مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ربما كان هذا الرجل أكثر الرجال تعرضًا للازدراء على وجه الأرض، بل إن أمته ثارت ضده عندما سافر إلى هولندا للنجاة بنفسه، وكانت الكراهية ضده شديدة للغاية، حتى أن هناك الملايين يودون لو قطعوه إربًا أو حرقوه.
ووسط هذه النيران المتأججة بالغضب؛ كتب طفل صغير رسالة إلى القيصر، وكانت رسالة بسيطة وصادقة، تتقد حبًّا وشفقة، وقال فيها أنه بغض النظر عن وجهة نظر الآخرين، فإنه سوف يظل يحب القيصر كإمبراطور له.
فما كان من القيصر إلا أن تأثر كثيرًا بهذا الخطاب، ودعا الطفل ليأتيه حتى يراه، وجاء الطفل ومعه أمه، فتزوجها القيصر، وعاش حياته مع هذا الطفل المشفق عليه ومع أمه.
فبهذا الخطاب البسيط استطاع هذا الطفل أن يكسب قلب القيصر، وأنت أيضًا أيها القارئ العزيز تستطيع أن تُكوِّن أقوى العلاقات، إذا استطعت أن تستخدم هذا الكنز العظيم.
العاطفة الحارة:
كم مرة كنت في مأزق، وشعرت بالحاجة الشديدة لتحكي لشخص ما عن الظروف التي تمر بها؟ كم مرة كنت مريضًا، وأحسست أنك تشتاق لزيارة أصدقائك وأقاربك لك؟ كم مرة أنجزت إنجازًا ضخمًا، وكنت ترغب رغبة شديدة أن تبلغ أحبابك بهذا الإنجاز؟ أليس الدافع وراء كل هذه الأعمال هو الشعور بتعاطف الآخرين معك؟ أليست الرغبة من كل ذلك هي البحث عمن يحس بك ويراعي مشاعرك؟
لذا فالعاطفة الحارة هي التي يبحث عنها كثير من الناس، حتى أنت أيها القارئ الكريم تبحث
عمن يحس بك ويراعي مشاعرك؛ فهذه فطرة فطرنا الله تعالى عليها، وهذا ما أكده ويليام شكسبير حين يقول: (البحث عن الحب شيء جيد، ولكن منحه هو أفضل الأشياء)، فإذا أردت أن تمتلك قلوب الآخرين، فعليك أن تشعرهم بصدق محبتك تجاههم.
النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا:
حتى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحتاج إلى من يواسيه ويسانده، وكانت خديجة رضي الله عنها خير من تقوم بهذا العمل، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يومًا من الأيام فأخذتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزًا قد أبدلك الله خيرًا منها؟).
فغضب صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (لا والله ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذب الناس, وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح شاة يقول: (أرسلوا إلى أصدقاء خديجة)، فذكرت ذلك له يومًا، فقال: (إني لأحب حبيبها).
فالمحبة الصادقة هي المفتاح السحري الذي يفتح لك مغاليق أيِّ شخصية، حتى مع أشد الناس جفافًا وقسوة؛ لأنها ببساطة تعطيه معنى لحياته، بل إن أشد الناس جفافًا أسرع استجابة للعاطفة الحية من غيره؛ لأنه كالأرض الجافة متعطشة لأيِّ قطرة من الماء، ولذا فقليل من ماء الحب مع مثل هذه الشخصية قد يحدث تغييرًا شاملًا في حياته كلها.
ويحكي لنا د.إبراهيم الفقي قصة في ذلك فيقول: (كان هناك شاب شديد القسوة مع والديه، شديد القسوة مع الناس، ثم سافر هذا الشاب إلى بلدة أخرى للدراسة هناك، وفي هذه البلدة سكن في فندق صغير، حيث كان يسكن معه في نفس الفندق رجل عجوز وزوجته.
وكان هذا الشاب في البداية يعاملهم بقسوة شديدة وبجفاء، إلى أن مرض هذا الشاب في يوم من الأيام، وسهر الرجل العجوز وامرأته طوال الليل لرعاية الشاب.
فتعجب الشاب من ذلك، وأخذ يتساءل: لماذا هذه الرعاية؟ فهذا الرجل وهذه المرأة لا أهمهما في شيء، ومن هنا بدأ يتعلم الشاب معنى الحب، معنى المشاعر الحية، وأخذ يتغير شيئًا فشيئًا.
وفي يوم من الأيام مرض الرجل العجوز، فسهر الشاب على رعايته وخدمته، ولم ينم لحظة، وتغير الشاب تمامًا فصار همُّه خدمة الآخرين ورعايتهم، وفي النهاية انتهت دراسته، ووقف ليودع الرجل العجوز وامرأته.
فسألاه: هل حزمت جميع أمتعتك؟
فقال لهما: نعم، لقد حزمت جميع حقائبي وأمتعتي.
فقالا له: لكن هناك حقيبتان سيبقيان معنا، ولن تأخذهما أبدًا.
فقال لهما: كيف، لقد حزمت جميع حقائبي وهي معي؟
فقالا له: هاتان الحقيبتان هما حبنا لك، وحبك لنا).
محبة مقابل محبة:
قد يشكو البعض أنه لا يجد أحدًا يحبه، أو يعطف عليه، ولكننا ننسى قاعدة هامة جدًا، نبهنا عليها بات كارول فقال: (الجميع ينسون هذا الأمر الأساسي، لن يحبك الأخرون إلا إذا أحببتهم).
نعم، فهو شرط بشرط، امنح قلبك للآخرين؛ يهدوا لك قلوبهم، ألقِ البذر؛ يخرج لك الزرع، اسقِ الزرع؛ يوهب لك الورد، والقلوب كالأزهار؛ تتفتح وتزهو في ربيع العاطفة المشمسة الدافئة، وتتساقط وتذبل في خريف الرياح القاسية الباردة.
وهناك أسطورة طريفة تقول: (اختلفت الشمس والرياح فيمن منهما الأقوى، فقالت الرياح: سأثبت لك أنني الأقوى، انظري إلى الرجل العجوز الذي يقف هناك مرتديًا معطفًا، أتحداك أنه بمقدوري أن أجعله يخلع معطفه أسرع مما تستطيعين.
توارت الشمس خلف إحدى السحب، وأخذت الرياح تهب حتى صارت كالإعصار، ولكنها كلما عصفت أكثر، زاد الرجل من تمسكه بالمعطف، وفي النهاية هدأت الريح واستسلمت.
وخرجت الشمس من خلف الرياح، وابتسمت بحنان إلى الرجل العجوز، وسرعان ما مسح الرجل جبتهه، وخلع عنه معطفه، ثم قالت الشمس للرياح: إن العطف والحنان هما دائمًا أقوى من الغضب والقسوة).
إنهم بشر، وليسوا آلات:
بعض الناس يقلل من شأن العاطفة باعتبار أنها من الكماليات، أو أنها من توافه الأمور، وأن على الناس الانشغال بأداء الحقوق والواجبات، دون الانشغال بمثل هذه الأمور التافهة من مشاعر وأحاسيس, وكأنه يطلب من النموذج الإنساني أن يتحول إلى إنسان آليٍّ، لا قلب له ولا مشاعر.
ولو تأملنا في القرآن والسنة لرأينا قيمة الرحمة والعاطفة الحية والمشاعر الصادقة، فاسمع ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه، حين يقول: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين وكان ظئرًا لإبراهيم عليه السلام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه.
ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: (يا ابن عوف إنها رحمة).
ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم: (إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون)[رواه البخاري].
ارحم تُرحَم:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (من لا يَرحم لا يُرحَم)[رواه البخاري].
ولك أن تتأمل كيف جعل الله هذه الرحمة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم سببًا في إقبال القلوب حوله وامتلائها بمحبته، ولعل هذا ما جعل رجلًا من الأنصار يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا رسول الله، إنك أحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك).
استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يملك قلب هذا الصحابي، فتأمل ما يشغل قلب هذا الصحابي بعد دخول الجنة، وفوزه بنعيمها، يشغله عدم رؤيته للرسول صلى الله عليه وسلم، إنها محبة صادقة عظيمة، وعاطفة صادقة.
كيف السبيل؟
وإليك ـ عزيزي القارئ ـ جملة من النصائح العملية التي تعينك على أن تعبر عن عاطفتك تجاه الآخرين، ومن أهمها ما يلي:
1. أطايب الكلام:
فإن للكلمات والألفاظ أثرًا عظيمًا في النفس البشرية، والكلمة كالثمرة، كلما كانت أطيب زاد أثرها في ذوق متناولها، لذا يقول عمر رضي الله عنه: (لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لقيت الله: لولا أن أضع جبهتي لله، أو أجلس في مجالس ينتقى فيها طيب الكلام كما ينتقى جيد الثمر، أو أن أسير في سبيل الله).
ومثل هذه الكلمات من شأنها أن تترك أعظم الأثر في الآخرين، ولكن يشترط عند قولها شرطان حتى تحدث الأثر المطلوب:
- أن تكون صادقة من قلبك.
- موافقة لتعبيرات جسدك، وحركاته، ونبرات صوتك.
ولعل من أكثر الجمل تأثيرًا، أن تخبر الشخص أنك تحبه في الله، تنفيذًا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الرجل أخاه، فليخبره أنه يحبه) [رواه أبو داود، وصححه الألباني].
2. الهدية:
(تهادوا تحابوا)[حسنه الألباني]، عبارة موجزة جامعة، قالها صاحب جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، وصارت علامة لنا، على طريق بناء العلاقة القوية، وإظهار المشاعر الصادقة؛ فالهدية تعبير سهل ومؤثر عما في داخل النفس من عاطفة وود.
ويرشدك توني بوزان إلى أهمية كون هديتك متميزة؛ لتكون أعمق تأثيرًا فيقول: (إذا كنت تريد أن تَعلَق هديتك بالأذهان، ونتيجة لذلك تعلق أنت ذاتك بالأذهان، فحاول أن تجعلها بارزة ومختلفة).
إذًا حاول أن تكون هديتك متميزة ومناسبة للشخص الآخر، بحيث تعجبه، وتعلق بذهنه، فيذكرك بها، وتزداد المحبة بذلك الذكر.
3. الزيارة في الله:
فهي تعبر عما في مكنونك دون أن تتكلم أنت، كما يقول الأستاذ عبد الله بن محمود البورسعيدي: (يفرح الإنسان أشد الفرح، عندما يرى زيدًا من الأحباب، يزوره من غير منفعة يرتجيها، ذلك أن هذا الزائر انشغل ذهنه بمن يزوره، ثم أتبع انشغال الذهن بالهمِّ والعزم على التواصل، ثم حمل أقدامه إلى الآخر).
وقد جعل الله تبارك وتعالى لهذه الزيارة الثواب العظيم، ففي الحديث المشهور: (أن رجلًا زار أخًا له فى قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لى في هذه القرية.
قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته فى الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه) [رواه مسلم].
وأخيرًا، إذا أردت أن تمتلك قلوب الآخرين، فعليك أن تشعرهم بمحبتك الصادقة تجاههم، وتذكر دائمًا تلك المقولة التي قالها ديل كارينجي: (التعاطف هو الشيء الذي يتوق له الجنس البشري عامة)، وإلى لقاء قريب مع السر الرابع من أسرار النجومية الاجتماعية.
أهم المراجع:
1.سحر الاتصال، محمد العطار.
2.كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، ديل كارنيجي.
3.قوة الذكاء الاجتماعي، توني بوزان.
4.65 طريقة لتقوية علاقاتك بالناس، عبد الله بن محمود البورسعيدي.
5.أفضل ما قيل في النجاح، كاثرين كارفيلاس.
6.حلية الأولياء، أبو نعيم.
7.المنتظم في التاريخ، ابن الجوزي.
8.تفسير القرآن العظيم، ابن كثير.
9.الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر.