخرجَتْه الطبيعةُ عنها ، فإذا شرِب مرةً واحدةً ، اتفق نزولُ الماء البارد ، وصعودُ البخار ، فيتدافعان ويتعالجان ، ومن ذلك يحدُث الشَرقُ والغصَّة ، ولا يهْنأ الشاربُ بالماء ، ولا يُمرئُه ، ولا يتم رِيُّه .
وقد روى عبد الله بن المبارك ، والبَيْهَقىُّ ، وغيرُهما عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم : ((إذا شَرِبَ أحدُكُم فَلْيَمَُصَّ الماءَ مَصَّاً ، ولا يَعُبَّ عبَّا ، فإنَّه مِن الكُبَادِ)) .والكُبَاد بضم الكاف وتخفيف الباء هو وجع الكبد ، وقد عُلم بالتجرِبة أنَّ ورود الماء جملةً واحدة على الكبد يؤلمها ويُضعفُ حرارتَها ، وسببُ ذلك المضادةُ التى بين حرارتها ، وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته . ولو ورد بالتدريج شيئاً فشيئاً ، لم يضاد حرارتَها ، ولم يُضعفْها ، وهذا مثالُه صَبُّ الماء البارد على القِدْر وهى تفور ، لا يضرُّها صَبُّه قليلاً قليلاً .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 07:57 PM   #9
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



وقد روى الترمذىُّ فى ((جامعه)) عنه صلى الله عليه وسلم : ((لا تَشْرَبُوا نَفَساً واحداً كَشُرْبِ البَعيرِ ، ولكن اشرَبُوا مَثْنَى وثُلاثَ ، وسمُّوا إذا أنتم شَرِْبُتم واحْمَدُّوا إذَا أنتُمْ فَرَغْتُمْ)) .
وللتسمية فى أول الطعام والشراب ، وحمد الله فى آخره تأثيرٌ عجيب فى نفعه واستمرائه ، ودفع مَضَرَّته .
قال الإمام أحمد : إذا جمع الطعام أربعاً ، فقد كَمُل : إذا ذُكِرَ اسمُ الله فى أوله ، وحُمِدَ اللهُ فى آخره ، وكثرتْ عليه الأيدى ، وكان من حِلٍّ .


فصل

وقد روى مسلم فى ((صحيحه)) من حديث جابر بن عبد الله ، قال : سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((غطُّوا الإناءَ ، وأَوْكُوا السِّقاءَ ، فإنَّ فى السَّنَةِ لَيْلَةً ينزِلُ فِيهَا وِباءٌ لا يَمُرُّ بإناءٍ ليس عليه غِطَاءٌ ، أو سِقاءٍ ليس عليه وِكاءٌ إلا وَقَعَ فيه من ذلك الدَّاء)) .
وهذا مما لا تنالُه علوم الأطباء ومعارفُهم ، وقد عرفه مَن عرفه من عقلاء الناس بالتجربة . قال اللَّيث بن سعد أحدُ رواة الحديث : الأعاجمُ عندنا يتَّقون تلك الليلة فى السنة ، فى كانُونَ الأول منها .
وصَحَّ عنه أنه أمرَ بتخمير الإناء ولو أن يَعرِضَ عليه عُوداً . وفى عرض العود عليه من الحكمة ، أنه لا ينسى تخميرَه ، بل يعتادُه حتى بالعود ، وفيه : أنه ربما أراد الدُّبَيِّب أن يسقط فيه ، فيمرُّ على العود ، فيكون العودُ جسراً له يمنعه من السقوط فيه.
وصَحَّ عنه أنه أمرَ عند إيكاءِ الإناء بذكر اسم الله ، فإنَّ ذِكْر اسم الله عند تخمير الإناء يطرد عنه الشيطان ، وإيكاؤُه يطرد عنه الهَوامَّ ، ولذلك أمر بذكر اسم الله فى هذين الموضعين لهذين المعنيين .
وروى البخارى فى ((صحيحه)) من حديث ابن عباس ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشُّرب مِنْ في السِّقاء .
وفى هذا آدابٌ عديدة ، منها : أنَّ تردُّدَ أنفاس الشارب فيه يُكسبه زُهومة ورائحة كريهة يُعاف لأجلها . ومنها : أنه ربما غلب الداخِلُ إلى جوفه من الماء ، فتضرَّر به . ومنها : أنه ربما كان فيه حيوان لا يشعر به،فيؤذيه . ومنها : أنَّ الماء ربما كان فيه قَذاةٌ أو غيرُها لا يراها عند الشرب ، فتَلِج جوفه . ومنها : أنَّ الشرب كذلك يملأ البطن من الهواء ، فيضيقُ عن أخذ حظَّه من الماء ، أو يُزاحمه ، أو يؤذيه ، ولغير ذلك من الحِكَم.
فإن قيل : فما تصنعون بما فى ((جامع الترمذي)) : أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دعا بإداوة يومَ أُحُد ، فقال : ((اخْنُثْ فَمَ الإدَاوَة)) ، ثُمَّ شَرِبَ منها مِن فَيّهَا .قلنا : نكتفى فيه بقول الترمذى : هذا حديثٌ ليس إسناده بصحيح ، وعبد الله ابن عمر العُمرىُّ يُضعَّفُ من قِبلِ حفظه ، ولا أدرى سمع من عيسى ، أو لا ... انتهى . يريد عيسى بن عبد الله الذى رواه عنه ، عن رجل من الأنصار .


فصل

وفى ((سنن أبى داود)) من حديث أبى سعيد الخُدرىِّ ، قال : ((نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الشُّرب من ثُلْمَةِ القَدَحِ ، وأن ينفُخَ فى الشَّراب)) . وهذا من الآداب التى تتم بها مصلحةُ الشارب ، فإن الشُّرب من ثُلْمِة القَدَح فيه عِدَّةُ مفاسد :

أحدها : أنَّ ما يكون على وجه الماء من قَذىً أو غيره يجتمع إلى الثُّلْمة بخلاف الجانب الصحيح .

الثانى : أنَّه ربما شوَّش على الشارب ، ولم يتمكن من حسن الشرب من الثُّلْمة .

الثالث : أنَّ الوسخ والزُّهومة تجتمِعُ فى الثُّلْمة ، ولا يصل إليها الغَسلُ ، كما يصل إلى الجانب الصحيح .

الرابع : أنَّ الثُّلْمة محلُّ العيب فى القَدَح ، وهى أردأُ مكان فيه ، فينبغى تجنُّبه ، وقصدُ الجانب الصحيح ، فإنَّ الردىء من كل شىء لا خير فيه ، ورأى بعض السَّلَف رجلاً يشترى حاجة رديئة ، فقال : لا تفعل ، أما عَلِمتَ أنَّ اللهَ نزع البركة من كل ردىء .

الخامس : أنَّه ربما كان فى الثُّلْمة شقٌ أو تحديدٌ يجرح فم الشارب ، ولغيرِ هذه من المفاسد .
وأما النفخ فى الشراب .. فإنه يُكسِبُه من فم النافخ رائحةٌ كريهةٌ يُعاف لأجلها ، ولا سِيَّما إن كان متغيِّرَ الفم . وبالجملة : فأنفاس النافخ تُخالطه ، ولهذا جمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين النهى عن التنفُّس فى الإناء والنفخ فيه ، فى الحديث الذى رواه الترمذىُّ وصحَّحه ، عن ابن عباس رضى الله عنهما ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتنفَّسَ فى الإناء ، أو يُنْفَخَ فيه .
فإن قيل : فما تصنعون بما فى ((الصحيحين)) من حديث أنس ، ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفَّسُ فى الإناء ثلاثاً)) ؟ .
قيل : نُقابلُه بالقبول والتسليم ، ولا مُعارضة بينه وبين الأول ، فإن معناه أنه كان يتنفس فى شربه ثلاثاً ، وَذَكَرَ الإناءَ لأنه آلة الشرب ، وهذا كما جاء فى الحديث الصحيح : أنَّ إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات فى الثَّدْى ، أى : فى مُدة الرَّضاع .


فصل

وكان صلى الله عليه وسلم يشرب اللَّبن خالصاً تارةً ، ومُشَوباً بالماء أُخرى . وفى شرب اللَّبن الحلو فى تلك البلاد الحارة خالصاً ومَشوباً نفعٌ عظيم فى حفظ الصحة ، وترطيبِ البدن ، ورَىِّ الكبد ، ولا سِيَّما اللبنَ الذى ترعى دوابُّه الشيحَ والقَيْصومَ والخُزَامَى وما أشبهها ، فإن لبنها غذاءٌ مع الأغذية ، وشرابٌ مع الأشربة ، ودواءٌ مع الأدوية .
وفى جامع ((الترمذى)) عنه صلى الله عليه وسلم : ((إذا أكل أحدكم طعاماً فيلقُلْ : اللَّهُمَّ بارِكْ لنا فيه ، وأطْعِمنا خيراً منه ، وإذا سُقى لبناً فليقل : اللَّهُمَّ بارِكْ لنا فيه ، وزِدْنا منه ، فإنه ليس شىءٌ يُجْزِئُ منَ الطعام والشرابِ إلاَّ اللبنُ)) . قال الترمذى : هذا حديث حسن .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 07:59 PM   #10
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



فصل

وثبت فى ((صحيح مسلم)) أنه صلى الله عليه وسلم كان يُنْبَذُ له أوَّل الليل ، ويشربُه إذا أصبح يومَه ذلك ، والليلةَ التى تجىءُ ، والغَد ، واللَّيلةَ الأُخرى ، والغَد إلى العصر ، فإن بقى منه شىءٌ سقاه الخادِمَ ، أو أمر به فَصُبَّ .
وهذا النبيذ : هو ما يُطرح فيه تمرٌ يُحليه ، وهو يدخل فى الغذاء والشراب ، وله نفع عظيم فى زيادة القوة ، وحفظِ الصحة ، ولم يكن يشربه بعدَ ثلاث خوفاً من تغيُّره إلى الإسكار .


فصل

فى تدبيره صلى الله عليه وسلم الملبس
وكان من أتم الهَدْى ، وأنفعه للبدن ، وأخفِّه عليه ، وأيسره لُبساً وخَلعاً ، وكان أكثر لُبسه الأردية والأُزُر ، وهى أخفُّ على البدن من غيرها ، وكان يلبسُ القميص ، بل كان أحبَّ الثياب إليه .
وكان هَديُه فى لُبسه لما يلبَسُه أنفَعُ شىء للبدن ، فإنه لم يكن يُطيل أكمامه ، ويُوسِعُها ، بل كانت كُمُّ قميصه إلى الرُّسْغ لا يُجاوز اليد ، فتشق على لابسها ، وتمنعُه خِفَّة الحركة والبطش ، ولا تقصُرُ عن هذه ، فتبرز للحر والبرد .
وكان ذيلُ قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز الكعبين ، فيؤذىَ الماشى ويَؤُوده ، ويجعله كالمقيَّد ، ولم يقصُرْ عن عَضلة ساقيه ، فتنكشفَ ويتأذَّى بالحر والبرد .
ولم تكن عِمامته بالكبيرة التى يؤذى الرأس حملُها ، ويضعفُه ويجعله عُرْضةً للضعف والآفات ، كما يُشَاهَد من حال أصحابها ، ولا بالصغيرة التى تقصرُ عن وقاية الرأس من الحر والبرد ؛ بل وَسَطاً بين ذلك ، وكان يُدخلها تحت حَنكه ، وفى ذلك فوائدُ عديدة : فإنها تقى العنق الحر والبرد ، وهو أثبت لها ، ولا سِيَّما عِند ركوب الخيل والإبل ، والكرِّ والفرِّ ، وكثير من الناس اتخذ الكلاَليب عوضاً عن الحنك ، ويا بُعدَ ما بينهما فى النفع والزينة ، وأنت إذا تأملت هذه اللُّبسة وجدتها من أنفع اللُّبسات وأبلغِها فى حفظ صحة البدن وقوته ، وأبعدها من التكلف والمشقة على البدن .
وكان يلبسُ الخِفاف فى السفر دائماً ، أو أغلب أحواله لِحاجة الرِّجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد ، وفى الحَضَر أحياناً .
وكان أحبُّ ألوان الثياب إليه البياضَ ، والحِبَرَة ، وهى : البرود المحبَّرة .
ولم يكن مِن هَدْيه لُبس الأحمر ، ولا الأسود ، ولا المصبَّغ ، ولا المصقول
وأما الحُلَّة الحمراء التى لبسها ، فهى الرداءُ اليمانىُّ الذى فيه سوادٌ وحُمرة وبياض ، كالحُلَّةِ الخضراء ، فقد لبس هذه وهذه ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، وتغليطُ مَن زعم أنه لبس الأحمر القانى بما فيه كفاية .


فصل

فى تدبيره صلى الله عليه وسلم لأمر المسكن

لـمَّا علم صلى الله عليه وسلم أنه على ظهرِ سيرٍ ، وأن الدنيا مرحلةُ مسافرٍ ينزلُ فيها مُدَّة عمره ، ثم ينتقلُ عنها إلى الآخرة ، لم يكن من هَديه وهَدى أصحابه ومن تبعه الاعتناءُ بالمساكن وتشييدها ، وتعليتها وزَخرفتها وتوسِيعها ، بل كانت من أحسن منازل المسافر تقى الحر والبرد ، وتسترُ عن العيون ، وتمنعُ من ولوج الدوابِّ ، ولا يُخاف سقوطُها لفرطِ ثقلها ، ولا تُعشش فيها الهوام لِسعتها ولا تعتَوِرُ عليها الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها ، وليست تحت الأرض فتؤذىَ ساكنها ، ولا فى غاية الارتفاع عليها ، بل وسط ، وتلك أعدلُ المساكن وأنفعُها ، وأقلُّها حراً وبرداً ، ولا تضيقُ عن ساكنها ، فينحصِر ، ولا تفضل عنه بغير منفعة ولا فائدة ، فتأوَى الهوامُّ فى خلوها ، ولم يكن فيها كُنُفٌ تُؤذى ساكنها برائحتها ، بل رائحتها من أطيب الروائح لأنه كان يُحبُّ الطيب ، ولا يزال عنده ، وريحه هو من أطيب الرائحة ، وعَرَقُه من أطيب الطيب ، ولم يكن فى الدار كَنِيفٌ تظهر رائحتُه ، ولا ريبَ أنَّ هذه من أعدل المساكن وأنفعها وأوفقها للبدن ، وحفظِ صحته .


فصل

فى تدبيره صلى الله عليه وسلم لأمر النوم واليقظة

مَن تدبَّر نومه ويقظَته صلى الله عليه وسلم وجدَه أعدلَ نوم ، وأنفعَه للبدن والأعضاء والقُوى ، فإنه كان ينام أوَّلَ الليل ، ويستيقظ فى أول النصف الثانى ، فيقومُ ويَستاك ، ويتوضأ ويُصَلِّى ما كتبَ اللهُ له ، فيأخذُ البدن والأعضاء والقُوَى حظَّها من النوم والراحة ، وحظَّها من الرياضة مع وُفورِ الأجر ، وهذا غايةُ صلاح القلب والبدن ، والدنيا والآخرة . ولم يكن يأخذ من النوم فوقَ القدر المحتاج إليه ، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه ، وكان يفعلُه على أكمل الوجوه ، فينامُ إذا دعتْه الحاجةُ إلى النوم على شِقِّه الأيمن ، ذاكراً الله حتى تغلبه عيناه ، غيرَ ممتلئ البدنِ من الطعام والشراب ، ولا مباشرٍ بجنبه الأرضَ ، ولا متخذٍ للفُرش المرتفعة ، بل له ضِجَاع من أُدم حشوهُ ليف ، وكان يَضطجع على الوِسادة ، ويضع يده تحت خدِّه أحياناً . ونحن نذكر فصلاً فى النوم ، والنافع منه والضار
فنقول : النوم حالة للبدن يَتبعُها غوْر الحرارةِ الغريزية والقُوى إلى باطن البدن لطلب الراحة ، وهو نوعان : طبيعى ، وغيرُ طبيعى .
فالطبيعى : إمساك القُوى النفسانية عن أفعالها ، وهى قُوَى الحِسِّ والحركة الإرادية ، ومتى أمسكتْ هذه القُوَى عن تحريك البدن اسْتَرخى ، واجتمعتْ الرطوباتُ والأبخرةُ التى كانت تتحلَّل وتتفرَّق بالحركات واليقظة فى الدماغ الذى هو مبدأ هذه القُوَى ، فيتخدَّرُ ويَسترخِى ، وذلك النومُ الطبيعى .
وأمَّا النومُ غيرُ الطبيعى ، فيكونُ لعَرض أو مرض ، وذلك بأن تستولىَ الرطوباتُ على الدماغ استيلاءً لا تقدِرُ اليقظةُ على تفريقها ، أو تصعد أبخرةٌ رَطبة كثيرة كما يكون عقيبَ الامتلاء مِن الطعام والشراب ، فتُثقِلُ الدماغ وتُرخيه ، فَيتخدَّرَ ، ويقع إمساكُ القُوَى النفسانية عن أفعالها ، فيكون النوم .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 08:00 PM   #11
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



وللنوم فائدتان جليلتان ، إحداهما : سكونُ الجوارح وراحتُها مما يَعرض لها من التعب ، فيُريح الحواسَّ مِن نَصَب اليقظة ، ويُزيل الإعياء والكَلال .
والثانية : هضم الغذاء ، ونُضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية فى وقت النوم تَغور إلى باطن البدن ، فتُعين على ذلك ، ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دِثَار .
وأنفعُ النوم : أن ينامَ على الشِّق الأيمن ، ليستقرَّ الطعام بهذه الهيئة فى المَعِدَة استقراراً حسناً ، فإن المَعِدَة أميَلُ إلى الجانب الأيسر قليلاً ، ثم يَتحوَّل إلى الشِّق الأيسر قليلاً ليُسرعَ الهضم بذلك لاستمالة المَعِدَة على الكَبِد ، ثم يَستقرُّ نومُه على الجانب الأيمن ، ليكون الغِذاء أسرعَ انحداراً عن المَعِدَة ، فيكونُ النوم على الجانب الأيمن بُداءة نومه ونهايتَه ، وكثرةُ النوم على الجانب الأيسر مضرٌ بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه ، فتنصبُّ إليه المواد .
وأردأُ النومِ النومُ على الظهر ، ولا يَضرُّ الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم ، وأردأُ منه أن ينامَ منبطحاً على وجهه ، وفى ((المسند)) و((سنن ابن ماجه)) ، عن أبى أُمامةَ قال : مرَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم على رجُلٍ نائم فى المسجد منبطح على وجهه ، فضرَبه برجله ، وقال : ((قُمْ أوِ اقْعُدْ فإنَّهَا نومةٌ جَهَنَّمِيَّةٌ)) .
قال ((أبقراطٌ)) فى كتاب ((التَّقدِمة)) : وأما نومُ المريض على بطنه من غير أن يكون عادتُه فى صحته جرتْ بذلك ، فذلك يدلُّ على اختلاط عقل ، وعلى ألمٍ فى نواحى البطن ، قال الشُرَّاح لكتابه : لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن .
والنومُ المعتدل ممكِّنٌ للقُوَى الطبيعية من أفعالها ، مريحٌ للقوة النفسانية ، مُكْثرٌ من جوهر حاملها ، حتى إنه ربَّما عاد بإرخائه مانعاً من تحلُّل الأرواح . ونومُ النهار ردئٌ يُورث الأمراضَ الرطوبية والنوازلَ ، ويُفسد اللَّون ، ويُورث الطِّحال ، ويُرخى العصبَ ، ويُكسل ، ويُضعف الشهوة ، إلاَّ فى الصَّيفِ وقتَ الهاجِرة ، وأردؤه نومُ أول النهار ، وأردأُ منه النومُ آخره بعدَ العصر ، ورأى عبد الله بن عباس ابناً له نائماً نومة الصُّبْحَةِ ، فقال له : قم ، أتنام فى الساعة التى تُقسَّمُ فيها الأرزاق ؟
وقيل : نوم النهار ثلاثة : خُلقٌ ، وحُرق ، وحُمق . فالخُلق : نومة الهاجرة ، وهى خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . والحُرق : نومة الضحى ، تُشغل عن أمر الدنيا والآخرة . والحُمق : نومة العصر . قال بعض السَّلَف : مَن نام بعد العصر ، فاختُلِسَ عَقلُه ، فلا يلومنَّ إلا نفسه . وقال الشاعر :

أَلاَ إنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الْفَتَى *** خَبَالاً وَنَوْمَاتُ الْعُصَيْـرِ جُنُونُ

ونوم الصُّبحة يمنع الرزق ، لأن ذلك وقتٌ تطلبُ فيه الخليقةُ أرزاقَها ، وهو وقتُ قسمة الأرزاق ، فنومُه حرمانٌ إلا لعارض أو ضرورة ، وهو مضر جداً بالبدن لإرخائه البدن ، وإفسادِه للفضلات التى ينبغى تحليلُها بالرياضة ، فيُحدث تكسُّراً وَعِيّاً وضَعفاً . وإن كان قبل التبرُّز والحركة والرياضة وإشغالِ المَعِدَة بشىء ، فذلك الداء العُضال المولِّد لأنواع من الأدواء .
والنومُ فى الشمس يُثير الداءَ الدَّفين ، ونومُ الإنسان بعضُه فى الشمس ، وبعضُه فى الظل ردىء ، وقد روى أبو داود فى ((سننه)) من حديث أبى هريرة ، قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا كان أحدكم فى الشَّمْسِ فَقَلَصَ عنه الظِّلُّ ، فصار بَعْضُهُ فى الشَّمْسِ وبَعْضُهُ فى الظِّل ، فَلْيَقُمْ)) .
وفى ((سنن ابن ماجه)) وغيره من حديث بُريدَةَ بن الحُصَيب ، ((أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى أنْ يقعُدَ الرَّجُلُ بين الظِّلِّ والشمس))، وهذا تنبيه على منع النوم بينهما .
وفى ((الصحيحين)) عن البَرَاء بن عازِبٍ ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إذا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فتوضَّأْ وُضُوءَكَ للصَّلاة ، ثم اضطَّجِعْ على شِقِّكَ الأيمنِ ، ثم قل : اللَّهُمَّ إنِّى أسْلمتُ نَفْسِى إليكَ ، ووَجَّهْتُ وجْهىِ إليكَ ، وفَوَّضْتُ أمرى إليكَ ، وألجأْتُ ظَهْرى إليكَ ، رَغبةً ورَهبةً إليكَ ، لا ملجأَ ولا مَنْجا منك إلاَّ إليكَ ، آمَنتُ بكتابِكَ الذى أنْزَلْتَ ، ونبيِّكَ الذى أرْسلتَ . واجعلْهُنَّ آخر كلامِكَ ، فإن مِتَّ مِن ليلتِك ، مِتَّ على الفِطْرة)) .
وفى ((صحيح البخارى)) عن عائشة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ((كان إذا صلَّى ركعتى الفجرِ يعنى سُـنَّتَها اضْطَّجَعَ على شِقِّه الأيمنِ)) .
وقد قيل : إنَّ الحكمة فى النوم على الجانب الأيمـن ، أن لا يستغرقَ النائم فى نومه ، لأن القلب فيه ميلٌ إلى جهة اليسار ، فإذا نام على جنبه الأيمن ، طلب القلبُ مُستقَرَّه من الجانب الأيسر ، وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله فى نومه ، بخلاف قراره فى النوم على اليسار ، فإنه مُستقَرُّه ، فيحصُل بذلك الدَّعةُ التامة ، فيستغرق الإنسان فى نومه ، ويَستثقِل ، فيفوتُه مصالح دينه ودنياه .
ولما كان النائمُ بمنزلة الميت ، والنومُ أخو الموت ولهذا يستحيل على الحىِّ الذى لا يموت ، وأهلُ الجنَّة لا ينامون فيها كان النائم محتاجاً إلى مَن يحرُس نفسه ، ويحفظُها مما يَعْرِضُ لها من الآفات ، ويحرُسُ بدنه أيضاً من طوارق الآفات ، وكان ربُّه وفاطرُه تعالى هو المتولى لذلك وحدَه . علَّم النبىُّ صلى الله عليه وسلم النائمَ أن يقولَ كلماتِ التفويضِ والالتجاء ، والرغبة والرهبة ، ليَستدعىَ بها كمال حفظِ الله له ، وحراسته لنفسه وبدنه ، وأرشده مع ذلك إلى أن يَستذكِرَ الإيمانَ ، وينامَ عليه ، ويجعلَ التكلُّمَ به آخرَ كلامه ، فإنه ربما توفاه الله فى منامه ، فإذا كان الإيمانُ آخِرَ كلامه دخل الجنَّة ، فتضمَّن هذا الهَدْىُ فى المنام مصالحَ القلب والبدن والروح فى النوم واليقظة ، والدنيا والآخرة ، فصلواتُ الله وسلامُه على مَن نالتْ به أُمتُه كُلَّ خير
وقوله : ((أسلَمتُ نفْسى إليكَ)) ؛ أى : جعلتُها مُسلَّمَةً لك تسليمَ العبدِ المملوك نفسَه إلى سيده ومالكه .
وتوجيهُ وجهه إليه : يتضمَّن إقبالَه بالكلِّية على ربه ، وإخلاص القصد والإرادة له ، وإقراره بالخضوع والذل والانقياد ، قال تعالى : {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ . وذكر الوجهَ إذ هو أشرفُ ما فى الإنسان ، ومَجْمَعُ الحواس، وأيضاً ففيه معنى التوجُّهِ والقصدِ من قوله :

أسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ *** رَبّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ

وتفويض الأمر إليه : ردُّهُ إلى الله سبحانه ، وذلك يُوجب سُكون القلب وطمأنينتَه ، والرِّضى بما يقضيه ويختارُه له مما يحبه ويرضاه ، والتفويضُ من أشرف مقامات العبودية ، ولا عِلَّة فيه ، وهو من مقامات الخاصة خلافاً لزاعمى خلاف ذلك .
وإلجاءُ الظَّهر إليه سبحانه : يَتضَمَّنُ قوةَ الاعتماد عليه ، والثقة به ، والسكونَ إليه ، والتوكلَ عليه ، فإنَّ مَن أسند ظهره إلى ركن وثيقٍ ، لم يخف السقوطَ .
ولـمَّا كان للقلب قوَّتان : قوة الطلب ، وهى الرغبة ، وقوة الهرب ، وهى الرهبة ، وكان العبد طالباً لمصالحه ، هارباً من مضارِّه ، جمع الأمرين فى هذا التفويض والتوجُّه ، فقال : ((رغبةً ورهبةً إليك)) .
ثم أثنى على ربه ، بأنه لا مَلجأ للعبد سواه ، ولا منجا له منه غيره ، فهو الذى يلجأ إليه العبدُ ليُنجِيَه من نفسه ، كما فى الحديث الآخر : ((أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ ، وبمُعَافَاتِكَ من عُقُوبَتِكَ ، وأعوذُ بِكَ مِنْكَ)) ، فهو سبحانه الذى يُعيذ عبدَه ويُنجيه من بأسه الذى هو بمشيئته وقُدرته ، فمنه البلاءُ ، ومنه الإعانةُ ، ومنه ما يُطلب النجاةُ منه ، وإليه الالتجاءُ فى النجاة ، فهو الذى يُلجأ إليه فى أن يُنجىَ مما منه ، ويُستعاذُ به مما منه ، فهو ربُّ كل شىء ، ولا يكون شىء إلا بمشيئته : {وَإن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ}[الأنعام : 17]، { قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً }[الأحزاب : 17]
ثُمَّ ختم الدعاءَ بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذى هو مَلاكُ النجاة ، والفوز فى الدنيا والآخرة ، فهذا هَدْيُه فى نومه .

لَوْ لَمْ يَقُلْ إنِّى رَسُولٌ لَكَا *** نَ شَاهِدٌ فِى هَدْيِهِ يَنْطِقُ


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 08:04 PM   #12
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



صل

وأمَّا هَدْيُه فى يقظته ، فكان يَستيقظ إذا صاح الصَّارخُ وهو الدِّيك ، فيحمَدُ اللهَ تعالى ويُكبِّره ، ويُهلِّله ويدعوه ، ثم يَستاك ، ثم يقوم إلى وضُوئه ، ثم يَقِفُ للصلاة بين يَدَى ربه ، مُناجياً له بكلامه ، مُثنياً عليه ، راجياً له ، راغباً راهباً ، فأىُّ حفظٍ لصحةِ القلب والبدن ، والرُّوح والقُوَى ، ولنعيم الدنيا والآخرة فوقَ هذا .


فصل

وأمَّا تدبيرُ الحركة والسكون ، وهو الرياضة ، فنذكرُ منها فصلاً يُعلم منه مطابقةُ هَدْيِه فى ذلك لأكملِ أنواعِه وأحمدِها وأصوبِها ، فنقول :

من المعلوم افتقارُ البدن فى بقائه إلى الغذاء والشراب ، ولا يَصير الغذاءُ بجملته جزءاًمن البدن ، بل لا بد أن يبقى منه عند كل هضم بقية ما ، إذا كثُرتْ على ممر الزمان اجتمع منها شىء له كميةٌ وكيفية ، فيضُرُّ بكميته بأن يسد ويُثقلَ البدن ، ويُوجبَ أمراضَ الاحتباس ، وإن استفرغ تأذَّى البدن بالأدوية ، لأن أكثرها سُمِيَّة ، ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفَع به ، ويضر بكيفيته ، بأن يسخن بنفسه ، أو بالعَفِن ، أو يبردُ بنفسه ، أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه .
وسدد الفضلات لا محالةَ ضارةٌ ، تُرِكَتْ أو استُفرِغَتْ ، والحركةُ أقوى الأسباب فى منع تولُّدِها ، فإنها تُسخِّن الأعضاء ، وتُسيل فضلاتِها ، فلا تجتمعُ على طول الزمان ، وتُعوِّدُ البدنَ الخفةَ والنشاط ، وتجعلُه قابلاً للغذاء ، وتُصلِّب المفاصِل ، وتُقوِّى الأوتارَ والرباطاتِ ، وتُؤمن جميعَ الأمراض المادية وأكثر الأمراض المِزاجية إذا استُعمِلَ القدرُ المعتدل منها فى وقته ، وكان باقى التدبير صواباً .
ووقتُ الرياضة بعدَ انحدار الغذاء ، وكمال الهضم ، والرياضةُ المعتدلة هى التى تحمرُّ فيها البَشْرة ، وتربُو ويَتَنَدَّى بها البدنُ ، وأما التى يلزمُها سيلانُ العرق فمفرِطةٌ ، وأىُّ عضو كثرتْ رياضتُه قَوِىَ ، وخصوصاً على نوع تلك الرياضة ، بل كلُّ قوة فهذا شأنُها ، فإنَّ مَن استكثَر من الحفظ قويتْ حافِظتُه ، ومَن استكثرَ من الفكر قويتْ قُوَّتُه المفكِّرة ، ولكل عضو رياضةٌ تخصُّه ، فللصدرِ القراءةُ ، فليبتدئ فيها من الخِفية إلى الجهر بتدريج ، ورياضةُ السمع بسمعِ الأصوات ، والكلام بالتدريج ، فينتقل من الأخف إلى الأثقل ، وكذلك رياضةُ اللِّسان فى الكلام ، وكذلك رياضةُ البصر ، وكذلك رياضةُ المشى بالتدريج شيئاً فشيئاً .
وأمَّا ركوبُ الخيل ، ورمىُ النُّشَّاب ، والصراعُ ، والمسابقةُ على الأقدام ، فرياضةٌ للبدن كلِّه ، وهى قالعة لأمراض مُزمنةٍ ، كالجُذام والاستسقاء والقولنج .
ورياضةُ النفوس بالتعلُّم والتأدُّب ، والفرح والسرور ، والصبر والثبات ، والإقدام والسماحة ، وفِعْل الخير ، ونحو ذلك مما تَرْتاض به النفوسُ ، ومن أعظم رياضتها : الصبرُ والحب ، والشجاعة والإحسان ، فلا تزالُ تَرتاض بذلك شيئاً فشيئاً حتى تَصيرَ لها هذه الصفاتُ هيآتٍ راسخةً ، ومَلَكاتٍ ثابتةً .
وأنت إذا تأمَّلت هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى ذلك ، وجدتَه أكملَ هَدْىٍ حافظٍ للصحة والقُوَى ، ونافعٍ فى المعاش والمعاد .

ولا رَيْبَ أنَّ الصلاة نفسَها فيها من حِفظِ صحة البدن ، وإذابةِ أخلاطه وفضلاته ، ما هو من أنفع شىء له سوى ما فيها مِن حفظِ صحة الإيمان ، وسعادةِ الدنيا والآخرة ، وكذلك قيامُ الليل مِن أنفع أسباب حفظ الصحة ، ومن أمنع الأُمور لكثير من الأمراض المزمنة ، ومن أنشط شىء للبدن والروح والقلب ، كما فى ((الصحيحين)) عن النبى صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ((يَعقِدُ الشَّيْطَانُ على قافِيَةِ رأسِ أحَدِكُم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقَدٍ ، يَضربُ على كُلِّ عُقْدَةٍ : عَلَيْكَ لَيْلٌ طويلٌ ، فارقُدْ ، فإنْ هو استيقَظ ، فذكَرَ اللهَ انحلَّتْ عُقْدَةٌ ، فإنْ تَوَضَّأَ ، انحلَّتْ عُقْدَةٌ ثانيةٌ ، فإنْ صَلَّى انحلَّتْ عُقْدُهُ كُلُّهَا ، فأصبحَ نشيطاً طَـيِّبَ النفْسِ ، وإلاَّ أصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ)) .
وفى الصوم الشرعى من أسبابِ حفظ الصحة ورياضةِ البدن والنفس ما لا يدفعُه صحيحُ الفطرة .
وأما الجهادُ وما فيه من الحركات الكلية التى هى من أعظم أسباب القوة ، وحفظ الصحة ، وصلابةِ القلب والبدن ، ودفعِ فضلاتهما ، وزوالِ الهم والغم والحزن ، فأمر إنَّما يعرفه مَن له منه نصيبٌ ، وكذلك الحجُّ ، وفعلُ المناسك ، وكذلك المسابقةُ على الخيل ، وبالنِّصال ، والمشىُ فى الحوائج ، وإلى الإخوان ، وقضاءُ حقوقهم ، وعيادة مرضاهم ، وتشييعُ جنائزهم ، والمشىُ إلى المساجد للجُمُعات والجماعات ، وحركةُ الوضوء والاغتسال ، وغير ذلك .
وهذا أقلُّ ما فيه الرياضةُ المعينة على حفظِ الصحة ، ودفع الفضلات ، وأما ما شُرع له من التوصُّل به إلى خيرات الدنيا والآخرة ، ودفع شرورهما ، فأمرٌ وراء ذلك .
فعلمتَ أنَّ هَدْيَه فوق كل هَدْىٍ فى طبِّ الأبدان والقلوب ، وحفظِ صحتها ، ودفع أسقامهما ، ولا مزيدَ على ذلك لمن قد أحضر رشده .. وبالله التوفيق .


فصل

فى الجِماع والباه وهَدْى النبى صلى الله عليه وسلم فيه
وأما الجِماعُ والباهُ ، فكان هَدْيُه فيه أكملَ هَدْىٍ ، يحفَظ به الصحة ، وتتمُّ به اللَّذةُ وسرور النفس ، ويحصل به مقاصدُه التى وُضع لأجلها ، فإن الجِمَاع وُضِعَ فى الأصل لثلاثة أُمور هى مقاصدُه الأصلية :

أحدها : حفظُ النسل ، ودوامُ النوع إلى أن تتكاملَ العُدة التى قدَّر الله بروزَها إلى هذا العالَم .

الثانى : إخراجُ الماء الذى يضر احتباسُه واحتقانُه بجملة البدن .

الثالث : قضاءُ الوَطر ، ونيلُ اللَّذة ، والتمتعُ بالنعمة ، وهذه وحدَها هى الفائدةُ التى فى الجنَّة ، إذ لا تناسُلَ هناك ، ولا احتقانَ يستفرِغُه الإنزالُ .

وفضـلاءُ الأطباء : يرون أنَّ الجِمَاع من أحد أسـباب حفظ الصحة . قال ((جالينوسُ)) : الغالبُ على جوهر المَنِىِّ النَّارُ والهواءُ ، ومِزاجُه حار رطب ، لأن كونه من الدم الصافى الذى تغتذى به الأعضاءُ الأصلية ، وإذا ثبت فضلُ المَنِىِّ ، فاعلم أنه لا ينبغى إخراجُه إلا فى طلب النسل ، أو إخراجُ المحتقن منه ، فإنه إذا دام احتقانُه ، أحدث أمراضاً رديئة ، منها : الوسواسُ والجنون ، والصَّرْع ، وغيرُ ذلك ، وقد يُبرئ استعمالُه من هذه الأمراض كثيراً ، فإنه إذا طال احتباسُه ، فسد واستحال إلى كيفية سُمِّية تُوجب أمراضاً رديئة كما ذكرنا ، ولذلك تدفعُه الطبيعةُ بالاحتلام إذا كثر عندها من غير جِمَاع .
وقال بعض السَّلَف : ينبغى للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثاً : أن لا يدعَ المشىَ ، فإن احتاج إليه يوماً قدَر عليه ، وينبغى أن لا يدَع الأكل ، فإن أمعاءه تضيق ، وينبغى أن لا يدَع الجِمَاعَ ، فإن البئر إذا لم تُنزحْ ، ذهب ماؤها .
وقال محمد بن زكريا : مَن ترك الجِمَاعَ مدةً طويلة ، ضعفتْ قُوى أعصابه ، وانسدَّت مجاريها ، وتقلَّص ذَكرُه . قال : ورأيتُ جماعة تركوه لنوع من التقشف ، فبرُدَتْ أبدانُهُم ، وعَسُرَتْ حركاتُهُم ، ووقعتْ عليهم كآبةٌ بلا سبب ، وقَلَّتْ شهواتُهُم وهضمُهُم .. انتهى .
ومن منافعه : غضُّ البصر ، وكفُّ النفس ، والقدرةُ على العِفَّة عن الحرام ، وتحصيلُ ذلك للمرأة ، فهو ينفع نفسه فى دنياه وأُخراه ، وينفع المرأة ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعاهدُه ويُحبُه ، ويقول : ((حُبِّبَ إلىَّ مِن دُنْيَاكُمُ : النِّسَاءُ والطِّيبُ)) .
وفى كتاب ((الزهد)) للإمام أحمد فى هذا الحديث زيادةٌ لطيفة ، وهى : ((أصبرُ عن الطعام والشراب ، ولا أصبرُ عنهنَّ )) .
وحثَّ على التزويج أُمَّته ، فقال : ((تَزَوَّجوا ، فإنِّى مُكاثرٌ بِكُمُ الأُمَمَ)) .
وقال ابن عباس : خيرُ هذه الأُمة أكثرُها نِساءً .
وقال : ((إنِّى أتزوَّجُ النساءَ ، وأنامُ وأقومُ ، وأَصُومُ وأُفطِرُ ، فمن رَغِبَ عن سُـنَّتى فليس منِّى)) .
وقال : ((يا معشرَ الشبابِ ؛ مَن استطاعَ منكم الباءَةَ فلْيَتَزَوَّجْ ، فإنه أغضُّ للبصرِ ، وأحْفَظُ للْفِرْج ، ومَن لم يستطعْ ، فعليه بالصومِ ، فإنه له وِجاءٌ))
ولما تزوج جابر ثيِّباً قال له : ((هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ)) .
وروى ابن ماجه فى ((سننه)) من حديث أنس بن مالك قال ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((مَن أراد أنْ يَلْقَى اللهَ طاهراً مُطَهَّراً ، فَلْيَتَزَوَّج الحَرَائِرَ)) . وفى ((سننه)) أيضاً من حديث ابن عباس يرفعه ، قال : ((لم نَرَ للمُتَحابَّيْن مِثْلَ النِّكاحِ)) .
وفى ((صحيح مسلم)) من حديث عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الدُّنيا مَتَاعٌ ، وخَيْرُ متاع الدُّنْيا المرأةُ الصَّالِحَةُ)) .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 08:06 PM   #13
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



وكان صلى الله عليه وسلم يُحرِّض أُمته على نكاح الأبكار الحسان ، وذواتِ الدين ، وفى ((سنن النسائى)) عن أبى هريرةَ قال : سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : أىُّ النساءِ خير ؟ قال : ((التى تَسُرُّهُ إذا نَظَرَ ، وتُطِيعُهُ إذا أَمَرَ ، ولا تُخَالِفُه فيما يَكَرَهُ فى نفسِها ومالِهِ)) .
وفى ((الصحيحين)) عنه ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، قال : ((تُنكَحُ المرأةُ لمالِها ، ولِحَسَبِها ، ولِجَمَالِها ، ولِدِينِهَا ، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّين ، تَرِبَتْ يَدَاكَ)) .
وكان يَحثُّ على نكاح الوَلُود ، وَيَكرهُ المرأة التى لا تلد ، كما فى ((سنن أبى داودَ)) عن مَعْقِل بن يَسار ، أنَّ رجلاً جاء إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنى أصَبتُ امرأةً ذاتَ حَسَبٍ وجمالٍ ، وإنَّها لاَ تَلِدُ ، أَفَأَتَزَوَّجُها ؟ قال : ((لا)) ، ثم أتاه الثانيةَ ، فَنَهَاه ، ثم أتاه الثالثةَ ، فقال : ((تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ ، فإنِّى مُكَاثِرٌ بِكُمْ)) .
وفى ((الترمذى)) عنه مرفوعاً : ((أَرْبَعٌ من سُنن المُرْسَلِينَ : النِّكاحُ ، والسِّواكُ ، والتَّعَطُّرُ والحِنَّاءُ)) . رُوى فى ((الجامع)) بالنون و والياء ، وسمعتُ أبا الحجَّاج الحافظَ يقول : الصواب : أنه الخِتَان ، وسقطت النونُ من الحاشية ، وكذلك رواه المَحَامِلىُّ عن شيخ أبى عيسى الترمذى .
وممَّا ينبغى تقديُمُه على الجِماع ملاعبةُ المرأة ، وتقبيلُها ، ومصُّ لِسانها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يُلاعبُ أهله ، ويُقَبلُها
وروى أبو داود فى ((سننه)) : أنه صلى الله عليه وسلم ((كان يُقبِّلُ عائشةَ ، ويمصُّ لِسَانَها)) .
ويُذكر عن جابر بن عبد الله قال : ((نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن المُواقعةِ قبلَ المُلاَعَبَةِ)) .
وكان صلى الله عليه وسلم ربما جامع نساءَه كُلَّهن بغُسل واحد ، وربما اغتَسَلَ عند كل واحدة منهن ، فروى مسلم فى (( صحيحه )) عن أنس أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يَطوفُ على نسائه بغُسْلٍ واحد .
وروى أبو داود فى ((سننه)) عن أبي رافع مولَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه فى ليلة ، فاغتَسَلَ عند كلِّ امرأةٍ منهنَّ غُسلاً ، فقلتُ : يا رسول الله ؛ لو اغتسلتَ غُسلاً واحداً ، فقال : ((هذا أزكى وأطْهَرُ وأطْيَبُ)) .
وشُرع للمُجامِع إذا أراد العَودَ قبل الغُسل الوضوء بين الجِمَاعَيْن ، كما روى مسلم فى ((صحيحه)) من حديث أبى سعيد الخدرىِّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا أتى أحدُكُم أَهْلَهُ ، ثم أرادَ أن يعودَ فلْيَتَوَضأ)) .
وفى الغُسْلِ والوضوء بعد الوطء من النشاطِ ، وطيبِ النفس ، وإخلافِ بعض ما تحلَّل بالجِماع ، وكمالِ الطُهْر والنظافة ، واجتماع الحار الغريزى إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجِماع ، وحصولِ النظافة التى يُحبها الله ، ويُبغض خلافها ما هو مِن أحسن التدبير فى الجِماع ، وحفظ الصحة والقُوَى فيه .


فصل
وأنفعُ الجِماع : ما حصلَ بعد الهضم ، وعند اعتدال البدن فى حرِّه وبرده ، ويُبوسته ورطوبته ، وخَلائه وامتلائه . وَضَرَرُه عند امتلاء البدن أسهلُ وأقل من ضرره عند خُلوِّه ، وكذلك ضررُه عند كثرة الرطوبة أقلُّ منه عند اليبوسة ، وعند حرارته أقلُّ منه عند برودته ، وإنما ينبغى أن يُجامِعَ إذا اشتدتْ الشهوةُ ، وحصَلَ الانتشارُ التام الذى ليس عن تكلُّفٍ ، ولا فكرٍ فى صورة ، ولا نظرٍ متتابع .
ولا ينبغى أن يستدعىَ شهوةَ الجِماع ويتكلفها ، ويحمل نفسه عليها ، وليُبادْر إليه إذا هاجتْ به كثرةُ المَنِىِّ ، واشتد شَبَقُهُ ، وليحذرْ جِماعَ العجوز والصغيرةِ التى لا يُوطأُ مثلُها ، والتى لا شهوة لها ، والمريضةِ ، والقبيحةِ المنظرِ ، والبَغيضة ، فوطءُ هؤلاء يُوهن القُوَى ، ويُضعف الجِماع بالخاصِّية ، وغلط مَن قال من الأطباء : إن جِماع الثيِّب أنفعُ من جِماع البكر وأحفظُ للصحة ، وهذا من القياس الفاسد ، حتى ربما حذَّر منه بعضُهم ، وهو مخالف لِما عليه عقلاءُ الناسِ ، ولِما اتفقتْ عليه الطبيعةُ والشريعة .
وفى جِماع البِكر من الخاصِّية وكمالِ التعلُّق بينها وبين مُجامعها ، وامتلاءِ قلبها من محبته ، وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره ، ما ليس للثَيِّب . وقد قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لجابر : (( هلاَّ تَزوَّجتَ بِكراً )) ، وقد جعل الله سبحانه من كمالِ نساء أهل الجنَّة من الحُور العين ، أنَّهن لم يَطْمِثْهُنَّ أحدٌ قبلَ مَن جُعِلْنَ له ، من أهل الجنَّة . وقالت عائشةُ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم : أرأيْتَ لو مَرَرْتَ بشجرةٍ قد أُرْتِعَ فيها ، وشجرةٍ لم يُرْتَعْ فيها ، ففى أيِّهما كنتَ تُرتِعُ بعيرَك ؟ قال : (( فى التى لم يُرْتَعْ فيها )) . تريد أنه لم يأخذ بكراً غيرَها .
وجِماعُ المرأة المحبوبة فى النفس يَقِلُّ إضعافُهُ للبدن مع كثرةِ استفراغه للمَنِىِّ ، وجماع البغيضة يُحِلُّ البدن ، ويُوهن القُوَى مع قِلَّةِ استفراغه ، وجِماعُ الحائض حرامٌ طبعاً وشرعاً ، فإنه مضرٌ جداً ، والأطباء قاطبةً تُحَذِّر منه .
وأحسنُ أشكالِ الجِماع أن يعلوَ الرجلُ المرأةَ ، مُستفرِشاً لها بعدَ المُلاعبة والقُبلة ، وبهذا سُميت المرأة فِراشاً ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (( الولَدُ لِلفِراش )) ، وهذا من تمام قَوَّامية الرجل على المرأة ، كما قال تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] ، وكما قيل :

إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشَاً يُقِلُّنِى *** وَعِنْدَ فَرَاغِى خَادِمٌ يَتَمَلَّقُ

وقد قال تعالى : {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] ، وأكملُ اللِّباس وأسبَغُه على هذه الحال ، فإن فِراش الرجل لباسٌ له ، وكذلك لِحَافُ المرأة لباسٌ لها ، فهذا الشكلُ الفاضلُ مأخوذٌ من هذه الآية ، وبه يَحسن موقعُ استعارةِ اللِّباس من كل من الزوجين للآخر .
وفيه وجه آخرُ ، وهو أنها تَنعطِفُ عليه أحياناً ، فتكونُ عليه كاللِّباس ، قال الشاعر :

إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَها *** تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

وأردأُ أشكاله أن تعلُوَهُ المرأةُ ، ويُجامِعَها على ظهره ، وهو خلافُ الشكل الطبيعى الذى طبع الله عليه الرجل والمرأة ، بل نوعَ الذكر والأُنثى ، وفيه من المفاسد ، أنَّ المَنِىَّ يتعسَّرُ خروجُه كلُّه ، فربما بقى فى العضو منه فيتعفنُ ويفسد ، فيضر .
وأيضاً : فربما سال إلى الذَّكر رطوباتٌ من الفَرْج .
وأيضاً : فإنَّ الرَّحِم لا يتمكن من الاشتمال على الماء واجتماعِهِ فيه ، وانضمامِهِ عليه لتَخْلِيقِ الولد .
وأيضاً : فإنَّ المرأة مفعولٌ بها طبعاً وشرعاً ، وإذا كانت فاعلة خالفتْ مقتضى الطبع والشرع .
وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جُنوبهن على حَرْفٍ ، ويقولون : هو أيسرُ للمرأة .
وكانت قريش والأنصار تَشْرَحُ النِّساءَ على أقْفَائِهن ، فعابَتِ اليهودُ عليهم ذلك ، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وفى (( الصحيحين )) عن جابر ، قال : كانت اليهود تقولُ : إذا أتى الرجلُ امرأتَه من دُبُرِها فى قُبُلِها ، كان الولدُ أَحوَلَ ، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وفى لفظ لمسلم : (( إن شاء مُجَبِّيَة ، وإن شاء غير مُجَيِّبَة ، غَيْرَ أنَّ ذلك فى صِمِامٍ واحدٍ )) .
و(( المُجَبِّبَة )) : المُنْكَبَّة على وجهها ، و((الصمام الواحد)) : الفَرْج ، وهو موضع الحرْثِ والولد .
وأما الدُّبرُ : فلم يُبَحْ قَطُّ على لسان نبىٍّ من الأنبياء ، ومَن نسب إلى بعض السَّلَف إباحة وطء الزوجة فى دُبُرها ، فقد غلط عليه .
وفى (( سنن أبى داود )) عن أبى هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ملعونٌ مَن أتى المرأةَ فى دُبُرِها )) .
وفى لفظ لأحمد وابن ماجه : ((لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ جَامَعَ امرأتَه فى دُبُرِها)).
وفى لفظ للترمذى وأحمد : ((مَن أتى حائضاً ، أو امرأةً فى دُبُرِها ، أوْ كاهناً فَصَدَّقَهُ ، فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم)) .
وفى لفظ للبيهقى : ((مَنْ أتى شيئاً مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ فى الأدبار فقد كفر)).
وفى (( مصنَّف وكِيع )) : حدثنى زمْعة بن صالح ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن يَزيد ؛ قال : قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيى من الحقِّ ، لا تأتُوا النِّسَاءَ فى أعجازِهِنَّ )) ، وقال مَرَّة : (( فى أدبارِهِنَّ )) .
وفى (( الترمذى )) : عن على بن طَلْق ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تأتوا النِّسَاءَ فى أعجازِهِنَّ ، فإن الله لا يستحى من الحقِّ )) .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 08:31 PM   #14
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



وفى (( الكامل )) لابن عَدِى : من حديثه عن المحامِلى ، عن سعيد بن يحيى الأموىِّ ، قال : حدَّثنا محمد بن حمزَةَ ، عن زيد بن رَفيع ، عن أبى عُبيدة ، عن عبد الله بن مسعود يرفعه : (( لا تأتوا النِّسَاءَ فى أعْجَازِهِنَّ )) .
وروينا فى حديث الحسن بن على الجوهرىِّ ، عن أبى ذرٍّ مرفوعاً : (( مَنْ أتى الرِّجَال والنِّسَاءَ فى أدْبَارِهنَّ ، فقد كَفَرَ )) .
وروى إسماعيل بن عيَّاش ، عن سُهيل بن أبى صالح ، عن محمد ابن المُنْكَدِر ، عن جابر يرفعه : (( اسْتَحْيُوا مِنَ الله ، فإنَّ اللهَ لا يَسْتَحيى مِنَ الحقِّ ، لا تأْتُوا النِّسَاءَ فى حُشُوشِهِنَّ )) .
ورواه الدارقُطنِىُّ من هذه الطريق ، ولفظه : (( إنَّ الله لا يَسْتَحيى مِنَ الحق ، لا يَحلُّ مَأْتَاك النِّسَاءَ فى حُشُوشِهِنَّ )) .
وقال البغوىُّ : حدثنا هُدْبَةُ ، حدثنا همَّام ، قال : سُئِل قتادة عن الذى يأتى امرأته فى دُبُرِها ؛ فقال : حَدَّثنى عمرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جده ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : (( تلك اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرى )) .
وقال أحمد فى (( مسنده )) : حدَّثنا عبد الرحمن ، قال : حدَّثنا همَّام ، أُخبِرنا عن قتادَةَ ، عن عمرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جده ، فذكره .
وفى (( المسند )) أيضاً : عن ابن عباس : أنزلت هذه الآية : {نِسَاءُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة: 223] فى أُناسٍ من الأنصار ، أتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه ، فقال : (( ائْتِها على كُلِّ حال إذا كان فى الفَرْج )) .
وفى (( المسند )) أيضاً : عن ابن عباس ، قال : جاء عمرُ بنُ الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : هلكتُ . فقال : (( وما الذى أهلكَكَ )) ؟ قال : حَوَّلْتُ رَحْلى البارِحَةَ ، قال : فلم يَرُدَّ عليه شيئاً ، فأوحى الله إلى رسوله: {نِسَاءُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أَقْبِلْ وأَدْبِرْ ، واتَّقِ الحَيْضَةَ والدُّبُرَ )) .
وفى (( الترمذى )) : عن ابن عباس مرفوعاً : (( لا يَنْظُرُ اللهُ إلى رَجُلٍ أتى رَجُلاً أو امرأةً فى الدُّبُرِ )) .
وروينا من حديث أبى على الحسن بن الحسين بن دُومَا ، عن البَراء بن عازِب يرفعه : (( كَفَرَ باللهِ العظيم عشرةٌ من هذه الأُمة : القاتِلُ ، والسَّاحِرُ ، والدُّيُّوثُ ، وناكحُ المرأةِ فى دُبُرِها ، ومانِعُ الزكاةِ ، ومَن وَجَدَ سَعَةً فماتَ ولم يَحُجَّ ، وشاربُ الخَمْرِ ، والسَّاعِى فى الفِتَنِ ، وبائعُ السِّلاحِ من أهلِ الحربِ ، ومَن نكَح ذَاتَ مَحْرَمٍ منه )) .
وقال عبد الله بن وهب : حدَّثنا عبد الله بن لَهيعةَ ، عن مِشرَح بن هاعانَ ، عن عقبةَ بن عامر ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : (( مَلْعُونٌ مَن يأتى النِّسَاءَ فى محاشِّهِنَّ )) ؛ يعنى : أدْبَارِهِنَّ .
وفى (( مسند الحارث بن أبى أُسامة )) من حديث أبى هريرة ، وابن عباس قالا : خطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ، وهى آخِرُ خُطبةٍ خطبها بالمدينة حتى لحق بالله عَزَّ وَجَلَّ ، وعظنا فيها وقال : (( مَن نَكَحَ امرأَةً فى دُبُرِها أو رجلاً أو صَبِيَّاً ، حُشِرَ يَوْمَ القيامة ، وريحُهُ أنْتَنُ مِنَ الجِيفةِ يتأذَّى به النَّاسُ حتى يَدْخُلَ النَّار ، وأَحْبَطَ اللهُ أجرَهُ ، ولا يَقْبَلُ منه صَرْفاً ولا عدلاً ، ويُدْخَلُ فى تابوتٍ من نارٍ ، ويُشَدُّ عليه مَساميرُ من نارٍ)) ، قال أبو هريرة : هذا لمن لم يتب.
وذكر أبو نعيم الأصبهاني ، من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه ، ((إنَّ الله لا يَسْتَحي مِنَ الحَق ، لا تأتوا النِّساَء في أَعْجاَزِهِنَّ)).
وقال الشافعي : أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع ، قال : أخبرني عبد الله بن علي بن السائب ، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح ، عن خزيمة بن ثابت ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال: ((حلال)) ، فلما ولى ، دعاه فقال : ((كيف قُلتَ ، في أيِّ الخُرْبَتَينِ ، أو في أي الخَرْزَتَينِ ، أو في أيِّ الخَصْفَتَينِ أمنْ دُبُرهاَ في قُبُلهَا ؟ فَنَعَم . أم مِنْ دُبُرِهاَ في دُبُرِهاَ ، فلا ، إنَّ الله لا يَسْتَحيِي مِنَ الحَق ، لا تأتوا النِّساَء في أَدبارهِنَّ)).
قال الربيع: فقيل للشافعي : فما تقول ؟ فقال : عمي ثقة ، وعبد الله بن علي ثقة ، وقد أثنى على الأنصاري خيراً ، يعني عمرو بن الجلاح ، وخزيمة ممن لا يشك في ثقته ، فلست أرخص فيه ، بل انهي عنه.
قلت : ومن هاهنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة ، فإنهم أباحوا أن يكون الدُّبر طريقاً إلى الوطء في الفرج ، فيطأ من الدبر لا في الدبر ، فاشتبه على السامع ((من)) بـ ((في)) ولم يظن بينهما فرقاً ، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة ، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه.
وقد قال تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] قال مجاهد : سألتُ ابن عَبَّاس عن قوله تعالى : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] ، فقال : تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها يعني في الحيض . وقال علي بن أبي طلحة عنه يقول : في الفرج ، ولا تعدُه إلى غيره .
وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دُبرها من وجهين : أحدهما : أنه أباح إتيانها في الحرث ، وهو موضع الولد لا في الحُشّ الذي هو موضع الأذى ، وموضع الحرث هو المراد من قوله : {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] الآية قال : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] وإتيانُها في قبلها مِن دبرها مستفادٌ من الآية أيضا ، لأنه قال : أنى شئتم ، أي : من أين شئتم من أمام أو من خلف . قال ابن عباس : فأتوا حرثكم ، يعني : الفرج .
وإذا كان الله حرَّم الوطءَ في الفرج لأجل الأذى العارض ، فما الظنُّ بالحشِّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.

وأيضاً : فللمرأة حق على الزوج في الوطء ، ووطؤها في دُبرها يفوِّتُ حقها ، ولا يقضي وطَرَها ، ولا يُحَصِّل مقصودها.
وأيضاً : فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ، ولم يخلق له ، وإنما الذي هيئ له الفرج ، فالعادلون عنه إلى الدُّبُر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً .
وأيضاً : فإن ذلك مضر بالرجل ، ولهذا ينهي عنه عقلاءُ الأطباء منِ الفلاسفة وغيرهم ، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوطءُ فى الدُّبُر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ، ولا يخرج كلَّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعى .
وأيضاً : يضر من وجه آخَر ، وهو إحواجُه إلى حركات متعبةٍ جداً لمخالفته للطبيعة .
وأيضاً : فإنه محل القذر والنَّجْوِ ، فيستقبلُه الرَّجل بوجهه ، ويُلابسه .
وأيضاً : فإنه يضرُّ بالمرأة جداً ، لأنه واردٌ غريب بعيدٌ عن الطباع ، مُنافر لها غايةَ المنافرة .
وأيضاً : فإنه يُحِدثُ الهمَّ والغم ، والنفرةَ عن الفاعل والمفعول .
وأيضاً : فإنه يُسَوِّدُ الوجه ، ويُظلم الصدر ، ويَطمِسُ نور القلب ، ويكسو الوجه وحشةً تصير عليه كالسِّيماء يعرِفُها مَن له أدنى فراسة .
وأيضاً : فإنه يُوجب النُّفرة والتباغض الشديد ، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ، ولا بُدَّ .
وأيضاً : فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكادُ يُرجَى بعده صلاح ، إلا أن يشاءَ الله بالتوبة النصوح .
وأيضاً : فإنه يُذهبُ بالمحاسن منهما ، ويكسوهما ضِدَّها . كما يُذهب بالمَوَدَّة بينهما ، ويُبدلهما بها تباغضاً وتلاعُناً .
وأيضاً : فإنه من أكبر أسباب زوال النِعَم ، وحُلول النِقَم ، فإنه يوجب اللَّعنةَ والمقتَ من الله ، وإعراضه عن فاعله ، وعدم نظره إليه ، فأىُّ خير يرجوه بعد هذا ، وأىُّ شر يأمنُه ، وكيف حياة عبد قد حلَّتْ عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ، ولم ينظر إليه .
وأيضاً : فإنه يُذهب بالحياءِ جملةً ، والحياءُ هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلبُ ، استحسَن القبيح ، واستقبحَ الحسن ، وحينئذٍ فقد استَحكَم فسادُه .
وأيضاً : فإنهُ يُحيل الطباعَ عما رَكَّبَها الله ، ويُخرج الإنسانَ عن طبعه إلى طبع لم يُركِّب الله عليه شيئاً من الحيوان ، بل هو طبع منكوس ، وإذا نُكِسَ الطبعُ انتكس القلب ، والعمل ، والهدى ، فيستطيبُ حينئذٍ الخبيثَ من الأعمال والهيئات ، ويفسد حاله وعملُه وكلامه بغير اختياره .
وأيضاً : فإنه يُورِث مِنَ الوقاحة والجُرأة ما لا يُورثه سواه .
وأيضاً : فإنه يُورث مِنَ المهانة والسِّفال والحقَارة ما لا يورثه غيره .
وأيضاً : فإنه يكسو العبدَ مِن حُلَّة المقت والبغضاء ، وازدراءِ الناس له ، واحتقارِهم إيَّاه ، واستصغارِهم له ما هو مشاهَدٌ بالحسِّ ، فصلاة الله وسلامه على مَن سعادةُ الدنيا والآخرة فى هَدْيِه واتباعِ ما جاء به ، وهلاكُ الدنيا والآخرة فى مخالفة هَدْيِه وما جاء به .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
قديم 12-16-2003, 08:35 PM   #15
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



فصل

والجِماع الضار : نوعان ؛ ضارٌ شرعاً ، وضارٌ طبعاً .
فالضار شرعاً : المحرَّم ، وهو مراتبُ بعضُها أشدُّ من بعض . والتحريمُ العارض منه أخفُّ من اللازم ، كتحريم الإحرام ، والصيام ، والاعتكاف ، وتحريم المُظاهِرِ منها قبل التكفير ، وتحريمِ وطء الحائض ... ونحو ذلك ، ولهذا لا حدَّ فى هذا الجِمَاع .
وأما اللازمُ : فنوعان ؛ نوعٌ لا سبيل إلى حِلَّه ألبتة ، كذواتِ المَحارم ، فهذا من أضر الجِمَاع ، وهو يُوجب القتل حداً عند طائفة من العلماء ، كأحمد ابن حنبلٍ رحمه الله وغيرِه ، وفيه حديث مرفوع ثابت .

والثانى : ما يمكن أن يكون حلالاً ، كالأجنبية ، فإن كانت ذاتَ زوج ، ففى وطئها حَقَّان : حقٌّ للهِ ، وحقٌّ للزوج . فإن كانت مُكرَهة ، ففيه ثلاثةُ حقوق ، وإن كان لها أهل وأقاربُ يلحقهم العارُ بذلك صار فيه أربعةُ حقوق ، فإن كانت ذات مَحْرَم منه ، صار فيه خمسةُ حقوق . فمَضَرَّةُ هذا النوع بحسب درجاته فى التحريم .
وأما الضار طبعاً ، فنوعان أيضاً : نوعٌ ضار بكيفيته كما تقدَّم ، ونوعٌ ضار بكميته كالإكثار منه ، فإنه يُسقط القُوَّة ، ويُضر بالعصب ، ويُحدث الرِّعشةَ ، والفالج ، والتشنج ، ويُضعف البصر وسائرَ القُوَى ، ويُطفئُ الحرارةَ الغريزية ، ويُوسع المجارىَ ، ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية .
وأنفعُ أوقاته ، ما كان بعد انهضام الغذاء فى المَعِدَة وفى زمانٍ معتدلٍ لا على جوع ، فإنه يُضعف الحار الغريزى ، ولا على شبع ، فإنه يُوجب أمراضاً شديدةً ، ولا على تعب ، ولا إثْرَ حمَّام ، ولا استفراغٍ ، ولا انفعالٍ نفسانى كالغمِّ والهمِّ والحزنِ وشدةِ الفرح .
وأجودُ أوقاته بعد هَزِيع من الليل إذا صادف انهضامَ الطعام ، ثم يغتسل أو يتوضأ ، وينامُ عليه ، وينامُ عقبه ، فَتَراجَعُ إليه قواه ، وليحذرِ الحركة والرياضة عقبه ، فإنها مضرة جداً .


فصل

فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى عِلاج العشق
هذا مرضٌ من أمراض القلب ، مخالفٌ لسائر الأمراض فى ذاته وأسبابه وعِلاجه ، وإذا تمكَّنَ واستحكم ، عزَّ على الأطباء دواؤه ، وأعيا العليلَ داؤُه ، وإنَّما حكاه اللهُ سبحانه فى كتابه عن طائفتين من الناس : من النِّسَاء ، وعشاقِ الصبيان المُرْدان ، فحكاه عن امرأة العزيز فى شأن يوسفَ ، وحكاه عن قوم لوط ، فقال تعالى إخباراً عنهم لـمَّا جاءت الملائكةُ لوطاً : {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إنَّ هَؤُلآءِ ضيفىَ فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ * قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ *قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِى إن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر : 68-73] .
وأمَّا ما زعمه بعضُ مَن لم يقدرسولَ الله صلى الله عليه وسلم حقَّ قدره أنه ابتُلِىَ به فى شأن زينب بنت جَحْش ، وأنه رآها فقال : ((سُبحانَ مُقَلِّبِ القُلُوبِ)) . وأخذتْ بقلبه ، وجعل يقول لزيد بن حارثةَ : ((أمْسِكْها)) حتى أنزل الله عليه : {وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}[الأحزاب : 37] ، فظنَّ هذا الزاعمُ أنَّ ذلك فى شأن العشق ، وصنَّف بعضهم كتاباً فى العشق ، وذكر فيه عشق الأنبياء ، وذكر هذه الواقعة ، وهذا من جهلِ هذا القائل بالقرآن وبالرُّسُل ، وتحمِيلهِ كلامَ الله ما لا يحتمِلُه ، ونسبتِه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى ما برَّأَه الله منه ، فإنَّ زينبَ بنت جحش كانت تحتَ زيدِ بن حارثةَ ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد تبنَّاه ، وكان يُدعى ((زيد بن محمد)) ، وكانت زينبُ فيها شَممٌ وترفُّع عليه ، فشاور رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فى طلاقها ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((أَمْسِكْ عليكَ زوجَكَ واتَّقِ الله)) ، وأخفى فى نفسه أن يتزوَّجَها إن طلَّقها زيد ، وكان يخشى من قالةِ الناس أنه تزوَّج امرأة ابنه ، لأن زيداً كان يُدعى ابنَه ، فهذا هو الذى أخفاه فى نفسه ، وهذه هى الخشية من الناس التى وقعت له ، ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية يُعَدِّدُ فيها نعمه عليه لا يُعاتبه فيها ، وأعلمه أنه لا ينبغى له أن يخشى الناسَ فيما أحلَّ الله له ، وأنَّ اللهَ أحق أن يخشاه ، فلا يتحرَّج ما أحَلَّه له لأجل قول الناس ، ثم أخبره أنه سبحانه زوَّجه إيَّاها بعد قضاء زيدٌ وطرَه منها لتقتدىَ أُمَّتُه به فى ذلك ، ويتزوج الرجل بامرأةِ ابنه من التبنِّى ، لا امرأةِ ابنه لِصُلبه ، ولهذا قال فى آية التحريم : {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ}[النساء :23] ، وقال فى هذه السورة : {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}[الأحزاب : 40] ، وقال فى أولها : {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ، ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب : 4] ، فتأمَّلْ هذا الذبَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودَفْع طعنِ الطاعنين عنه ، وبالله التوفيق .
نعم .. كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ نساءه ، وكان أحبَّهن إليه عائشةُ رضى الله عنها ، ولم تكن تبلُغُ محبتُه لها ولا لأحد سِوَى ربه نهايةَ الحب ، بل صح أنه قال : ((لو كنتُ مُتَّخِذاً من أهل الأرض خليلاً لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلاً)) ، وفى لفظ : ((وإنَّ صَاحِبَكُم خَلِيلُ الرَّحْمَن)) .


فصل

وعشقُ الصُّوَر إنما تُبتلى به القلوبُ الفارغة مِن محبة الله تعالى ، المُعْرِضةُ عنه ، المتعوِّضةُ بغيره عنه ، فإذا امتلأَ القلبُ من محبة الله والشوق إلى لقائه ، دفَع ذلك عنه مرضَ عشق الصور ، ولهذا قال تعالى فى حقِّ يوسف : {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ، إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف : 24] ، فدلَّ على أن الإخلاص سببٌ لدفع العشق وما يترتَّبُ عليه من السوء والفحشاء التى هى ثمرتُه ونتيجتُه ، فصرفُ المسبب صرفٌ لسببه ، ولهذا قال بعضُ السَّلَف : العشقُ حركة قلب فارغ ، يعنى فارغاً مما سوى معشوقه . قال تعالى : {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً}[القصص : 11]، إن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ أى : فارغاً من كل شىء إلا من موسى لفرطِ محبتها له ، وتعلُّقِ قلبها به
والعشق مُرَكَّب من أمرين : استحسانٍ للمعشوق ، وطمع فى الوصول إليه ، فمتى انتفى أحدهُما انتفى العشقُ ، وقد أعيتْ عِلَّةُ العشق على كثير من العقلاء ، وتكلم فيها بعضهم بكلام يُرغَب عن ذكره إلى الصواب .
فنقول : قد استقرت حكمة الله عَزَّ وجَلَّ فى خلقه وأمره على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه ، وانجذابِ الشىء إلى مُوافقه ومجانسه بالطبعِ ، وهُروبه من مخالفه ، ونُفرته عنه بالطبع ، فسِرُّ التمازج والاتصال فى العالم العُلوى والسُّفلى ، إنما هو التناسبُ والتشاكلُ ، والتوافقُ ، وسِرُّ التباين والانفصال ، إنما هو بعدم التشاكل والتناسب ، وعلى ذلك قام الخلق والأمر ، فالمِثْلُ إلى مثلِه مائلٌ ، وإليه صائرٌ ، والضِّدُّ عن ضده هارب ، وعنه نافرٌ ، وقد قال تعالى : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} [الأعراف : 189]، فجعل سُبحانه عِلَّةَ سكون الرَّجل إلى امرأته كونَها مِن جنسه وجوهره ، فعِلَّةُ السكون المذكور وهو الحب كونُها منه ، فدل على أن العِلَّة ليست بحُسن الصورة ، ولا الموافقة فى القصد والإرادة ، ولا فى الخلق والهُدَى ، وإن كانت هذه أيضاً من أسباب السكون والمحبة .
وقد ثبت فى ((الصحيح)) عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدةٌ ، فما تَعارَفَ منها ائْتلَف ، وما تَناكَرَ منها اخْتَلَفَ)) . وفى ((مسند الإمام أحمد)) وغيره فى سبب هذا الحديث : أنَّ امرأة بمكةَ كانت تُضِحكُ الناسَ ، فجاءت إلى المدينة ، فنزلتْ على امرأة تُضِحكُ الناسَ ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم : ((الأرواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ)) ... الحديثَ .
وقد استقرتْ شريعتُه سُبحانه أنَّ حُكم الشىء حُكْمُ مثله ، فلا تُفَرِّقُ شريعته بين متماثلين أبداً ، ولا تجمعُ بين مضادَّين ، ومَن ظنَّ خِلاف ذلك ، فإمَّا لِقلَّة علمه بالشريعة ، وإما لِتقصيره فى معرفة التماثُل والاختلاف ، وإمَّا لنسبته إلى شريعته ما لم يُنزلْ به سلطاناً ، بل يكونُ من آراء الرجال ، فبحكمتِه وعدلِه ظهر خَلقُه وشرعُه ، وبالعدل والميزان قام الخلقُ والشرع ، وهو التسويةُ بين المتمائلَيْن ، والتفريق بين المختلفَيْن .
وهذا كما أنه ثابت فى الدنيا ، فهو كذلك يومَ القيامة . قال تعالى : {احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ *مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ }[الصافات : 22].
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه وبعدَه الإمامُ أحمد رحمه الله : أزواجهم أشباهُهم ونُظراؤهم .
وقال تعالى : {وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}[التكوير : 7] أى : قُرِن كلُّ صاحب عملٍ بشكله ونظيره ، فقُرِن بين المتحابِّين فى الله فى الجَنَّة ، وقُرِن بين المتحابِّين فى طاعة الشيطان فى الجحيم ، فالمرءُ مع مَن أَحَبَّ شاء أو أبَى ، وفى ((مستدرك الحاكم)) وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم : ((لا يُحِبُّ المَرءُ قَوْماً إلاَّ حُشِرَ مَعَهُم)) .


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
::: حق الله على العباد ::: لشيخنا الدكتور محمد سعيد رسلان حفظه الله تعالى Aboabdalah الصوتيات والمرئيات الإسلامية وأناشيد الأطفال 2 09-16-2009 01:15 AM


الساعة الآن 12:15 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.6.0 PL2 (Unregistered) TranZ By Almuhajir