صحوت باكراً رغم أنني لم أنم إلا في الرابعة و النصف ، ولكن ما أن شارف الزمن على محطته الجزئية في العاشرة لهذا النهار إلا و كنت في المطبخ أعد كوب قهوتي . صحوت من أجل أبي خالد ، فلديه موعد في المستشفى و قد تهرب منه في الأيام الماضية ، فقررت أن أرافقه هذه المرة ، لأنني اعلم أنه مثلي يكره المستشفيات !
لكنني وجدت ورقة فوق التلفاز ، يخبرنا أنه ذهب إلى السفارة الفرنسية!
رباه .. كم يعشق هذا الرجل باريس!!
لو علم ( شيراك ) بهذا الرجل لمنحه الجنسية الفرنسية ، ولكن أبو خالد سعودي ويفخر بأنه ينتمي لذات السيفين والنخلة بحيث يرفض عليها مزايا العالم الغربي مجتمعة !
اتصل فواز(صديقي الأردني) الذي أشار ببداية حديثه أن هناك تعليمات بإلقاء القبض علي وأن أرافقه في الثانية عشر ظهراً إلى مكان مجهول !!
حفل الشواء .. أعددناه معاً .. منتصف غابة المنتزه الوطني على الطريق إلى مطار الملكة عالية .
كانت الأجواء جداً رائعة .. قطرات المطر الخفيفة كدموع طفل تكاد تقطر من على خديه بعد أن حصل على لعبته من أخته الصغيرة !!
كدموع فرحة حبيبة مع حبيبها الذي غاب عنها قرناً كاملاً !!
أتعتقدين أنني سأرى دموعك إذا ما عدت بعد كل هذا الغياب ؟
أنا لا أعتقد !!
نسمات الهواء الدافئة .. نعم .. نعم تلك التي كانت تلفح خصلات سوداء لامعة من على كتفي داليا ، كأنها أشرطة حريرية هبطت من السماء !
رباه .. ما أروع هذا المشهد ، يذكرني بالأمواج المتناثرة من أعلى نافورة الملك فهد بجدة ، تلك الأمواج العريضة التي صرخت حين رأيتها أول مرة :
انظروا .. ألا تشبه هذه الأمواج خصلات شعر أنثى غجرية يداعبها هواء السماء بكل غرور ؟!
كانت الوجبة ذات مذاق رفيع ، فأماني كانت ماهرة جداً و كما يقول أهل الشام
" الطبخ نفس " .. ونفس هذه المرأة جداً أنيق .. وجدته في الطبخ وتصميم المنزل وتربية الطفلان وتحمل صاحبي فواز ..
لقد أكلت بشهية جداً رائعة كما لم أكل منذ أيام خمسة !
نظر إلي أحمد متسائلاً .." ألا تعتقد أن العيش في الطبيعة أمنية كل إنسان "؟
ليت أحمد يجرب العيش لشهرٍ واحد في صيف مدينة جدة !
ولكن قبل أن أنهي ابتسامتي لأجيب أحمد ، كانت داليا قد قررت مسك دفة الإجابة :
" أعتقد أن للطبيعة سحر خاص ، مهما اختلف البشر تجد أن للطبيعة وبكافة أشكالها عشاقاً .. فمثلاً .. البدو يعشقون الصحراء بكل حالاتها ، وأهل المدينة لا يمكن أن يعشقوا الحياة في غير المدينة " !
لا يا سيدتي .. نظرت إليها و أكملت :
لم تعد الطبيعة تملك ذات العشاق .. و لا ذات الوفاء !!
فهكذا نحن البشر .. دوماً نبدأ إنهاء العلاقة بالحصول على تذكرة المغادرة على متن خطوط الخيانة !!
اتجهت للشمال من جلستنا .. أبعثر دخان سيجارتي الأمريكية البيضاء في أنحاء الغابة ، وبيدي علبة السفن آب الباردة جداً .. !
كانت جداً باردة .. علها تخفف من وطأة هذه الحمم المتوقدة في أعماقي !
نظرت للسماء التي ما زالت تبكي بهدوء شديد .. حد الإثارة !
ليس هناك أجمل من أن تستقبل دموع السماء وسط عينيك !!
و تسمع لموسيقى المطر حيث تتصادم قطراته بمعطفك الجلدي !!
على مسافة ساعات من هنا .. هناك تمكث مدينة السور الأبيض ..
يتيمة .. سوداء .. قاحلة !!
من جديد ارحل مخيراً مع ذكريات السور الأبيض .. أحب كثيراً أن ارحل بذكرياتي إلى هناك .. لأنها الأجمل .. الأصدق .. الأنقى .. وعلى الأقل هي أكثر منك وفاءاً !!
شاءت داليا والسيدة أماني أن تقطعا رحلتي بسؤال من السيدة أماني ..!
سؤال أتعبني كثيراً .. جداً !
وفي ومضة صمت .. تلاقت ثلاث ابتسامات .. اعتذار الأماني و سخرية ألم يلتحفني .. ووقفت طويلاً عند ابتسامة العطف التي رُسمت على شفتي داليا !!
أتعلمين .. ؟
كنت تائهاً .. بين الابتسامات الثلاث .. ابحث للحظة عن حريتي !!!
تسلقت شجرة كبيرة و قلت لهما :
أحب كثيراً تسلق الشجر .. ففي قريتي كنت أتسلق شجر العرعر والشوك وخاصة عندما تتدلى من بين أغصانه خصلات العنب الأسود الحامض قليلاً .. رغم الاختلاف البسيط في إحجام الشجر بين هنا وهناك إلا أنني لن أتجرأ على ممارسة هوايتي في تسلق الشجر !!
ترد داليا التي وافقت على تغيير أجواء السؤال – القنبلة :
"" أنا أيضاً أحب التسلق..هات يدك سوف أسابقك على أغصان هذه الشجرة""
ضحكنا معاً .. ووسط موسيقى قهقهة السيدة والآنسة يأتي صوت ليعجل بعودتنا للمجموعة !!
فواز و أماني و طفليهما ..
أحمد و أسماء و طفلتهما نادين ..
داليا و أمية .. في حديث يبدو نسائياً ..
مجبراً مرة أخرى .. أن أبقى فردي يتيم !
من جديد .. يشتد سوطكِ الذي تركتيه هنا .. حول عنقي !
ليتكِ أخذتيه معكِ ..
ليتكِ مزقت الصورة اليتيمة ..
ليتكِ أحرقت الفستان البحري ..
ليتكِ مسحتِ بقايا القبل ..
ليتكِ سحقتِ العشق .. ووأدتِ الحب ..
تلك بقايا تسعة و عشرون أمنية .. فيا ليتكِ ما كنتِ .. أنتِ !!!