وقال عطاء، والنخعى، والثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه: تعتدُّ بثلاثِ حيض، وحُكىَ عَن على، وابن مسعود، قالوا: لأنها لا بد لها مِن عدة، وليست زوجة، فتدخل فى آية الأزواج المتوفَّى عنهن، ولا أمة، فتدخُلُ فى نصوص استبراء الإمَاء بحيضة، فهى أشبه شىء بالمطلقة، فتعتد بثلاثة أقراء.
والصوابُ من هذه الأقوال: أنها تُستَبرأ بحيضة، وهو قولُ عثمان بن عفان، وعائشة، وعبد اللَّه بن عمر، والحسن، والشعبى، والقاسم ابن محمد، وأبى قِلابة، ومكحول، ومالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل فى أشهر الروايات عنه، وهو قول أبى عبيد، وأبى ثور، وابن المنذر، فإن هذا إنما هو لمجرد الاستبراء لزوال الملك عن الرقية، فكان حيضة واحدة فى حق من تحيض، كسائر استبراءات المعتقات، والمملوكات، والمسبيات. وأما حديث عمرو بن العاص، فقال ابن المنذر: ضعف أحمد وأبو عُبيد حديث عمرو بن العاص. وقال محمد بن موسى: سألت أبا عبد اللَّه عن حديث عمرو بن العاص، فقال: لا يصح. وقال الميمونى: رأيت أبا عبد اللَّه يعجَبُ مِن حديث عمرو بن العاص هذا، ثم قال: أين سنةُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشراً إنما هى عدة الحرة من النكاح، وإنما هذه أمة خرجت من الرِّق إلى الحرية، ويلزم من قال بهذا أن يُورثها، وليس لقول من قال: تعتد ثلاثَ حيض وجه، إنما تعتد بذلك المطلقة، انتهى كلامه. وقال المنذرى: فى إسناد حديث عمرو، مطرُ بن طهمان أبو رجاء الوراق، وقد ضعفه غير واحد، وأخبرنا شيخنا أبو الحجاج الحافظ فى كتاب ((التهذيب)) قال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عن مطر الوراق. فقال: كان يحيى بن سعيد يُضعف حديثه عن عطاء، وقال عبد اللَّه ابن أحمد بن حنبل: سألتُ أبى عن مطر الوراق، قال: كان يحيى بن سعيد يُشبه حديث مطر الوراق بابن أبى ليلى فى سوء الحفظ، قال عبد اللَّه: فسألت أبى عنه؟ فقال: ما أقربَه مِن ابن أبى ليلى فى عطاء خاصة، وقال: مطر فى عطاء: ضعيف الحديث، قال عبد اللَّه: قلت ليحيى بن معين: مطر الوراق؟ فقال: ضعيف فى حديث عطاء بن أبى رباح، وقال النسائى: ليس بالقوى. وبعد، فهو ثقة، قال أبو حاتم الرازى: صالح الحديث، وذكره ابن حبان فى كتاب الثقات، واحتج به مسلم، فلا وجه لضعف الحديث به.
وإنما علة الحديث أنه من رواية قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص رضى اللَّه عنه، ولم يسمع منه، قاله الدارقطنى، وله عِلة أخرى، وهى أنه موقوف لم يقل: لا تُلبسوا علينا سنة نبينا. قال الدارقطنى: والصوابُ: لا تُلبِّسوا علينا ديننا. موقوف. وله علة أخرى، وهى اضطرابُ الحديث، واختلافه عن عمرو على ثلاثة أوجه. أحدها: هذا. والثانى: عدة أم الولد عدة الحرة. والثالث: عدتها إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا، فإذا أعتقت، فعدتها ثلاث حيض، والأقاويل الثلاثة عنه ذكرها البيهقى. قال الإمام أحمد: هذا حديث منكر حكاه البيهقى عنه، وقد روى خِلاس، عن على مثل رواية قبيصة عن عمرو، أن عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر، ولكن خِلاس بن عمرو قد تُكُلِّم فى حديثه، فقال أيوب: لا يُروى عنه، فإنه صَحَفى، وكان مغيرة لا يُعْبَأُ بحديثه. وقال أحمد: روايته عن على يقال: إنه كتاب، وقال البيهقى: روايات خِلاس عن على ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، فقال: هى من صحيفة. ومع ذلك فقد روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر فى أم الولد يُتوفى عنها سيدها، قال: تعتد بحيضة. فإن ثبت عن على وعمرو ما رُوى عنهما، فهى مسألة نزاع بين الصحابة، والدليلُ هو الحاكم، وليس مع مَنْ جعلها أربعةَ أشهر وعشراً إلا التعلقُ بعموم المعنى، إذ لم يكن معهم لفظ عام، ولكن شرطُ عموم المعنى تساوى الأفراد فى المعنى الذى ثبت الحكم لأجله، فما لم يُعلم ذلك لا يتحقَّقُ الإِلحاق، والذين ألحقوا أمَّ الولد بالزوجة رأوا أن الشَّبهَ الذى بين أم الولد وبينَ الزوجة أقوى من الشبه الذى بينها وبينَ الأمة من جهة أنها بالموت صارت حرة، فلزمتها العِدة مع حُريتها، بخلاف الأمة، ولأن المعنى الذى جُعِلَتْ له عِدة الزوجة أربعة أشهر وعشراً، موجودٌ فى أمِّ الولد، وهو أدنى الأوقات الذى يُتيقن فيها خلقُ الولد، وهذا لا يفترق الحالُ فيه بَينَ الزوجة وأم الولد والشريعةُ لا تُفرق بين متماثلين، ومنازعوهم يقولون: أمُّ الولد أحكامُها أحكام الإماء، لا أحكامُ الزوجات، ولهذا لم تدخل فى قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُم } [النساء: 12]، وغيرها، فكيف تدخل فى قوله: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُون أَزْواجاً } [البقرة: 240]، قالوا: والعِدة لم تُجعل أربعة أشهر وعشراً لأجل مجرد براءة الرحم، فإنها تجب على من يُتَيَقَّنُ براءة رحمها، وتجب قبل الدخول والخلوة، فهى مِن حريم عقد النكاح وتمامه. وأما استبراء الأمة، فالمقصود منه العلم ببراءة رحمها، وهذا يكفى فيه حيضة، ولهذا لم يُجعل استبراؤها ثلاثَة قروء، كما جعلت عِدة الحرة كذلك تطويلاً لزمان الرجعة، ونظراً للزوج، وهذا المعنى مقصودٌ فى المستبرأة، فلا نصَّ يقتضى إلحاقها بالزوجات ولا معنى، فأولى الأمورِ بها أن يُشرع لها ما شرعه صاحبُ الشرع فى المسبيات والمملوكات، ولا تتعداه، وباللَّه التوفيق.
فصل
الحكم الثانى: أنه لا يحصُل الاستبراءُ بطُهر البتة، بل لا بُدَّ مِن حيضة، وهذا قولُ الجمهور، وهو الصوابُ، وقال أصحابُ مالك، والشافعى فى قول له: يحصلُ بطهر كامل، ومتى طعنت فى الحيضة، تم استبراؤُها بناء على قولهما: إن الأقراء: الأطهار، ولكن يَرُدُّ هذا، قول رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تُوطأ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، ولاَ حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرأَ بِحَيْضَةٍ)). وقال رُويفع بن ثابت: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَطَأْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْى حَتَّى يَسْتَبْرِئها بِحَيضَة)) رواه الإمام أحمد وعنده فيه ثلاثة ألفاظ: هذا أحدها.
الثانى: نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا توطأ الأمة حتى تحيض، وعن الحَبَالى حتى تضعن.
الثالث: ((مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخرِ فَلاَ يَنْكِحَنَّ ثَيِّباً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ)). فعلق الحِلَّ فى ذلك كله بالحيض وحده لا بالطهر، فلا يَجوز إلغاء ما اعتبره، واعتبار ما ألغاه، ولا تعويل على ما خالف نصه، وهو مقتضى القياس المحض، فإن الواجبَ هو الاستبراء، والذى يدل على البراءة هو الحيض، فأما الطهر، فلا دِلالة فيه على البراءة، فلا يجوز أن يُعوَّلَ فى الاستبراء على ما لا دلالة له فيه عليه دون ما يدل عليه، وبناؤُهم هذا على أن الأقراء هى الأطهار، بناء على الخلاف للخلاف، وليس بحجة ولا شبهة، ثم لم يُمكنهم بناء هذا على ذاك حتى خالفوه، فجعلوا الطهر الذى طلقها فيه قرءاً، ولم يجعلوا طهر المستبرأة التى تجدد عليها الملكُ فيه، أو ماتَ سيدها فيه قرءاً، وحتَّى خالفُوا الحديثَ أيضاً كما تبين، وحتى خالفوا المعنى كما بيناه، ولم يُمكنهم هذا البناء إلا بعد هذه الأنواع الثلاثة من المخالفة، وغاية ما قالوا: أن بعضَ الحيضة المقترن بالطهر يدل على البراءة، فيقال لهم: فيكون الاعتماد عليهم حينئذ على بعض الحيضة، وليس ذلك قرءاً عند أحد؟ فإن قالوا: هو اعتماد على بعض حيضة وطهر. قلنا: هذا قول ثالث فى مسمى القروء، ولا يعرف، وهو أن تكون حقيقته مركبةً من حيض وطهر.
فإن قالوا: بل هو اسم للطهر بشرط الحيض. فإذا انتفى الشرط، انتفى المشروط، قلنا: هذا إنما يمكن لو علق الشارع الاستبراء بقرء، فأما مع تصريحه على التعليق بحيضة، فلا.
|