فصل
وقوله ((أنتِ أحق به ما لم تَنكحي))، قيل: فيه إضمارٌ تقديره: ما لم تنكحي، ويدخلْ بك الزوج، ويحكم الحاكم بسقوط الحضانة. وهذا تعسف بعيد لا يُشعرُ به اللفظ، ولا يدل عليه بوجه، ولا هو من دلالة الاقتضاء التي تتوقف صحةُ المعنى عليها، والدخولُ داخل في قوله((تنكحي))، عند من اعتبره، فهو كقوله((حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهً))، ومن لم يعتبره، فالمراد بالنكاح عنده العقد.
وأما حكمُ الحاكم بسقوط الحضانة، فذاك إنما يحتاجُ إليه عند التنازع والخصومة بين المتنازعين، فيكون منفذاً لِحكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أوقفَ سقوطَ الحضانة على حكمه، بل قد حكم هو بسقوطها، حَكَمَ به الحُكَّام بعده أو لم يحكمُوا. والذي دل عليه هذا الحكمُ النبوي، أن الأمَّ أحقُّ بالطفل ما لم يُوجد منها النكاحُ، فإذا نكحت، زال ذلك الاستحقاقُ، وانتقل الحقُّ إلى غيرها. فأما إذا طلبه من له الحق، وجب على خصمه أن يبذله له، فإن امتنع، أجبره الحاكمُ عليه، وإن أسقط حقَّه، أو لم يطالب به، بقي على ما كان عليه أولاً، فهذه قاعدة عامة مستفادَة من غير هذا الحديث.
فصل
وقد احتج من لا يرى التخييرَ بين الأبوين بظاهر هذا الحديثِ، ووجهُ الاستدلال أنه قال ((أنت أحق به))، ولو خُيِّرَ الطفل لم تكن هي أحقَّ به إلا إذا اختارها، كما أن الأبَ لا يكون أحقَّ به إلا إذا اختاره، فإن قدر: أنت أحقّ به إن اختارك، قُدِّرَ ذلكَ في جانب الأب، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جعلها أحقَّ به مطلقاً عند المنازعة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك. ونحن نذكر هذه المسألة:ومذاهب الناس فيها، والاحتجاج لأقوالهم، ونرجح ما وافق حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
ذكر قول أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه.
ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: طلق عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه امرأته، فذكر الأثرَ المتقدم، وقال فيه: ريحُها وفراشُها خير له منك حتى يَشِبَّ ويختار لنفسه، فحكم به لأمِّه حين لم يكن له تمييزٌ إلى أن يَشبَّ ويُميز ويخير حينئذ.
ذكر قول عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
قال الشافعي:حدثنا ابن عيينة، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عُبيد الله بن أبي المهاجر، عن عبد الرحمن بن غَنم، أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.خَيَّرَ غلاماً بين أبيه وأمه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج،عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال:خيرَ عمر رضي اللّه عنه غلاماً ما بينَ أبيه وأمه، فاختار أمّه، فانطلقت به.
وذكر عبد الرزاق أيضاً:عن معمر، عن أيوب، عن إسماعيل بن عبيد اللّه، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: اختُصمَ إلى عمرَ بنِ الخطاب في غلام، فقال: هو مع أمه حتى يُعْرِبَ عنه لِسانُه ليختار.وذكر سعيد بن منصور عن هشيم، عن خالد، عن الوليد بن مسلم، قال: اختصموا إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في يتيم فخيَّره، فاختار أمه على عمه، فقال عمر: إنَّ لُطْفَ أمك خيرٌ مِن خِصب عمِّكَ.
ذكر قول علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: أنبأنا ابن عيينة، عن يونس بن عبد اللّه الجَرْمي، عن عمارة الجرمي، قال:خيرني علي بين أمي وعَمّي، ثم قال لأخ لي أصغر مني: وهذا أيضاً لو بلغ مبلغ هذا لخيرتُه.
قال الشافعي رحمه اللّه.قال إبراهيم:عن يونس عن عمارة عن علي مثله قاله في الحديث: وكنتُ ابن سبع سنين، أو ثمانِ سنين.
قال يحيى القطان: حدثنا يونس بنُ عبدِ اللّه الجرمي، حدثني عُمارة ابن رويبة، أنه تخاصمَتْ فيه أمُّه وعمُّه إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، قال: فخيرني علي ثلاثاً، كُلَّهُنَّ أختارُ أمي، ومعي أخٌ لي صغير، فقال علي: هذا إذا بلغ مبلغ هذا خُيِّر.
ذكر قول أبي هريرة رضي اللّه عنه
قال أبو خيثمة زهير بن حرب: حدثنا سفيانُ بنُ عيينة، عن زياد بن سعد، عن هِلال بن أبي ميمونة قال: شهدت أبا هريرة خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه، وقال:إنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ غُلاماً بينَ أبيه وأمه.
فهذا ما ظفرت به عن الصحابة.وأما الأئمة، فقال حرب بن إسماعيل: سألت إسحاق بن راهويه، إلى متى يكون الصبيُّ والصبية مع الأم إذا طلِّقت؟ قال أحَبُّ إليَّ أن يكونَ مع الأم إلى سبع سنين، ثم يُخيَّر. قلت له: أترى التخيير؟ قال شديداً.قلت: فأقلّ مِن سبع سنين لا يُخير؟ قال: قد قال بعضهم: إلى خمس، وأنا أحَبُّ إليَّ سبع.
وأما مذهب الإِمام أحمد، فإما أن يكونَ الطفلُ ذكراً أو أنثى، فإن كان ذكراً، فإما أن يكونَ ابنَ سبع أو دونَها، فإن كان له دون السبع، فأمُّه أحقُّ بحضانته من غير تخيير، وإن كان له سبعٌ، ففيه ثلاث روايات.
إحداها- وهي الصحيحة المشهورة من مذهبه- أنه يخير، وهي اختيار أصحابِه، فإن لم يختر واحداً منهما، أقرع بينهما، وكانَ لمن قرع، وإذا اختار أحدَهما، ثم عاد فاختار الآخر، نقل إليه، وهكذا أبداً.
والثانية: أن الأبَ أحقُّ بهِ مِن غير تخيير.
والثالثة: أن الأم أحق به كما قبل السبع. وأما إذا كان أنثى، فإن كان لها دونَ سبع سنين، فأمّها أحقُّ بها من غير تخيير، وإن بلغت سبعاً، فالمشهورُ من مذهبه، أن الأمّ أحقُّ بها إلى تسع سنين، فإذا بلغت تسعاً، فالأبُ أحقُّ بها من غير تخيير.
وعنه رواية رابعة: أن الأمّ أحقٌ بها حتى تبلغ، ولو تزوجت الأم.
وعنه رواية خامسة: أنها تخير بعد السبع كالغلام، نصَّ عليها، وأكثر أصحابه إنما حكوا ذلك وجهاً في المذهب، هذا تلخيصُ مذهبه وتحريرُه.
وقال الشافعي: الأمُّ أحقُ بالطفل ذكراً كان أو أنثى إلى أن يبلُغا سبع سنين، فإذا بلغا سبعاً وهما يعقِلان عقل مثلهما، خيِّرَ كُلّ منهما بينَ أبيه وأمه، وكان مع من اختار.
وقال مالك وأبو حنيفة لا تخيير بحال، ثم اختلفا فقال أبو حنيفة، الأمّ أحق بالجارية حتى تبلغ، وبالغلام حتى يأكل وحده، ويشربَ وحدَه، ويلبسَ وحده، ثم يكونان عند الأب، ومن سوى الأبوين أحقُّ بهما حتى يستغنيا، ولا يُعتبر البلوغ، وقال مالك: الأمُّ أحقُ بالولد ذكراً كان أو أنثى حتى يثَّغِر،هذه رواية ابن وهب، وروى ابنُ القاسم: حتى يَبْلُغَ، ولا يُخيَّرُ بحال.
وقال الليثُ بن سعد: الأمُّ أحقُّ بالابن حتى يَبْلُغَ ثمان سنين، وبالبنت حتى تبلغ، ثم الأبُ أحقُّ بهما بعد ذلك.
|