ولما كان الماء البائت أنفعَ من الذى يُشرب وقتَ استقائه ، قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان : ((هَلْ من ماءٍ بات فى شَـنَّة)) ؟ فأتاه به، فشرب منه ، رواه البخارى ولفظُه : ((إنْ كان عِنْدَكَ ماءٌ باتَ فى شَنَّة وإلاَّ كَرَعْنَا)) .والماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذى شُرِب لوقته بمنزلة الفطير ، وأيضاً فإنَّ الأجزاء الترابية والأرضية تُفارقه إذا بات ، وقد ذُكِر أنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كان يُسْتَعْذَبُ له الماء ، ويَختار البائت منه . وقالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُستقى له الماء العذب مِن بئر السقيا . والماء الذى فى القِرَب والشنان ، ألذُّ من الذى يكون من آنية الفَخَّار والأحجار وغيرهما ، ولا سِيَّما أسقيةَ الأدمَ ، ولهذا التَمسَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم ماءً بات فى شَـنَّة دون غيرها من الأوانى ، وفى الماء إذا وُضع فى الشِّنان ، وقِرب الأدم خاصةٌ لطيفةٌ لما فيها من المسامِّ المنفتحةِ التى يرشَح منها الماء ، ولهذا كان الماء فى الفَخَّار الذى يرشح ألذُّ منه ، وأبردُ فى الذى لا يرشَح ، فصلاةُ الله وسلامه على أكمل الخلق ، وأشرفهم نفساً ، وأفضلهم هَدْياً فى كل شىء ، لقد دَلَّ أُمته على أفضل الأُمور وأنفعها لهم فى القلوب والأبدان ، والدُّنيا والآخرة
قالت عائشةُ : كان أحبُّ الشرابِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُلوَ البارِدَ . وهذا يحتمل أن يريد به الماءَ العذبَ ، كمياه العيون والآبار الحلوة ، فإنه كان يُستعذَب له الماء . ويحتملُ أن يريد به الماءَ الممزوجَ بالعسل ، أو الذى نُقِعَ فيه التمرُ أو الزبيبُ . وقد يُقال وهو الأظهر : يعمُّهما جميعاً
وقولُه فى الحديث الصحيح : ((إن كان عندكَ ماء باتَ فى شَنٍ وإلا كَرَعْنَا)) ، فيه دليلٌ على جواز الكَرْع ، وهو الشرب بالفم من الحوضِ والمِقْراةِ ونحوها ، وهذه والله أعلم واقعةُ عَيْن دعت الحاجةُ فيها إلى الكَرْع بالفم ، أو قاله مبيِّناً لجوازه ، فإنَّ مِن الناس مَنْ يكرهُه ، والأطباءُ تكادُ تُحَرِّمُه ، ويقولون : إنه يَُضرُّ بالمَعِدَة ، وقد رُوى فى حديث لا أدرى ما حالُه عن ابن عمر ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم نهانا أنْ نشرب على بطوننا ، وهو الكَرْعُ ، ونهانا أنْ نغترِفَ باليد الواحدة وقال :
(( لا يَلَغْ أحدُكُم كَمَا يَلَغُ الكلبُ ، ولا يَشْرَبْ باللَّيْلِ مِن إنَاءٍ حَتَّى يَختبِرَه إلا أنْ يكونَ مُخَمَّراً ))
وحديثُ البخارى أصحُّ من هذا ، وإن صحَّ ، فلا تعارُضَ بينهما ، إذ لعلَّ الشربَ باليد لم يكن يمكن حينئذٍ ، فقال : ((وإلا كَرَعْنا)) ، والشربُ بالفم إنما يضرُّ إذا انكبَّ الشارِبُ على وجهه وبطنه ، كالذى يشربُ من النهر والغدِير ، فأمَّا إذا شرب مُنتصِباً بفمه من حوض مرتفع ونحوِه ، فلا فَرْقَ بين أن يشرب بيده أو بفمه .
فصل
وكان من هَدِْيه الشُّربُ قاعداً ، هذا كان هديَه المعتادَ
وصحَّ عنه أنه نهى عن الشُّرب قائماً ، وصحَّ عنه أنه أمر الذى شرب قائماً أن يَسْتَقىءَ ، وصَحَّ عنه أنه شرب قائماً .
فقالت طائفةٌ : هذا ناسخٌ للنهى ، وقالت طائفةٌ : بل مبيِّنٌ أنَّ النهىَ ليس للتحريم ، بل للإرشاد وتركِ الأوْلى ، وقالت طائفةٌ : لا تعارُضَ بينهما أصلاً ، فإنه إنما شَرِبَ قائماً للحاجة ، فإنه جاء إلى زمزمَ ، وهم يَستَقُون منها ، فاستَقَى فناولُوه الدَّلوَ ، فشرب وهو قائم ، وهذ كان موضعَ حاجة .
وللشرب قائماً آفاتٌ عديدة منها : أنه لا يحصل به الرِّىُّ التام ، ولا يستَقِرُّ فى المَعِدَة حتى يَقْسِمَه الكبدُ على الأعضاء ، وينزلُ بسرعة وَحِدَّة إلى المَعِدَة ، فيُخشى منه أن يُبردَ حرارتَها ، ويُشوشها ، ويُسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج ، وكلُّ هذا يَضُرُّ بالشارب ، وأمَّا إذا فعله نادراً أو لحاجة ، لم يَضره ، ولا يُعترض بالعوائد على هذا ، فإنَّ العوائد طبائعُ ثوانٍ ، ولها أحكامٌ أُخرى ، وهى بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء .
فصل
وفى ((صحيح مسلم)) من حديث أنس بن مالك ، قال : كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَتنفَّسُ فى الشَّراب ثلاثاً ، ويقولُ : ((إنه أرْوَى وأمْرَأُ وأبْرَأُ)) .الشراب فى لسان الشارع وحمَلَةِ الشرع : هو الماء ، ومعنى تنفُّسِه فى الشراب : إبانتُه القَدَح عن فيه ، وتنفُّسُه خارجَه ، ثم يعود إلى الشراب ، كما جاء مصرَّحاً به فى الحديث الآخر : ((إذا شَرِبَ أحَدُكُم فَلا يَتنفَّسْ فى القَدَحِ ، ولكنْ لِيُبِنِ الإناءَ عن فيهِ))
وفى هذا الشرب حِكمٌ جَمَّة ، وفوائدٌ مهمة ، وقد نبَّه صلى الله عليه وسلم على مَجامِعها ، بقوله : ((إنه أروَى وأمرَأ وأبرأ)) فأروَى : أشدُّ ريَّاً ، وأبلغُه وأنفعُه ، وأبرأُ : أفعلُ من البُرء ، وهو الشِّفاء ، أى يُبرىء من شدة العطش ودائه لتردُّدِه على المَعِدَة الملتهبة دفعاتٍ ، فتُسَكِّن الدفعةُ الثانية ما عجزت الأُولى عن تسكينه ، والثالثةُ ما عجزت الثانية عنه ، وأيضاً فإنه أسلمُ لحرارة المَعِدَة ، وأبقَى عليها من أن يَهجُم عليها الباردُ وَهْلةً واحدة ، ونَهْلةً واحدة .وأيضاً فإنه لا يُروِى
لمصادفته لحرارة العطش لحظةً ، ثم يُقلع عنها ، ولما تُكسَرْ سَوْرتُها وحِدَّتُها ، وإن انكسرتْ لم تبطل بالكلية بخلاف كسرِها على التمهُّل والتدريج .
وأيضاً فإنه أسلمُ عاقبةً ، وآمنُ غائلةً مِن تناوُل جميع ما يُروِى دفعةً واحدة ، فإنه يُخاف منه أن يُطفىء الحرارة الغريزية بشدة برده ، وكثرةِ كميته ، أو يُضعفَها فيؤدِّى ذلك إلى فساد مزاج المَعِدَة والكَبِد ، وإلى أمراض رديئة ، خصوصاً فى سكان البلاد الحارة ، كالحجاز واليمن ونحوهما ، أو فى الأزمنة الحارة كشدة الصيف ، فإن الشرب وَهْلَةً واحدةً مَخُوفٌ عليهم جداً ، فإنَّ الحار الغريزى ضعيف فى بواطن أهلها ، وفى تلك الأزمنة الحارة .
وقوله : ((وأمْرَأُ)) : هو أفعلُ مِن مَرِئ الطعامُ والشرابُ فى بدنه : إذا دخله ، وخالطه بسهولة ولذة ونفع . ومنه : {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً}[النساء : 4] ، هنيئاً فى عاقبته ، مريئاً فى مذاقه . وقيل : معناه أنه أسرعُ انحداراً عن المَرِىء لسهولته وخفته عليه ، بخلاف الكثير ، فإنه لا يسهُل على المرىء انحدارُه .
ومن آفات الشرب نَهْلَةً واحدة أنه يُخاف منه الشَّرَق بأن ينسدَّ مجرى الشراب لكثرة الوارد عليه ، فيغَصَّ به ، فإذا تنفَّس رُويداً ، ثم شرب ، أمِنَ من ذلك .
ومن فوائده : أنَّ الشارب إذا شرب أول مرة تصاعد البخارُ الدخانىُّ الحارُّ الذى كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه ، فأخرجَتْه الطبيعةُ عنها ، فإذا شرِب مرةً واحدةً ، اتفق نزولُ الماء البارد ، وصعودُ البخار ، فيتدافعان ويتعالجان ، ومن ذلك يحدُث الشَرقُ والغصَّة ، ولا يهْنأ الشاربُ بالماء ، ولا يُمرئُه ، ولا يتم رِيُّه .
وقد روى عبد الله بن المبارك ، والبَيْهَقىُّ ، وغيرُهما عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم : ((إذا شَرِبَ أحدُكُم فَلْيَمَُصَّ الماءَ مَصَّاً ، ولا يَعُبَّ عبَّا ، فإنَّه مِن الكُبَادِ)) .والكُبَاد بضم الكاف وتخفيف الباء هو وجع الكبد ، وقد عُلم بالتجرِبة أنَّ ورود الماء جملةً واحدة على الكبد يؤلمها ويُضعفُ حرارتَها ، وسببُ ذلك المضادةُ التى بين حرارتها ، وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته . ولو ورد بالتدريج شيئاً فشيئاً ، لم يضاد حرارتَها ، ولم يُضعفْها ، وهذا مثالُه صَبُّ الماء البارد على القِدْر وهى تفور ، لا يضرُّها صَبُّه قليلاً قليلاً .
|