وقالت فِرقة أُخرى : بل بعضُها محفوظ ، وبعضها غيرُ محفوظ ، وتكلمت فى حديث : ((لا عَدّوَى)) ، وقالت : قد كان أبو هريرة يرويه أوَّلاً ، ثم شكَّ فيه فتركه ، وراجعوه فيه ، وقالوا : سمعناك تُحدِّث به ، فأبى أن يُحدِّث به .
قال أبو سلمة : فلا أدرى ، أنسىَ أبو هريرة ، أم نَسخَ أحدُ الحديثين الآخَر ؟
وأما حديثُ جابر : أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيدِ مجذوم ، فأدخلها معه فى القصعة، فحديثٌ لا يثبت ولا يَصِحُّ ، وغاية ما قال فيه الترمذى : إنه غريب ، لم يُصَحِّحْه ولم يُحَسِّنه . وقد قال شعبة وغيرُه : اتقوا هذه الغرائبَ . قال الترمذى: ويُروى هذا من فعل عمر ، وهو أثبت ، فهذا شأنُ هذين الحديثين اللَّذين عُورض بهما أحاديثُ النهى ، أحدهما : رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره ، والثانى : لا يَصِحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم ، وقد أشبعنا الكلام فى هذه المسألة فى كتاب ((المفتاح)) ، بأطولَ من هذا .. وبالله التوفيق.
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى المنع من التداوى بالمحرَّمات
روى أبو داود فى ((سننه)) من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ((إنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاء ، وَجَعَلَ لِكُلِّ داءٍ دواءً ، فَتَدَاوَوْا ، ولا تَدَاوَوْا بِالْمُحَرَّم)) .
وذكر البخارى فى ((صحيحه)) عن ابن مسعود :
((إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عليكم)) .
وفى ((السنن)) عن أبى هريرة ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّوَاءِ الخَبِيثِ .
وفى ((صحيح مسلم)) عن طارق بن سُوَيد الجُعفىِّ ، أنه سأل النبىَّ صلى الله عليه وسلم عن الخمر ، فنهاه ، أو كَرِهَ أن يصنَعَها ، فقال : إنما أصنعُها للدواء ، فقال : ((إنَّه لَيْسَ بِدَوَاءٍ ولكنَّهُ دَاءٌ )) .
وفى ((السنن)) أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمر يُجْعَل فى الدَّواء ، فقال : ((إنَّهَا دَاءٌ ولَيسَتْ بِالدَّوَاءِ)) رواه أبو داود ، والترمذى.
وفى ((صحيح مسلم)) عن طارق بن سُويدٍ الحضرمى ؛ قال : قلت : يا رسول الله ؛ إنَّ بأرضنا أعناباً نَعتصِرُها فنشرب منها ، قال : ((لا)) . فراجعتُه ، قلتُ : إنَّا نستشفى للمريض قال : ((إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِفَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ)) .
وفى ((سنن النسائى)) أنَّ طبيباً ذَكر ضِفْدَعاً فى دواءٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاه عن قَتْلِها .
ويُذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((مَنْ تَدَاوَى بِالْخَمْرِ ، فَلا شَفَاهُ اللهُ)) .
المعالجة بالمحرَّمات قبيحةٌ عقلاً وشرعاً ، أمَّا الشرعُ فما ذكرْنا من هذه الأحاديثِ وغيرها . وأمَّا العقلُ ، فهو أنَّ اللهَ سبحانه إنما حرَّمه لخُبثه ، فإنه لم يُحَرِّم على هذه الأُمة طَيباً عقوبةً لها ، كما حرَّمه على بنى إسرائيلَ بقوله : {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}[النساء : 160]، وإنما حرَّم على هذه الأُمة ما حَرَّم لخبثه ، وتحريمُه له حِمية لهم ، وصيانة عن تناوله ، فلا يُناسِبُ أن يُطلَبَ به الشِّفاءُ من الأسقام والعِلل ، فإنه وإن أثَّر فى إزالتها ، لكنه يُعْقِبُ سَقَماً أعظمَ منه فى القلب بقوة الخُبث الذى فيه ، فيكون المُدَاوَى به قد سعى فى إزالة سُقْم البدن بسُقْم القلب .
وأيضاً فإنَّ تحريمه يقتضى تجنُّبه والبُعدَ عنه بكُلِّ طريق ، وفى اتخاذه دواء حضٌ على الترغيب فيه وملابسته ، وهذا ضِدُّ مقصود الشارع ، وأيضاً فإنه داء كما نصَّ عليه صاحبُ الشريعة ، فلا يجوز أن يُتخذ دواءً .
وأيضاً فإنه يُكْسِبُ الطبيعة والروح صفةَ الخبث ، لأن الطبيعة تنفعِلُ عن كيفية الدواء انفعالاً بَيِّناً ، فإذا كانت كيفيتُه خبيثةً ، اكتسبت الطبيعةُ منه خُبثاً ، فكيف إذا كان خبيثاً فى ذاته ، ولهذا حرَّم الله سبحانه على عباده الأغذيةَ والأشربةَ والملابِسَ الخبيثة ، لما تُكسب النفسَ من هيئة الخبث وصفته .
وأيضاً فإنَّ فى إباحة التداوى به ، ولا سِيَّما إذا كانت النفوسُ تميل إليه ذريعةً إلى تناوله للشهوة واللَّذة ، لا سِيَّما إذا عرفت النفوسُ أنه نافع لها مزيلٌ لأسقامِها جالبٌ لِشفائها ، فهذا أحبُّ شىءٍ إليها ، والشارعُ سدَّ الذريعة إلى تناوله بكُلِّ ممكن ، ولا ريبَ أنَّ بينَ سدِّ الذريعة إلى تناوله ، وفَتْحِ الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً .
وأيضاً فإنَّ فى هذا الدواء المحرَّم من الأدواء ما يزيدُ على ما يُظَن فيه من الشِّفاء ، ولنفرضْ الكلام فى أُمِّ الخبائث التى ما جعل الله لنا فيها شفاءً قَطُّ ، فإنها شديدةُ المضرَّة بالدماغ الذى هو مركزُ العقل عند الأطباء ، وكثير من الفقهاء والمتكلمين .
قال ((أبقراط)) فى أثناء كلامه فى الأمراض الحادة : ضرر الخمرة بالرأس شديد . لأنه يُسرع الارتفاع إليه . ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التى تعلو فى البدن ، وهو لذلك يضر بالذهن .
وقال صاحب ((الكامل)) : إنَّ خاصية الشَّراب الإضرارُ بالدماغ والعَصَب .
وأمَّا غيرُه من الأدوية المحرَّمة فنوعان :
أحدهما : تعافُه النفس ولا تنبعِثُ لمساعدته الطبيعةُ على دفع المرض به كالسموم ، ولحوم الأفاعى وغيرها من المستقذرات ، فيبقى كَلاً على الطبيعة مثقلاً لها ، فيصير حينئذ داءً لا دواء .
والثانى : ما لا تَعافُه النفس كالشراب الذى تستعمِلُه الحوامل مثلاً ، فهذا ضررُه أكثرُ من نفعه ، والعقلُ يقضى بتحريم ذلك ، فالعقلُ والفِطرةُ مطابقٌ للشرع فى ذلك .
وهاهنا سِرٌ لطيف فى كون المحرَّمات لا يُستشفَى بها ، فإنَّ شرطَ الشفاء بالدواء تلقِّيه بالقبول ، واعتقادُ منفعته ، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء ، فإنَّ النافعَ هو المبارَك ، وأنفعُ الأشياءِ أبركُها ، والمبارَكُ من الناس أينما كان هو الذى يُنتفَع به حيث حَلَّ ، ومعلوم أنَّ اعتقاد المسلم تحريمَ هذه العَيْن مما يَحولُ بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها ، وبين حُسن ظنه بها ، وتلقِّى طبعه لها بالقبول ، بل كلَّما كان العبدُ أعظمَ إيماناً ، كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها ، وطبعُه أكره شىء لها ، فإذا تناولها فى هذه الحال ، كانت داءً له لا دواء إلا أن يزولَ اعتقادُ الخُبث فيها ، وسوءُ الظن والكراهةُ لها بالمحبة ، وهذا يُنافى الإيمان ، فلا يتناولها المؤمن قَطُّ إلا على وجه داء .. والله أعلم .
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى علاج القَمْلِ الذى فى الرأس وإزالته
فى ((الصحيحين)) عن كعب بن عُجْرةَ ، قال : كان بى أذىً مِن رأسى ، فَحُمِلْتُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والقَمْلُ يَتناثَرُ على وجهى ، فقال : ((ما كنتُ أَرى الجَهْدَ قد بَلَغَ بِكَ ما أرَى)) ، وفى رواية : فأمَرَه أن يَحْلِقَ رأسَه ، وأن يُطعِمَ فَرقاً بَيْنَ سِـتَّةٍ ، أو يُهدِىَ شاة ، أو يَصُومَ ثلاثةَ أيامٍ .
القمل يتولَّد فى الرأس والبدن من شيئين : خارج عن البدن وداخلٍ فيه ، فالخارجُ : الوسخُ والدنس المتراكم فى سطح الجسد ، والثانى : من خلط ردىء عفن تدفعُه الطبيعة بين الجلد واللَّحم ، فيتعفَّنُ بالرُّطوبة الدموية فى البَشَرَةِ بعد خُروجها من المسام ، فيكون مِنه القملُ ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد العلل والأسقام ، وبسبب الأوساخ ، وإنما كان فى رؤوس الصبيان أكثر لكثرة رطوباتهم وتعاطيهم الأسباب التى تُولِّد القمل ، ولذلك حَلَقَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم رؤوسَ بنى جعفر .
ومن أكبر عِلاجه حَلْقُ الرأس لِتنفتح مسامُّ الأبخرَة ، فتتصاعد الأبخرة الرديئة ، فتضعفُ مادة الخلط ، وينبغى أن يُطلى الرأس بعد ذلك بالأدوية التى تقتل القمل ، وتمنع تولُّده .
وحلقُ الرأس ثلاثة أنواع ؛ أحدها : نُسُك وقُربة . والثانى : بِدعة وشرك . والثالث : حاجة ودواء .
فالأول : الحلق فى أحد النُّسُكين ، الحجِّ أو العُمرة .
والثانى : حلقُ الرأس لغير الله سبحانه . كما يحلِقها المريدُون لشيوخهم ، فيقول أحدهم : أنا حلقتُ رأسى لفلان ، وأنت حلقتَه لفلان ، وهذا بمنزلة أن يقول : سجدتُ لفلان ، فإنَّ حَلْقَ الرأس خضوعٌ وعُبودية وذُل ، ولهذا كان من تمام الحجِّ ، حتى إنه عند الشافعى ركنٌ من أركانه لا يَتِمُّ إلا به . فإنه وضعُ النواصى بين يدى ربها خضوعاً لعظمته ، وتذللاً لعِزَّته ، وهو من أبلغ أنواع العبودية ، ولهذا كانت العربُ إذا أرادت إذلالَ الأسير منهم وعِتْقَه ، حلقوا رأسه وأطلقُوه ، فجاء شيوخُ الضلال والمزاحِمون للربوبية الذين أساسُ مشيختهم على الشِّرك والبدعة ، فأرادوا مِن مريديهم أن يتعبَّدوا لهم ، فزيَّنوا لهم حَلْقَ رؤوسهم لهم ، كما زيَّنوا لهم السجودَ لهم ، وسمَّوه بغير اسمه ، وقالوا : هو وضعُ الرأس بين يدى الشيخ ، ولعَمرُ الله إنَّ السجود لله هو وضعُ الرأس بين يديه سبحانه ، وزيَّنوا لهم أن ينذُروا لهم ، ويتوبُوا لهم ، ويَحلِفُوا بأسمائهم ، وهذا هو اتخاذُهم أرباباً وآلهةً مِن دُونِ الله ، قال تعالى : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوْا عِبَاداً لِّى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً ، أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُم مُّسْلِمُونَ}[آل عمران: 79-80].
وأشرفُ العبودية عبوديةُ الصلاة ، وقد تقاسمها الشيوخُ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة ، فأخذ الشيوخُ منها أشرفَ ما فيها ، وهو السجود ، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوعَ ، فإذا لقىَ بعضُهم بعضاً ركع له كما يركع المُصَلِّى لربه سواء ، وأخذ الجبابرةُ منهم القيامَ ، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبوديةً لهم ، وهم جلوس ، وقد نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأُمور الثلاثة على التفصيل ، فتعاطِيها مخالفةٌ صريحة له ، فنَهى عن السجود لغير الله وقال : ((لا يَنْبغِى لأَحَدٍ أنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ)) . وأنكر على مُعَاذٍ لَمَّا سَجد له وقال : ((مَهْ)) . وتحريمُ هذا معلوم من دينه بالضرورة ، وتجويزُ مَن جَوَّزه لغير الله مُراغمَةٌ للهِ ورسوله ، وهو من أبلَغِ أنواع العبودية ، فإذا جَوَّز هذا المُشرِكُ هذا النوعَ للبَشَر ، فقد جوَّز العبودية لغير اللهِ ، وقد صَحَّ أنه قيل له : الرَّجُلُ يَلقَى أخاه أَيَنْحَنِى له ؟ قال : ((لا)) . قيل : أَيَلْتَزِمُه ويُقَبِّلُهُ ؟ قال : ((لا)) . قيل : أَيُصافِحُه ؟ قال : ((نعم)) .
|