قالوا: ولو كان رضاعُ الكبير محرِّماً لما قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد تغيَّر وجهُه، وكَرِه دخولَ أخيها من الرضاعة عليها لما رآهُ كبيراً: ((انظُرنَ مَنْ إخوانكن)) فلو حرَّم رَضَاع الكبير، لم يكن فرق بينه وبين الصغير، ولما كره ذلك وقال: ((انظرن مَن إخوانُكن)) ثم قال: ((فإنَّما الرضَاعَةُ مِنَ المجَاعَة)) وتحتَ هذا من المعنى خشيةَ أن يكونَ قد ارتضع فى غير زمن الرضاع وهو زمن المجاعة، فلا ينشر الحرمة، فلا يكون أخاً. قالوا: وأما حديثُ سهلة فى رضاع سالم، فهذا كان فى أوَّل الهجرة لأن قصته كانت عقيبَ نزول قوله تعالى: {ادْعُوهُم لآبائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وهى نزلت فى أول الهجرة.
وأما أحاديث اشتراط الصغر، وأن يكون فى الثدى قبل الفطام، فهى من رواية ابن عباس، وأبى هريرة، وابنُ عباس إنما قدم المدينة قبل الفتح، وأبو هريرة إنما أسلم عامَ فتح خيبر بلا شك، كِلاهُما قدم المدينة بعد قصة سالم فى رضاعه من امرأة أبى حذيفة.
قال المثبتون للتحريم برضاع الشيوخ: قد صحَّ عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم صحة لا يمترى فيها أحد أنه أمر سهلة بنتَ سُهيل أن تُرْضِع سالماً مولى أبى حذيفة، وكان كبيراً ذا لحية، وقال:
((أَرْضعِيهِ تَحْرُمى))، ثم ساقوا الحديث، وطرقَهَ وألفاظَه وهى صحيحةٌ صريحة بلا شك. ثم قالوا: فهذه الأخبارُ ترفع الإشكال، وتُبين مراد اللَّه عز وجل فى الآيات المذكوراتِ أن الرضاعة التى تَتِمُّ بتمام الحولين، أو بتراضى الأبوين قبل الحولين إذا رأيا فى ذلك صلاحاً للرضيع، إنما هى الموجبة للنفقة على المرأة المرضعة، والتى يُجبر عليها الأبوان أحبا أم كرها. ولقد كان فى الآية كفاية من هذا لأنه تعالى قال: {والوَالِدَاتُ يُرضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وعلى الموْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمعرُوفِ} [البقرة: 233]، فأمر اللَّه تعالى الوالدات بإرضاعِ المولود عامين، وليس فى هذا تحريمٌ للرضاعة بعد ذلك ولا أن التحريم ينقطِعُ بتمام الحولين، وكان قولُه تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِى أَرْضَعْنكُم وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]؟، ولم يقل فى حولين، ولا فى وقت دونَ وقت زائداً على الآيات الأخر، وعمومها لا يجوزُ تخصيصُه إلا بنص يبُين أنه تخصيص له، لا بظن، ولا محتمل لا بيانَ فيه، وكانت هذِهِ الآثارُ يعنى التى فيها التحريمُ برضاع الكبير قد جاءت مجىء التواتُرِ، رواها نساء النبى صلى الله عليه وسلم، وسهلةُ بنت سهيل، وهي من المهاجرات، وزينبُ بنت أم سلمة وهى ربيبةُ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، ورواها من التابعين: القاسمُ بن محمد، وعروةُ بن الزبير، وحُميد بن نافع، ورواها عن هؤلاء: الزهرى، وابنُ أبى مليكة، وعبدُ الرحمن بن القاسم، ويحيى بن سعيد الأنصارى وربيعة، ثم رواها عن هؤلاء: أيوب السَّخْتيانى، وسفيانُ الثورى، وسفيانُ بن عيينة، وشعبةُ، ومالك، وابنُ جريج، وشعيب، ويونس، وجعفر بن ربيعة، ومعمر، وسليمان بن بلال، وغيرهم، ثم رواها عن هؤلاء الجمُّ الغفيرُ، والعددُ الكثير، فهى نقلُ كافة لا يختلفُ مُؤالف ولا مخالف فى صحتها، فلم يبق مِن الاعتراض إلا قول القائل: كان ذلك خاصاً بسالم، كما قال بعضُ أزواج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومَنْ تبعهن فى ذلك، فليعلمْ من تعلَّق بهذا أنه ظنٌ ممن ظن ذلك منهن رضى اللَّه عنهن. هكذا فى الحديث أنهن قُلن: ما نرى هذا إلا خاصاً بسالم، وما ندرى لعلها كانت رخصة لسالم. فإذا هو ظن بلا شك فإن الظن لا يُعارض به السنن الثابتة، قال اللَّه تعالى: {إنَّ الظَّنَّ لا يُغنى مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36] وشتانَ بين اجتجاجِ أمِّ سلمة رضى اللَّه عنها بظنها، وبين احتجاج عائشة رضى اللَّه عنها بالسنة الثابتة، ولهذا لما قالت لها عائشة: أمالكِ في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، سكتت أم سلمة، ولم تنطق بحرف، وهذا إما رجوعُ إلى مذهب عائشة، وإما انقطاع فى يدها.
قالُوا: وقولُ سهلة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيف أرضِعهُ وهو رجل كبير؟ بيان جلى أنه بعد نزول الآيات المذكورات.
قالُوا: ونعلم يقيناً أنه لو كان ذلك خاصاً بسالم، لقطع النبىُّ صلى الله عليه وسلم الإلحاق، نص على أنه ليس لأحد بعده، كما بيَّن لأبى بُردة بن نيار، أن جذعته تُجزىْء عنه، ولا تجزىْء عن أحد بعده.. وأين يقعُ ذبح جَذعةٍ أضحية من هذا الحكم العظيم المتعلق به حلُّ الفرج وتحريمه، وثبوت المحرمية، والخلة بالمرأة والسفر بها؟ فمعلوم قطعاً، أن هذا أولى ببيان التخصيص لو كان خاصاً. قالوا: وقول النبى صلى الله عليه وسلم ((إنَّما الرّضاعةُ من المَجَاعَةِ)) حجة لنا، لأن شُرب الكبير للبن يُؤثر فى دفع مجاعته قطعاً، كما يُؤثر فى الصغير أو قريباً منه.
فإن قلتم: فما فائدة ذكره إذا كان الكبيرُ والصغيرُ فيه سواء؟ قلنا: فائدتُه إبطال تعلق التحريم بالقطرة من اللبن، أو المصَّة الواحدة التى لا تُغنى من جوع، ولا تُنبت لحماً، ولا تُنشز عظماً.
قالوا: وقولُه صلى الله عليه وسلم: ((لا رضاع إلا ما كان فى الحولين، وكان فى الثدى قبلَ الفطام)) ليس بأبلغَ مِن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ربا إلاّ فى النسيئة))،
((وإنما الربا فى النسيئة))، ولم يمنع ذلك ثبوتُ ربا الفضل بالأدلة الدالة عليه، فكذا هذا.
فأحاديثُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسنُنه الثابتة كُلُّهَا حق يجب اتباعُها لا يضرب بعضها ببعض، بل تستعمل كلاً منها على وجهه. قالوا: ومما يدلُّ على ذلك أن عائشة أم المؤمنين رضى اللَّه عنها، وأفقه نساء الأمة هى التى روت هذا وهذا، فهى التى روت: ((إنَّماالرَضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ)) وروت حديث سهلة، وأخذت به فلو كان عندها حديث ((إنما الرضاعة من المجاعة)) مخالفاً لحديث سهلة، لما ذهبت إليه وتركت حديثاً واجهها به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتغيَّرَ وجهه، وكره الرجل الذى رآه عندها، وقالت: هو أخى.
قالوا: وقد صحَّ عنها أنها كانت تُدْخلُ عليها الكبير إذا أرضعته فى حال كبره أختٌ مِن أخواتها الرضاع المُحَرم، ونحن نشهدُ بشهادة اللَّه، ونقطع قطعاً نلقاه به يوم القيامة، أن أمّ المؤمنين لم تكن لِتبيحَ سِترَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحيث ينتهِكُه من لا يَحِلُّ له انتهاكُه، ولم يكن اللَّه عز وجل ليبيح ذلك على يدِ الصِّديقة المبرأةِ من فوق سبع سَمَاوات، وقد عصم اللَّه سبحانه ذلك الجنابَ الكريم، والحمى المنيع، والشرفَ الرفيع أتمَّ عِصمة، وصانه أعظمَ صيانة، وتولَّى صيانته وحمايتَه، والذبَّ عنه بنفسه ووحيه وكلامه، قالوا: فنحن نُوقِنُ ونقطعُ، ونَبُتُّ الشهادة للَّه، بأن فعلَ عائشة رضى اللَّه عنها هو الحقُّ، وأن رضاعَ الكبير يقع به من التحريم والمحرميةِ ما يقع برضاع الصغير، ويكفينا أمُّنا أفقه نساء الأمة على الإطلاق، وقد كانت تُناظر فى ذلك نساءه صلى الله عليه وسلم، ولا يُجِبْنَها بغيرِ قولهن: ما أحدٌ داخلٌ علينا بتلك الرضاعة، ويكفينا فى ذلك أنه مذهبُ ابن عم نبينا، وأعلم أهل الأرض على الإطلاق حين كان خليفة، ومذهبُ الليث بن سعد الذى شهد له الشافعى بأنه كان أفقه من مالك، إلا أنه ضيَّعهُ أصحابُه، ومذهبُ عطاء بن أبى رباح ذكره عبدُ الرزاق عن ابن جريج عنه. وذكر مالك عن الزهرى، أنه سُئلَ عن رضاع الكبير، فاحتج بحديثِ سهلة بنت سهيل فى قصة سالم مولى أبى حذيفة، وقال عبد الرزاق: وأخبرنى ابن جريج، قال: أخبرنى عبد الكريم، أن سالم ابن أبى جعد المولى الأشجعى أخبره أن أباه أخبره، أنه سأل على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه فقال: أردت أن أتزوَّج امرأة قد سقتنى من لبنها وأنا كبير تداويتُ به، فقال له على: لا تَنْكِحْهَا، ونهاه عنها.
فهؤلاء سلفنا فى هذه المسألة، وتلك نصوصنا كالشمسِ صحة وصراحة. قالوا: وأصرحُ أحاديثكم حديثُ أم سلمة ترفعه: ((لا يُحَرِّمُ مِن الرّضَاعِ إلا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فى الثَّدْى وكَانَ قَبْلَ الفِطَام)) فما أصرحه لو كان سليماً من العلة، لكن هذا حديثٌ منقطع، لأنه من رواية فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة، ولم تسمع منها شيئاً، لأنها كانت أسنَّ مِن زوجها هشام باثنى عشر عاماً، فكان مولده فى سنة ستين، ومولد فاطمة فى سنة ثمان وأربعين، وماتت أم سلمة سنة تسع وخمسين، وفاطمة صغيرة لم تبلغها، فكيف تحفظُ عنها، ولم تسمعْ مِن خالة أبيها شيئاً وهى فى حَجْرها، كما حصل سماعُها من جدتها أسماء بنت أبى بكر؟ قالوا: وإذا نظر العالمُ المنصف فى هذا القول، ووازن بينه وبينَ قول من يحدد مدةَ الرضاع المُحرِّمِ بخمسة وعشرين شهراً، أو ستة وعشرين شهراً أو سبعة وعشرين شهراً، أو ثلاثين شهراً من تلك الأقوال التى لا دليل عليها مِن كتاب اللَّه، أو سُنة رسوله، ولا قوِلِ أحد من الصحابة، تبيَّن له فضلُ ما بين القولين، فهذا منتهى أقدام الطائفتين فى هذه المسألة، ولعل الواقف عليها لم يكن يخطر له أن هذا القول تنتهى قوتُه إلى هذا الحد، وأنه ليس بأيدى أصحابه قدرةٌ على تقديره وتصحيحه، فاجلس أيها العالمُ المنصف مجلِسَ الحَكَم بين هذين المتنازعين، وافصل بينهما بالحجةِ والبيان لا بالتقليد، وقال فلان.
|