#1
|
||||||||
|
||||||||
أياماً معدودات
الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراًَ، وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (28) سورة الفتح. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كان للعالمين داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. اللهم صل وسلم على مَنْ بُعِثَ بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن الصوم من أفضل العبادات وأَجَلِّ الطاعات, جاءت بفضله الآثار, ونقلت فيه بين الناس الأخبار فمن فضائل الصوم: أن الله كتبه على جميع الأمم وفرضه عليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة. ولولا أنه عبادة عظيمة لا غنى للخلق عن التعبد بها لله وعما يترتب عليها من ثواب ما فرضه الله على جميع الأمم. ومن فضائل الصوم في رمضان: أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات, فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»1. يعني إيماناً بالله ورضاً بفرضيَّة الصوم عليه, واحتساباً لثوابه وأجره, ولم يكن كارهاً لفرضه ولا شاكًّاً في ثوابه وأجره, فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه. وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أيضاً- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ»2. أيها المسلمون: إن رمضانَ أيامٌ معدوداتٌ، وفرصٌ سانحاتٌ، وإن اغتنام هذه الأيام لدليلُ الحزم، وإنَّ انتهاز تلك الفرص لعنوانُ العقل؛ ذلكم أن الوقت رأسُ مالِ الإنسان، وساعات العمرِ هي أنفسُ ما عني الإنسان بحفظه؛ فكل ساعة من ساعاتِ عُمُرِكَ قابلةٌ لأن تضعَ فيها حجراً يزداد به صرحُ مجدِك ارتفاعاً، ويقطع بها قومك في السعادة باعاً أو ذراعاً. فإن كنت حريصاً على أن يكون لك المجدُ الأسمى، ولقومك السعادةُ العظمى، وأن تفوز بخيري الآخرة والأولى - فَدعِ الراحةَ جانباً، واجعل بينك وبين اللهو حاجباً؛ فالحكيمُ الخبيرُ يَقْدُرُ الوقتَ حقَّ قدره، ولا يتخذه وعاءً لأبخس الأشياء، وأسخف الكلام، ويعلم أنه من أجلِّ ما يصان عن الإضاعة والإهمال، وَيقْصُره على المساعي الحميدة التي ترضي الله، وتنفع الناس. ولعظم شأن الوقت أقسم به اللهُ في غير ما آية من كتابه العزيز قال -عز وجل-: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (1-2) سورة الليل. وقال سبحانه: {وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (1-2) سورة الضحى. وقال جلَّ وعَلا: {وَالْعَصْر* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (1-2) سورة العصر. عباد الله: قد أظلكم شهر رمضان من صامه إيماناً بالله واحتساباً لثواب الله غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه, شهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النيران، وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: "إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي", للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه»3. يفرح عند فطره بأمرين: باستكمال صوم اليوم الذي من الله عليه بصيامه وقواه عليه، وبتناول ما أحل الله له من طعام وشراب، ويفرح عند لقاء ربه بما يجده عند ربه مدخراً له من أجر الصيام. عباد الله: إن شهر رمضان شهر مغنم وأرباح، فاغتنموه بالعبادة وكثرة الصلاة وقراءة القرآن والذكر، والعفو عن الناس والإحسان، وأزيلوا العداوة والبغضاء والشحناء بينكم، فإن الأعمال تعرض على الله -عز وجل- يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويرد أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا ويصطلحوا، واستكثروا في شهر رمضان من أربع خصال: اثنتان ترضون بهما ربكم، واثنتان لا غنى لكم عنها، فأما اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار، واحرصوا على الدعاء عند الإفطار، فإن للصائم عند فطره دعوة لا ترد. واعلموا أن الصيام إنما شرع ليتحلى الإنسان بالتقوى، ويمنع جوارحه من محارم الله، فيترك كل فعل محرم من الغش والخداع والظلم ونقص المكاييل والموازين ومنع الحقوق والنظر المحرم وسماع الأغاني المحرمة، فإن سماع الأغاني, وكل قول محرم من الكذب والغيبة والنميمة والسب والشتم ينقص أجر الصائم، وإن سابه أحد أو شاتمه أحد، فليقل: إني صائم ولا يرد عليه بالمثل، فلا تجعل -أيها المسلم- يوم صومك ويوم فطرك سواء. وصوِّموا أولادكم الذكور والإناث إذا كانوا يطيقون الصيام ليتعودوا على ذلك، فإن الصحابة -رضي الله عنهم-كانوا يصوِّمون أولادهم وهم صغار حتى كان الصبي ربما يبكي من الجوع، فيعطونه لعبة يتلهى بها حتى يفطروا. أيها الناس: اعبدوا ربكم وصلوا فرضكم، وصوموا شهركم، واعلموا أن من حكم الصيام وأسراره أن يكون عوناً للعبد على طاعة الله وتقواه، فيجتهد في فعل الخيرات واجتناب المحرمات، فمن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»4. اعمروا أوقات هذا الشهر الفاضل بالذكر والقراءة والصلاة، وتعرضوا فيه لنفحات المولى بكثرة الدعوات، وكثرة الإحسان إلى الخلق والعفو عنهم، فإن الله يحب المحسنين، ويحب العفو عن المسيئين، وجودوا على الفقراء في هذا الشهر بالزكاة والصدقات، فإن الله جواد يحب الجود، ولقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة، ولا تحقرنَّ من المعروف شيئاً، واتقوا النار ولو بشق تمرة ، فإن الرجل ليتصدق بعدل تمرة من كسب طيب، فيربيها الله له حتى تكون مثل الجبل. اللهم وفقنا لما تحب وترضى،، واغفر لنا جميعاً إنك أنت الغفور الرحيم. الخطبة الثانية: الحمد لله الذي شرع لعباده الشرائع لحكم بالغة وأسرار، ورتب على صيام رمضان وقيامه إيماناً واحتساباً مغفرة الذنوب والأوزار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الغفار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار، وسلَّم تسليماً. أما بعد: أيها المسلمون: لئن كان حفظُ الوقتِ مطلوباً في كل حين وآن، فلهو أولى وأحرى بالحفظ في الأزمنة المباركة, ولئن كان التفريطُ فيه وإضاعتُه قبحاً في كل زمان، فإن قبح ذلك يشتد في المواسم الفاضلة,ومن الناس مَنْ قَلَّ نصيبه من التوفيق، فلا تراه يلقي بالاً لحكمة الصوم ولا لفضل الشهر، فتراه يجعل من رمضان فرصةً للسهر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر، والنومِ العميق في النهار حتى غروب الشمس, ولا يخفى على عاقل لبيب ما لهذا الصنيع من أضرار على دين الإنسان ودنياه، فهو قلب للفطرة، فالله -عز وجل- جعل الليل لباساً، والنهار معاشاً، كما أنه إضاعة للوقت، وتعطيل للمصالح, ومن كان هذا صنيعَه فلن يرجى منه خيرٌ في الغالب لا لنفسه ولا لغيره. ثم إن السهرَ سببٌ لإضاعة حقوق الأهل والوالدين؛ فالذي يسهر الليل في مشاهدة الحرام، ويعكف أمام ما تبثه الفضائيات من شرور سيضيِّع أولاده وزوجته إن كانوا يشاهدونها معه، وإن كان يسهر خارجَ المنزل كان ذلك سبباً في بعده عن بيته، وغفلته عما استرعاه الله إياه، وإن كان شابّاً في مقتبل عمره أقلق والديه بطول سهره وبعده عن المنزل. ثم إن الذي يسهرُ ليله وينام نهارَه سيضيع صلة أرحامه؛ إذ لا وقت لديه لِصِلتهم، وهكذا تنفصم عرى الأمة وتنفك روابطها. كما أن السهر أمام تلك الفضائيات له آثارُه السلوكيةُ المدمرةُ، ومنها الصد عن سبيل الله، وإضعاف أثر الدين في النفوس، وذلك من خلال ما تبثه من مشاهد فاضحة، وما تطرحه من شبهات كثيرة تطعن في الدين، وتُلْقى على عقول خواء وأفئدة هواء. ومن آثارها: التمرد على القيم النبيلة، والأخلاق الفاضلة والآداب الشرعية, وشيوع العادات السيئة كالاستهانة بمحارم الله، والاستخفاف بشعائر الدين. ومنها: الإعجابُ بالكفار وتقليدهم في مستهجن عاداتهم من نحو الملبس والهيئة وقصات الشعر، وما إلى ذلك من انتشار الجريمة، وشيوع المظاهر المخلة بالأمن كالقتل والسرقة وتعاطي المخدرات ونحو ذلك. ومن آثار السهر أمام تلك الفضائيات –أيضاً-: الزهد بالفضيلة والعفاف، وذلك من خلال الافتتان بالمذيعات والممثلات والمغنيات؛ فقد يفضي ذلك الصنيعُ إلى الزهد بالزوجات؛ لأن بعض مشاهدي تلك القنوات -لفرط جهله- يعقد مقارنة ظالمةً بين زوجته وبين ما يشاهده من تلك النسوة اللاتي نزعن الحياءَ، ووضعْنَ من الأصباغ ومواد التجميل ما يغري بهن, وهذه مقارنةٌ ظالمةٌ لم تُبْنَ على أسس سليمة؛ إذ تغافل ذلك المُقارِنُ عن عفاف زوجته وسترها وحيائها, بل ربما تكون أجملَ مما يشاهد، ولكن الشيطان يقبحها في عينه، ويزين ما يشاهده في نفسه. أيها الصائمون: ومن آثار السهر أن له آثاراً على نَفْس الإنسان وخُلُقِه؛ إذ يصبح ونفسه مريضة وخلقُه سيئٌ؛ وذلك لما للسهر من تأثير على الأعصاب؛ فينتج من جَرَّاء ذلك انقباضُ النفس، وقلة احتمالها. ولو لم يأت من آثار السهر إلا أنه سبب لترك صلاة الفجر لكفى. أما النوم الكثير -خصوصاً بالنهار- فلا يخفى ضرره؛ فذلك مضيعة للوقت، وحرمانٌ للبركة؛ فالنومُ يعطل قوةَ العقل، ويُلْحِقُ الإنسان بالخشب المسندة. وبما أن أمرَ النوم غالب ما له من مَرَد فإن أولي الحكمةِ لا يخضعون لسلطانه إلا حيثُ يَغْلب على أمرهم، ولا يعطونه من الوقت إلا أقلَّ مما تفرضُه عليهم الطبيعةُ البشرية، ويبتغون بذلك أن تبقى عقولهم في حركات تثمر علماً نافعاً، أو عملاً صالحاً. فحقيق على هؤلاء المُفرِّطين المضيعين أوقاتَهم أن يتنبهوا لأسرار الصيام، وأن يغتنموا مدرستَه العظيمة؛ ليجنوا ثمارَه الصحيحةَ، ويستمدوا منه قوةَ الروح؛ فيكون نهارُهم نشاطاً وإنتاجاً وإتقاناً، وتعاوناً على البر والتقوى, ويكون ليلُهم تهجداً وتلاوةً لكتاب ربهم، ومحاسبةً لأنفسهم على ضوئه؛ ليخرجوا من مدرسة الصيام مفلحين فائزين. اللهم أيقظنا من رقدات الغفلات، وأعنا على اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات, واجعل شهر رمضان شاهداً لنا بالخيرات, ووفقنا لصيامه وقيامه إيماناً واحتساباً, واجعلنا فيه من المقبولين؛ إنك جواد كريم, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين5. .................................................. ............. 1 رواه البخاري -1875- (7/140) ومسلم -1268- (4/146). 2 رواه مسلم -344- (2/23). 3 رواه البخاري -1771- (6/474) ومسلم-1944-(6/17). 4 رواه البخاري -5597- (18/495). 5 المراجع:دروس رمضان للشيخ محمد إبراهيم الحمد, والضياء اللامع من الخطب الجوامع للشيخ ابن عثيمين– (بتصرف). |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
يمضي يوما ونتبعه أياماً | طيف | رياض الصالحين | 7 | 12-04-2010 11:12 PM |