وفرق آخر: وهو أنك إذا أتيت باللام، لم يكن الزمانُ المذكورُ بعدَه إلا ماضياً أو منتظراً، ومتى أتيت بفى لم يكن الزمان المجرور بها إلا مقارناً للفعل، وإذا تقرَّر هذا مِن قواعد العربية، فقولُه تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، معناه: لاستقبال عدتهن لا فيها، وإذا كانت العدة التى يُطلق لها النساء مستقبلةً بعد الطلاق، فالمستقبَلُ بعدها إنما هو الحيضُ، فإن الطاهر لا تستَقْبِلُ الطهر إذ هى فيه، وإنما تستقبلُ الحيضَ بعد حالها التى هى فيها، هذا المعروفُ لغةً وعقلاً وعُرفاً، فإنه لا يُقال لمن هو فى عافية: هو مستقبل العافية، ولا لمن هو فى أمن: هو مستقبل الأمن، ولا لمن هو فى قبض مغله وإحرازه: هو مستقبل المغل، وإنما المعهودُ لغة وعُرفاً أن يستقبلَ الشىءَ منْ هو على حال ضِدْ، وهذا أظهرُ من أن نُكثَر شواهده.
فإن قيل: فيلزم من هذا أن يكون من طلق فى الحيض مطلقاً للعِدة عند مَنْ يقول: الأقراء الأطهار، لأنها تستقبلُ طهرها بعد حالها التى هى فيها، قلنا: نعم يلزمهم ذلك، فإنه لو كان أول العدة التى تُطلق لها المرأة هو الطهر، لكان إذا طلقها فى أثناء الحيض مطلقاً للعدة، لأنها تستقبِلُ الطهرَ بعد ذلك الطلاق.
فإن قيل: ((اللام)) بمعنى ((فى))، والمعنى: فطلقوهن فى عدتهن، وهذا إنما يُمكن إذا طلقها فى الطهر، بخلاف ما إذا طلقها فى الحيض قيل: الجوابُ من وجهين.
أحدهما: أن الأصل عدمُ الاشتراك فى الحروف، والأصل إفراد كل حرف بمعناه فدعوى خلافِ ذلك مردودة بالأصل.
الثانى: أنه يلزم منه أن يكون بعض العِدة ظرفاً لزمن الطلاق، فيكون الطلاق واقعاً فى نفس العِدة ضرورة صحة الظرفية، كما إذا قلت: فعلته فى يوم الخميس بل الغالب فى الاستعمال مِن هذا، أن يكون بعضُ الظرف سابقاً على الفعل، ولا ريبَ فى امتناع هذا، فإن العِدة تتعقب الطلاق ولا تُقارنه، ولا تتقدم عليه.
قالوا: ولو سلمنا أن ((اللام)) بمعنى ((فى))، وساعد على ذلك قراءةُ ابن عمر رضى اللَّه عنه وغيره: ((فطلقوهن فى قُبُلِ عدتهن))، فإنه لا يلزمُ مِن ذلك أن يكون القَرء: هو الطهر، فإن القَرء حينئذ يكون هو الحيضَ، وهو المعدودُ والمحسوب، وما قَبله من الطهر يدخل فى حكمه تبعاً وضمناً لوجهين.
أحدهما: أن من ضرورة الحيض أن يتقدَّمه طهر، فإذا قيل: تربَّصى ثلاث حيض، وهى فى أثناء الطهر كان ذلك الطهر من مدة التربص، كما لو قيل لرجل: أقم ههنا ثلاثة أيام، وهو أثناء ليلة، فإنه يدخُل بقية تلك الليلة فى اليوم الذى يليها، كما تدخل ليلة اليومين الآخرين فى يوميهما. ولو قيل له فى النهار: أقم ثلاث ليال، دخل تمامُ ذلك النهار تبعاً لليلة التى تليه.
الثانى: أن الحيض إنما يتم بإجتماع الدم فى الرحم قبله، فكان الطهر مقدمةً وسبباً لوجود الحيض، فإذا علق الحكم بالحيض، فَمِنْ لوازمه ما لا يُوجد الحيض إلا بوجوده، وبهذا يظهرُ أن هذا أبلغُ مِن الأيام والليالى، فإن الليلَ والنهار متلازمان، وليس أحدهما سبباً لوجود الآخر، وههنا الطهرُ سببٌ لاجتماع الدم فى الرحم، فقولُه سبحانه وتعالى: {لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أى: لاستقبال العدة التى تتربصها، وهى تتربص ثلاث حيض بالأطهار التى قبلها. فإذا طلقت فى أثناء الطهر، فقد طلقت فى الوقت الذى تستقبل فيه العدة المحسوبة، وتلك العِدة هى الحيض بما قبلها من الأطهار، بخلاف ما لو طلقت فى أثناء حيضة، فإنها لم تطلق لِعدة تحسبها، لأن بقية ذلك الحيض ليس هو العِدة التى تعتد بها المرأة أصلاً ولا تبعاً لأصل، وإنما تسمى عِدة لأنها تُحبس فيها عن الأزواج، إذا عرف هذا، فقوله: {ونَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، يجوز أن تكون اللامُ لامَ التعليل، أى: لأجل يومِ القيامة. وقد قيل: إن القِسط منصوب على أنه مفعول له، أى: نضعها لأجل القسط، وقد استوفى شروطَ نصبه، وأما قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، فليست اللام بمعنى ((فى)) قطعاً، بل قيل: إنها لام التعليل، أى: لأجل دلوك الشمس، وقيل: إنها بمعنى بعد، فإنه ليس المرادُ إقامتهَا وقتَ الدلوك سواء فسر بالزوال أو الغروب، وإنما يُؤمر بالصلاة بعده، ويستحيلُ حمل آية العدة على ذلك، وهكذا يستحيلُ حملُ آية العِدة عليه، إذ يصيرُ المعنى: فَطَلِّقُوهُنَّ بَعْدَ عِدَّتِهِنَّ. فلم يبق إلا أن يكون المعنى: فطلقوهن لاستقبال عِدتهن، ومعلوم أنها إذا طلقت طاهراً استقبلت العدةَ بالحيض. ولو كانت الأقراء الأطهار، لكانت السنة أن تطلق حائضاً لتستقبل العدة بالأطهار، فبيَّن النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن العدة التى أمر اللَّه أن تطلق لها النساء هى أن تطلَّق طاهراً لتستقبل عدتها بعد الطلاق.
فإن قيل: فإذا جعلنا الأقراء: الأطهار، استقبلت عدتها بعد الطلاق بلا فصل، ومن جعلها الحيضَ لم تستقبلها على قوله حتى ينقضى الطُّهرُ.
قيل: كلام الرب تبارك وتعالى لا بد أن يُحمل على فائدة مستقلة، وحملُ الآية على معنى: فطلقوهن طلاقاً تكون العدةُ بعده لا فائدة فيه، وهذا بخلاف ما إذا كان المعنى: فطلقوهن طلاقاً يستقبلن فيه العدة لا يستقِبْلنَ فيه طهراً لا تعتد به، فإنها إذا طُلقت حائضاً استقبلت طهراً لا تعتد به، فلم تُطلق لاستقبال العدة، ويُوضحه قراءة من قرأ: فَطَلِّقُوهُنَّ فى قُبُل عِدَّتِهِنَّ. وقُبُلُ العدة: هو الوقت الذى يكون بين يدى العدة تستقبل به، كقبل الحائض، يوضحه أنه لو أُريد ما ذكروه، لقيل: فى أوَّلِ عدتهن، فالفرق بَيِّنٌ بينَ قُبُلِ الشىء وأوله.
وأما قولكم: لو كانت القروء هى الحِيض، لكان قد طلقها قَبْلَ العِدة. قلنا: أجل، وهذا هو الواجبُ عقلاً وشرعاً، فإن العِدة لا تُفارق الطلاقَ ولا تَسبِقُهُ، بل يجبُ تأخرها عنه.
قولكم: وكان ذلك تطويلاً عليها، كما لو طلَّقها فى الحيض، قيل: هذا مبنى على أن العِلة فى تحريمِ طلاق الحائض خشية التطويل عليها، وكثيرٌ من الفقهاء لا يرضون هذا التعليلَ، ويفسدونه بأَنها لو رضيت بالطلاق فيه، واختارت التطويلَ، لم يُبح له، ولو كان ذلك لأجل التطويل، لم تبح له برضاها، كما يُباح إسقاطُ الرجعة الذى هو حقُّ المطلِّق بتراضيهما بإسقاطها بالعِوض اتفاقاً، وبدونه فى أحد القولين، وهذا هو مذهبُ أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد ومالك، ويقولون: إنما حرم طلاقُها فى الحيض، لأنه طلقها فى وقت رغبة عنها، ولو سلمنا أن التحريم لأجل التطويل عليها، فالتطويلُ المضر أن يُطلقها حائضاً، فتنتظرَ مضى الحيضة والطهر الذى يليها، ثم تأخُذ فى العدة، فلا تكون مستقبلةً لِعدتها بالطلاق وأما إذا طلقت طاهراً، فإنها تستقبِلُ العِدة عقيب انقضاء الطهر، فلا يتحقق التطويلُ.
وقولكم: إن القَرء مشتق من الجمع، وإنما يُجمع الحيض فى زمن الطهر. عنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أن هذا ممنوع، والذى هو مشتق من الجمع إنما هو مِن باب الياء مِن المعتل، من قرى يقرى، كقضى يقضى، والقَرء من المهموز من بنات الهمز، مِن قرأ يقرأ، كنحر يَنحر، وهما أصلان مختلفان فإنهم يقولون: قريتُ الماء فى الحوض أقريه، أى: جمعتُه، ومنه سميت القرية، ومنه قرية النمل: للبيت الذى تجتمع فيه، لأنه يقربها، أى: يضمُّها ويجمعُها. وأما المهموزُ، فإنه من الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد، ومنه قراءة القرآن، لأن قارئه يُظهره ويُخرجه مقداراً محدوداً لا يزيدُ ولا ينقُصُ، ويدل عليه قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْآنَه} [القيامة: 17]، ففرق بين الجمع والقُرْآنِ. ولو كانا واحداً، لكان تكريراً محضاً، ولهذا قال ابن عباس رضى اللَّه عنهما: {فإذَا قَرأْنَاهُ فاتَّبع قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، فإذا بيناه، فجعل قراءته نفس إظهاره وبيانه، لا كما زعم أبو عُبيدة أن القرآن مشتق من الجمع. ومنه قولهم: ما قرأت هذه الناقةُ سَلَى قَطُّ، وما قرأت جنيناً هو من هذا الباب، أى ما ولدته وأخرجته وأظهرته، ومنه: فلان يَقرؤك السلام، ويقرأ عليك السلام، هو من الظهور والبيان، ومنه قولهم: قرأت المرأة حيضة أو حيضتين، أى: حاضتهما، لأن الحيض ظهورُ ما كان كامناً، كظهور الجنين، ومنه: قروء الثريا، وقروء الريح: وهو الوقت الذى يظهر المطر والريح، فإنهما يظهران فى وقت مخصوص، وقد ذكر هذا الاشتقاق المصنفون فى كتب الاشتقاق، وذكره أبو عمرو وغيره، ولا ريب أن هذا المعْنَى فى الحيض أظهرُ منه فى الطهر.
قولكم: إن عائشة رضى اللَّه عنها قالت: القُروء: الأطهار، والنساء أعلم بهذا من الرجال.
فالجواب أن يُقال: مَنْ جَعَلَ النساء أعلمَ بمراد اللَّه من كتابه، وأفهَم لمعناه مِن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعبد اللَّه بن مسعود وأبى الدرداء رضى اللَّه عنهم، وأكابر أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟، فنزولُ ذلك فى شأنهن لا يدل على أنهن أعلمُ به من الرجال، وإلا كانت كُلُّ آية نزلت فى النِّساءِ تكونُ النساءُ أعلَم بها من الرجال، ويجبُ على الرجال تقليدُهن فى معناها وحكمها فيكنَّ أعلَم مِن الرجال بآيةِ الرضاع، وآيةِ الحيض، وتحريمِ وطء الحائض، وآية عِدة المتوفى عنها، وآيةِ الحمل والفِصال ومدتهما، وآيةِ تحريم إبداء الزينة إلا لمن ذكر فيها، وغير ذلك من الآيات التى تتعلق بهن، وفى شأنهن نزلت، ويجبُ على الرجال تقليدُهن فى حكم هذه الآيات ومعناها، وهذا لا سبيل إليه البتة. وكيف ومدار العلم بالوحى على الفهم والمعرفة، ووفور العقل والرجال أحقُّ بهذا من النساء، وأوفر نصيباً منه، بل لا يكاد يختِلفُ الرجالُ والنساء فى مسألة إلا والصوابُ فى جانب الرجال، وكيف يُقال: إذا اختلفت عائشة، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعبد اللَّه بن مسعود فى مسألة: إن الأخذ بقول عائشة رضى اللَّه عنها أولى، وهل الأولى إلا قولٌ فيه خليفتان راشدان؟ وإن كان الصديق معهما كما حُكى عنه، فذلك القولُ مما لا يعدوه الصوابُ البتة، فإن النقل عن عمر وعلى ثابت، وأما عن الصديق، ففيه غرابة، ويكفينا قولُ جماعة من الصحابة فيهم مثلُ: عمر، وعلى، وابن مسعود، وأبى الدرداء، وأبى موسى، فكيف نقدم قول أُمِّ المؤمنين وفهمها على أمثال هؤلاء؟
ثم يقال: فهذه عائشة رضى اللَّه عنها ترى رضاعَ الكبير يَنْشُرُ الحُرمة، ويُثبت المحرمية، ومعها جماعة من الصحابة رضى اللَّه عنهم، وقد خالفها غيرُها من الصحابة، وهى روت حديثَ التحريم به، فهلاَّ قلتم: النساءُ أعلم بهذا من الرجال، ورجحتم قولَها على قول من خالفها؟
|