قال ابن مسعود رضى الله عنه : لكل فرحةٍ تَرْحة ، وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إلا مُلِىءَ تَرحاً .
وقال ابن سيرين : ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء .
وقالت هند بنت النُّعمان : لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكاً ، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس ، وأنه حقٌ على الله ألا يملأ داراً خَيْرة إلا ملأها عَبرة .
وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن أمرها ، فقالت : أصبحنا ذا صباح ، وما فى العرب أحدٌ إلا يرجونا ، ثم أمسينا وما فى العرب أحد إلا يرحمُنا .
وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان يوماً ، وهى فى عِزِّها ، فقيل لها : ما يُبكيكِ ، لعل أحداً آذاك ؟ قالت : لا ، ولكن رأيتُ غَضارة فى أهلى ، وقلَّما امتلأت دارٌ سروراً إلا امتلأت حُزناً .
قال إسحاق بنُ طلحة : دخلتُ عليها يوماً ، فقلتُ لها : كيف رأيتِ عبراتِ الملوك ؟ فقالت : ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما كنا فيه الأمس ، إنَّا نجِدُ فى الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون فى خيْرة إلا سيُعقَبون بعدها عَبرة ، وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم يكرهونه ، ثم قالت :
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا *** إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَـا *** تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها ، بل يُضاعفها ، وهو فى الحقيقة من تزايد المرض .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم ، وهو الصلاةُ والرحمة والهداية التى ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع ، أعظمُ مِن المصيبة فى الحقيقة .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الجَزَعَ يُشمت عدوه ، ويسوء صديقه ، ويُغضب ربه ، ويَسرُّ شيطانه ، ويُحبط أجره ، ويُضعف نفسه ، وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه ، وردَّه خاسئاً ، وأرضى ربه ، وسرَّ صديقه ، وساء عدوه ، وحمل عن إخوانه ، وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه ، فهذا هو الثباتُ والكمال الأعظم ، لا لطمُ الخدودِ ، وشقُّ الجيوب ، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور ، والسخَطُ على المقدور .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب من اللَّذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه ، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذى يُبنى له فى الجنَّة على حمده لربه واسترجاعه ، فلينظرْ : أىُّ المصيبتين أعظمُ ؟ مصيبةُ العاجلة ، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد فى جنَّة الخلد ؟
وفى الترمذى مرفوعاً : ((يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ جُلُودَهُم كانت تُقْرَضُ بالمقارِيض فى الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ)) .
وقال بعضُ السَّلَف : لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا القيامة مفاليس .
ومِن عِلاجها : أن يُرَوِّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَفِ من الله ، فإنه من كُلِّ شىء عِوَض إلا الله ، فما مِنه عِوَضٌ كما قيل :
مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ *** وَمَا مِنَ اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
ومن عِلاجها : أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له ، فمن رضى ، فله الرِّضى ، ومن سخِط ، فله السَّخَط ، فحظُّك منها ما أحدثته لك ، فاختر خيرَ الحظوظ أو شرَّها ، فإن أحدثت له سخطاً وكفراً ، كُتِب فى ديوان الهالكين ، وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً فى ترك واجب ، أو فى فعل مُحَرَّم ، كُتِبَ فى ديوان المفرِّطين ، وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صبرٍ ، كُتِبَ فى ديوان المغبونين ، وإن أحدثتْ له اعتراضاً على الله ، وقدحاً فى حكمته ، فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه ، وإن أحدثت له صبراً وثباتاً لله ، كُتِبَ فى ديوان الصابرين ، وإن أحدثت له الرِّضى عن الله ، كُتِبَ فى ديوان الراضين ، وإن أحدثت له الحمدَ والشكرَ ، كُتِبَ فى ديوان الشاكرين ، وكان تحتَ لواء الحمد مع الحمَّادين ، وإن أحدثت له محبةً واشتياقاً إلى لقاء ربه ، كُتِبَ فى ديوان المُحبِّين المخلصين .
وفى ((مسند الإمام أحمد)) والترمذىِّ ، من حديثِ محمود بن لبيد يرفعه : ((إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم ، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى ، ومَن سَخِط فَلَهُ السُّخْطُ)) . زاد أحمد : ((ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ )) .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنه وإن بلغ فى الجَزَع غايتَه ، فآخِرُ أمره إلى صبر الاضطرار ، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب ، قال بعض الحكماء : العاقلُ يفعل فى أوَّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام ، ومَن لم يصبْر صَبْرَ الكِرَام ، سلا سُلُوَّ البهائم
وفى ((الصحيح)) مرفوعاً : ((الصَّبْرُ عند الصَّدْمَةِ الأُولى)) .
وقال الأشعث بن قيس : إنك إن صبرتَ إيماناً واحتساباً ، وإلا سَلَوْتَ سُلُوَّ البهائِم .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ أنفع الأدوية له موافقةُ ربه وإلهه فيما أحبَّه ورضيه له ، وأن خاصيَّة المحبة وسِرَّها موافقةُ المحبوب ، فمَن ادَّعى محبة محبوب ، ثم سَخِطَ مَا يُحِبُّه ، وأحبَّ ما يُسخطه ، فقد شهد على نفسه بكذبه ، وتَمقَّتَ إلى محبوبه .
وقال أبو الدرداء : إنَّ الله إذا قضى قضاءً ، أحب أن يُرضَى به .
وكان عِمران بن حصين يقول فى عِلَّته : أحَبُّهُ إلىَّ أحَبُّهُ إليه ، وكذلك قال أبو العالية .
وهذا دواءٌ وعِلاجٌ لا يَعمل إلا مع المُحبِّين ، ولا يُمكن كُلّ أحد أن يتعالج به .
ومِن عِلاجها : أن يُوازِن بين أعظم اللَّذتين والتمتعين ، وأدْوَمِهما : لذَّةِ تمتعه بما أُصيب به ، ولَذَّةِ تمتُّعه بثواب الله له ، فإن ظهر له الرجحان ، فآثر الراجِحَ ، فليحمدِ الله على توفيقه ، وإن آثر المرجوحَ مِن كل وجه ، فليعلم أنَّ مصيبتَه فى عقله وقلبه ودينه أعظمُ مِن مصيبته التى أُصيب بها فى دنياه
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ الذى ابتلاه بها أحكمُ الحاكمين ، وأرحمُ الراحمين ، وأنه سبحانه لم يُرسل إليه البلاءَ ليُهلكه به ، ولا ليُعذبه به ، ولا ليَجْتاحَه ، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه ، وليسمع تضرُّعه وابتهالَه ، وليراه طريحاً ببابه ، لائذاً بجنابه ، مكسورَ القلب بين يديه ، رافعاً قصصَ الشكوى إليه .
قال الشيخ عبد القادر : يا بُنَىَّ ؛ إنَّ المصيبةَ ما جاءت لِتُهلِكَكَ ، وإنَّما جاءت لتمتحِنَ صبرك وإيمانَك ، يا بُنَىَّ ؛ القَدَرُ سَبُعٌ ، والسَّبُعُ لا يأكل الميتةَ .
والمقصود : أنَّ المصيبة كِيرُ العبدِ الذى يُسبَك به حاصله ، فإما أن يخرج ذهباً أحمر ، وإما أن يخرج خَبَثاً كله ، كما قيل :
سَبَكْنَاه ونَحْسِبـــُهُ لُجَيْناً *** فأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
فإن لم ينفعه هذا الكِيرُ فى الدنيا ، فبيْنَ يديه الكِيرُ الأعظم ، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كِيرَ الدنيا ومَسبكَها خيرٌ له من ذلك الكِير والمسبك ، وأنه لا بد من أحد الكِيرَين ، فليعلم قدرَ نعمة الله عليه فى الكِير العاجل .
ومِن عِلاجها : أن يعلم أنه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبُها ، لأصاب العبدَ مِن أدْواء الكِبْرِ والعُجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هلاكه عاجلاً وآجلاً ، فمن رحمةِ أرحم الراحمين أن يتفقَّده فى الأحيان بأنواع من أدوية المصائب ، تكون حِمية له من هذه الأدواء ، وحِفظاً لصحة عُبوديتهِ ، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه ، فسبحانَ مَن يرحمُ ببلائه ، ويبتلى بنعمائه كما قيل:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ *** وَيَبْتَلِى اللهُ بعْضَ الْقَـوْمِ بِالنِّعَمِ
فلولا أنه سبحانه يداوى عباده بأدوية المحن والابتلاء ، لطَغَوا ، وبَغَوْا ، وعَتَوْا ، واللهُ سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرِغُ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه ، أهَّلَه لأشرفِ مراتب الدنيا ، وهى عبوديتُه ، وأرفع ثواب الآخرة ، وهو رؤيتُه وقُربه ومِن عِلاجها : أن يعلم أنَّ مرارةَ الدنيا هى بعينها حلاوةُ الآخرة ، يَقلِبُها الله سبحانه كذلك ، وحلاوة الدنيا بعينها مرارةُ الآخرة ، ولأَنْ ينتقل مِن مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خيرٌ له من عكس ذلك . فإن خَفِىَ عليك هذا ، فانظر إلى قول الصادق المصدوق : ((حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكَارهِ ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ))
وفى هذا المقام تفاوتت عقولُ الخلائق ، وظهرت حقائقُ الرجال ، فأكثرُهم آثرَ الحلاوةَ المنقطعة على الحلاوة الدائمة التى لا تزول ، ولم يحتمل مرارةَ ساعةٍ لِحلاوة الأبد ، ولا ذُلَّ ساعةٍ لِعزِّ الأبد ، ولا مِحنةَ ساعةٍ لعافيةِ الأبد ، فإنَّ الحاضر عنده شهادةٌ ، والمنتظر غيبٌ ، والإيمان ضعيفٌ ، وسلطانُ الشهوة حاكم ، فتوَلَّد من ذلك إيثارُ العاجلة ، ورفضُ الآخرة ، وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأُمور ، وأوائلها ومبادئها ، وأما النظر الثاقب الذى يَخرِق حُجُب العاجلة ، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات ، فله شأنٌ آخرُ .
فادع نفسك إلى ما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم ، والسعادة الأبدية ، والفوز الأكبر ، وما أعدَّ لأهل البطالة والإضاعة من الخزى والعقاب والحسرات الدائمة ، ثم اخترْ أىُّ القسمَيْن أليقُ بك ، وكُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ، وكُلُّ أحد يصبُو إلى ما يُناسبه ، وما هو الأَوْلَى به ، ولا تستطِلْ هذا العلاج ، فشدةُ الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه ، وبالله التوفيق.
الــــــــalwaafiــــــــوافي
|