فصل
وحرَّم سبحانه وتعالى نكاح من نكحهُنَّ الآباء، وهذا يتناولُ منكوحاتِهم بملك اليمين أو عقد نكاح، ويتناول آباء الآباء، وآباء الأمهات وإن عَلَوْن، والاستثناء بقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، من مضمون جملة النهى وهو التحريم المستلزم للتأثيم والعقوبة، فاستثنى منه ما سلف قبل إقامة الحجة بالرسول والكتاب.
فصل
وحرَّم سبحانه الجمعَ بين الأختينِ، وهذا يتناولُ الجمعَ بينهما فى عقدِ النكاح، وملكِ اليمين، كسائر محرَّمات الآية، وهذا قولُ جمهور الصحابة ومَن بعدهم، وهو الصوابُ، وتوقفت طائفةٌ فى تحريمه بملك اليمين لمعارضة هذا العموم بعموم قوله سبحانه:{والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون: 5-6] ولهذا قال أميرُ المؤمنين عثمان بن عفانَ رضى الله عنه: أحلَّتهما آية، وحرَّمتهما آية.
وقال الإمام أحمد فى رواية عنه: لا أقول: هو حرام، ولكن ننهى عنه، فمن أصحابه من جعل القولَ بإباحته رواية عنه. والصحيح: أنه لم يبُحه، ولكن تأدَّب مع الصحابة أن يُطلِق لفظ الحرامِ على أمرٍ توقَّفَ فيه عثمانُ، بل قال: ننهى عنه.
والذين جزموا بتحريمه، رجَّحوا آيةَ التحريم من وجوه.
أحدها: أن سائرَ ما ذُكِرَ فيها من المحرَّمات عام فى النكاح وملك اليمين، فما بالُ هذا وحدَه حتى يخرُجَ منها، فإن كانت آيةُ الإباحة مقتضية لِحلِّ الجمع بالملك، فلتكن مقتضية لِحل أمِّ موطوءته بالملك، ولموطوءة أبيه وابنه بالملك، إذ لا فرق بينهما ألبتة، ولا يُعلم بهذا قائل.
الثانى: أن آيةَ الإباحة بملك اليمين مخصوصةٌ قطعاً بصورٍ عديدة لا يختلِفُ فيها اثنان، كأمه وابنته، وأختِه وعمتِه وخالتِه من الرضاعة، بل كأخِته وخالته مِن النسب عند من لا يرى عتقهن بالملك، كمالك والشافعى، ولم يكن عموم قوله: {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 3] ومعارضاً لعموم تحريمهن بالعقد والملك، فهذا حُكْمُ الأختين سواء.
الثالث: أن حِلَّ الملك ليس فيه أكثرُ من بيان جهة الحل وسببه، ولا تعُّرض فيه لشروط الحِلِّ، ولا لموانعه، وآيةُ التحريم فيها بيانُ موانعِ الحِلِّ من النسب والرضاع والصهر وغيره، فلا تعارض بينهما البتة، وإلا كان كُلُّ موضع ذكر فيه شرطُ الحل وموانعه معارضاً لمقتضى الحل، وهذا باطل قطعاً، بل هو بيان لما سكت عنه دليلُ الحِل من الشروط والموانع.
الرابع: أنه لو جاز الجمعُ بين الأختين المملوكتين فى الوطء، جاز الجمعُ بين الأم وابنتها المملوكتين، فإن نص التحريم شامِلٌ للصورتين شمولاً واحداً، وأن إباحة المملوكات إن عمت الأختين، عمَّت الأم وابنتها.
الخامس: أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ يجْمعْ مَاءَهُ فى رَحِمِ أُخْتَيْنِ)) ولا ريب أن جمع الماء كما يكون بعقد النكاح يكون بملك اليمين، والإيمان يمنَع منه.
فصل
((وقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الجمعِ بينَ المرأة وعمتها، والمرأةِ وخالتها)) وهذا التحريمُ مأخوذ من تحريم الجمع بينَ الأختين، لكن بطريق خفىِّ، وما حرَّمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مثلُ ما حرَّمه الله، ولكن هو مستنبط مِن دلالة الكتاب.
وكان الصحابةُ رضى الله عنهم أحرصَ شىء على استنباط أحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القُرآن، ومَن ألزم نفسَه ذلك، وقرعَ بابه، ووجَّه قلبه إليه، واعتنى به بفطرةٍ سليمة، وقلب ذكى، رأى السنة كُلَّها تفصيلاً للقرآن، وتبييناً لدلالته، وبياناً لمراد اللَّهِ منه، وهذا أعلى مراتب العلم، فمن ظفر به، فليحمد الله، ومن فاته، فلا يلومَنَّ إلا نفسه وهِمتَّه وعَجْزَه.واستُفِيدَ من تحريم الجمع بين الأختين وبينَ المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، أن كل امرأتين بينهما قرابة لو كان أحدُهما ذَكَراً، حَرُمَ على الآخر، فإنه يحرُم الجمعُ بينهما، ولا يُستثنى من هذا صورةُ واحدة، فإن لم يكن بينهما قرابةُ، لم يحرم الجمع بينهما. وهل يكره؟ على قولين، وهذا كالجمع بين امرأةِ رجل وابنتِه من غيرها.
واستُفِيدَ مِن عموم تحريمه سبحانه المحرَّماتِ المذكورة: أنَّ كل امرأة حَرُمَ نكاحُها حَرُمَ وطؤها بملك اليمين إلا إماءَ أهلِ الكتاب، فإن نكاحَهُنَّ حرام عند الأكثرين، ووطؤهن بملك اليمين جائز، وسوَّى أبو حنيفة بينهما، فأباح نكاحهن كما يُباح وطؤهن بالملك.
والجمهور: احتجوا عليه بأن الله سُبْحَانه وتعالى إنما أباح نِكاح الإماء بوصف الإيمان. فقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُم طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمُ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ واللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِكُم} [النساء: 25] وقالَ تعالى: {ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] خصَّ ذلك بحرائرِ أهل الكتاب، بقى الإماءُ على قضية التحريم، وقد فهم عمر رضى الله عنه وغيرُه من الصحابة إدخال الكتابيات فى هذه الآية، فقال: لا أعلم شِركاً أعظَم من أن نقول: إن المسيح إلهها.
وأيضاً فالأصلُ فى الإبضاعِ الحرمة، وإنما أبيح نِكاحُ الإماءِ المؤمناتِ، فَمَن عداهُنَّ على أصل التحريم، وليس تحريمُهنَّ مستفاداً مِن المفهوم.
واستُفِيدَ مِن سياق الآية ومدلولِها أن كُلَّ امرأةٍ حرمت، حرمت ابنتها إلا العمة والخالة، وحليلةَ الابن، وحليلَةَ الأب، وأمَّ الزوجة، وأن كُلَّ الأقارب حرام إلا الأربعة المذكوراتِ فى سورة الأحزاب، وهن بناتُ الأعمام والعمات، وبناتُ الأخوال والخالات.
|