فصل
فى حكمه صلى الله عليه وسلم فى الوفاء بالعهد لعدوِّه وفى رسلهم، أن لا يُقتلوا ولا يُحبسوا، وفى النبذ إلى من عاهده على سواء إذا خافَ منه نقضَ العهد
ثبت عنه أنه قال لرسولى مسلمَة الكذاب لما قالا: نقول: إنه رسولُ اللَّهِ: ((لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا)).
وثبت عنه أنه قال لأبى رافع وقد أرسلته إليه قريش، فأراد المقامَ عنده، وأنه لا يرجع إليهم، فقال: ((إنى لاَ أَخِيسُ بِالعَهْدِ، ولا أَحْبِسُ البُرُدَ، وَلكِنِ ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ، فَإنْ كَانَ فى نَفْسِكَ الَّذِى فيها الآن فارْجِعْ)).
وثبت عنه أنه ردَّ إليهم أبا جندل للعهد الذى كان بينه وبينهم أن يَرُدَّ إليهم من جاءه منهم مسلماً، ولم يرد النساء، وجَادت سُبَيْعَةُ الأسلميةُ مسلمةً، فخرج زوجُها فى طلبها، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُم المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] فاستحلفها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يُخرجها إلا الرغبة فى الإسلامِ، وأنها لم تخرج لحدث أحدثته فى قومها، ولا بغضاً لزوجها، فحلفت، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجَها مهرَها، ولم يردها عليه. فهذا حكمه الموافق لحكم الله، ولم يجىء شىء ينسخه البتة، ومن زعم أنه منسوخ، فليس بيده إلا الدعوى المجردة، وقد تقدم بيان ذلك فى قصة الحُديبية.
وقال تعالى:{وإمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَومٍ خِيَانةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]
وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عَقْداً، ولاَ يُشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِىَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلى سَوَاء)). قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
ولما أسرت قريشٌ حذيفة بن اليمان وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خارجَيْن إلى بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انْصَرِفا، نَفَىِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، ونَستَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ)).
فصل
فى حكمه صلى الله عليه وسلم فى الأمان الصادر من الرجال والنساء
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ)).
وثبت عنه أن أجارَ رجلينَ أجارتْهُما أم هانىء ابنة عمه ؛ وثبت عنه أنه أجار أبا العاص بن الربيع لما أجارته ابنتُه زينب، ثم قال: ((يُجيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ)). وفى حديث آخر: ((يُجِيرُ على المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُم وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقصَاهُمْ)).
فهذه أربع قضايا كلية ؛ أحَدها: تكافؤ دمائهم، وهو يمنع قتل مسلمهم بكافرهم.
والثانية: أنه يَسعى بذمتهم أدناهم، وهو يُوجب قبول أمان المرأة والعبد.
وقال ابن الماجشون. لا يجوز الأمان إلا لوالى الجيش، أو والى السرية. قال ابنُ شعبان: وهذا خلافُ النَّاس كُلِّهم.
والثالثة: أن المسلمين يد على من سواهم، وهذا يمنعُ مثن تولية الكفار شيئاً من الولايات، فإن للوالى يداً على المولَّى عليه.
والرابعة: أنه يرد عليهم أقصاهم، وهذا يُوجب أن السَّرِيَّة إذا غنمت غنيمة بقوة جيش الإسلام كانت لهم، وللقاصى من الجيش إذ بقوته غنموها، وأن ما صار فى بيت المال من الفىء كان لقاصيهم ودانيهم، وإن كان سبب أخذه دانيهم، فهذه الأحكام وغيرها مستفادة من كلماته الأربعة صلوات الله وسلامه عليه.
فصل
فى حكمه صلى الله عليه وسلم فى الجزية ومقدارها وممن تقبل
قد تقدم أنَّ أول ما بعث الله عز وجل به نبيَّه صلى الله عليه وسلم الدعوة إليه بغير قتال ولا جزية، فأقام على ذلك بِضْعَ عشرة سنة بمكة. ثم أذِنَ له فى القتال لما هاجر من غير فرض له، ثم أمره بقتال من قاتله، والكفِّ عمن لم يقاتله، ثم لما نزلت ((براءة)) سنة ثمان أمره بقتال جميع من لم يُسلم من العرب: مَن قالته، أو كفَّ عن قتاله إلا من عاهده، ولم يَنْقُصْهُ من عهده شيئاً، فأمره أن يفىَ له بعهده، ولم يأمره بأخذ الجزية من المشركين، وحارب اليهود مراراً، ولم يُؤمر بأخذ الجزية منهم.
ثمَّ أمره بقتال أهل الكتاب كلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فامتثل أمر ربه، فقاتلهم، فأسلم بعضهم، وأعطى بعضُهم الجزية، واستمرَّ بعضُهم على محاربته، فأخذها صلى الله عليه وسلم مِن أهل نجران وأيلة، وهم من نصارى العرب، ومن أهل دُومَة الجندل وأكثرُهم عرب، وأخذها مِن المجوس ومن أهل الكتاب باليمن، وكانوا يهوداً.
ولم يأخذها من مشركى العرب، فقال أحمد، والشافعى: لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التى أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وهم: اليهود، والنصارى، والمجوس. ومن عداهم فلا يُقبل منهم إلا الإسلامُ أو القتل. وقالت طائفة: فى الأمم كلها إذا بذلوا الجزية، قُبِلَتْ منهم: أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحَقٌ بهم لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذُها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعدَ تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب، واستوثقت كُلُّها له بالإسلام، ولهذا يأخذها مِن اليهود الذين حاربوه، لأنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت، أخذها من نصارى العرب، ومن المجوس، ولو بقى حينئذ أحدٌ من عبدة الأوثان بذلها لقبلها منه، كما قبلها من عبدة الصلبان والنيران، ولا فرق ولا تأثير لتغليظِ كفر بعض الطوائف على بعض، ثم إن كفر عبدةِ الأوثان ليس أغلظ مِن كفر المجوس، وأىُّ فرق بين عبدة الأوثان والنيران، بل كفرُ المجوس أغلظ، وعبادُ الأوثان كانوا يُقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لِتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ، ولم يكونوا يُقِرُّون بصانعَيْنِ للعالم، أحدهما: خالق للخير، والآخر للشر، كما تقوله المجوس، ولم يكونوا يستحلون نكاح الأمهات والبنات والأخوات، وكانوا على بقايا من دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.
وأما المجوس، فلم يكونوا على كتاب أصلاً، ولا دانوا بدين أحد من الأنبياء لا فى عقائدهم ولا فى شرائِعهم، والأثر الذى فيه أنه كان لهم كتاب فَرُفعَ، ورُفِعَت شريعتُهم لما وقع مَلِكُهم على ابنته لا يَصِحُّ البتة، ولو صحَّ لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب، فإن كتابَهم رُفِعَ، وشريعتهم بطلت، فلم يبقوا على شىء منها.
ومعلوم أن العربَ كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، وكان له صحف وشريعة، وليس تغييرُ عبدة الأوثان لدينِ إبراهيم عليه السلام وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم لو صحَّ، فإنه لا يُعرف عنهم التمسك بشىء من شرائع الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، بخلاف العرب، فكيف يجعل المجوس الذين دينُهم أقبحُ الأديان أحسنَ حالاً من مشركى العرب، وهذا القول أصحُّ فى الدليل كما ترى.
وفرقت طائفة ثالثة بين العرب وغيرهم، فقالوا: تُؤخذ مِن كل كافر إلا مشركى العرب.ورابعة: فرقت بين قريش وغيرهم، وهذا لا معنى له، فإن قريشاً لم يبق فيهم كافر يحتاج إلى قتاله وأخذ الجزية منه البتة، وقد كتب النبى صلى الله عليه وسلم إلى أهل هَجَر، إلى المنذر بن ساوى، وإلى ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، ولم يفرق بين عربى وغيره.
أما حُكمُه فى قدرها، فإنه بعث معاذاً إلى اليمن، وأمره أن يأخذ مِن كُلِّ حالم ديناراً أو قِيمته مَعَافِر، وهى ثياب معروفة باليمن. ثم زاد فيها عمر رضى الله عنه، فجعلها أربعةً دنانير على أهل الذهب، وأربعينَ درهماً على أهل الوَرِقِ فى كل سنة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم علم ضعفَ أهل اليمن، وعمرُ رضى الله عنه علم غِنى أهل الشام وقوتهم.
|