وقال المروذى: سألت أبا عبد الله، ما تقول فى امرأة خُيِّرت، فاختارت نفسَها؟ قال: قال فيها خمسةٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها واحدة ولها الرجعة: عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعائشة. وذكر آخر، قال غير المروذى: هو زيد ابن ثابت.
قال أبو محمد، ومن خيَّر امرأته، فاختارت نفسَها، أو اختارت الطلاقَ، أو اختارت زوجَها، أو لم تختر شيئاً، فكل ذلك لا شىء، وكُلُّ ذلك سواء، ولا تطلق بذلك، ولا تحرُم عليه، ولا لشىءٍ مِن ذلك حكم، ولو كرَّر التخييرَ، وكررت هى اختيارَ نفسها، أو اختيارَ الطلاق ألف مرة، وكذلك إن ملَّكها نفسها، أو جعل أمرها بيدها. ولا فرق.
ولا حُجة فى أحد دونَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإذ لم يأتِ فى القرآن، ولا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أن قولَ الرجل لامرأته: أمرُك بيدك، أو قد مَلَّكتكِ أمركِ، أو اختارى يُوجب أن يكون طلاقاً، أو أن لها أن تطلِّق نفسها، أو تختارَ طلاقاً، فلا يجوزُ أن يُحَرَّمَ على الرجل فرجٌ أباحه اللَّهُ تعالى له ورسولُه صلى الله عليه وسلم بأقوالٍ لم يُوجبها الله، ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم، وهذا فى غاية البيان. انتهى كلامه.
قالوا: واضطرابُ أقوال الموقعين، وتناقُضها، ومعارضةُ بعضها لبعض يدل على فسادِ أصلها، ولو كان الأصل صحيحاً لاطردت فروعُه، ولم تتناقض، ولم تختلف، ونحن نُشير إلى طرف من اختلافهم.
فاختلفوا: هل يقع الطلاقُ بمجرد التخيير، أو لا يقعُ حتى تختار نفسها؟ على قولين: تقدم حكايتُهما، ثم اختلف الذين لا يُوقعونه بمجردِ قوله: أمرك بيدك: هل يختص اختيارُها بالمجلس، أو يكون فى يدها ما لم يفسح، أو يطأ؟ على قولين.أحدهما، أنه يتقيَّد بالمجلس، وهذا قولُ أبى حنيفة، والشافعى، ومالك فى إحدى الروايتين عنه. الثانى: أنه فى يدها أبداً حتى يفسخَ أو يطأ، وهذا قولُ أحمد، وابن المنذر، وأبى ثور. والرواية الثانية عن مالك. ثم قال بعضُ أصحابه: وذلك ما لم تَطُلْ حتى يتبين أنها تركته، وذلك بأن يتعدَّى شهرين، ثم اختلفوا، هل عليها يمين: أنها تركت، أم لا؟ على قولين.
ثم اختلفوا إذا رجع الزوج فيما جعل إليها، فقال أحمد وإسحاق والأوزاعى، والشعبى، ومجاهد، وعطاء: له ذلك، ويبطلُ خيارها. وقال مالك، وأبو حنيفة والثورى، والزهرى: ليس له الرجوعُ، وللشافعية خلافٌ مبنى على أنه توكيل، فيمِلكُ الموكل الرجوع، أو تمليك، فلا يملِكُه، قال بعضُ أصحاب التمليك: ولا يمتِنعُ الرجوعُ. وإن قلنا إنه تمليك، لأنه لم يتصل به القبول، فجاز الرجوعُ فيه كالهبة والبيع.
واختلفوا: فيما يلزَم من اختيارها نفسها. فقال أحمد والشافعى واحدة رجعية وهو قولُ ابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، واختاره أبو عبيد، وإسحاق. وعن على: واحدة بائنة، وهو قول أبى حنيفة وعن زيد بن ثابت، ثلاث، وهو قول الليث، وقال مالك: إن كانت مدخولاً بها، فثلاث، وإن كانت غير مدخول بها، قُبِل منه دعوى الواحدة.
واختلفوا: هل يفتِقُر قوله: أمرك بيدك إلى نية أم لا؟ فقال أحمد والشافعى وأبو حنيفة: يفتقِرُ إلى نية، وقال مالك، لا يفتقِرُ إلى نية، واختلفوا: هل يفتقِرُ وقوعُ الطلاق إلى نية المرأة إذا قالت: اخترت نفسى، أو فسخت نِكاحَك؟ فقال أبو حنيفة: لا يفتقِرُ وقوع الطلاق إلى نيتها إذا نوى الزوج. وقال أحمد والشافعى: لابد من نيتها إذا اختارت بالكناية، ثم قال أصحابُ مالك: إن قالت: اخترتُ نفسى، أو قبلتُ نفسى، لزم الطلاقُ، ولو قالت: لم أُرده. وإن قالت. قبلت أمرى، سئلت عما أرادت؟ فإن أرادت الطلاق كان طلاقاً، وإن لم تُرِدْهُ لم يكن طلاقاً ثم قال مالك: إذا قال لها: أمُرك بيدك، وقال: قصدتُ طلقة واحدة، فالقولُ قوله مع يمينه، وإن لم تكن له نية، فله أن يُوقع ما شاء. وإذا قال: اختارى، وقال: أردت واحدة، فاختارت نفسها، طلقت ثلاثاً، ولا يقبل قوله.
ثم هاهنا فروعٌ كثيرة مضطربة غايةَ الاضطرابِ لا دليل عليها من كتابٍ ولا سنة ولا إجماع، والزوجة زوجته حتى يقومَ دليل على زوال عصمته عنها.
قالوا: ولم يجعل اللَّهُ إلى النساء شيئاً من النكاحِ، ولا من الطلاق، وإنما جعل ذلك إلى الرجل، وقد جعل اللَّهُ سبحانه الرجال قوَّامينَ على النساء، إن شاءوا أمسكوا، وإن شاءوا طلقوا، فلا يجوز للرجل أن يجعل المرأة قوَّامة عليه، إن شاءت أمسكت، وإن شاءت طلقت. قالوا: ولو أجمع أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على شىء لم نتعد إجماعَهم، ولكن اختلفوا، فطلبنا الحُجة لأقوالهم مِن غيرها، فلم نجد الحجةَ تقومُ إلا على هذا القول. وإن كان من روى عنه قد روى عنه خلافه أيضاً، وقد أبطل من ادعى الإجماع فى ذلك، فالنزاع ثابت بين الصحابة والتابعين كما حكيناه، والحجةُ لا تقوم بالخلاف، فهذا ابنُ عباس، وعثمان ابن عفان، قد قالا: إن تمليك الرجل لامرأته أمرها ليس بشىء، وابنُ مسعود يقول فيمن جعل أمر امرأته بيد آخر فطلقها: ليس بشىء، وطاووس يقول فيمن ملك امرأته أمرها: ليس إلى النساء طلاق، ويقول فيمن ملك رجلاً أمر امرأته، أيملك الرجل أن يطلقها؟ قال: لا.
قلت: أما المنقولُ عن طاووس، فصحيح صريح لا مطعن فيه سنداً وصراحة. وأما المنقول عن ابن مسعود، فمختلفٌ، فنقل عنه موافقة على وزيد فى الوقوع، كما رواه ابن أبى ليلى عن الشعبى: أن أمرك بيدك، واختارى سواء فى قول على وابن مسعود وزيد، ونقل عنه فيمن قال لامرأته: أمُر فلانة بيدك إن أدخلت هذا العدل البيت، ففعلت، أنها امرأته، ولم يطلقها عليه.
وأما المنقول عن ابن عباس، وعثمان، فإنما هو فيما إذا أضافت المرأةُ الطلاقَ إلى الزوج، وقالت: أنت طالق. وأحمد ومالك يقولان ذلك مع قولهما بوقوع الطلاق إذا اختارت نفسها، أو طلقت نَفسها، فلا يُعرف عن أحد من الصحابة إلغاء التخيير والتمليك ألبتة، إلا هذِهِ الرواية عن ابن مسعود، وقد رُوِىَ عنه خلافُها، والثابتُ عن الصحابة، اعتبارُ ذلك، ووقوع الطلاق به، وإن اختلفوا فيما تَمْلِكُ به المرأة كما تقدم، والقولُ بأن ذلك لا أثر له لا يُعرف عن أحد من الصحابة ألبتة، وإنما وهم أبو محمد فى المنقول عن ابن عباس وعثمان، ولكن هذا مذهب طاووس، وقد نقل عن عطاء ما يدل على ذلك، فروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قلت لعطاء: رجل قال لامرأته: أمرك بيدك بعد يوم أو يومين، قال: ليس هذا بشىء. قلت: فأرسل إليها رجلاً أن أمرها بيدها يوماً أو ساعة، قال: ما أدرى ما هذا؟ ما أظن هذا شيئاً. قلت لعطاء: أملَّكت عائشة حفصة حين ملَّكها المنذر أمرها، قال عطاء: لا، إنما عرضت عليها أتطلقها أم لا، ولم تُملِّكها أمرها.
ولولا هيبةُ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عَدَلْنَا عن هذا القول، ولكن أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم هم القدوةُ وإن اختلفوا فى حكم التخيير، ففى ضمن اختلافهم اتفاقُهم على اعتبار التخيير، وعدم إلغائه، ولا مفسدة فى ذلك، والمفسدةُ التى ذكرتمُوها فى كون الطلاق بيد المرأة إنما تكونُ لو كان ذلك بيدها استقلالاتً، فأما إذا كان الزوج هو المستقل بها، فقد تكونُ المصلحة له فى تفويضها إلى المرأة ليصير حاله معها على بينة إن أخبته، أقامت معه، وإن كرهته، فارقتُه، فهذا مصلحة له ولها، وليس فى هذا ما يقتضى تغيير شرع الله وحكمته، ولا فرقَ بين توكيل المرأة فى طلاق نفسها وتوكيل الأجنبى، ولا معنى لمنع توكيل الأجنبى فى الطلاق، كما يَصِحُّ توكليه فى النكاح والخلع.
|