فصل
الحكم الخامس: أنها لا نفقةَ لها عليه ولا سكنى، كما قضى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهذا موافق لحكمه فى المبتوتة التى لا رجعةَ لزوجها عليها، كما سيأتى بيانُ حكمه فى ذلك، وأنه موافقٌ لكتاب الله، لا مخالف له، بل سقوطُ النفقة والسكنى للملاعنة أولى مِن سقوطها للمبتوتة، لأن المبتوتَة له سبيلُ إلى أن ينكِحهَا فى عِدتها، وهذهِ لا سبيل له إلى نكاحها لا فى العدة ولا بعدَها، فلا وجه أصلاً لوجوب نفقتها وسُكناها، وقد انقطعت العصمةُ انقطاعاً كلياً.
فأقضيتُه صلى الله عليه وسلم يُوافِقُ بعضُها بعضاً، وكلها تُوافق كتابَ الله والميزانَ الذى أنزل ليقومَ الناسُ بالقسط، وهو القياسُ الصحيحُ، كما ستقر عينُك إن شاء الله تعالى بالوقوف عليه عن قريب
وقال مالك، والشافعي: لها السكنى. وأنكر القاضى إسماعيل بن إسحاق هذا القول إنكاراً شديداً.
وقوله: ((من أحل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها)) لا يدل مفهومه على أن كل مطلقة، ومتوفى عنها لها النفقةُ والسكنى، وإنما يدل على أن هاتين الفُرقتين قد يجبُ معهما نفقة وسكنى، وذلك إذا كانت المرأة حاملاً، فلها ذلك فى فرقة الطلاق اتفاقاً، وفى فرقة الموت ثلاثة أقوال، أحدها: أنه لا نفقة لها ولا سكنى، كما لو كانت حائلاً، وهذا مذهبُ أبى حنيفة وأحمد فى إحدى روايتيه، والشافعى فى أحد قوله، لزوال سبب النفقة بالموت على وجه لا يُرجى عودهُ، فلم يبق إلا نفقةُ قريب، فهى فى مال الطفل إن كان له مال، وإلا فعلى من تلزمه نفقته من أقاربه.
والثانى: أن لها النفقة والسكنى فى تركته تُقدم بها على الميراث، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، لأن انقطاع العصمة بالموت لا يزيد على انقطاعها بالطلاق البائن، بل انقطاعها بالطلاق أشد، ولهذا تغسلُ المرأةُ زوجَها بعد موته عند جمهور العلماء حتى المطلقة الرجعية عند أحمد ومالك فى إحدى الروايتين عنه، فإذا وجبت النفقةُ والسُّكنى للبائن الحامل، فوجوبُها للمتوفى عنها زوجها أولى وأحرى.
والثالث: أن لها السكنى دون النفقة حاملاً كانت أو حائلاً، وهذا قولُ مالك وأحدُ قولى الشافعى إجراء لها مجرى المبتوتة فى الصحة، وليس هذا موضعَ بسطِ هذه المسائل وذكر أدلتها، والتمييز بين راجحها ومرجوحها إذ المقصود أن قوله: ((من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها)) إنما يدل على أن المطلقة والمتوفى عنها قد يجب لهما القوتُ والبيتُ فى الجملة، فهذا إن كان هذا الكلام مِن كلام الصحابى، والظاهر واللَّه أعلم أنهُ مُدْرَجٌ مِن قول الزهرى.
فصل
الحكم السادس: انقطاعُ نسب الولد من جهة الأب، لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى ألا يدعى ولدُها لأب، وهذا هو الحقُّ، وهو قولُ الجمهور، وهو أجلُّ فوائد اللعان، وشذ بعضُ أهل العلم، وقال: المولود للفراش لا ينفيه اللعانُ البتة، لأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد لِلفراش، وإنما ينفى اللعانُ الحمل، فإن لم يُلاعنها حتى ولدت، لاعن لإسقاط الحد فقط، ولا ينتفى ولدُها منه، وهذا مذهبُ أبى محمد بن حزم، واحتج عليه بأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد لصاحب الفراش، قال: فصح أن كل مَنْ وُلِدَ على فراشه ولد، فهو ولدُه إلا حيثُ نفاه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس ولده، ولم ينفه صلى الله عليه وسلم إلا وهى حامل باللعان فقط، فبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب، قال: ولذلك قلنا: إن صدقته فى أن الحمل ليس منه، فإن تصديقها له لا يُلتفت إليه لأن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَكْسِب كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] فوجب أن إقرار الأبوين يصدُق على نفى الولد، فيكون كسباً على غيرهما، وإنما نفى اللَّهُ الولدَ إذا أكذبته الأمُّ، والتعنت هى والزوج فقط، فلا ينتفى فى غير هذا الموضع، انتهى كلامه.
وهذا ضد مذهبِ من يقول: إنه لا يصح اللعان على الحمل حتى تضع، كما يقول أحمد وأبو حنيفة، والصحيح: صحتُه على الحمل، وعلى الولد بعد وضعه، كما قاله مالك والشافعى، فالأقوال ثلاثة.
ولا تنافى بين هذا الحكم وبين الحكم بكون الولد للفراش بوجه ما، فإن الفراش قد زال باللعان، وإنما حكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأن الولدَ للفراش عند تعارض الفراش، ودعوى الزانى، فأبطل دعوى الزانى للولد وحكم به لصاحب الفراش، وهاهنا صاحبُ الفراش قد نفى الولَد عنه.
فإن قيل: فما تقولون: لو لاعن لمجرد نفى الولد مع قيام الفراش، فقال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولدُ ولدى؟
قيل: فى ذلك قولان للشافعى، وهما روايتان منصوصتان عن أحمد.
إحداهما: أنه لا لِعان بينهما، ويلزمه الولدُ، وهى اختيار الخرقى.
والثانية: أن له أن يُلاعِنَ لنفى الولد، فينتفى عنه بلعانه وحده، وهى اختيارُ أبى البركات ابن تيمية، وهى الصحيحة.
فإن قيل: فخالفتم حكمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن الولد للفراش)) قلنا: معاذ الله، بل وافقنا أحكامَه حيث وقع غيرُنا فى خلاف بعضها تأويلاً، فإنه إنما حكم بالولد للفراش حيث ادعاه صاحبُ الفراش، فرجح دعواه بالفراش، وجعله له، وحكم بنفيه عن صاحب الفراش حيث نفاه عن نفسه، وقطع نسبه منه، وقضى ألاَّ يُدعى لأب، فوافقنا الحكمين، وقلنا بالأمرين، ولم نفرق تفريقاً بارداً جداً سمجاً لا أثر لَهُ فى نفى الولد حملاً ونفيه مولوداً، فإن الشريعة لا تأتى على هذا الفرق الصُّورى الذى لا معنى تحته البتة، وإنما يرتضى هذا مَنْ قَلَّ نصيبه مِن ذوق الفقه وأسرارِ الشريعةِ وحِكمِهَا ومعانِيها، واللَّه المستعان، وبه التوفيق.
(يتبع...)
@ فصل
الحكم السابع: إلحاقُ الولد بأمِّه عند انقطاع نسبه مِن جهة أبيه، وهذا الإلحاق يُفيد حكماً زائداً على إلحاقه بها مع ثبوت نسبه من الأب، وإلا كان عديمَ الفائدة فإن خروجَ الولدِ منها أمر محقق، فلابد فى الإلحاق من أمر زائد عليه، وعلى ما كان حاصلاً مع ثبوتِ النسب من الأب، وقد اختُلفَ فى ذلك.
فقالت طائفة: أفادَ هذا الإلحاق قطعَ توهمِ انقطاعِ نسبِ الولد من الأم، كما انقطعَ مِن الأب، وأنه لا يُنسب إلى أمِّ، ولا إلى أبٍ، فقطع النبىُّ صلى الله عليه وسلم هذا الوَهم وألحق بالأم، وأكَّدَ هذا بإِيجابه الحدَّ على من قذفه أو قذفَ أمه، وهذا قول الشافعى ومالك، وأبى حنيفة، وكُل من لا يرى أن أمه وعصباتها له.
وقالت طائفة ثانية: بل أفادنا هذا الإلحاق فائدةً زائدة، وهى تحويلُ النسب الذى كان إلى أبيه إلى أمه، وجعل أمَّه قائمةً مقام أبيه فى ذلك، فهى عصبتُه وعصباتُها أيضاً عصبته، فإذا مات، حازَت ميراثَهُ، وهذا قولُ ابن مسعود، ويُروى عن على، وهذا القولُ هو الصواب، لما روى أهل السنن الأربعة، من حديث واثلة بن الأسقع، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تَحُوزُ المَرْأَةُ ثَلاثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقها، ولَقِيطَها، وَوَلَدَها الَّذى لاَعَنَتْ عَلَيْهِ))، ورواه الإمام أحمد وذهب إليه.
|