فصل
فإن قيل: فما تقولون فى الثوب إذا صُبغَ غزلُه ثم نسج، هل لها لبسه؟ قيل: فيه وجهان، وهما احتمالات فى المغنى أحدهما يحرم لبسه، لأنه أحسن وأرفع ولأنه مصبوغٌ للحسن، فأشبه ما صُبغَ بعد نسجه، والثانى: لا يحرم لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فى حديث أمِّ سلمة رضي اللَّه عنها: ((إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ))، وهو ما صُبغَ غزلُه قبل نسجه، ذكره القاضى، قال الشيخ: والأول أصح، وأما العَصَب: فالصحيح: أنه نبتٌ تصبغ به الثياب، قال السهيلى: الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به، فرخص النبى صلى الله عليه وسلم للحادَّةِ فى لبس ما يُصبغ بالعَصب، لأنه فى معنى ما يصبغ لغير تحسين، كالأحمر والأصفر، فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغه، كحصولها بما صُبغ بعد نسجه. واللَّه أعلم.
ذِكرُ حكمِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فى الاستبراء
ثبت فى صحيح مسلم: من حديث أبى سعيد الخُدرى رضى اللَّه عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومَ حُنين بعث جيشاً إلى أوطاس، فلقى عدواً، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابُوا سبايا، فكأن ناساً مِن أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تحرَّجوا من غِشيانهن مِن أجلِ أزواجهن من المشركين، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ فى ذلك: {والمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أيْمَانْكُمْ } [النساء: 24]، أى: فَهُنَّ لكُمْ حَلاَلٌ إذا انقضت عدتهن.وفى ((صحيحه)) أيضاً: من حديث أبى الدرداء رضى اللَّه عنه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بامرأةٍ مُجحٍّ عَلَى بابِ فُسطاط، فقال: ((لَعَلَّهُ يُريد أَنْ يُلِمَّ بها)). فقالوا: نعم، فقالَ رَسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْناً يَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ، كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ، كَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ وهُوَ لاَ يَحِلُّ لَهُ)).
وفى الترمذي: من حديث عِرباض بن سارية، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم حرَّم وَطْءَ السَّبايَا حَتَّى يَضَعْنَ مَا فى بُطُونِهِنَّ.
وفى ((المسند))، وسنن أبى داود: من حديث أبى سعيد الخُدري رضى اللَّه عنه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال فى سبايا أَوطاس: ((لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً)).
وفى الترمذى: من حديث رُويفع بن ثابت رضى اللَّه عنه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخر، فَلاَ يَسْقى مَاءَهُ وَلَد غَيْرِه)). قال الترمذى: حديث حسن.
ولأبى داود، من حديثه أيضاً: ((لاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ السَّبْى حَتَّى يَسْتَبْرئَها)).
ولأحمد: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَنْكِحَنَّ ثَيِّباً مِنَ السَّبَايَا حَتَّى تَحِيضَ)). وذكر البخارى فى ((صحيحه)): قال ابن عمر: إذا وُهِبَتِ الوَليدةُ التى تُوطَأ، أو بيعَت، أو عَتقت، فلُتستبرأ بحيضة، ولا تُستبرأ العذراءُ.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن طاووس: أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منادياً فى بعض مغازيه: ((لاَ يَقَعَنَّ رَجُلٌ عَلى حَامِلٍ، وَلاَ حَائِلِ حَتَّى تَحِيضَ)).
وذكر عن سفيان الثورى: عن زكريا، عن الشعبى، قال: أصاب المسلمون سبايا يومَ أوطاس، فأمرهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يقعوا على حامِلٍ حتى تَضَعَ، ولا على غير حامل حتَّى تحيض.
فصل
فتضمنت هذه السنن أحكاماً عديدة:
أحدها: أنه لا يجوز وطءُ المسبية حتى يُعلم براءةُ رحمها، فإن كانت حاملاً فبوضع حملها، وإن كانت حائلاً فبأن تحيضَ حيضة. فإن لم تكن مِن ذوات الحيض فلا نصَّ فيها، واختُلِفَ فيها وفى البِكر، وفى التى يُعلم براءةُ رحمها بأن حاضت عند البائع، ثم باعها عقيبَ الحيض ولم يطأها، ولم يُخرجها عن ملكه، أو كانت عند امرأةٍ وهى مصونة، فانتقلت عنها إلى رجل، فأوجب الشافعىُّ وأبو حنيفة وأحمد الاستبراءَ فى ذلك كله، أخذاً بعموم الأحاديث، واعتباراً بالعِدة حيث تجب مع العلم ببراءة الرحم، واحتجاجاً بآثار الصحابة، كما ذكر عبد الرزاق: حدثنا ابنُ جريج، قال: قال عطاء: تداولَ ثلاثةٌ من التجار جارِيةً، فولَدت، فدعا عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه القافة، فألحقوا ولدها بأحدهم، ثم قال عمر رضى اللَّه عنه: من ابتاع جارية قد بلغت المحيضَ، فليتربَّصنْ بها حتى تحيض، فإن كانت لم تحض فليتربَّصنْ بها خمساً وأربعين ليلة.
قالوا: وقد أوجب اللَّه العدة على من يئست من المحيض، وعلى من لم تبلغ سن المحيض، وجعلها ثلاثة أشهر، والاستبراءُ عدة الأمة، فيجبُ على الآيسة، ومن لم تبلغ سنَ المحيض. وقال آخرون: المقصودُ من الاستبراء العلمُ ببراءة الرحم، فحيث تيقن المالكُ براءة رحم الأمة، فله وطؤُها ولا استبراء عليه، كما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه عنه قال: إذا كانت الأمة عذراءَ لم يستبرئها إن شاء، وذكره البخارى فى ((صحيحه)) عنه.
وذكر حماد بن سلمة، حدثنا على بن زيد، عن أيوب بن عبد اللَّه اللخمى، عن ابن عمر قال: وقعت فى سهمى جاريةٌ يومَ جَلُولاَء، كأنَّ عُنُقَها إبريقُ فِضَّة، قال ابن عمر: فما ملكتُ نفسى أن جعلتُ أقبلها والناسُ ينظرون.
ومذهب مالك إلى هذا يرجع، وهاك قاعدته وفروعها: قال أبو عبد اللَّه المازَرى وقد عقد قاعدة لباب الاستبراء فنذكرها بلفظها.
والقول الجامع فى ذلك: أن كل أَمَةٍ أُمِنَ عليها الحملُ، فلا يلزم فيها الاستبراءُ، وكُلُّ مَنْ غلب على الظن كونها حاملاً، أو شك فى حملها، أو تردد فيه، فالاستبراءُ لازم فيها، وكل من غلَّب الظن ببراءة رحمها، لكنه مع الظن الغالب يجوز حصولُه، فإن المذهب على قولين فى ثبوتِ الاستبراء وسقوطِه.
ثم خرج على ذلك الفروعَ المختلفة فيها، كاستبراءِ الصغيرة التى تُطيق الوطْء، والآيسَة، وفيه روايتان عن مالك، قال صاحب ((الجواهر)): ويجبُ فى الصغيرة إذا كانت ممن قارب سن الحمل، كبنت ثلاث عشرة، أو أربع عشرة، وفى إيجاب الاستبراء إذا كانت ممن تُطيق الوطءَ، ولا يَحْمِلُ مثلها كبنت تسع وعشر، روايتان أثبته فى رواية ابن القاسم، ونفاه فى رواية ابن عبد الحكم، وإن كانت ممن لا يُطبق الوطء، فلا استبراء فيها. قال: ويجب الاستبراء فيمن جاوزت سنَّ الحيض، ولم تبلغ سنَّ الآيسة، مثل ابنة الأربعين والخمسين. وأما التى قعدت عن المحيض، ويئست عنه، فهل يجب فيها الاستبراءُ أو لا يجب؟ روايتان لابن القاسم، وابنِ عبد الحكم. قال المازَرى: ووجهُ الصغيرة التى تُطيق الوطء والآيسة، أنه يُمكن فيهما الحملُ على الندور، أو لِحماية الذريعة، لئلا يدعى فى مواضع الإمكان أن لا إمكان.
قال: ومِن ذلك استبراءُ الأمة خوفاً أن تكون زنت، وهو المعَّبر عنه بالاستبراء لسوء الظن، وفيه قولان، والنفى لأشهب.
قال: ومِن ذلك استبراءُ الأمَةِ الوَخْشِ، فيه قولان، الغالبُ: عَدمُ وطءِ السادات لهن، وإن كان يقع فى النادر.
ومِن ذلك استبراءُ مَنْ باعها مجبوبٌ، أو امرأة، أو ذو محرم، ففى وجوبه روايتان عن مالك.
|