قالوا: ولهذا كان ابنُ عمر رضي الله عنه لا يعزِلُ، وقال: لو علمتُ أن أحداً من ولدى يَعْزِلُ، لنكَّلْتُه، وكان علىُّ يكره العزل، ذكره شعبة عن عاصم عن زرٍّ عنه وصح عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال فى العزل: هو الموؤودةُ الصغرى. وصح عن أبى أُمامة أنه سئل عنه فقال: ما كُنْتُ أرى مسلماً يفعلُه. وقال نافع عن ابن عمر: ضرب عمر على العزل بَعْضَ بنيه. وقال يحيى بن سعيد الأنصارى، عن سعيد بن المسيِّب، قال: كان عمرُ وعثمانُ ينهيان عن العزل.
وليس فى هذا ما يُعارضُ أحاديث الإباحة مع صراحتها وصحتها أما حديثَ جُدَامة بنت وهب، فإنه وإن كان رواه مسلم، فإن الأحاديث الكثيرةَ على خلافه، وقد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه، أنَّ رِفاعة حدثه عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، أن رجلاً قال: يا رسولَ الله، إن لى جاريةً، وأنا أعزِلُ عنها، وأنا أكره أن تحمِلَ، وأنا أُريدَ ما يُريد الرجال، وإن اليهودَ تُحدِّث أن العزل الموؤودة الصغرى، قال: ((كَذَبَتْ يهودُ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أنْ يَخْلُقَه مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَه)) وحسبك بهذا الإسناد صحة، فكُلُّهم ثقات حفاظ، وقد أعلَّه بعضُهم بأنه مضطرب فإنه اختلف فيه على يحيى بن أبى كثير، فقيل: عنه، عن محمد ابن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن جابر بن عبد الله، ومن هذه الطريق: أخرجه الترمذى والنسائى. وقيل: فيه عن أبى مُطيع بن رِفاعة، وقيل: عن أبى رفاعة، وقيل: عن أبى سلمة عن أبى هُريرة، وهذا لا يقدحُ فى الحديث، فإنه قد يكونُ عند يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن جابر، وعنده عن ابن ثوبان عن أبى سلمة عن أبى هريرة، وعنده عن ابن ثوبان عن رفاعة عن أبى سعيد. ويبقى الاختلافُ فى اسم أبى رفاعة، هل أبو رافع، أو ابنُ رِفاعة، أو أبُو مطيع؟ وهذا لا يَضُرُّ مع العلم بحال رفاعة.
ولا ريبَ أن أحاديثَ جابر صريحةٌ صحيحة فى جواز العزل، وقد قال الشافعىُّ رحمه الله: ونحن نروى عن عدد من أصحابِ النبى صلى الله عليه وسلم أنهم رخَّصوا فى ذلك، ولم يَرَوْا به بأساً. قال البيهقى: وقد روينا الرخصةَ فيه، عن سعد بن أبى قاص، وأبى أيوب الأنصارى، وزيد ابن ثابت، وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب مالك، والشافعى، وأهلِ الكوفة، وجمهورِ أهلِ العلم.
وقد أُجيب عن حديث جُدَامة، بأنه على طريق التنزيه، وضعفته طائفةٌ، وقالوا: كيفَ يَصِحُّ أن يكونَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم كذَّبَ اليهودَ فى ذلك، ثم يُخبر به كخبرهم؟، هذا من المحال البيِّن، وردَّت عليه طائفةٌ أخرى، وقالوا: حديثُ تكذيبهم فيه اضطراب وحديثُ جُدَامة فى ((الصحيح)).
وجمعت طائفةٌ أخرى بين الحديثين، وقالت: إن اليهودَ كانت تقولُ: إن العزلَ لا يكون معه حمل أصلاً، فكذَّبهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك، ويَدُلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَه لَمَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَه))، وقوله: ((إنَّهُ الوَأْدُ الخَفِىُّ))، فإنه وإن لم يمنع الحملَ بالكلية، كتركِ الوطء، فهو مؤثر فى تقليله.
وقالت طائفة أخرى: الحديثان صحيحان، ولكن حديث التحريم ناسخ، وهذه طريقة أبى محمد ابن حزم وغيره. قالوا: لأنه ناقل عن الأصل والأحكام كانت قبل التحريم على الإباحة، ودعوى هؤلاء تحتاج إلى تاريخ محقَّق يبيِّن تأخُّر أحدِ الحديثين عن الآخر وأنَّى لهم به، وقد اتفق عُمَرُ وَعلى رضي الله عنهما على أنها لا تكونُ موؤودةً حتى تَمُرَّ عليها التاراتُ السبع، فروى القاضى أبو يعلى وغيرهُ بإسناده، عن عُبيد بن رفاعة، عن أبيه، قال جلس إلى عمر علىٌّ والزبيرُ وسعدٌ رضى الله عنهم فى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذاكروا العزلَ، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموؤدةُ الصغرى، فقال على رضى الله عنه: لا تكون موؤدةً حتى تمرَّ عليها التاراتُ السبع: حتى تكون مِنْ سُلالة من طين، ثم تكونَ نُطفةً، ثم تكون عَلقةً، ثم تكونَ مضغةً، ثم تكون عظاماً، ثم تكون لحماً، ثم تكون خلقاً آخر، فقال عمر رضى الله عنه: صدقتَ أطال الله بقاءك. وبهذا احتجَّ من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء.
وأما من جوَّزه بإذن الحُرَّةِ، فقال: للمرأة حقٌّ فى الولد، كما للرجل حقٌّ فيه، ولهذا كانت أحقَّ بحضانته، قالُوا: ولو يُعتَبَرْ إذنُ السُّرِّيَّةِ فيه لأنها لا حقَّ لها فى القسم، ولهذا لا تُطالبه بالفيئة، ولو كان لها حقٌّ فى الوطء لطُولِب المؤلى منها بالفيئة.
قالوا: وأما زوجتُه الرقيقة، فله أن يَعْزِلَ عنها بغير إذنها صيانةً لولده عن الرِّقِّ ولكن يُعتبر إذنُ سيدها، لأن له حقاً فى الولد، فاعتُبِرَ إذنُه فى العزل كالحرة، ولأن بدلَ البُضع يحصل للسيدِ كما يحصل للحرة، فكان إذنه فى العزل كإذن الحرة.
قال أحمد رحمه الله فى رواية أبى طالب فى الأمة إذا نكحها: يستأذِنُ أهَلها، يعنى فى العزل، لأنهم يُريدون الولد، والمرأةُ لها حق، تُريد الولد، وملكُ يمينه لا يستأذنها.
وقال فى رواية صالح، وابن منصور، وحنبل، وأبى الحارث، والفضل ابن زياد والمروذى: يَعزِلُ عن الحرة بإذنها، والأمةِ بغير إذنها، يعنى أمَته، وقال فى رواية ابن هانىء: إذا عزل عنها، لزمه الولد، قد يكُونُ الولدُ مع العزل. وقد قال بعضُ من قال: ما لى ولد إلا من العزل. وقال فى رواية المروذى: فى العزل عن أم الولد: إن شاء، فإن قالت: لا يَحِلُّ لك؟ ليس لها ذلك.
فصل
فى حُكمه صلى الله عليه وسلم فى الغَيل، وهو وطءُ المرضِعَة
ثبت عنه فى ((صحيح مسلم)): أنه قال: ((لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهى عَنِ الغِيْلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذلكَ فَلاَ يَضُرُّ أَوْلاَدَهُم)) وفى سنن أبى داود عنه، من حديث أسماء بنت يزيد: ((لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم سِرّاً فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إنَّه لَيُدْرِك الفَارِسَ فَيُدَعْثِرُهُ)).
قال: قلت: ما يعنى؟ قلت: الغيلة: يأتى الرجلُ امرأتَه وهى ترضع.
قلت: أما الحديثُ الأول، فهو حديثُ جُدَامة بنت وهب، وقد تضمَّن أمرين لِكلٍّ منهما معارض: فصدرُه هو الذى تقدَّم: ((لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيلة))، وقد عارضه حديث أسماء، وعجزه: ثم سألوه عن العزل، فقال: ((ذلك الوأد الخفى)) وقد عارضه حديث أبى سعيد: ((كذبت يهود))، وقد يُقال: إن قوله: ((لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ سِرّاً)) نهى أن يتسبب إلى ذلك، فإنه شبَّه الغَيل بقتل الولد، وليس بقتلٍ حقيقة، وإلا كان من الكبائر، وكان قرينَ الإشراك بالله، ولا ريبَ أن وطء المراضع مما تَعُمُّ به البلوى، ويتعذَّر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع ولو كان وطؤُهن حراماً لكان معلوماً من الدين، وكان بيانُه مِن أهمِّ الأمور، ولم تُهمِلْه الأُمَّةُ، وخيرُ القرون، ولا يُصرِّحُ أحدٌ منهم بتحريمه، فَعُلِمَ أن حديث أسماء على وجه الإرشاد والاحتياط للولد، وأن لا يُعَرِّضَه لفساد اللبن بالحمل الطارىء عليه، ولهذا كان عادةُ العرب أن يسترضِعُوا لأولادهم غيرَ أمهاتهم، والمنع غايُته أن يكون من باب سد الذرائع التى قد تُفضى إلى الإضرار بالولد، وقاعدةُ باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة، قُدِّمَتْ عليه، كما تقدَّم بيانُه مراراً والله أعلم.
|