فصل
وأما قصة بنت حمزة، واختصام علي، وزيد، وجعفر رضي اللّه عنهم فيها، وحكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بها لجعفر، فإنّ هذه الحكومَة كانت عَقِيبَ فراغهم من عُمرة القضاء، فإنهم لما خرجُوا مِن مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم، فأخذ علي بيدها، ثم تنازع فيها هو وجعفرٌ وزيدٌ، وذكر كُلّ واحد من الثلاثة ترجيحاً، فذكر زيد أنها ابنة أخيه للمؤاخاة التي عقدها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بينَه وبينَ حمزة، وذكر علي كونها ابنةَ عمّه، وذكر جعفر مرجِّحين: القرابة، وكونَ خالتها عنده، فتكون غد خالتها، فاعتبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مرجِّحَ جعفر دون مرجِّح الآخرين، فحكم له، وجبر كلَّ وَاحد منهم وطيَّب قلبَه بما هو أحبُّ إليه من أخذ البنت.
فأما مرجح المؤاخاة، فليس بمقتض للحضانة، ولكنَّ زيداً كان وصي حمزة، وكان الإِخاء حينئذ يثبُتُ به التوارثُ، فظن زيدٌ أنه أحقُّ بها لذلك.
وأمَّا مرجِّحُ القرابة هاهنا وهي بنوة العم، فهل يُستحق بها الحضانة؟ على قولين. أحدهما: يُستحق بها وهو منصوص الشافعي، وقول مالك، وأحمد، وغيرهم، لأنه عصبة، وله وِلاية بالقرابة، فقدم على الأجانب، كما يُقدَّمُ عليهم في الميراث، وولاية النكاح، وولاية الموت، ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُنكر على جعفر وعلي ادِّعاءَهما حضانتها، ولو لم يكن لهما ذلك، لأنكر عليهما الدعوى الباطلة، فإنها دعوى ما ليس لهما، وهو لا يُقِرُّ على، باطل. والقول الثاني: أنه لا حضانة لأحد من الرجال سوى الآباء والأجداد، هذا قولُ بعضِ أصحابِ الشافعي، وهو مخالف لنصه، وللدليل. فعلى قول الجمهور- وهو الصواب- إذا كان الطفل أنثى، وكان ابنُ العم محرماً لها برضاع أو نحوه، كان له حضانتُها وإن جاوزت السبعَ، وإن لم يكن محرماً، فله حضانتها صغيرةً حتى تبلُغ سبعاً، فلا يبقى له حضانتُها، بل تُسَلَّم إلى محرمها، أو امرأة ثقة. وقال أبو البركات في ((محرره)): لا حضانة له ما لم يكن محرماً برضاع أو نحوه.
فإن قيل: فالحكمُ بالحضانة مِن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة، هل وقع للخالة؟ أو لجعفر؟
قيل: هذا مما اختُلِفَ فيهِ على قولين، منشؤهما اختلافُ ألفاظ الحديث في ذلك، ففي ((صحيح البخاري))، من حديث البراء: فقض بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم لخالتها.
وعن أبي داود: من حديث رافع بن عجير، عن أبيه، عن علي في هذه القصة ((وأما الجاريةُ، فأقضي بها لجعفر، تكونُ مع خالتها، وإنما الخالةُ أم)) ثم ساقه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى وقال: قضى بها لجعفر، لأن خالتها عنده، ثم ساقه من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانىء بن هانىء، وهبيرة بن يَريم، وقال: ((فقضى بها النبيُّ لخالتها، وقال الخَالَةُ بمَنْزِلَةِ ا لأُمِّ))
واستشكل كثير من الفقهاء هذا وهذا، فإن القضاءَ إن كان لجعفر، فليس محرما لها، وهو وعلي في القرابة منها سواء، وإن كان للخالة، فهي مزوجه، والحاضنة إذا تزوَّجت، سقطت حضانتُها.
ولما ضاق هذا على ابن حزم، في القصة بجميع طرقها، وقال: أما حديثُ البخاري، فمن رواية إسرائيل، هو ضعيف، وأما حديث هانىءِ وهبيرة، فمجهولان، وأما حديث ابن أبي ليلى، فمرسل، وأبو فروة الراوي عنه هو مسلم بن سالم الجهني ليس بالمعروف، وأما حديث نافع ابن عجير، فهو وأبوه مجهولان، ولا حُجة في مجهول، قال: إلا أن هذا الخبرَ بكل وجه حجة على الحنفية والمالكية والشافعية، لأن خالتها كانت مزوَّجة بجعفر، وهو أجملُ شاب في قريش، وليس هو ذا رحم محرم مِن بنت حمزة. قال: ونحن لا نُنكرُ قضاءَه بها لجعفر مِن أجل خالتها، لأن ذلك أحفظُ لها.
قلت: وهذا من تهورِهِ رحمه اللّه، وإقدامِه على تضعيف ما اتفقت الناس على صحته، فخالفهم وحده، فإن هذِه القصةَ شهرتُها في الصحاح، والسنن، والمسانيد، والسير، والتواريخ تغني عن إسنادها، فكيف وقد اتفق عليها صاحب الصحيح، ولم يحفظ عن أحد قبله الطعنُ فيها ألبتة، وقوله: إسرائيل ضعيف، فالذي غره في ذلك تضعيفُ علي بن المديني له، ولكن أبى ذلك سائرُ أهلِ الحديث، واحتجوا به، ووثَّقوه وثبتوه. قال أحمد: ثقة وتعجَّب مِن حفظه، وقال أبو حاتم. وهو من أتقن أصحاب أبي إسحاق ولا سيما وقد روى هذا الحديثَ عن أبي إسحاق، وكان يحفظ حديثَه كما يحفظ السورة من القرآن. وروى له الجماعة كلهم محتجين به.وأما قوله: إن هانئاً وهبيرة مجهولان، فنعم مجهولان عنده، معروفان عند أهل السنن، وثَّقهما الحفاظ، فقال النسائي. هانىء بن هانىء ليس به بأس، وهُبيرة روى له أهل السنن الأربعة، وقد وثق.
وأما قوله: حديث ابن أبي ليلى، وأبو فروة الراوي عنه مسلم بن مسلم الجهني ليس بالمعروف، فالتعليلان باطلان، فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى روى عن علي غير حديث، وعن عمر، ومعاذ رضي اللّه عنهما. والذي غر أبا محمد أن أبا داود قال: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا سفيان عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى بهذا الخبر، وظن أبو محمد، أن عبد الرحمن لم يذكر علياً في الرواية، فرماه بالإِرسال، وذلك من وهمه، فإن ابن أبي ليلى روى القصة عن علي، فاختصرها أبو داود، وذكر مكان الاحتجاج، وأحال على العلم المشهور برواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، وهذه القصة قد رواها علي، وسمعها منه أصحابه: هانىء بن هانىء، وهُبيرة بن يَرِيم، وعجير بن عبد يزيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، فذكر أبو داود حديثَ الثلاثة الأولين لسياقهم لها بتمامها، وأشار إلى حديثِ ابن أبي ليلى، لأنه لم يتمه، وذكر السند منه إليه، فبطل الإِرسال، ثم رأيتُ أبا بكر الإِسماعيلي قد روى هذا الحديث في مسند علي مصرحاً فيه بالاتصال، فقال: أخبرنا الهيثم بن خلف، حدثنا عثمانُ بنُ سعيد المقري، حدثنا يوسفُ بن عدي، حدثنا سفيانُ، عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، أنه اختصم هو وجعفر وزيد، وذكر الحديث.
وأما قوله: إن أبا فروة ليس بالمعروف، فقد عرفه سفيانُ بن عيينة وغيره، وخرجا له في ((الصحيحين)).
وأما رميه نافع بن عجير وأباه بالجهالة: فنعم، ولا يُعرف حالهما، وليسا مِن المشهورين بنقل العلم، وإن كان نافع أشهرَ مِن أبيه لرواية ثقتين عنه: محمد بن إبراهيم التميمي، وعبد الله بن علي، فليس الاعتمادُ على روايتهما، وباللّه التوفيق، فثبتت صحة الحديث.
وأما الجواب عن استشكال من استشكله، فنقول وباللّه التوفيق: لا إشكال،سواء كان القضاء لجعفر أو للخالة، فإن ابنة العم إذا لم يكن لها قرابة سوى ابن عمها، جاز أن تجعل مع امرأته في بيته، بل يتعيّن ذلك وهو أولى من الأجنبي لا سيما إن كان ابنُ العم مبرزاً في الديانة، والعِفة، والصِّيانة، فإنه في هذه الحال أولى من الأجانب بلا ريب.
فإن قيل: فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان ابنَ عمها، وكان محرماً لها، لأن حمزة كان أخاه مِن الرضاعة، فهلا أَخَذَهَا هو؟
قيل رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم كان في شُغل شاغل بأعباء الرسالة، وتبليغ الوحي، والدعوة إلى اللّه، وجهادِ أعداء اللّه عن فراغه للحضانة، فلو أخذها، لدفعها إلى بعض نسائه، فخالتُها أمسُّ بها رحماً وأقربُ.
|