وقال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم يفتي بخلافه.
وقال الشافعي: فإن كان معنى قول ابن عباس: إن الثلاث كانت تحسب على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم واحدة ، يعني أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أنه كان شيئاً فنسخ. قال البيهقي: ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل - يريد البيهقي - ، ما رواه أبو داود والنسائي ، من حديث عكرمة في قوله تعالى: {وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228] الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ، وإن طلقها ثلاثاً ، فنسخ ذلك ، فقال: {الطَلاَقُ مَرَّتَان} [البقرة: 229].
قالوا: فيحتمل أن الثلاث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت ، بمعنى أن الزوج كان يتمكن من المراجعة بعدها ، كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة ، ثم نسخ ذلك.
وقال ابن سريج: يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث ، وهو أن يفرق بين الألفاظ ، كأن يقول: أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر رضي الله عنه الناس على صدقهم وسلامتهم لم يكن فيهم الخِب والخداع ، فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد. ولا يُريدون به الثلاثَ، فلما رأى عمر رضى الله عنه فى زمانه أموراً ظهرت، وأحوالاً تغيّرت ، منع من حمل اللفظ على التكرار، وألزمهم الثلاث.
وقالت طائفة: معنى الحديث أنَّ الناس كانت عادتُهم على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إيقاعَ الواحدة، ثم يدعها حتى تنقضىَ عدتُها، ثم اعتادوا الطلاقَ الثلاثَ جملة، وتتايَعُوا فيه، ومعنى الحديث على هذا: كان الطلاقُ الذى يُوقعه المطلق الآن ثلاثاً يُوقِعهُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر واحدة، فهو إخبارٌ عن الواقع، لا عن المشروع.
وقالت طائفة: ليس فى الحديث بيانُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الذى كان يجعل الثلاثَ واحدة، ولا أنه أُعلم بذلك فأَقرَّ عليه، ولا حُجة إلا فيما قاله أو فعله، أو علم به فأقرَّ عليه، ولا يُعلم صحةُ واحدةً من هذه الأمور فى حديث أبى الصهباء.
قالُوا: وإذا اختلفت علينا الأحاديثُ، نظرنا إلى ما عليه أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم أعلمُ بسنته، فنظرنا فإذا الثابتُ عن عمر بن الخطاب الذى لا يَثْبُتُ عنه غيره ما رواه عبد الرزاق، عن سفيان الثورى، عن سلمة ابن كُهيل، حدثنا زيدُ بن وهب، أنه رُفِعَ إلى عمر بن الخطاب رجل طلق امرأته ألفاً، فقال له عمر: أطلقتَ امرأتَك؟ فقال: إنما كنتُ ألعب، فعالجه عُمَرُ بالدِّرَّةِ، وقال: إنما يكفيك من ذلك ثلاث. وروى وكيع، عن الأعمشِ، عن حبيب بن أبى ثابت، قال: جاء رجل إلى على ابن أبى طالب، فقال: إنى طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال له علىٌّ: بانت منك بثلاث، واقسِمْ سائِرَهن بينَ نسائك.
وروى وكيع أيضاً، عن جعفر بن بُرقان، عن معاوية بن أبى يحيى، قال: جاء رجلٌ إلى عثمان بنِ عفان، فقال: طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال بانَتْ منك بثلاث.
وروى عبدُ الرزاق، عن سفيان الثورى، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بنِ جبير، قال: قال رجلٌ لابنِ عباس: طلقتُ امرأتى ألفاً، فقال له ابنُ عباس: ثلاثٌ تُحرِّمُها عليك، وبقيتُها عليك، وِزْر، اتخذت آيات الله هزواً.
وروى عبدُ الرزاق أيضاً، عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إنى طلقتُ امرأتى تسعاً وتسعين، فقال له ابنُ مسعود: ثلاث تُبينها منك، وسائُرهن عُدوان.
وذكر أبو داود فى ((سننه))، عن محمد ابن إياس، أن ابن عباس، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، سُئِلُوا عن البِكر يُطلِّقُها زوجُها ثلاثاً، فَكُلُّهم قال: لا تَحِلُّ له حتى تَنكِحَ زوجاً غيرَه.
قالوا: فهؤلاء أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تسمعون قد أوقعوا الثلاثَ جملةً، ولو لم يكن فيهم إلا عمر المحدِّث المُلْهَمُ وحدَه، لكفى، فإنه لا يُظن به تغييرُ ما شرعه النبى صلى الله عليه وسلم مِن الطلاق الرجعى، فيجعله محرَّماً، وذلك يتضمَّن تحريمَ فرج المرأه على من تَحْرُمْ عليه، وإباحته لمن لا تَحِلُّ له، ولو فعل ذلك عمر، لما أقرَّه عليه الصحابةُ، فضلاً عن أن يُوافقوه، ولو كان عندَ ابنِ عباس حجة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن الثلاثَ واحدةٌ لم يُخَالِفْها. ويُفتى بغيرها موافقةً لعمر، وقد علم مخالفته له فى العَوْل، وحجب الأم بالاثنين من الإخوة والأخوات، وغير ذلك.
قالوا: ونحنُ فى هذه المسألة تبع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَهُمْ أعلمُ بسنته وشرعه، ولو كان مستقراً مِن شريعته أن الثلاثَ واحدة وتُوفِّى والأمر على ذلك لم يَخْفَ عليهم، ويعلمه مَنْ بعدهم، ولم يُحْرَمُوا الصَّواب فيه، ويُوفَّق له مَنْ بعدهم، ويروى حبرُ الأمة وفقيهُها خبرَ كونِ الثلاث واحدة ويُخالفه.
قال المانعون من وقوع الثلاث: التحاكُم فى هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم اللَّهُ سبحانه وتعالى أصدقَ قَسَمٍ، وأبره، أنا لا نُؤْمِنُ حتى نُحَكِّمَه فيما شَجَرَ بيننا، ثم نَرضى بحُكمِه، ولا يلحقُنا فيه حرجٌ، ونسلِّم له تسليماً لا إلى غيره كائناً مَنْ كان، اللهم إلا أن تُجمِعَ أمته إجماعاً متيقناً لا نشكُّ فيه على حُكم، فهو الحقُّ الذى لا يجوز خلافُه، ويأبى الله أن تجتمع الأمة على خلاف سنة ثابتة عنه أبداً، ونحن قد أوجدناكُم من الأدلة ما تثبتُ المسألة به، بل وبدُونه، ونحن نُناظركم فيما طعنتم به فى تلك الأدلة، وفيما عارضتمونا به على أنا لا نحكِّم على أنفسنا إلا نصَّاً عن الله، أو نصاً ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،أو إجماعاً متيقَّناً لا شكَّ فيه، وما عدا هذا فعُرضة للنزاع، وغايتُه أن يكون سائغَ الاتِّباع لا لازمهَ، فلتكن هذه المقدمة سلفاً لنا عندكم، وقد قال تعالى: {فإنْ تَنَازَعْتُمْ فى شَىءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فقد تنازعنا نحن وأنتم فى هذه المسألة، فلا سبيلَ إلى ردِّها إلى غير الله ورسوله ألبتة، وسيأتى أننا أحقُّ بالصحابة، وأسعدُ بهم فيها، فنقول:
أمَّا منعُكم لتحريمِ جمعِ الثلاث، فلا ريبَ أنها مسألة نزاع، ولكن الأدلة الدالة على التحريم حجةٌ عليكم.
أما قولكم: إن القرآن دل على جواز الجمع، فدعوى غيرُ مقبولة، بل باطلة، وغايةُ ما تمسكتم به إطلاقُ القرآن للفظ الطلاق، وذلك لا يعمُّ جائزه ومحرَّمه، كما لا يدخل تحتَه طلاقُ الحائض، وطلاقُ الموطوءة فى طهرها، وما مَثَلُكُم فى ذلك إلا كَمَثَلِ مَنْ عارض السنة الصحيحةَ فى تحريم الطلاق المحرم بهذه الإطلاقات سواء، ومعلوم أن القرآن لم يدلَّ على جواز كل طلاق حتى تُحمِّلوه ما لا يُطيقه، وإنما دلَّ على أحكام الطلاق، والمُبيِّنُ عن اللَّهِ عز وجلَّ بَيَّنَ حَلالَه وحَرَامه، ولا ريب أنا أسعدُ بظاهر القرآن كما بينا فى صدر الاستدلال، وأنه سبحانه لم يشرع قط طلاقاً بائناً بغيرِ عوض لمدخول بها، إلا أن يكونَ آخرَ العدد، وهذا كتابُ الله بيننَا وبينَكم، وغايةُ ما تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيَّدتْها السنة، وبينت شروطها وأحكامها.
وأما استدلالُكم بأن الملاعِنَ طلَّق امرأته ثلاثاً بحضرة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فما أصحَّه مِن حديث، وما أبعدَهُ مِن استدلالكم على جواز الطلاق الثلاث بكلمة واحدة فى نكاح يقصد بقاؤه ودوامه، ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول: إن الفرقة وقعت عقيبَ لِعان الزوج وحده، كما يقولُه الشافعى، أو عَقيبَ لعانهما وإن لم يفرِّق الحاكم، كما يقوله أحمد فى إحدى الروايات عنه، فالاستدلالُ به باطل، لأن الطلاق الثلاث حينئذ لغو لم يفد شيئاً، وإن كان ممن يُوقف الفرقة على تفريق الحاكم، لم يصح الاستدلال به أيضاً لأن هذا النكاح لم يبق سبيلٌ إلى بقائه ودوامه، بل هو واجبُ الإزالة، ومؤبَّدُ التحريم، فالطلاقُ الثلاث مؤكِّد لمقصود اللعان، ومقرِّر له، فإن غايتَه أن يُحرِّمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وفرقة اللعان تحرِّمها عليه على الأبد، ولا يلزم من نفوذ الطلاق فى نكاح قد صار مستحقِّ التحريم على التأبيد نفوذُه فى نكاح قائم مطلوبِ البقاء والدوام، ولهذا لو طلقها فى هذا الحال وهى حائض، أو نفساء، أو فى طُهر جامعها فيه، لم يكن عاصياً، لأن هذا النكاح مطلوب الإزالة مؤبد التحريم، ومن العجب أنكم متمسِّكون بتقريرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الطلاق المذكور، ولا تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلاق الثلاثِ مِن غير الملاعن، وتسميته لعباً بكتاب الله كما تقدم، فكم بينَ هذا الإقرار وهذا الإنكار؟ ونحن بحمد الله قائلون بالأمرين، مُقِرُّون لما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، منكرون لما أنكره.
وأما استدلالُكم بحديث عائشة رضى الله عنها، أن رجلاً طلَّق امرأته ثلاثاً فتزوَّجت، فَسُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، هل تحل للزوج؟ قال: ((لا، حَتَّى تَذُوقَ العُسَيْلة))، فهذا لا نُنازِعُكم فيه، نعم هو حجةٌ على من اكتفى بمجرد عقد الثانى، ولكن أينَ فى الحديث أنه طلَّق الثلاثَ بفم واحد، بل الحديثُ حجة لنا، فإنَّه لا يُقال: فعلَ ذلك ثلاثاً، وقال ثلاثاً إلا من فعل، وقال: مرةً بعد مرةِ، هذا هو المعقولُ فى لغات الأمم عِربهم وعجمِهم، كما يقال: قذفه ثلاثاً، وشتمه ثلاثاً، وسلَّم عليه ثلاثاً.
قالوا: وأما استدلالُكم بحديثِ فاطمة بنت قيس، فَمِنَ العجب العُجاب، فإنكم خالفتُموه فيما هو صريحٌ فيه لا يقبلُ تأويلاً صحيحاً، وهو سقوطُ النفقة والكِسوة للبائن مع صحته وصراحته، وعدم ما يُعارِضُه مقاوماً له، وتمسكتُم به فيما هو مجمل، بل بيانُه فى نفس الحديث مما يُبطِلُ تعلُّقكم به، فإن قوله: طلَّقها ثلاثاً ليس بصريح فى جمعها، بل كما تقدم، كيف وفى ((الصحيح)) فى خبرها نفسِه مِن رواية الزهرى، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عُتبة، أن زوجَها أرسل إليها بتطليقةٍ كانت بَقيت لها مِن طلاقِها وفى لفظ فى ((الصحيح)): أنه طلقها آخِرَ ثلاثٍ تطليقاتٍ، وهو سند صحيح متصل مثلُ الشمس، فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجملٍ، وهو أيضاً حجةٌ عليكم كما تقدم؟.
قالوا: وأما استدلالُكم بحديثِ عُبادة بنِ الصامت الذى رواه عبد الرزاق، فخبر فى غاية السقوط، لأن فى طريقه يحيى بن العلاء، عن عُبيد الله بن الوليد الوصَّافى، عن إبراهيم بن عبيد الله ضعيف، عن هالك، عن مجهول، ثم الذى يدلُّ على كذبه وبُطلانه، أنه لم يعرف فى شىء من الآثار صحيحها ولا سقيمها، ولا متصلها ولا منقطعها، أن والد عبادة بن الصامت أدرك الإسلام، فكيف بجده، فهذا محال بلا شك. وأما حديث عبد الله بن عمر، فأصلُه صحيحٌ بلا شك، لكن هذه الزيادة والوصلة التى فيه: فقلتُ: يا رسولَ الله: لو طلقتُها ثلاثاً أكانت تَحِلُّ لى؟ إنما جاءت من رواية شعيب بن زُريق، وهو الشامى، وبعضهم يقلبه فيقولُ: زُريق بن شعيب، وكيفما كان، فهو ضعيف، ولو صحَّ، لم يكن فيه حجة، لأن قوله: لو طلقتها ثلاثاً بمنزلة قوله: لو سلمت ثلاثاً، أو أقررت ثلاثاً، أو نحوه مما لا يُعقل جمعُه.
|