وفى ((الصحيحين)) عنه، قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم للمتُلاعنين: ((حِسَابُكُما عَلى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا))، قال: يا رسولَ اللَّهِ، مالى؟ قال: لاَ مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِن فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا)).
وفى لفظ لهما: فرَّق رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ، وقال: واللَّهِ إِن أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تائِبٌ))؟.
وفيهما عنه: أن رجلاً لاعَنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ففرَّقَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وألحق الولد بأمِّه.
وفى صحيح مسلم: من حديث ابن مسعود رضى الله عنه فى قِصةِ المتلاعنين، فشهد الرجلُ أربعَ شهادات باللَّه إنَّهُ لَمِنَ الصادقين، ثم لعن الخامسةَ أنَّ لعنةَ اللَّهِ عليه إن كانَ مِنَ الكَاذِبينَ، فذهبتْ لتلعنَ، فقال لها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَهْ)) فَأَبَتْ، فَلَعَنَتْ، فلما أدبرا، قال: لَعَلَّهَا أَنْ تَجِىءَ بهِ أَسْوَدَ جَعْدَاً))، فجاءتْ بهِ أسْوَدَ جَعْداً.
وفى ((صحيح مسلم)) من حديث أنس بن مالك، أن هِلالَ بن أمية قذف امرأته بِشَرِيك بْنِ سَحْمَاء، وكان أخا البرَاءِ بنِ مالك لأمِّه، وكان أوَّلَ رجلٍ لاعن فى الإسلام، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَبْصِرُوهَا فإنْ جَاءتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبطاً قضىءَ العَيْنَيْنِ، فَهُوَ لهلال بْن أُمَيَّة، وَإنْ جَاءتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْداً حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابن سَحْمَاء، قال: فأُنبئتُ أَنها جاءت به أكحلَ جعداً حَمْش السَّاقين.
وفى ((الصحيحين)): من حديث ابن عباس نحوُ هذه القصة، فقال له، رجل: أهى المرأةُ التى قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ رَجَمْتُ أَحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هذِهِ))، فقال ابنُ عباس: لا، تِلْكَ امرأَة كانت تُظْهِرُ فى الإسْلامِ السُّوءَ.
ولأبى داود فى هذا الحديث عن ابن عباس: ففرَّق رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُما وقضى أن لا يُدعى ولدُها لأب، ولا تُرمى، ولا يُرمى ولدُها ومَنْ رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدُّ، وقضَى ألاَّ بَيْتَ لها عليه، ولا قوت من أجل أنهما يتفرَّقان مِن غير طلاق، ولا متوفى عنها. وفى القصة قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يُدعى لأب.
وذكر البخارى: أن هلالَ بن أمية قذف امرأتهُ عند رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بشريكِ بن سَحْمَاء، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فى ظَهْرِكَ))، فقال: يا رسولَ اللَّهِ: إذا رأى أحدُنا على امرأتِه رجلاً ينطلِقُ يلتمِسُ البينة؟ فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((البَيِّنَةُ وإلاَّ حَدٌّ فى ظَهْرِكَ))، فقال: والذى بعثك بالحق إنى لصَادِق، وليُنْزِلَنَّ اللَّهُ ما يُبرِّىءُ ظَهْرِى مِن الحَدِّ، فنزلَ جبريلُ عليه السلام، وأنزل عليه:{والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم الآية} [النور: 6]، فانصرفَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم إليها، فجاء هِلال، فشهِدَ والنبىُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائبٌ))؟ فَشَهِدَت، فلما كانت عند الخامِسة وقَّفُوهَا، وقالوا: إنها مُوجِبَة، قال ابنُ عباس رضى الله عنهما: فتلكَّأَت ونَكَصَتْ حتَّى ظَننَّا أنها تَرْجعُ، ثم قالت: لا أَفْضحُ قَوْمِى سَائِرَ اليومِ، فَمَضَتْ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَبْصِرُوهَا فَإنْ جَاءتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّج السَّاقَيْن، فَهُوَ لَشَرِيكِ بن سَحْمَاء، فجاءت به كذلكَ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ((لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ الله كَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ)).
وفى ((الصحيحين)): أن سعدَ بنَ عُبادة، قال: يا رسولَ اللَّهِ، أرأيتَ الرَّجُلَ يَجِدُ مع امرأتِهِ رجلاً أيقتلُه؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا))، فقال سَعْدٌ: بلَى والَّذِى بعثك بالحقِّ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((اسْمَعُوا إلى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُم)): وفى لفظٍ آخَرَ: يا رسولَ اللَّهِ، إن وجدتُ مع امرأتى رجلاً أُمْهِلُه حتى آتىَ بأربعة شهداء؟ قال: ((نعم)). وفى لفظ آخر: لو وجَدْتُ مع أَهْلى رجلاً لم أهجْهُ حَتَّى آتىَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((نعم))، قال: كلاَّ والَّذِى بَعَثَكَ بالحَقِّ نَبياًّ إِنْ كُنْتُ لأُعاجلُهُ بالسَّيْفِ قَبْلِ ذلِكَ، قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((اسْمَعوا إلى ما يقُولُ سَيِّدُكُم إِنَّه لَغَيُورٌ وأَنَا أغْيَرُ مِنْهُ، واللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى)).
وفى لَفْظٍ: ((لو رأيتُ مَعَ امرأتى رجلاً لضربتُه بالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، واللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى، ومِنْ أَجْلِ ذلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ، ولا شَخْصَ أَغٌيَرُ مِنَ اللَّه، ولا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بَعَثَ اللَّهُ المُرْسَلِينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذَرِينَ، ولا شخص أحَبُّ إلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ)).
فصل
المستفاد من حديث سعد بن عبادة
واستُفيدَ من هذا الحكم النبوىِّ عدَةُ أحكام.
الحكم الأول: أن اللعانَ يَصِحُّ من كل زوجين سواءً كانا مسلمين أو كافريْنِ، عدلين فاسقْينِ محدودين فى قذف، أو غير محدودين، أو أحدهما كذلك، قال الإمام أحمد فى رواية إسحاق بن منصور: جميعُ الأزواج يلتعِنُونَ، الحُر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، والعبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة، والمسلم من اليهودية والنصرانية، وهذا قول مالك وإسحاق وقولُ سعيد بن المسيب، والحسن، وربيعة، وسليمان بن يسار.
وذهب أهلُ الرأى، والأوزاعى، والثورى، وجماعة إلى أن اللِّعان لا يكون إلا بينَ زوجينِ مسلمين عدلين حرين غير محدودين فى قذف، وهو روايةٌ عن أحمد.
ومأخذ القولين: أن اللعان يجمع وصفين، اليمينَ والشهادةَ، وقد سماه الله سبحانه شهادةً، وسماه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يميناً حيث يقول: ((لَوْلاَ الأيمَانُ، لَكَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ))، فمن غلَّب عليه حُكم الأيمان قال: يَصِحُّ مِن كل من يصح يمينه: قالوا: ولعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ } [النور: 6] قالوا: وقد سمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يميناً. قالوا: ولأنه مفتقِر إلى اسم الله، وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه. قالوا: ولأنه يستوى فيه الذكرُ والأنثى، بخلاف الشهادة. قالوا: ولو كان شهادة، لما تكرَّر لفظُه، بخلاف اليمين، فإنه قد يشرع فيها التكرار، كأيمان القسامة. قالوا: ولأن حاجة الزوج التى لا تَصِحُّ منه الشهادة إلى اللعان ونفى الولد، كحاجة من تصِحُّ شهادته سواء، والأمر الذى ينزل به مما يدعو إلى اللعان، كالذى ينزلُ بالعدل الحر، والشريعة لا ترفع ضررَ أحدِ النوعين، وتجعلُ له فرجاً ومخرجاً مما نزل به، وتدعُ النوع الآخر فى الآصار والأغلال، لا فرج له مما نزل به، ولا مخزج، بل يستغيثُ فلا يُغاث، ويستجيرُ فلا يُجار، إن تكلَّمَ تكلَّم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثله، قد ضاقت عنه الرحمةُ التى وسعت من تَصِحُّ شهادته، وهذا تأباه الشريعةُ الواسعة الحنيفية السمحةُ.
قال الآخرون: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُم فَشَهَادَةُ أَحَدِهمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]، وفى الآية دليل من ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه سبحانه استثنى أنفسَهم مِن الشهادة، وهذا استثناءُ متَّصِلٌ قطعاً، ولهذا جاء مرفوعاً.
والثانى: أنه صرح بأن التعانَهم شهادة، ثم زاد سبحانه هذا بياناً، فقال: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبينَ} [النور: 8].
والثالث: أنه جعله بدلاً من الشهود، وقائماً مقامَهم عند عدمهم.
قالوا: وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لاَ لِعَانَ بَيْنَ مَمْلُوكَيْنِ وَلاَ كَافِرَيْنِ))، ذكره أبو عمر بن عبد البر فى ((التمهيد)).
وذكر الدارقطنى من حديثه أيضاً، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: ((أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ: لَيْسَ بَيْنَ الحُرِّ والأمةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الحُرَّةِ والعَبْدِ لِعَانٌ، ولَيْسَ بَيْنَ المُسْلِم وَاليَهُودِيَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ المُسْلِمِ والنَّصْرَانِيَّةِ لِعَانٌ)).
وذكر عبد الرزاق فى ((مصنفه))، عن ابن شهاب، قال: من وصية النبى صلى الله عليه وسلم لِعتَّاب بن أَسِيد: أن لا لِعان بين أربع، فذكر معناه. قالوا: ولأن اللَّعانَ جُعِلَ بدلَ الشهادة، وقائماً مقامَها عند عدمها، فَلا يَصِحُّ إلا ممن تصح منه، ولهذا تُحدُّ المرأة بِلعان الزَّوج، ونُكولها تنزيلاً لللِعانه منزلةَ أربعةِ شهود.
قالُوا: وأما الحديثُ: ((لولا مَا مَضَى مِنَ الأيْمَانِ، لَكَانَ لى وَلَهَا شَأْنٌ))، فالمحفوظ فيه: لولا ما مضى من كتاب الله، هذا لفظ البخارى فى ((صحيحه)). وأما قوله: لَوْلاَ مَا مَضَى مِنَ الأَيْمَانِ، فمن رواية عباد ابن منصور، وقد تكلم فيه غير واحد. قال يحيى بن معين: ليس بشىء. وقال على بن الحسين بن الجنيد الرازى: متروك قدرى. وقال النسائي: ضعيف.
|