الإهداءات | |
|
التسجيل | التعليمـــات | التقويم | البحث | مشاركات اليوم | اجعل كافة الأقسام مقروءة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||||||
|
||||||||
تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ﴾
تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ﴾ [لقمان: 12] وصية لقمان لابنه وموعظته إياه شرحها وأذاعها من محطة الإذاعة اللاسلكية المصرية في آخر ليلة من رمضان المعظم سنة 1360 حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الإمام الجليل العلامة الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر حفظه الله وأدام النفع به. نكتفي في هذا العدد بنشر هذه الوصية وتفسيرها؛ لأن حجم المجلة الذي اضطرتنا إليه ظروف الحرب لا يتسع لأكثر من هذه الوصية مع شرحها، ولأنها أنفع للناس، وقد أجاد الشيخ الأكبر المراغي حفظه الله في تفسيرها - كعادته - وأحسن إحسانًا يجعلنا، ويجعل غيرنا من المسلمين يحرص على تعميم نشرها، وتكثير النفع بها. وبهذه المناسبة نرجو من الشيخ الأكبر أن يأمر محطة الإذاعة اللاسلكية بتكرير إذاعتها وإذاعة تفسير سورة لقمان بين الفينة والفينة، لعل ذلك أن يرجع الناس إلى هدي القرآن، وأن يعيدهم إلى التأدب بأدبه، والاستقامة على صراطه وإقامة أحكامه، والحكم بما أنزله الله فيه من الهدى والحق من ربهم. كما نرجو ونؤكد الرجاء من الشيخ الأكبر وغيره من العلماء وغيرهم من كل مسلم غيور على دينه - أن يتابعوا العمل والسعي بكل ما في وسعهم من قوة وجهد على تحقيق ما طلبه الشيخ الأكبر - أعظم الله مثوبته، وأدام للإسلام شجاعته وثباته وصراحته - من إقامة الحكم بالقرآن وتنفيذ حدوده؛ حتى لا نكون ممن: ﴿ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ﴾ [لقمان: 6]. أدام الله تسديد الشيخ وتوفيقه، وجعل من كلماته الحية القوية غذاءً قويًّا يحيي الله به موات القلوب. قال حفظه الله: يقول الله تعالى ذكره: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 12، 13]. اختلف الناس في لقمان هذا: من هو؟ ومن أي الأمم هو؟ فقيل: إنه من بني إسرائيل: وقيل: إنه كان عبدًا حبشيًّا، وقيل: إنه كان أسود من سودان مصر، وقيل: إنه كان يونانيًّا، ومن الناس مَن جعله نجارًا، ومنهم من جعله راعي غنم، ومنهم من قال: إنه نبي، ومنهم من قال: إنه حكيم، وكل هذه أقوال ليس لها سند يُعوَّل عليه، وبعد أن وصفه الله بالحكمة، فلا يرفع من شأنه أنه كان من أشرف الأمم، ولا يضع من قدره أنه كان زنجيًّا مملوكًا. وللقمان هذا حكمٌ كثيرة أُسندت إليه، ومن النوادر اللطيفة المنسوبة إليه: أن مولاه أمره بذبح شاة وأن يخرج منها أطيب مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بذبح شاة أخرى، وأن يخرج منها أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب، فالتفت إليه مولاه متعجبًا، فقال لقمان: ليس هناك شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا شيء أخبث منهما إذا خبثا. و"الحكمة" إصابة الحق والعمل به، فهي تشمل إصابة الحق في العقيدة، وفي القول وفي العمل، فإصابة الحق في العقيدة تكون بالعلم الصحيح الذي هو صفة محكمة في النفوس، تحكم على الإرادة وتوجِّهها إلى القول الحق والعمل الحق المطابق للعلم، والحكمة في القول والعلم هي مطابقتهما للعمل الصحيح، فالحكمة العلمية لا شك تستدعي فهمًا وفطانة وفقهًا، ومعرفة بارتباط الأسباب بمسبباتها خلقًا وأمرًا، ومعرفة لبواطن الأمور وأسرارها، والحكمة العلمية على هذه الصفة: تبعد صاحبها عن مواطن الزلل وتسوقه إلى مواطن الخير، فيكون نافعًا لنفسه ونافعًا لخلق الله، وتجعله حقيقًا بالخلافة عن الله في الأرض؛ يعمرها ويصلحها ويستثمرها، ويستخرج ما فيها من الأسرار التي أودعها الله سبحانه إياها. و"الشكر": استعمال المواهب والنعم فيما خُلِقت لأجله، وهو اعتراف بالحقائق الإلهية، وخضوع لها وفناء فيها، ووقوف عند الحدود التي رسمها الخالق سبحانه، وسنأتي في بقية الكلام عليه. و"الوعظ": تذكير بالخير بما يرق له القلب، وزجر عن الشر مقرون بتخويف من الوقوع فيه. وشرك الإنسان في الدين ضربان: أحدهما الشرك الأكبر، وهو اتخاذ ند لله تعالى، وذلك أعظم الكفر وأبعد الضلال: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116]، ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ﴾ [المائدة: 72]. والثني: الشرك الأصغر، وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرياء والنفاق، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا). كان الحديث في الآيات السابقة يدور حول تفرد الله سبحانه وتعالى بالخلق، واستحقاقه للتفرد بالعبادة، وأنه هو وحده الذي يستعان به عند الكرب واشتداد الضر، والحاجة إلى العون، وحول الحجاج مع المشركين الذين أشركوا مع الله في العبادة آلهة أخرى، فقد بين الله سبحانه أنه خلق السموات بغير عمد، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وبث في الأرض أنواع الدواب، وأنزل من السماء ماء، فأنبت فيها من كل زوج كريم، وأنه لا يوجد لأي إله آخر مما يعبدون خلق مثل هذا، وثبت بذلك أنه لا يجوز أن يُسوَّى المخلوق بالخالق، وأن من يفعل ذلك ظالم ضال ضلالًا بعيدًا. وفي هذه الآيات يقرر الله سبحانه أن الحكمة وشكر الله على نِعمه، قد وصل إليهما الإنسان بعقله وبفطرته، فقد شكر لقمان الله سبحانه وتعالى ووحَّده، ووعظ ابنه بألا يشرك بالله شيئًا، وبيَّن له أن الشرك ظلم عظيم، وقد وصل لقمان إلى ذلك بالحكمة واستعمال العقل، فليس الاعتراف بالخالق وتفرُّده بالعبادة مما يتوقف على النبوات، بل هو مما يصل إليه العقل وتدركه الفطرة. وقوله سبحانه: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ﴾: "أن" هذه هي التي يقول عنها النحاة: أن المفسرة، والأمر في قوله سبحانه: "اشكر"، ليس أمر طلب باللفظ، وإنما هو أمر تكوين. والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى آتى عبده لقمان الحكمة وجعله شاكرًا لله بأن هداه إلى الحق وأعانه على الاستمساك به والعمل به. وقد عرفنا "الشكر" من قبلُ، وهو يوافق ما قاله بعض العلماء من أنه أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة، فلسانه مشتغل بالثناء على ربه، معترف له بنعمته، وقلبه مملوء محبةً لله على هذه النعم، وشهودًا بأنها منه فضلًا وإحسانًا، وجوارحه مشتغلة بطاعة الله استسلامًا له وانقيادًا. والشكر يحفظ الله به النعمة على عبده، ويستجلب العبد به المزيد من ربه، كما تدفع به النقم، فما استُحْفِظت نِعم الله، ولا استُجْلِبت نعمة ولا استُزِيدت بمثل الشكر؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]. ومقام الشكر مقام جليل، ولذلك مدح الله به نبيه إبراهيم، فقال: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ﴾ [النحل: 120، 121]، وقال عن نوح: ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء: 3]. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ وجملة القول: إن كلمة "الشكر" من الكلم الجوامع التي تنتظم كل خير، وتشمل كل ما يصلح به قلب الإنسان ولسانه وجوارحه، فالذي لا يحب الله، ولا يشهد قلبه بأن ما فيه من النعم - إنما هو من الله فضلًا وإحسانًا ليس بشاكر، والذي لا يثني على ربه ولا يحمده بلسانه، ويخوض في الباطل، ويشتغل لسانه بلغو القول ولهو الحديث، ليس بشاكر، والذي يعطيه الله من العلم شيئًا، ولا يعمل به ولا يعلمه الناس، ليس بشاكر، والذي يعطيه الله من المال ما يستعين به على طاعته بصرفه في وجوه الخير والبر، فيبخل به أو يصرفه في معاصي الله، ليس بشاكر. ثم قال تعالى بعد ذلك: ﴿ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12]. ومعنى هذا أن منفعة الشك ليست عائدة على الله تعالى، فإنه تعالى لا ينتفع بشكر الشاكرين، ولا يضره كفر الكافرين، ولا معصية العاصين، فإنه سبحانه وتعالى له الكمال المطلق، فلا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه، وإنما منفعة الشكر عائدة على الشاكر؛ فهو الذي ينتفع بالشكر، ويكمل به، وتكون له به السعادة، كما أن مضرة الكفر عائدة على الكافر، فالله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، الغني عن عباده وعن طاعتهم، وكل من عداه فقير إليه ومحتاج إليه، فهو الغني بالذات، ومَن عداه فقير محتاج إليه، كما أنه مستحق للحمد، لكمال صفاته ولكثرة نعمه على عباده؛ سواء أحمدوه، أم لم يحمدوه؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]. ومن هذا يتبيَّن أن امتثال أوامر الله على اختلاف أنواعها، تعود منفعته إلى العبد، كما أن امتثال النواهي عائدة منفعته على العباد، فأوامر الله ونواهيه إنما هي لغاية واحدة محمودة، وهي سعادة العباد وكمالهم، فالتكاليف الإلهية كلها إنما هي لصالح العباد، ولذلك قال بعض السلف: "إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا منه عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم". وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، معطوف على معنى الآية السابقة، وتقديره: آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرًا لنفسه، وحين جعلناه واعظًا لغيره؛ وذلك لأن عُلو مرتبة الإنسان في الحكمة أن يكون كاملاً في نفسه ومكملًا لغيره، وإنما كان الشرك ظلمًا عظيمًا؛ لأن فيه تسوية بين المخلوق الذي لا نفع فيه، وبين الخالق الذي منه كل جود وخير، ولأن فيه تحقيرًا للنفس الإنسانية الشريفة بأن تذل لمخلوق مثلها لا يستطيع لها نفعًا ولا ضرًا. ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 14، 15]. هذه وصية جاءت معترضة بين وصايا لقمان لابنه؛ لأن الذي سيأتي بعدها - وهو قوله: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ﴾ [لقمان: 16]، إلى آخر الآيات - من كلام لقمان. وقد جاءت على سبيل الاستطراد لأغراض؛ منها: أن طاعة الوالدين تابعة لطاعة الله؛ حيث قال: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ [لقمان: 14]، ومنها: تأكيد فظاعة الشرك، وتأكيد الابتعاد عنه، حتى إنه لا يجوز أن يطاع الوالدان إذا جاهدا ولدهما عليه، ولو حملتها عدم الطاعة على الموت. فقد رُوِي أن سعد بن مالك أسلم، فحلفت أمه لا تأكل طعامًا ولا تشرب شرابًا حتى تموت أو يكفر، وبقيت على ذلك ثلاثة أيام، فقال لها سعد: والله لو كانت لك مائة نفس، لخرجت قبل أن أدع ديني، فلما عرفت الجد وأنه لا يرجع إلى الكفر - أكلت. وصى الله الإنسان بوالديه، وقد خُصَّت الأم في ضمن الوصية بالوالدين بما يثير العطف والشفقة، حيث نبَّه الولد إلى أنها حملته، وهي تضعف بحمله ضعفًا على ضعف كلما تقدمت مدة الحمل، وأنها - مع هذه المعاناة في الحمل - عانت أيضًا مشقة رضاعة في مدة الرضاع المقدر أكثرها بعامين، وعانت مشقة السهر عليه وحفظه وكفالته. وقوله تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ إلى آخر الآية - تفسير لقوله: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ﴾ [لقمان: 14]، وقوله: ﴿ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ معناه أنك ترجع إليّ، فأسألك عما كان من شكرك لي على النعم التي أنعمتها عليك، وما كان من شكرك لوالديك وبرهما، جزاء ما عانا من مشقة في تربيتك، وكفالتك حال صباك، وما وصل إليك منهما من بر وعطف وحنان. ومعنى: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: تشرك بي شيئًا مما لا يصح أن يعلم على أنه شريك لله، وكل شيء غير الله يستحيل أن يتعلق به العلم على أنه يستحق مشاركة الله؛ لأن العلم الصحيح يجب أن يكون مطابقًا للواقع، والواقع أنه لا يوجد شيء يمكن أن يعلم على أنه شريك لله. وقال الزمخشري: أراد بنفي العلم نفي ما أشرك به، والمعنى: لا تشرك به ما ليس بشيء، وهي الأصنام، ونظير ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [العنكبوت: 42]، فقد بولغ في نفي الشرك، حتى جعل كل شيء، ثم بولغ حتى جعل مما لا يصح أن يعلم؛ لأنه من باب المجهول المطلق. وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: اصطحابًا معروفًا يرتضيه الشرع والعرف والكرم والمروءة؛ من إطعام وبر، وعدم جفاء، ومن توقير واحترام وحلم واحتمال. ﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: اتبع طريق المؤمنين منهما الذي يوافق دينك، ولا يتتبع سبيلهما في دينهما الذي يخالف دينك، وهو دين الحق. ﴿ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: تعودون إليّ يوم القيامة، فأخبركم بجميع ما كنتم تعملونه في الدنيا من خير أو شر، وأُجازيكم عليه، أجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، والجملة توكيد لقوله: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ ﴾. ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 16]. الضمير في "أنها" يعود على الخصلة والفعلة؛ يعني أن ما يعمله الإنسان من خير أو شر، وإن كان في الصغر والقماءة مثل حبة الخردل، وكان على صغره في حرز متبع كالصخرة، أو بعيد كأن يكون في السموات أو في جوف الأرض - يعلمه الله سبحانه، وهو قادر أيضًا على أن يأتي به؛ فإن الله سبحانه "لطيف" نافذ القدرة، "خبير" عالم بكل شيء؛ سواء كان ظاهرًا، أو خفيًّا. والغرض من هذه الآية: وصف الله سبحانه بسعة العلم، وشمول القدرة، بعد وصفه بالوحدة والتفرد بالخلق والعباد، والقدرة على الإتيان لا شك تكون بعد العلم، فقوله سبحانه: ﴿ يَأْتِ بِهَا اللهُ ﴾: معناه يعلمها، ويقدر على الإتيان بها. ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]. بعد أن خوَّف لقمان ولده من الشرك، ونبَّه إلى أنه ظلم عظيم، وعرَّفه سمة علم الله سبحانه، وشمول قدرته - توجَّه إليه يُعلِّمه ما يكون به رجلًا كاملًا في نفسه، مكملًا لغيره. أمره بإقامة الصلاة، وفيها طُهر نفسه وتزكيتها، وفيها تحقيق الصلة بينه وبين الله، وقد سبق في تفسير أول السورة بيان معنى إقامة الصلاة، ويكفي أن نقول هنا: إن إقامة الصلاة هي تجويدها واشتمالها على الإخلاص لله. وطلب منه أن يكون خيِّرًا نافعًا للخلق، وعضوًا مفيدًا في الجماعة الإنسانية، وذلك بأن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعار الجماعة الفاضلة، وإذا فُقِد من أمة فُقِدت منها صفات الخير، وقرَّت على الشرك، وهو واجب على كل واحد لكل واحد. وقد نبَّه الله سبحانه عليه في آيات كثيرة من آي القرآن الكريم، فقال: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ﴾ [آل عمران: 110]، ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79]. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أثر من آثار الإيمان، وأثر من آثار حب الفضيلة، وأساس من أسس صلاح المجتمع الإنساني، وهو يوقظ الشعور، وينبه الضمير، ويخيف المقدم على المنكر، وإذا تضامن الناس في ذلك كما هو الواجب شرعًا، وجد تضامن الناس على الفضيلة ألا تضيع بينهم، ووجد تضامنهم على استنكار الرذيلة، فلا توجد بينهم، وتضامن الناس على الفضيلة قد يوجد عند الأمم التي لا تدين بدين، فيوجد عندها الطهر والتضامن والشرف، وقد تفتقده الأمم التي تدين بدين[1]، فتستحق لعنة الله. بعد أن طلب منه أن يكون على صلة بالله بإقامة الصلاة، وطلب إليه أن يكون مكملًا للناس - طلب إليه أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة، واختار له منها مثالًا هو أكمل أمثلتها، وهو الصبر على المصيبة، وعلى ما يناله من أذى؛ سواء أكان ذلك في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كان ذلك في غير ذلك. والصبر على المصيبات يبقي للعقل نوره، ويبقي للشخص وقاره، فلا يخرج عن حدود الله، ولا يذهب في العقاب إلى ما لا يرضاه الله. والصبر في الحرب شجاعة، والصبر على القيام بأوامر الله طاعة، والصبر على مفارقة المال كرم. وعلى الجملة ففيه رضا الله سبحانه وتعالى، وفيه عز الفرد، وعز الأمم: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]. وقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17]؛ أي: من معزومات الأمور ومقطوعاتها؛ أي: مما قطعه الله وفرضه قطع إلزام. وهذه الآية تدل على أن هذه الأمور التي أوصى بها لقمان ولده معروفة عند الحكماء قبل أن تجيء بها الأديان، ويتواصى بها خيارُ الناس قبل أن يرسل الأنبياء، وفي الحقيقة أنها عماد الخير، وسنام النهضة في كل أمة من الأمم؛ سَعِد مَن اتَّبعها، وشَقِي مَن ضلَّ عنها. ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 18، 19]. صعر خده، وصاعر خده معناهما واحد، والصعر والصعير داء يصيب البعير، فيلوي منه عنقه، والمرح: الفرح مع البطر، والخيلاء: التبر الناشئ عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان في نفسه، والفخر: المباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه، و"القصد" الاقتصاد بأن يكون على قدر الحاجة، والغض: النقص من الصوت إلى القدر المطلوب. بعد أن أمره بتكميل نفسه وتكميل غيره، نهاه عن الإيذاء، فنهاه عن لي عنقه، وعدم مقابلة الناس بوجهه بُغية التكبر عليهم، ونهاه عن شدة الفرح مع البطر، فإن هذه صفات لا يرضاها الكرم والنبل، وفيها تعاظم يؤذي الناس، ثم بيَّن له أن الله لا يحب المختال ولا الفخور؛ لأن الله يحب أن يكون الناس أخوة متحابين، يعيشون كما يعش الإخوة، لا يتعاظم أحد منهم على أحد. بعد ذلك طلب لقمان إلى ابنه أن يقتصد في مشيته، فلا يدب على الأرض دبيب المناوئين، ولا يمشي عليها مشي الشطار، كما طلب منه أن يجعل صوته على قدر الحاجة، فإن ذلك أوقر للمتكلم، وأحفظ لقواه ولهيبته، وأدعى إلى فهم السامع وأبسط لنفسه. وقد بيَّن لقمان شناعة رفع الصوت وفحشه، فشبَّه من يرفع صوته من غير حاجة إلى رفع الصوت بالحمار، وشبَّه صوته بنهاق الحمار، والحمار يضن بصوته عند الحاجة، فإذا مات تحت الحمل لا يصيح، وإذا قتل لا يصيح، ثم هو يصيح في أوقات عدم الحاجة! والحمار مثل في الذم، ونهاقته مثل في الشناعة، وقد كانت العرب ترى أن اسم الحمار لا يذكر في مجلس قوم من أولي المروءة، ومن العرب من كان لا يركب الحمار ولو بلغت منه الرحلة ما بلغت، فالحمار ذميم وصوته ذميم، وهو أوحش الأصوات، وأقبحها وأنكرها. هكذا يؤدب الله عباده، ويُضمن كتابه ما فيه سعادتهم، حتى لم يترك أدبهم في المشي والحديث. ولو كانت الحكمة التي أُوتيها لقمان، والتي قصها الله في القرآن، هي التي لها السيادة على الناس - لكان حال العالم اليوم أرقى وأرفع وأشرف، وأكمل وأهنأ وأسعد، مما هو عليه الآن. • • • ولو كنت أعتقد أن صوتي يسمع لدى من بيدهم مقاليد الأمور في العالم، أو لدى من بيدهم إمداد النصح لهم - لفعلت ولوجَّهت حديثي إليهم، لكني أعتقد أنه لا يُسمع، لذلك أتوجه إلى الله سبحانه الذي يسمع حفيف أوراق الشجر ودبيب النملة، ضارعًا إليه وداعيًا، وأطلب من السامعين أن يؤمنوا. اللهم أنت رب العالمين وأرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، ارحم عبادك وعامِلهم بلطفك وإحسانك، وخُذْ بيدهم قهرًا إلى الحق الذي أنت تعلمه، واقضِ بينهم، وأنفِذْ حكمك فيهم، ولا تَكِلهم إلى قضاء أنفسهم على أنفسهم، وأمِتْ بين الناس شهوات نفوسهم، ونزعات شياطينهم، وأحْيِ روح العدل وروح الفضيلة. ثم ألجأ إليك ربي وأنت على كل شيء قدير - أن ترفع قدر الإسلام، وأن تعزه وتعيد إليه مجده، وأن تعيد إلى المسلمين علمهم وفقههم في دينهم، وتجعلهم أمة واحدة كما طلبت في القرآن، عزيزة كما وصفت المؤمنين في القرآن، إنك أنت العزيز الحكيم. وإني أتوجه بالتهنئة الخالصة بعيد الفطر المبارك إلى إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، راجيًا لهم مستقبلًا خيرًا من حالهم، وحفظًا من الله وعونًا ونجاة من البلاء والمكروه، كما أطلب من الله سبحانه لصاحب الجلالة مليكنا العزيز عزًّا وتوفيقًا للخير وسعادة، وعمرًا طويلًا في خدمة الله وخدمة المسلمين. مجلة الهدي النبوي المجلد الخامس - العدد 20-21-22 - ذو القعدة سنة 1360هـ [1] أي تزعم أنها تدين بدين، فإنها لو دانت به حقيقة، لحرَصت على ما يدعو إليه هذا الدين من الفضيلة ومكارم الأخلاق. الالوكة |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
حول قوله تعالى: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [البقرة: 163] | طالبة العلم | علوم القرآن والسنة والسيرة النبوية | 2 | 07-10-2016 07:17 PM |
خاطرة حول قوله تعالى ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ | طالبة العلم | علوم القرآن والسنة والسيرة النبوية | 2 | 06-05-2016 12:30 AM |
وقفة مع قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا .. ﴾ | طالبة العلم | علوم القرآن والسنة والسيرة النبوية | 4 | 05-03-2016 10:58 PM |
تفسير قوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ | طالبة العلم | علوم القرآن والسنة والسيرة النبوية | 2 | 02-01-2016 09:11 PM |
تفسير قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا | طالبة العلم | علوم القرآن والسنة والسيرة النبوية | 3 | 01-31-2016 11:38 AM |