قلتُ: وليس بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تعارض ولا تناقض ولا اختلاف، وحديثُه كُلُّه يُصدِّقُ بعضه بعضاً، وأصحابُ هذا القول إن أرادوا أن الحَوْض لا يُرَى ولا يُوصَل إليه إلا بعد قطع الصِّراط، فحديث أبى هريرة هذا وغيره يردُّ قولَهم، وإن أرادوا أنَّ المؤمنين إذا جازوا الصِّراط وقطعوه بدا لهم الحَوْضُ فشربوا منه، فهذا يدل عليه حديث لقيط هذا، وهو لا يُناقض كونَه قبل الصِّراط، فإن قوله: ((طولُه شهر، وعرضُه شهر))، فإذا كان بهذا الطول والسعة، فما الذى يُحيل امتدادَه إلى وراء الجسر، فيرده المؤمنون قبل الصِّراط وبعدَه، فهذا فى حيز الإمكان، ووقوعه موقوفٌ على خبر الصادق.. والله أعلم.
وقوله: ((على أَظْمَأِ واللهِ ناهِلَة قَطُّ)): الناهلة: العطاش الواردون الماء، أى: يردونه أظمأ ما هم إليه، وهذا يُناسِب أن يكون بعد الصِّراط، فإنه جسرُ النار، وقد وردوها كُلُّهم، فلما قطعوه، اشتد ظمؤُهم إلى الماء، فوردوا حوضَه صلى الله عليه وسلم، كما وردوه فى موقف القيامة.
وقوله: ((تُخنس الشَّمْسُ والقَمَرُ)): أى: تختفيان فتحتبسان، ولا يُريان، والاختناس: التوارى والاختفاء، ومنه: قول أبى هريرة: فانخنستُ منه.
وقوله: ((ما بين البابين مسيرةُ سبعين عاماً))، يحتمِلُ أن يُريد به أنَّ ما بين الباب والباب هذا المقدار، ويحتمِلُ أن يريد بالبابين المصراعين، ولا يُناقِضُ هذا ما جاء مِن تقديره بأربعين عاماً لوجهين؛ أحدهما: أنه لم يُصرِّحْ فيه راويه بالرفع، بل قال: ولقد ذُكِرَ لنا أنَّ ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً. والثانى: أنَّ المسافة تختلف باختلاف سرعة السير فيها وبطئه.. والله أعلم.
وقوله فى خمر الجنَّة: ((أنه ما بها صُداعٌ ولا نَدَامةٌ))، تعريض بخمر الدنيا وما يلحقُها مِن صُداع الرأس، والندامة على ذهابِ العقلِ والمال، وحصولِ الشر الذى يُوجبه زوالُ العقل. و((الماء غير الآسن)): هو الذى لم يتغير بطول مكثه.
وقوله فى نساء أهل الجنَّة: ((غَيْرَ أنْ لا تَوَالدُ)): قد اختلف الناس، هل تلدُ نساءُ أهلِ الجنَّة؟ على قولين، فقالت طائفة: لا يكون فيها حبل ولا وِلادة، واحتجَّت هذه الطائفة بهذا الحديث، وبحديث آخر أظنه فى ((المسند)) وفيه: ((غير أن لا مَنِىّ ولا مَنِيَّة))، وأثبتت طائفة من السَّلَف، الوِلادة فى الجنَّة، واحتجَّت بما رواه الترمذى فى ((جامعه)) من حديث أبى الصِّدِّيق الناجى، عن أبى سعيد قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((المُؤمِنُ إذا اشْتَهَى الوَلَدَ فى الجَنَّةِ كَانَ حَمْلُه وَوَضْعُهُ وسِنُّه فى سَاعَةٍ كَما يَشْتَهِى)). قال الترمذى: حسن غريب، ورواه ابن ماجه.
قالت الطائفة الأولى: هذا لا يدل على وقوع الولادة فى الجنَّة، فإنه علَّقه بالشرط، فقال: ((إذا اشتهى))، ولكنه لا يشتهى، وهذا تأويل إسحاق ابن راهويه، حكاه البخارى عنه. قالوا: والجنَّةُ دارُ جزاء على الأعمال، وهؤلاء ليسوا من أهل الجزاء، قالوا: والجنَّة دارُ خلود لا مَوتَ فيها، فلو توالد فيها أهلُها على الدوام والأبد، لما وسعتهم، وإنما وسعتهم الدنيا بالموتِ.
وأجابت الطائفة الأخرى عن ذلك كُلِّه وقالت: ((إذا)) إنما تكون لمحقَّقِ الوقوع، لا المشكوك فيه، وقد صحَّ أنه سبحانه يُنشئ للجنَّة خَلْقاً يُسكنهم إياها بلا عمل منهم، قالوا: وأطفالُ المسلمين أيضاً فيها بغير عمل. وأما حديث سعتها: فلو رُزِقَ كُلُّ واحد منهم عشرة آلاف من الولد وَسِعَتهم، فإن أدناهم مَن ينظر فى ملكه مسيرة ألفى عام.
وقوله: ((يا رسول الله؛ أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه))، لا جواب لهذه المسألة، لأنه إن أراد أقصى مدة الدنيا وانتهائها، فلا يعلمه إلا الله، وإن أراد: أقصى ما نحن منتهون إليه بعد دخول الجنَّة والنار، فلا تعلم نفس أقصى ما ينتهى إليه من ذلك، وإن كان الانتهاء إلى نعيم وجحيم، ولهذا لم يُجبه النبى صلى الله عليه وسلم.
وقوله فى عقد البَيْعة: ((وزيال المشرك)): أى: مفارقته ومعاداته، فلا يُجاورُه ولا يُواليه كما جاء فى الحديث الذى فى السنن: ((لا تراءى ناراهما))، يعنى المسلمين والمشركين.
وقوله: ((حيثما مررت بقبر كافر فقل: أرسلنى إليك محمد)): هذا إرسال تقريع وتوبيخ، لا تبليغُ أمر ونهى، وفيه دليل على سماع أصحاب أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم، ودليلٌ على أنَّ مَن مات مشركاً فهو فى النار وإن مات قبل البعثة لأن المشركين كانُوا قد غيَّروا الحنيفية دينَ إبراهيم، واستبدلوا بها الشِّرك، وارتكبوه، وليس معهم حُجَّة من الله به، وقبحُه والوعيدُ عليه بالنار لم يزل معلوماً مِن دين الرُّسُل كُلِّهم من أولهم إلى آخرهم، وأخبارُ عقوباتِ الله لأهله متداولة بين الأُمم قرناً بعد قرن، فللَّه الحُجَّة البالغة على المشركين فى كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فَطَرَ عَبَادَه عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لِتوحيد إلهيته، وأنه يستحيلُ فى كل فِطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يُعذِّب بمقتضى هذه الفِطرة وحدَها، فلم تزل دعوةُ الرُّسُل إلى التوحيد فى الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرُّسُل، والله أعلم.
|