ويزيد هذا بياناً أن ماء الفحل لا قيمة له، ولا هو مما يُعاوض عليه، ولهذا لو نزا فحلُ الرجل على رَمَكَة غيره، فأولدها، فالولد لِصاحب الرَّمَكَةِ اتفاقاً، لأنه لم ينفصِلْ عن الفحل إلا مجردُ الماء وهو لا قيمة له، فحرمت هذه الشريعةُ الكاملةُ المعاوضةَ على ضِرابه ليتناوله الناس بينهم مجاناً، لما فيه مِن تكثير النسل المحتاج إليه من غير إضرار بصاحب الفحل، ولا نقصان من ماله، فمن محاسن الشريعة إيجابُ بذلِ هذا مجاناً، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِنْ حَقِّهَا إطْراقَ فَحْلِهَا وإعَارَةَ دَلْوِهَا)) فهذه حقوقٌ يضر بالناس منعُها إلا بالمعاوضة، فأوجبت الشريعة بذلها مجاناً.
فإن قيل: فإذا أهدى صاحبُ الأنثى إلى صاحب الفحل هديةً، أو ساق إليه كرامة، فهل له أخذُها؟ قيل: إن كان ذلك على وجه المعاوضة والاشتراط فى الباطن لم يَحِلَّ له أخذُه، وإن لم يكن كذلك فلا بأس به، قال أصحابُ أحمد والشافعى: وإن أعطى صاحبَ الفحل هدية، أو كرامة من غيرِ إجارة، جاز، واحتج أصحابُنا بحديث رُوى عن أنس رضى اللَّه عنه، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا كان إكراماً، فلا بأس، ذكره صاحب ((المغنى)) ولا أعرف حالَ هذا الحديث، ولا من خرَّجه، وقد نص أحمد فى رواية ابن القاسم على خلافه، فقيل له: ألا يكونُ مثلَ الحجَّامِ يُعطى، وإن كان منهياً عنه؟ فقال: لم يبلغنا أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم أعطى فى مثل هذا شيئاً كما بلغنا فى الحجام.
واختلف أصحابنا فى حمل كلام أحمد رحمه اللَّه على ظاهره، أو تأويله، فحمله القاضي على ظاهره، وقال: هذا مقتضى النظر، لكن ترك مقتضاه فى الحجام، فبقى فيما عداه على مقتضى القياس. وقال أبو محمد فى ((المغنى)): كلام أحمد يُحمل على الورع لا على التحريم، والجواز أرفقُ بالناس، وأوفقُ للقياس.
ذكرُ حكم رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى المنع مِن بيع الماء الذى يشترك فيه الناسُ
ثبت فى صحيح مسلم من حديث جابر رضى اللَّه عنه قال: نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ فَضْلِ المَاء.
وفيه عنه قال: نهى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن بَيْع ضِرَابِ الفَحْلِ، وَعَنْ بَيْعِ المَاءِ والأَرْضِ لِتُحْرَث، فعن ذلك نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وفى ((الصحيحين)) عن أبى هُريرة رضى اللَّه عنه أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمنَعَ بهِ الكَلأُ)) وفى لفظ آخر ((لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا به الكَلأَ))، وقال البخارى فى بعض طرقه: ((لاَ تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الكَلإِ)).
وفى ((المسند)) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه رضى اللَّه عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ مَنَعَ فَضْل مَائِهِ أَوْ فَضْل كَلَئِهِ، مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ)).
وفى سنن ابن ماجه من حديث أبى هريرة رضى اللَّهُ عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((ثَلاثٌ لاَ يُمْنَعْنَ: المَاءُ والكَلأُ والنَّارُ)).
وفى ((سننه)) أيضاً عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((المسلمونَ شُركَاءُ فى ثَلاَثٍ: المَاءُ والنَّارُ والكَلأُ، وثَمَنُهُ حَرَامٌ)).
وفى صحيح البخاري من حديث أبى هُريرة رضى اللَّه عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَيُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لضهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ من ابنِ السَّبِيلِ، وَرجُلٌ بَايَع إمامَه لا يُبَايعُهُ إلا لِلدُّنْيَا فإنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا، رَضِىَ، وإنْ لَمْ يعْطِهِ مِنْهَا، سَخطَ وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَةً بَعْدَ العَصْرِ فَقَالَ: واللَّهِ الذِى لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ أُعْطِيتُ بِهَا كَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ هذِهِ الآيةَ: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُون بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77]، وفى سنن أبى داود عن بُهَيْسَة قالت: استأذن أبى النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعلَ يدنو منه ويلتزمُه، ثم قال: يانبى اللَّه ما الشىءُ الذى لا يَحِلُّ منعُه؟ قال: الماء قَالَ: ((يا نبىَّ اللَّهِ ما الشىءُ الذى لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ المِلْحُ، قال: يانبِىَّ اللَّهِ ما الشَّىءُ الَّذى لاَ يحِلُّ مَنْعُهُ؟ قال: أن تَفْعَلَ الخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ)).
الماء خلقه اللَّه فى الأصل مشتركاً بين العباد والبهائم، وجعله سقيا لهم، فلا يكون أحدٌ أخصَّ به مِن أحد، ولو أقام عليه، وتَنَأَ عليه، قال عمرُ ابن الخطاب رضى اللَّه عنه ابنُ السبيل أحقُّ مِن التَّانىء عليه، ذكره أبو عبيد عنه.
وقال أبو هريرة: ابنُ السبيلِ أول شاربٍ.
فأما من حازه فى قِربته أو إنائه، فذاك غيرُ المذكور فى الحديث، وهو بمنزلة سائر المباحات إذا حازها إلى ملكه، ثم أراد بيعَها كالحطب والكلأ والملح، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((لأنَ يَأخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتَى، بحُزْمَةِ حَطَبٍ على ظَهْرِهِ فيبيعها فَيكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهَ خَيْرٌ لَهُ منْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ)) رواه البخارى.
وفى ((الصحيحين)) عن على رضى اللَّه عنه قال: أصبتُ شَارِفَاً مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى مغنم يَوْم بدر، وأعطانى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم شَارِفاً آخر، فأنختُهما يوماً عِند بابِ رجل من الأنصار وأنا أُريدُ أنْ أَحْمِلَ عَليهما إذخراً لأبيعه. وذكر الحديثَ فهذا فى الكلأ والحطب المباح بعد أخذه وإحرازه، وكذلك السمكُ وسائر المباحات، وليس هذا محلَّ النهى بالضرورة ولا محلَّ النهى أيضاً بيعُ مياه الأنهار الكِبار المشتركة بين الناس، فإن هذا لا يُمكن منعُها، والحجرُ عليها، وإنما محل النهى صور، أحدها: المياه المنتقعة مِن الأمطار إذا اجتمعت فى أرض مباحة، فهى مشتركة بينَ الناس، وليس أحد أحقَّ بها مِن أحد إلا بالتقديمِ لقُرب أرضه كما سيأتى إن شاء اللَّه تعالى، فهذا النوعُ لا يَحِلُّ بيعُه ولا منعُه، ومانعُه عاصٍ مستوجبٌ لوعيد اللَّه ومنع فضله إذ منع فضل ما لم تعمل يداه.
فإن قيل: فلو اتخذ فى أرضه المملوكة له حفرةً يجمع فيها الماء، أو حفر بئراً، فهل يملِكُه بذلك، ويحل له بيعُه؟ قيل: لا ريب أنه أحقُّ به مِن غيره، ومتى كان الماءُ النابع فى ملكه، والكلأ والمعدن فوقَ كفايته لشربه وشرب ماشيته ودوابه، لم يجبُ عليه بذلُه، نص عليه أحمد، وهذا لا يدخُلُ تحتَ وعيدِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فإنه إنما توعَّد مَنْ منع فضل الماء، ولا فضلَ فى هذا.
|