وقالت طائفة: الأقراء: الأطهار، وهذا قولُ عائشة أم المؤمنين وزيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن عمر.
ويُروى عن الفقهاء السبعة، وأبان بن عثمان والزهرى، وعامة فقهاء المدينة، وبه قال مالك، والشافعى، وأحمد فى إحدى الروايتين عنه.
وعلى هذا القول، فمتى طلقها فى أثناءِ طهر، فهل تحتسب ببقيته قرءاً؟ على ثلاثة أقوال.
أحدها: تحتسب به، وهو المشهورُ.
والثانى: لا تحتسِبُ به، وهو قولُ الزهرى. كما لا تحتسِبُ ببقية الحيضة عند مَنْ يقول: القرء: الحيض اتفاقاً.
والثالث: إن كان قد جامعها فى ذلك الطهر، لم تحتسِب ببقيته، وإلا احتسبت، وهذا قولُ أبى عبيد. فإذا طعنت فى الحيضة الثالثة أو الرابعة على قول الزهرى، انقضت عدتها. وعلى قول الأول، لا تنقضى العدة حتى تنقضى الحيضةُ الثالثة.
وهَلْ يقِفُ انقضاء عدتها على اغتسالها منها؟ على ثلاثة أقوال. أحدها: لا تنقضى عدتها حتى تغتسل، وهذا هو المشهُورُ عن أكابرِ الصحابة، قال الإمام أحمد: وعمر، وعلى، وابن مسعود يقولون: له رجعتُها قبل أن تغتسِلَ مِن الحيضة الثالثة، انتهى. ورُوى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبى موسى، وعبادة، وأبى الدرداء، ومعاذ بن جبل رضى اللَّه عنهم، كما فى مصنف وكيع، عن عيسى الخياط، عن الشعبى، عن ثلاثة عشر من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم الخيَّر فالخيَّر، منهم: أبو بكر، وعمر، وابن عباس: أنه أحقُّ بها ما لم تغتسِلْ مِن الحيضة الثالثة.
وفى ((مصنفه)) أيضاً، عن محمد بن راشد، عن مكحول، عن معاذ ابن جبل وأبى الدرداء مثلُه.
وفى مصنف عبد الرزاق: عن معمر، عن زيد بن رفيع، عن أبى عُبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود، قال: أرسل عثمان إلى أبىِّ بن كعب فى ذلك، فقال أبى بن كعب: أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من حَيضتها الثالثة، وتحل لها الصلاةُ، قال: فما أعلم عثمان إلا أخذ بذلك.
وفى ((مصنفه)) أيضاً: عن عمر بن راشد، عن يحيى بن أبى كثير، أن عُبادة ابن الصامت قال: لا تبينُ حتى تغتسِلَ من الحَيْضَة الثالثة، وتَحِلُّ لها الصلاة.
فهولاء بضعة عشر من الصحابة، وهو قولُ سعيد بن المسيب، وسفيان الثورى وإسحاق بن راهوية. قال شريك: له الرجعة وإن فرَّطت فى الغسل عشرينَ سنة، وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه اللَّه.
والثانى: أنها تنقضى بمجرد طهرها من الحيضة الثالثة، ولا تَقِفُ على الغسل، وهذا قولُ سعيد بن جبير والأوزاعى، والشافعى فى قوله القديم حيث كان يقول: الأقراء: الحيض، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد اختارها أبو الخطاب.
والثالث: أنها فى عدتها بعد انقطاع الدم، ولِزوجها رجعتها حتى يمضى عليها وقتُ الصلاة التى طهرت فى وقتها، وهذا قولُ الثورى، والرواية الثالثة عن أحمد: حكاها أبو بكر عنه، وهو قولُ أبى حنيفة رحمه اللَّه، لكن إذا انقطع الدم لأقلِّ الحيض، وإن انقطع الدم لأكثره، إنقضتِ العدة عنها بمجردِ انقطاعه.
وأما من قال: إنها الأطهار، اختلفوا فى موضعين، أحدهما: هل يشترط كون الطهر مسبوقاً بدم قبله، أو لا يُشترط ذلك؟ على قولين لهم، وهما وجهان فى مذهب الشافعى وأحمد. أحدهما: يُحتسب، لأنه طهر بعده حيض فكان قرءاً، كما لو كان قبله حيض. والثانى: لا يُحتسب، وهو ظاهر نص الشافعى فى الجديد، لأنها لا تُسمى من ذوات الأقراء إلا إذا رأت الدم.
الموضع الثانى: هل تنقضى العدة بالطعن فى الحيضة الثالثة أو لا تنقضى حتى تحيضَ يوماً وليلةً؟ على وجهين لأصحاب أحمد، وهما قولان منصوصان للشافعى، ولأصحابه وجه ثالث: إن حاضت للعادة، انقضت العِدةُ بالطعن فى الحيضة. وإن حاضت لِغير العادة، بأن كانت عادتها ترى الدم فى عاشر الشهر، فرأته فى أوله، لم تنقضِ حتى يمضَى عليها يوم وليلة. ثم اختلفوا: هل يكون هذا الدم محسوباً من العدة؟ على وجهين، تظهرُ فائدتهما فى رجعتها فى وقته، فهذا تقرير مذاهب الناس فى الأقراء.
قال من نص: إنها الحيض: الدليل عليه وجوه.
أحدها: أن قولَه تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُروُء} [البقرة: 228]، إما أن يراد به الأطهار فقط، أو الحيض فقط، أو مجموعُهما. والثالث: محال إجماعاً، حتى عند من يَحمِلُ اللفظ المشترك على معنييه. وإذا تعيَّن حمله على أحدهما، فالحيض أولى به لوجوه.
أحدها: أنها لو كانت الأطهار فالمعتدة بها يكفيها قَرآنِ، ولحظةُ من الثالث، وإطلاق الثلاثة على هذا مجاز بعيد لنصية الثلاثة فى العدد المخصوص.
فإن قلتم: بعض الطهر المطلق فيه عندنا قرء كامل، قيل: جوابه مِن ثلاثة أوجه.
أحدها: أن هذا مختلف فيه كما تقدم، فلم تُجمع الأمة على أن بعض القَرء قرء قطُّ، فدعوى هذا يفتقِرُ إلى دليل.
الثانى: أن هذا دعوى مذهبية، أوجب حملَ الآية عليها إلزامُ كون الأقراء الأطهار، والدعاوى المذهبية لا يُفسَّرُ بها القرآن، وتُحمل عليها اللغة، ولا يُعقل فى اللغة قطُّ أن اللحظة من الطُّهر تُسمى قرءاً كاملاً، ولا اجتمعت الأمة على ذلك، فدعواه لا تثبت نقلاً ولا إجماعاً، وإنما هو مجرد الحمل، ولا ريب أن الحمل شىء، والوضع شىء آخر، وإنما يُفيد ثبوتُ الوضع لغة أو شرعاً أو عرفاً.
الثالث: أن القرء إما أن يكون اسماً لمجموع الطهر، كما يكون اسماً لمجموع الحيضة أو لبعضه، أو مشتركاً بين الأمرين اشتراكاً لفظيًّا، أو اشتراكاً معنويًّا، والأقسام الثلاثة باطلةٌ فتعيَّن الأول، أما بطلانُ وضعه لبعض الطهر، فلأنه يلزمُ أن يكون الطهرُ الواحِدُ عدَّةَ أقراء، ويكون استعمالُ لفظ ((القرء)) فيه مجازاً. وأما بطلانُ الاشتراك المعنوى، فمن وجهين، أحدهما: أنه يلزم أن يصْدُق على الطهر الواحد أنه عِدة أقراء حقيقة. والثانى: أن نظيرَهَ وهو الحيض لا يُسمى جزؤه قرءاً اتفاقاً، ووضع القرء لهما لغة لا يختلِفُ، وهذا لاخفاء به.
فإن قيل: تختار من هذه الأقسام أن يكون مشتركاً بين كُلِّه وجزُئه اشتراكاً لفظيًّا، ويُحمل المشترك على معنييه، فإنه أحفظُ، وبه تحصل البراءة بيقين. قيل: الجوابُ من وجهين. أحدهما: أنه لا يَصِحُّ اشتراكه كما تقدم. الثانى: أنه لو صح اشتراكه، لم يجز حملُه على مجموع معنييه.
أما على قول من لا يُجوِّزُ حمل المشترك على معنييه، فظاهر، وأما من يُجوِّز حمله عَليهما، فإنما يُجوزونه إذا دل الدليل على إرادتهما معاً. فإذا لم يدل الدليل وقفوه حتى يقوم الدليل على إرادة أحدهما، أو إرادتهما، وحكى المتأخرون عن الشافعى، والقاضى أبى بكر، أنه إذا تجرَّد عن القرائن، وجب حملُه على معنييه، كالاسم العام لأنه أحوط، إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر، ولا سبيل إلى معنى ثالث، وتعطيلُهُ غير ممكن، ويمتنِعُ تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة. فإذا جاء وقتُ العمل، ولم يتبيَّنْ أن أحدَهما هو المقصود بعينه، عُلِمَ أن الحقيقة غيرُ مرادة، إذ لو أريدت لبيّنت، فتعيَّن المجازُ، وهو مجموع المعنيين، ومن يقول: إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول: لما لم يتبين أن المرادَ أحدهما علم أنه أراد كليهما.
|