فصل
فى حكمه صلى الله عليه وسلم فى الجاسوس
ثبت أن حاطب بن أبى بَلتعة لما جسَّ عليه، سأله عمرُ رضى اللَّه عنه ضربَ عنقه، فلم يُمكنه، وقال: ((مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)). وقد تقدم حكم المسألة مستوفى.
واختلف الفقهاء فى ذلك، فقالَ سحنون: إذا كاتب المسلمُ أهلَ الحرب، قُتِلَ، ولم يُستتب، ومالُه لورثته، وقال غيرُه من أصحاب مالك رحمه اللَّه: يُجلد جلداً وجيعاً، ويُطال حبسه، ويُنفى مِن موضع يقرب من الكفار. وقال ابن القاسم: يُقتل ولا يعرف لهذا توبة، وهو كالزنديق.
وقال الشافعى، وأبو حنيفة، وأحمد رحمهم اللَّه: لا يُقتل، والفريقان احتجوا بقصة حاطب، وقد تقدم ذِكرُ وجه احتجاجهم، ووافق ابنُ عقيل من أصحاب أحمد مالكاً وأصحابه.
فصل
فى حكمه فى الأسرى
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فى الأسرى أنه قَتَل بَعْضَهم، ومَنَّ على بعضهم، وفادى بعضَهم بمال، وبعضَهم بأسرى مِن المسلمين، واسترقَّ بعضَهم، ولكن المعروف، أنه لم يَسْتَرِقَّ رجلاً بالغاً.
فقتل يومَ بدر من الأسرى عُقبةَ بن أبى معيط، والنضر بن الحارث.
وقتل مِن يهود جماعةً كثيرين من الأسرى، وفادى أسرى بدر بالمال بأربعةِ آلاف إلى أربعمائةٍ، وفادى بعضَهم على تعليم جماعة من المسلمين الكتابة، ومنَّ على أبى عَزَّةَ الشاعر يومَ بدر، وقال فى أسارى بدر: ((لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِىٍّ حَيَّاً، ثُمَّ كَلَّمَنِى فى هُؤلاَء النَّتْنى لأَطْلَقْتُهُمْ لَهُ)). وفدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين.
وفدى رجالاً من المسلمين بامرأة من السبى، استوهبها مِن سلمة بن الأكوع.
ومنَّ على ثُمامة بن أُثال، وأطَلَق يوم فتح مكة جماعةً مِن قريش، فكان يقال لهم: الطُّلقاء.
وهذه أول أحكام لم يُنسخ منها شىء، بل يُخير الإمامُ فيها بحسبِ المصلحة، واسترقَّ مِن أهل الكِتاب وغيرهم، فسبايا أوطاس، وبنى المصطَلِق لم يكونوا كتابين، وإنما كانوا عبدة أوثان مِن العرب، واسترق الصحابةُ مِنْ سبى بنى حنيفة، ولم يكونوا كتابيين. قال ابن عباس رضى اللَّه عنهما: خيَّرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فى الأسرى بينَ الفداء والمنِّ والقتلِ والاستعباد، يفعلُ ما شاء، وهذا هو الحق الذى لا قول سواه.
فصل
وحكم فى اليهود بعدة قضايا، فعاهدَهم أوَّل مقدمه المدينة، ثم حاربه بُنو قَيْنُقَاع، فظَفِرَ بهم، ومنَّ عليهم، ثم حاربه بنو النضير، فظفِرَ بهم، وأجلاهم، ثُمَّ حارَبه بنو قُريظة، فظفِرَ بهم وقتلهم، ثم حاربه أهلُ خيبر، فظَفِرَ بهم وأقرَّهم فى أرض خيبرَ ما شاء سِوى مَنْ قتل مِنهم.
ولما حكم سعدُ بن معاذ فى بنى قُريظة بأن تُقتَل مقاتلتُهم، وتُسبى ذراريهم وتُغنم أموالُهم، أخبره رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أن هذا حُكْمُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ مِن فوق سَبْعِ سَمَاوات.
وتضمَّن هذا الحكم: أن ناقضى العهدِ يسرى نقضُهم إلى نسائهم وذُرِّيَّتِهم إذا كان نقضُهم بالحرب، ويعودون أهلَ حرب، وهذا عينُ حكمِ اللَّهِ عزَّ وجل.
فصل
فى حكمه صلى الله عليه وسلم فى فتح خيبر
حكمَ يومئذ بإقرار يهودَ فيها على شطرِ ما يخرُج منها مِن ثمر أو زرع.
وحكم بقتل ابنى أبى الحُقَيْقِ لما نقضُوا الصّلح بينَهم وبينَه: على أن لا يكتُموا ولا يُغيِّبوا شيئاً من أموالهم، فكتمُوا وغيَّبوا، وحكم بعقوبة المتَّهم بتغييبِ المال حتى أقرَّ به، وقد تقدَّم ذلك مستوفى فى غزوة خيبر.
وكانت لأهل الحُديبية خاصة، ولم يَغِبْ عنها إلا جابرُ بن عبد اللَّه، فقسم له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم سهمَه.
فصل
فى حكمه صلى الله عليه وسلم فى فتح مكة
حكم بأنَّ من أغلقَ بابَه، أو دخلَ دارَ أبى سفيان، أو دخلَ المسجد، أو وضع السلاح، فهو آمن، وحكم بقتل نفر ستةٍ، منهم: مِقْيس بن صبُابة، وابنُ خطل، ومغنيتان كانتا تغنيان بهجائه، وحكم بأنه لا يُجهز على جريح، ولا يُتبعُ مدبر، ولا يُقتل أسير، ذكره أبو عبيد فى ((الأموال)). وحكم لخُزاعة أن يبذلُوا سُيوفَهم فى بنى بكر إلى صلاة العصر، ثم قال لهم: ((يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ القَتْل)).
فصل
فى حكمه صلى الله عليه وسلم فى قسمة الغنائم
حكم صلى الله عليه وسلم أن للفارِس ثلاثَةَ أسهم، وللرَّاجِلِ سهم، هذا حكمُه الثابتُ عنه فى مغازيه كُلِّها، وبه أخذ جمهورُ الفقهاء.
وحكم أن السَّلبَ للقاتل.
وأما حُكمه بإخراج الخمس، فقال ابن إسحاق: كانت الخيلُ يومَ بنى قريظة ستةً وثلاثين فرساً، وكان أوَّلَ فىء وقعت فيه السهمان، وأخرج منه الخمس، ومضت به السنة، ووافقه على ذلك القضاء إسماعيل بن إسحاق، فقال إسماعيل: وأحْسِبُ أن بعضَهم قال: ترك أمرَ الخُمس بعد ذلك، ولم يأت فى ذلك من الحديث ما فيه بيانٌ شاف، وإنما جاء ذكرُ الخمس يقيناً فى غنائم حُنين.
وقال الواقدى: أول خُمسٍ فى غزوة بنى قَيْنُقاع بعدَ بدرٍ بشهر وثلاثة أيام، نزلُوا على حُكمه، فصالحهم على أن له أموالَهم، ولهم النساءُ والذرية، وخمَّس أموالهم.
وقال عُبادة بن الصامت: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فلما هَزَمَ اللَّه العدُوَّ، تبعتهم طائفةٌ يقتلونهم، وأحدقَتْ طائفةٌ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وطائفةٌ استولت على العسكر والغنيمة، فلما رجع الَّذِين طلبوهم، قالوا: لنا النَّفَلُ نحن طلبنا العدُوَّ، وقال الذين أحدقوا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نحن أحقُّ به، لأنا أحدقنا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن لا ينال العدُوُّ غِرَّتَه، وقال الذين استَولَوْا على العسكر: هُوَ لنا، نحن حَوْيَنَاهُ. فأنزل اللَّه عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَن الأُنفالِ قُلِ الأَنْفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ} [الانفال: 1]، فقسمه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بَوَاءٍ قبل أن ينزل: {واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُم مِنْ شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41].
وقال القاضى إسماعيل: إنما قسم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أموالَ بنى النضير بينَ المهاجرين، وثلاثةً من الأنصار: سهلِ بنِ حُنيف، وأبى دُجانة، والحارث بن الصِّمة لأن المهاجرين حين قدموا المدينة، شاطرهم الأنصارُ ثمارَهم، فقال لهم رسول اللَّه: ((إنْ شِئْتُم قَسَمْتُ أَمْوَالَ بَنِى النَّضِيرِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ، وأَقَمْتُم عَلَى مُوَاسَاتِهم فى ثِمَارِكُم، وإنْ شِئْتُمْ أَعْطَيْنَاها لِلْمُهَاجِرينَ دُونَكُمْ، وقَطَعْتُم عَنْهُمْ مَا كُنْتُم تُعْطُونَهُمْ مِنْ ثِمَارِكُمْ))، فقالوا: بل تُعطيهم دوننا، ونُمْسِكُ ثمارنا، فأعطاها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المهاجرينَ، فاستغنوا بما أخذوا، واستغنى الأنصارُ بما رجع إليهم من ثمارهم، وهؤلاء الثلاثة من الأنصار شَكَوْا حَاجَةً.
|