فصل
وقولُ ابن عباس: ففرَّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضي ألاَّ يُدعى ولدها لأب، ولا تُرمى، ومن رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضى أن لا بيتَ لها عليه ولا قوت، ومن أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها.
وقولُ سهل: فكان ابنُها يُدعى إلى أمه، ثم جرت السنةُ أنه يرثها وترِث منه ما فرض الله لها.
وقوله: مضت السنة فى المتلاعنين أن يُفرَّقَ بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً.
وقال الزهرى، عن سهل بن سعد: فرَّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقال: لا يجتمعان أبداً.
وقول الزوج: يا رسولَ الله، مالى؟ قال: ((لا مال لك، إن كُنْتَ صَدَقْتَ عليها، فهو بما استحللتَ مِن فرجها، وإن كنتَ كذبتَ عليها، فهو أبعدُ لك منها)).
فتضمنت هذه الجملةُ عشرةَ أحكام:
الحكم الأول: التفريقُ بين المتلاعنين، وفى ذلك خمسة مذاهب.
أحدها: أن الفرقةَ تحصلُ بمجرد القذفِ، هذا قولُ أبى عبيد، والجمهورُ خالفوه فى ذلك، ثم اختلفوا.
فقال جابر بن زيد، وعثمان البَتِّى، ومحمد بن أبى صُفرة، وطائفة من فُقهاء البصرة: لا يقع باللعان فرقةٌ البتة، وقال ابن أبى صفرة: اللعانُ لا يَقْطَعُ العِصمة، واحتجوا بأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يُنكِر عليه الطلاقَ بعد اللعانِ، بل هو أنشأ طلاقَها، ونزَّه نفسه أن يُمْسِكَ من قد اعترف بأنها زنت، أو أن يقومَ عليه دليل كذب بإمساكها، فجعل النبىُّ صلى الله عليه وسلم فِعلَه سنة، ونازع هؤلاء جمهور العلماء، وقالوا: اللعانُ يُوجِبُ الفرقة، ثم اختلفوا على ثلاثة مذاهب.
أحدها: أنها تقع بمجرد لِعان الزوج وحدَه، وإن لم تلتعِن المرأة، وهذا القولُ مما تفرَّد به الشافعى، واحتج له بأنها فُرقة حاصلة بالقول، فحصلت بقول الزوج وحدَه كالطلاق.
المذهب الثانى: أنها لا تحصلُ إلا بلعانهما جميعاً، فإذا تَمَّ لِعانهما، وقعت الفرقةُ، ولا يعتبر تفريقُ الحاكم، وهذا مذهبُ أحمد فى إحدى الروايتين عنه اختارها أبو بكر، وقولُ مالك وأهلِ الظاهر، واحتج لهذا القول بأن الشرعَ إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده، وإنما فرَّق النبىُّ صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمامِ اللعان منهما، فالقولُ بوقوع الفرقِة قبلَه مخالفٌ لمدلولِ السنة وفعل النبى صلى الله عليه وسلم، واحتجُّوا بأن لفظ اللعان لا يقتضى فُرقة، فإنه إما أيمان على زناها، وإما شهادة به، وكلاهما لا يقتضى فُرقة، وإنما ورد الشرع بالتفريق بينهما بعد تمامِ لعانهما لِمصلحة ظاهرة، وهى أن اللَّهَ سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة، وجعل كلاً منهما سكناً للآخر، وقد زال هذا بالقذف، وأقامها مقام الخزى والعار والفضيحة، فإنه إن كان كاذباً فقد فضحها وبهتها، ورماها بالداء العُضال، ونكَّسَ رأسها ورؤوس قومها، وهتكها على رؤوس الأشهاد. وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه، وعرَّضته للفضيحة والخزى والعار بكونه زوجَ بغى، وتعليق ولد غيره عليه، فلا يحصلُ بعد هذا بينهما مِن المودة والرحمة والسكن ما هو مطلوبٌ بالنكاح، فكان مِن محاسن شريعة الإسلام التفريقُ بينهما، والتحريمُ المؤبد على ما سنذكره، ولا يترتب هذا على بعض اللعان كما لا يترتَّبُ على بعض لعان الزوج. قالوا: ولأنه فسخ ثبت بأيمان متحالفين، فلم يثبت بأيمان أحدهما، كالفسخ لتخالف المتبايعين عند الاختلاف.
المذهب الثالث: أن الفرقةَ لا تحصُل إلا بتمام لعانهما، وتفريق الحاكم، وهذا مذهبُ أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهى ظاهر كلام الخِرقى، فإنه قال: ومتى تلاعنا، وفرق الحاكمُ بينهما، لم يجتمعا أبداً. واحتج أصحابُ هذا القولِ بقول ابن عباس فى حديثه: ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما. وهذا يقتضى أن الفُرقة لم تتَحصُلْ قبله، واحتجوا بأن عويمراً قال: كذبتُ عليها يا رسول الله، إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمُرَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا حجةٌ مِن وجهين، أحدهما: أنه يقتضى إمكان إمساكها. والثانى: وقوع الطلاق، ولو حصلت الفرقةُ باللعان وحده، لما ثبت واحدٌ مِن الأمرين، وفى حديث سهل بن سعد: أنه طلقها ثلاثاً، فأنفذه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود.
قال الموقعون للفُرقة بتمام اللعان بدون تفريق الحاكم: اللعان معنىً يقتضى التحريمَ المؤبَّد، كما سنذكره، فلم يقف على تفريق الحاكم كالرضاع، قالوا: ولأن الفُرقة لو وقعت على تفريقِ الحاكم، لساغ تركُ التفريق إذا كرهه الزوجان، كالتفريق بالعيب والإعسار، قالوا: وقولُه: فرَّق النبى صلى الله عليه وسلم، يحتمل أموراً ثلاثة. أحدها: إنشاء الفرقة. والثانى: الإعلامُ بها. والثالث: إلزامُه بموجبها من الفرقة الحسية.
وأما قوله: كذبت عليها إن أمسكتها، فهذا لا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعاً، بل هو بادر إلى فراقها، وإن كان الأمر صائراً إلى ما بادر إليه، وأما طلاقُه ثلاثةً، فما زاد الفُرقة الواقعة إلا تأكيداً، فإنها حرمت عليه تحريماً مؤبَّداً، فالطلاقُ تأكيد لهذا التحريم، وكأنه قال: لا تَحِلُّ لى بعد هذا وأما إنفاذُ الطلاقِ عليه، فتقريرٌ لموجبه من التحريم، فإنها إذا لم تَحِل له باللعان أبداً، كان الطلاقُ الثلاث تأكيداً للتحريم الواقع باللعان، فهذا معنى إنفاذه، فلما لم ينكره عليه، وأَقرَّه على التكلم به وعلى موجبه، جعل هذا إنفاذاً من النبىِّ صلى الله عليه وسلم وسهل لم يحكِ لفظَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: وقع طلاقُك، وإنما شاهد القِصَّة، وعدمَ إنكار النبى صلى الله عليه وسلم للطلاق، فظن ذلك تنفيذاً، وهو صحيح بما ذكرنا من الاعتبار، واللَّه أعلم.
فصل
الحكم الثانى: أن فرقة اللعان فسخ، وليست بطلاقٍ، وإلى هذا ذهب الشافعىُّ وأحمد، ومن قال بقولهما، واحتجوا بأنها فرقةٌ تُوجب تحريماً مؤبَّداً، فكانت فسخاً كفُرقة الرضاع، واحتجوا بأن اللعان ليس صريحاً فى الطلاق، ولا نوى الزوجُ به الطلاَق، فلا يقع به الطلاقُ، قالوا: ولو كان اللعان صريحاً فى الطلاق، أو كناية فيه، لوقع بمجرد لعان الزوج، ولم يتوقف على لِعان المرأة، قالوا: ولأنه لو كان طلاقاً، فهو طلاق من مدخول بها بغير عوض لم ينو به الثلاث، فكأن يكون رجعياً. قالوا: ولأنَّ الطلاقَ بيد الزوج، إن شاء طلقَ، وإن شاء أمسكَ، وهذا الفسخُ حاصِل بالشرع وبغير اختياره، قالوا: وإذا ثبت بالسنة وأقوالِ الصحابة، ودلالةِ القرآن، أن فرقة الخُلع ليست بطلاقٍ، بل هى فسخ مع كونها بتراضيهما، فكيف تكونُ فرقةُ اللعانِ طلاقاً؟.
|