|
#1
|
|||||||||
|
|||||||||
الذي لن يتكرر
أعمارنا حكاية من أربع وعشرين فصلاً، مكررة بتعداد الأيام التي سنمضيها فوق هذه الأرض. نتحايل على رتابة تكرارها بالتجديد. وربما عدنا أدراجنا صوب نقطة البدء. أو قد نمرق من فوق معبر سبق لنا المرور إزاءه، في تقاطعات وأقطار هندسية غاية في الغرابة. طقوس حياتنا أكوام من التكرارات، تآمرت ضد تحديثها، والتغلب عليها، سطوة المهنة. إفاقة، اغتسال، هرع، مكابدة، إمضاء، كد، صحف، قهوة، قيلولة، فرار ثان، ولكن مقيد بقلق يوم غد. وهكذا دواليك. سبت، ثم، ثم أربعاء. إجازة تلو أخرى. يبتدئ أسبوعنا، ويجرجرنا وراءه، فاغرين أفواهنا من سكرة السهر وغيظ الصحو، ومحملقين بأعيننا المشدوهة صوب نهايته. وما إن يبدأ لفوره إلاّ وسرعان ما ينفد، كيما تبدأ الدورة من جديد. وبإغماضة عين، يجري الإعلان عن الإجازة الكبرى في الصيف، لتبدأ دائرة أخرى من التكرار، مع بعض الرتوش أحياناً، هنا وهناك. وبغتة، وعلى إثر بضع تكرارات مضاهية، إذا بنا مقبلين نحو خريف العمر دونما انتباه. تلكم هي كل الحكاية. حكاية العمر المكرر.
التكرار أسرار. قد يكون التكرار كريهاً، كقرع الباب. وقد يكون مكمن اللذة، وسر الأسرار، كما في الحب. تكرار الحديث ضجر، لاسيما من الناطقين اللارسميين، والمتحدثين غير الأكفاء. وربما هو إرشاد وتنويه، مثلما درج عليه الأنبياء والفلاسفة والحكماء. التكرار رسول حب، وهو نذير حرب. التكرار شغف، من المحتمل. وربما قلة ذات يد فيما يختص بالبدائل. يجيء التكرار، أحياناً، نتاج جبن، مخافة التغيير، وتقاعساً عن خوض غمار الجديد. التكرار إيغال في الإذعان، والركون، والاقتيات. حيث يفضي الإلف إلى الرضوخ لسطوة الشعور بالأمان، بينما يعمد كسر التكرار إلى تحدّ الاحتكار. وليس ثمة أشد وأقسى من احتكار الأرواح. تكرار الطقوس قد يشي بعظمتها. ومن جهة، قد يفضي إلى أسنها. التكرار يدشّن الطقوس، والامتناع عنه يحمل على التوق إليها. يخفف من وطأة التكرار اختياره طواعية. ولكن إذا ما تضافرت رتابة التكرار مع القسر فهاهنا تكمن المأساة. وحين يتصل ذاك ببشر، فالمأساة الآن في أكلح صورها. تكرار الأفراد غير المرغوب فيهم، وقسراً، هي معادلة البؤس الأشد فتكاً. مطارحة المرض تكرار لميتة على قيد الحياة. وفي هذه الحال، يحيق التكرار بأرواحنا فيرديها طريحة الخواء. العلاج تكرار كذلك، إلى أن يجدي نفعاً، (ثلاث مرات في اليوم لأسبوع). في الإعلانات الميكروفونية، (أكرّر)، للأهمية، ولصالحك. وفي أبواق عربات الأمن، يكررون لصالحهم. رنين الهاتف تكرار، للمتصل تكراره، وللمستقبل تكراره، سيان. ويجري في الآونة الأخيرة الاحتيال على التكرارين، أحدهما أو كليهما، بصنوف النغمات، وفقاً لمقاييس ذائقة المستهلك ذي الكلمة الفصل في هكذا صعيد، يمنة كانت تلكم الذائقة أم يسرة. تناول الطعام تكرار، إلى حد بلوغ لعق الطبق. تكرار يفضي في خاتمته إلى صمت نداء البطن. إليكم القصة: تكرر المعدة نداءها، فيكرر الفم استجابته، إلى أن يقع التصالح في خاتمة المعركة الداخلية حامية الوطيس، ويعلن الطرفان المتناحران وقف إطلاق التصريحات المتكررة، والتوصل إلى سلام شامل، ولكن مؤقت إلى حين تكرار آخر. الإنصات للمعزوفة تكرار. وهو بالمثل، صفقة عادلة أخرى بين الأذن والصوت، بدأت بالمبررات عينها، وتسفر عن ذات النتيجة. وعلى وجه العموم، ففي شؤون الحواس، ثمة تكرار مبعثه احتياج الحاسة، بغية أن ترضى، وهنالك تجاوب معها بشكل أو بآخر. المشية تكرار متناغم بين ركنين، يقدّم لنا مقطوعة من سيمفونية تدعى لغة الجسد. لا تقع الأشياء اللذيذة منذ الوهلة الأولى. أو بكلمات أخرى، لا تبلغ الأشياء اللذيذة ذروتها منذ البدء. التكرار التكرار. إدامة النظر في وجه المحبوب لذة لا تقر العين إلاّ بتكرارها. أعذب لحظات التكرار، ما يطرأ على سبيل التراضي بين الطرفين ذوي الشأن. وأقساها إيلاماً ما يقع ضمن تبرم أحد الطرفين أو كليهما. كائناً ما كان ذلك التكرار. تكرار الخطيئة يفضي لخطيئة. وكذلك الإحسان. تكرار ينجم عنه تكرار. وتكرار يعقبه انقطاع. اللذة تكرار، والعذاب كذلك. هدم اللذة بإيقاف التكرار، ونزع العذاب بالمثل، سواء بسواء. من الممكن أن تكون عواقب التكرار وخيمة، لحظة أن يتآمر ضد إنسانية الدهشة، ويغتال روعة التأمل في جمال التفاصيل. الأناس الأشد أهمية وجاذبية، يخسرون شطراً غير يسير من أهميتهم وجاذبيتهم بفعل التكرار. تكرار ذوينا يضعهم في مراتب أدنى أهمية لدينا، ويشغلنا عن الاكتراث بهم كما يتعين أن يكون. ولكن بالمقابل، سينال المنسيون وضحايا التكرار أولئك، أفخر صنوف المشاعر التي بحوزتنا حال غيابهم، أي وقت توقف تكرارهم، وسيمنحوننا فجيعة لن تكفينا بقية أعمارنا لتخطي تبعاتها. أعمار بسنوات. سنوات من أشهر. أشهر ذات أيام. أيام لها سويعات أربع وعشرون. تكرار في تكرار في تكرار. تلك هي حكايتنا. حكاية التكرار، الحكاية المكررة الوحيدة التي ذات ختام لن يتكرر على الإطلاق، الموت. طارق السياط ... الرياض |
09-07-2009, 04:51 PM | #3 |
مراقب
|
ســد؛؛ بارك الله فيك يا الغالي على هذا النقل الموفق بأمر لله ويكفي
من الممكن أن تكون عواقب التكرار وخيمة، لحظة أن يتآمر ضد إنسانية الدهشة، ويغتال روعة التأمل في جمال التفاصيل. الأناس الأشد أهمية وجاذبية، يخسرون شطراً غير يسير من أهميتهم وجاذبيتهم بفعل التكرار. تكرار ذوينا يضعهم في مراتب أدنى أهمية لدينا، ويشغلنا عن الاكتراث بهم كما يتعين أن يكون. ولكن بالمقابل، سينال المنسيون وضحايا التكرار أولئك، أفخر صنوف المشاعر التي بحوزتنا حال غيابهم، أي وقت توقف تكرارهم، وسيمنحوننا فجيعة لن تكفينا بقية أعمارنا لتخطي تبعاتها |
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
جيل لن يتكرر | الحزن الأكيد | منتدى القصص والروايات | 4 | 09-11-2009 06:17 PM |
جيل لن يتكرر | فجر | منتدى القصص والروايات | 2 | 07-22-2008 03:12 AM |
إعتزال ....... لن يتكرر | ابو سيف العمري | الساحة الرياضيّة | 15 | 01-29-2008 08:30 PM |
حال الغداء والعشاء يتكرر ... | غلا.....ي | الساحة الرياضيّة | 18 | 09-21-2007 06:30 PM |
جيل لن يتكرر ؟؟ لله درك أيها الفاروق | طـلـولــي | منتدى القصص والروايات | 2 | 04-04-2005 04:29 AM |