وذكر عبد الرزاق عن سفيان الثورى، عن منصور بن المعتمِر، عن إبراهيم النَّخَعى، عن علقمة، قال: سأل ابنَ مسعود نساء من همدان نُعِىَ إليهن أزواجُهن، فَقُلْنَ: إنا نَستَوحِشُ، فقال ابنُ مسعود: تجتمِعْنَ بالنهارِ، ثم ترجعُ كلُّ امرأة منكن إلى بيتها بالليل.
وذكر الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عَوانة، عن منصور، عن إبراهيم، أن امرأة بعثت إلى أمِّ سلمة أمِّ المؤمنين رضى اللَّه عنها: إن أبى مريض، وأنا فى عِدة، أفآتيه أُمرضه؟ قالت: نعم ولكن بيتى أحدَ طرفى الليل فى بيتك.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا هُشيم، أنبأنا إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، أنه سُئِلَ عن المتوفَّى عنها: أتخرج فى عدتها؟ فقال: كانَ أكثرُ أصحاب ابن مسعود أشدَّ شىء فى ذلك، يقولون: لا تخرُج، وكان الشيخ يعنى على بن أبى طالب رضى اللَّه عنه يُرحلها.
وقال حمَّادُ بنُ سلمة: أخبرنا هِشام بن عُروة، أن أباه قال: المتوفَّى عنها زوجُها تعتدُّ فى بيتها إلا أن ينتوى أهلُها فتنتوى معهم.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا هُشيم، أخبرنا يحيى بن سعيد هو الأنصارى، أن القاسم بن محمد، وسالم بن عبد اللَّه، وسعيد بن المسيِّب قالوا فى المتوفَّى عنها: لا تبَرحُ حتى تنقضى عِدتُها.
وذكر أيضاً عن ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وجابر، كِلاهما قال فى المتوفَّى عنها: لا تخرُجُ.
وذكر وكيع، عن المحسن بن صالح، عن المغيرة، عن إبراهيم فى المتوفَّى عنها: لا بأس أن تخُرجَ بالنهار، ولا تبيتُ عن بيتها.
وذكر حماد بن زيد، عن أيوب السَّختيانى، عن محمد بن سيرين، أن امرأة تُوفى عنها زوجُها وهى مريضة، فنقلها أهلُها، ثم سألوا، فَكُلٌُّهم يأمرهم أن تُرد إلى بيت زوجها، قال ابنُ سيرين: فرددناها فى نَمَطٍ، وهذا قولُ الإمام أحمد. ومالك. والشافعى. وأبى حنيفة رحمهم اللَّه، وأصحابهم، والأوزاعى، وأبى عُبيد، وإسحاق.
قال أبو عُمر بن عبد البر: وبه يَقول جماعةُ فقهاء الأمصار بالحجاز والشام، والعراق، ومصر. وحجة هؤلاء حديث الفُريعة بنت مالك، وقد تلقاه عثمانُ بنُ عفان رضى اللَّه عنه بالقبول، وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار، وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر بالقبول، ولم يُعْلَمْ أن أحداً منهم طعن فيه، ولا فى رواته، وهذا مالك مع تحريه وتشدُّدِهِ فى الرواية. وقوله للسائلِ له عن رجل: أثقة هو؟ فقال: لو كان ثقة لرأيته فى كتبى: قد أدخله فى ((موطئه))، وبنى عليه مذهبَه.
قالوا: ونحن لا نُنكر النزاعَ بين السلف فى المسألة، ولكن السنة تفصِلُ بين المتنازعين. قال أبو عمر بن عبد البر: أما السنة، فثابتة بحمد اللَّه. وأما الإجماع، فمستغنى عنه مع السنة، لأن الإختلاف إذا نزل فى مسألة كانت الحجة فى قول من وافقته السنة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهرى، قال أَخَذَ المترخِّصون فى المتوفِّى عنها بقول عائشة رضى اللَّه عنها، وأخذ أهل العزم والورع بقول ابن عمر.
فإن قيل: فهل ملازمة المنزل حقٌّ عليها، أو حق لها؟ قيل: بل هو حَق عليها إذا تركه لها الورثة، ولم يكن عليها فيه ضررٌ أو كان المسكن لها، فلو حَّولها الوراث، أو طَلَبوا منها الأجرة، لم يلزمها السكن، وجاز لها التحولُ.
ثم اختلف أصحابُ هذا القول: هل لها أن تتحول حيثُ شاءت، أو يلزمُها التحولُ إلى أقرب المساكن إلى مسكن الوفاة؟ على قولين. فإن خافت هدماً أو غَرَقاً، أو عدواً أو نحو ذلك، أو حوّلها صاحبُ المنزل لكونه عارِيَّة رجع فيها، أو بإجارة انقضت مدتُها، أو منعها السكنى تعديًا، أو امتنع من إجارته، أو طلب به أكثر من أجر المثل، أو لم تَجِدْ ما تكترى به، أو لم تجِدْ إلا من مالها، فلها أن تنتقِلَ، لأنها حالُ عذر، ولا يلزمها بذلُ أجر المسكن، وإنما الواجبُ عليها فِعل السُّكنى لا تحصيلُ المسكن، وإذا تعذرت السُّكنى، سقطت، وهذا قول أحمد والشافعى.
فإن قيل: فهل الإسكان حقٌّ على الورثةِ تُقدَّمُ الزوجة به على الغرماء، وعلى الميراث، أم لا حق لها فى التركة سوى الميراث؟ قيل:
هذا موضوع اختلف فيه. فقال الإمام أحمد: إن كانت حائلاً، فلا سُكنى لها فى التركة، ولكن عليها ملازمة المنزل إذا بُذِلَ لها كما تقدم، وإن كانت حاملاً، ففيه روايتان إحداهما أن الحكم كذلك. والثانى: أن لها السُّكنى حق ثابت فى المال، تُقدَّمُ به على الورثة والغرماء، ويكون من رأس المال، لا تُباع الدار فى دينه بيعاً يمنعُها سكناها حتى تنقضي عدتها، وإن تعذر ذلك، فعلى الوارث أن يكترىَ لها سكناً من مال الميت. فإن لم يفعل، أجبره الحاكمُ، وليس لها أن تنتقِلَ عنه إلا لضرورة.
وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه، لم يَجُزْ، لأنه يتعلق بهذه السكنى حقُّ اللَّه تعالى، فلم يجز اتفاقُهما على إبطالها، بخلاف سُكنى النكاح، فإنها حقٌّ للَّه تعالى، لأنها وجبت مِن حقوق العِدة، والعِدة فيها حقٌّ للزوجين. والصحيح المنصوص: أن سكنى الرجعية كذلك، ولا يجوز اتفاقهما على إبطالها، هذا متقضى نص الآية، وهو منصوص أحمد وعنه رواية ثالثة: أن للمتوفَّى عنها السُّكنى بكل حال، حاملاً كانت أو حائلاً، فصار فى مذهبه ثلاثُ روايات: وجوبها للحامل، والحائل، وإسقاطها فى حقهما ووجوبها للحامل دون الحائل، هذا تحصيلُ مذهب أحمد فى سكنى المتوفى عنها.
وأما مذهب مالك، فإيجاب السكنى لها حاملاً كانت أو حائلاً، وإيجابُ السكنى عليها مدة العِدة، قال أبو عمر: فإذا كان المسكن بكراءٍ؟ فقال مالك: هى أحقُّ بسكناه من الورثة والغرماء، وهو مِن رأس مال المتوفَّى، إلا أن يكونَ فيه عقد لزوجها وأراد أهل المسكن إخراجَها. وإذا كان المسكنُ لزوجها، لم يُبع فى دينه حتى تنقضى عدتها، انتهى كلامه.
وقال غيرُه من أصحاب مالك: هى أحقُّ بالسكنى من الورثة والغرماء إذا كان الملك للميت، أو كان قد أدَّى كِراءه، وإن لم يكن قد أدى، ففى ((التهذيب)): لا سُكنى لها فى مال الميت، وإن كان موسِراً. وَرَوَى محمد، عن مالك: الكراء لازم للميت فى ماله، ولا تكون الزوجةُ أحقَّ به، وتُحاصُّ الورثة فى السكنى، وللورثة إخراجُها إلا أن تُحِبَّ أن تسكن فى حصتها، وتؤدى كِراء حصتهم.
وأما مذهب الشافعى: فإن له فى سكنى المتوفى عنها قولين، أحدُهما: لها السُّكنى حاملاً كانت أو حائلاً. والثانى: لا سُكنى لها حاملاً كانت أو حائلاً، ويجب عنده ملازمتُها للمسكن فى العِدة بائناً كانت أو متوفى عنها، وملازمة البائن للمنزل عنده آكدُ مِن ملازمة المتوفىَّ عنها، فإنه يجوز للمتوفَّى عنها الخروجُ نهاراً لقضاء حوائجها، ولا يجوزُ ذلك فى البائن فى أحد قوليه وهو القديمُ، ولا يُوجبه فى الرجعية بل يستحبه.
وأما أحمد، فعنده ملازمةُ المتوفَّى عنها آكدُ مِن الرجعية، ولا يُوجبه فى البائن. وأورد أصحاب الشافعى رحمه اللَّه على نصه بوجوب ملازمة المنزل على المتوفَّى عنها مع نصه فى أحد القولين، على أنه لا سكنى لها سؤالاً وقالوا: كيف يجتمع النَّصَّان، وأجابوا بجوابين. أحدهما: أنه لا تجِبُ عليها ملازمةُ المسكن على ذلك القول، لكن لو ألزم الوارثُ أجرة المسكن، وجبت عليها الملازمةُ حينئذ، وأطلق أكثرُ أصحابه الجواب هكذا.
والثانى: أن ملازمة المنزل واجبة عليها ما لم يكن عليها فيه ضرر بأن تُطالب بالأجرة، أو يُخرجها الوارث، أو المالك، فتسقط حينئذ. وأما أصحاب أبى حنيفة، فقالوا: لا يجوزُ للمطلقة الرجعية، ولا للبائن الخروجُ مِن بيتها ليلاً ولا نهاراً، وأما المتوفى عنها، فتخرج نهاراً وبعض الليل، ولكن لا تبيتُ فى منزلها، قالوا: والفرقُ أن المطلقة نفقتُها فى مال زوجها. فلا يجوز لها الخروجُ كالزوجة، بخلاف المتوفى عنها، فإنها لا نَفَقَةَ لها، فلا بد أن تخْرُجَ بالنهار لإصلاح حالها، قالوا: وعليها أن تعتد فى المنزل الذى يُضاف إليها بالسكنى حالَ وقوع الفرقة، قالوا: فإن كان نصيبُها مِن دار الميت لا يكفيها، أو أخرجها الورثةُ من نصيبهم، انتقلت، لأن هذا عذر، والكونُ فى بيتها عبادة، والعبادةُ تسقط بالعذر قالوا: فإن عجزت عن كراء البيت الذى هى فيه لكثرته، فلها أن تنتقِلَ إلى بيت أقلَّ كراء منه، وهذا مِن كلامهم يدل على أن أجرة السكن عليها، وإنما يَسقط السكن عنها لعِجزها عن أجرته، ولهذا صرَّحوا بأنها تسكن فى نصيبها من التركة إن كفاها، وهذا لأنه لا سُكنى عندهم للمتوفى عنها حاملاً كانت أو حائلاً، وإنما عليها أن تلزم مسكنها الذى توفِّى زوجُها، وهى فيه ليلاً لا نهاراً، فإن بذله لها الورثةُ وإلاّ كانت الأجرة عليها، فهذا تحريرُ مذاهب الناس فى هذه المسألة، ومأخذُ الخلاف فيها وباللَّه التوفيق. ولقد أصاب فريعَة بنتَ مالك فى هذا الحديث نظيرُ ما أصاب فاطمة بنت قيس فى حديثها، فقال بعضُ المنازعين فى هذه المسألة: لا ندعُ كتابَ ربنا لقول امرأة، فإن اللَّه سبحانه إنما أمرها بالاعتداد أربعة أشهر وعشراً، ولم يأمرها بالمنزل. وقد أنكرت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها وجوبَ المنزل، وأفتت المتوفَّى عنها بالاعتداد حيث شاءت كما أنكرت حديثَ فاطمة بنت قيس، وأوجبت السكنى للمطلقة.
|