شرح حديث
"لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني"
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". رواه مسلم.
ترجمة راوي الحديث:
أبو هريرة رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث الأول من كتاب الإيمان.
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم حديث (153)، وانفرد به عن البخاري.
شرح ألفاظ الحديث:
• ( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ): هذا حلف بالله تعالى، فهو الذي بيده كل نفس جلّ وعلا.
• ( لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ ): المراد به السماع الذي يكون فيه بيان الأمر لا مجرد السماع.
• ( مِنْ هٰذِهِ الأُمَّةِ ): أصل الأمة الجماعة، وتطلق الأمة ويراد بها: (أمة الإجابة) وهم المسلمون كقوله صلى الله عليه وسلم:" شفاعتي لأمتي "، وأحياناً يراد بها: (أمة الدعوة) وهم كل من أرسل إليهم رسول ليدعوهم، وهي المرادة هنا، فالأمة في حديث الباب أمة الدعوة الموجودة في زمنه ومن سيوجد إلى يوم القيامة.
• ( وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ): من الشرع في الكتاب والسنة، وأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: الحديث دليل على نسخ جميع الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه فيجب على كل عبد أن يؤمن بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ليحقق الإسلام، يهودياً كان أو نصرانياً أو غيرهما من ملل الكفر، فإن قيل: لم خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى في حديث الباب؟
فالجواب: قال النووي رحمه الله:" وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاب، فغيرهم ممن لا كتاب له أولى" [
شرح النووي لصحيح مسلم (2/365)].
الفائدة الثانية: الحديث دليل على أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الناس إلى قيام الساعة، وهذا من خصائص دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ﴿
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف:158]، وقال الله تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء:107]، وجاء في الصحيحين ما يؤيد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي" وفيه " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" وفي رواية لمسلم" وبعثت إلى كل أحمر وأسود" وفي رواية " وأرسلت إلى الخلق كافة".
الفائدة الثالثة: الحديث في مفهومه دليل على أن من لم تبلغه الدعوة فهو معذور، لأن الوعيد في الحديث لمن سمع بالرسالة ولم يؤمن بها، بخلاف من لم تبلغه.
قال القرطبي رحمه الله:" وفيه دليل على أن لم تبلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أمره لا عقاب عليه، ولا مؤاخذة، وهذا كما قال تعالى: ﴿
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء:15]" [
المفهم (1 /368)].
واختلف أهل العلم فيمن لم تبلغه الدعوة ومات على ذلك وكذلك أطفال المشركين على أقوال ذكرها ابن القيم رحمه الله بأدلتها:
أحدها: الوقف، وترك الشهادة بأنهم في الجنة أو في النار.
والثاني: أنهم في النار.
والثالث: أنهم في الجنة.
والرابع: أنهم في منزلة بين المنزلتين بين الجنة والنار.
والخامس: أنهم تحت مشيئة الله تعالى.
والسادس: أنهم خدم أهل الجنة ومماليكهم.
والسابع: أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة.
والثامن: أنهم يمتحنون في عرصة القيامة، واختاره ابن القيم رحمه الله حيث قال:" المذهب الثامن أنهم يمتحنون في عرصات القيامة ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه أدخله النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها وتتوافق الأحاديث... وقد جاءت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضاً " [انظر طريق الهجرتين الأقوال بأدلتها " فصل في مراتب المكلفين في الدار الآخرة (1/ 570)].
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله:" ما مصير من لم يبلغ بالإسلام يوم القيامة، باعتباره لم يتبلغ ولم يعرف الإسلام؟
فأجاب رحمه الله:" هذا حكمه حكم أهل الفترة الذين لم تبلغهم رسالة الرسل عليهم السلام، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أنهم يمتحنون يوم القيامة، فمن نجح منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، فمن لم تبلغه دعوة الإسلام ممن يكون نشأ في جاهلية بعيدة عن المسلمين، كما في زماننا مثلاً في أطراف أمريكا أو شواطئ إفريقيا البعيدة عن الإسلام، أو ما أشبه ذلك من الجهات التي لم تبلغها الإسلام، فهذا يمتحن يوم القيامة" [
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة الجزء الثامن، وانظر فتاوى اللجنة الدائمة (2/150)].
أما في الدنيا فإننا نحكم عليهم بأنهم كفار كما هو ظاهر لنا، لأن كل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر، وإنما مصيرهم في الآخرة فإلى الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله:
" والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل فهذا مقطوع به في جملة الخلف، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا؟ فذلك مالا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر" [
طريق الهجرتين (1/610)].
وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله:
" وظاهر الحديث أن مجرد السماع تقوم به الحجة؛ لأنه قال" لاَ يَسْمَعُ بِي" ولكن قيّد هذا الإطلاق بسماع يبين به الأمر؛ لقوله تعالى: ﴿
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾ [إبراهيم: 4]
[ لماذا؟ ] ﴿
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [إبراهيم: 4] فلابد أن يحصل البلاغ الذي تقوم به الحجة... وأما الذين في أوربا وغيرها ممن لم يصل إليهم الإسلام إلا مشوهاً، فهل يُعذبون؟
فنقول في هؤلاء: هم الآن يدينون بالكفر، ويرون أنهم طرف نقيض مع الإسلام، فنحن نحكم عليهم بأنهم كفار في الظاهر، فإذا لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة، فأمرهم إلى الله يوم القيامة؛ لكن نحن نعاملهم الآن بما تقتضيه حالهم؛ لأنهم كفار" [
التعليق على مسلم (1/490-491)].
الفائدة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم:" وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ " فيه جواز الحلف من غير استحلاف لاسيما في الأمور المهمة.
الفائدة الخامسة: قوله صلى الله عليه وسلم " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ " فيه إثبات اليد لله تعالى إثباتاً يليق بجلاله من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف، ولا تعطيل، وهي صفة ذاتية خبرية دلّ عليها الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: ﴿
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ [المائدة:64] ومن السنة حديث الباب، وأجمع السلف على ثبوتها.
وخالف أهل السنة والجماعة المعطلة من الجهمية والمعتزلة الذين يؤولون صفة اليدين ويقولون المراد بها في النصوص؛ القدرة أو النعمة، أو القدرة والنعمة، والرد عليهم من وجوه أشهرها:
1. أن تفسير اليد بالقدرة والنعمة مخالف لظاهر لفظ الآية، ولا دليل على هذا التأويل.
2. أنه مخالف لإجماع السلف، فلا يعرف أحدٌ أولها بالقدرة والنعمة.
3. أن تأويلها بالقدرة والنعمة ممتنع في بعض الآيات كقوله تعالى: ﴿
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾
[ص: 25]، وقوله ﴿
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ مما يدل على أنهما يدان اثنان، وتأويلهما بالنعمة يلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط وهذا ممتنع؛ لأن نعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى قال تعالى: ﴿
وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾[إبراهيم:34] وتأويلها بالقدرة يلزم أن يكون له سبحانه قدرتان، ولا يجوز أن يكون له سبحانه قدرتان بإجماع العلماء.
4. أن الله تعالى يقول: ﴿
مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾
[ص: 75] ولو كان المراد باليد القدرة لما كان لآدم عليه السلام فضل على غيره؛ لأن الخلق كلهم خلقوا بقدرة الله تعالى، بل لم يكن لآدم عليه السلام فضل على إبليس فإبليس خلق بقدرة الله أيضاً، والله تعالى ذكر ذلك مزية لآدم وأنه خلقه بيديه.
5. أن اليد التي أثبتها الله تعالى لنفسه جاءت في الأدلة مقرونة بأمور كثيرة، تدل على أنها يد حقيقية، فجاءت على وجوه يمتنع تأويلها بالقدرة والنعمة؛ حيث جاءت مقرونة بالطي، والقبض، والبسط واليمين، والنعمة، والقدرة لا توصف بهذه الأوصاف.
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)
الالوكة