فصل
فى قدوم وفد خَوْلان
وقدِمَ عليه صلى الله عليه وسلم فى شهر شعبان سنة عشر وفدُ خَوْلان، وهم عشرة، فقالوا: يا رسول الله؛ نحن على مَن وَرَاءَنَا مِن قومنا، ونحن مؤمنون بالله عَزَّ وَجَّل، ومصدِّقون برسوله، وقد ضربنا إليك آباطَ الإبل، وركبنا حُزُونَ الأرض وسهولَها، والمنة لله ولِرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ مَسِيرِكُم إلىَّ فَإنَّ لَكُم بِكُلِّ خَطْوَة خَطاهَا بَعِيرُ أحَدِكُم حَسَنَة، وأما قولُكم: زائِرِينَ لك، فإنه مَنْ زَارَنى بِالمَدِينَةِ، كَانَ فى جِوارى يَوْمَ القِيَامَةِ))، قالوا: يَا رسول الله؛ هذا السفرُ الذى لا تَوَى عَلَيْهِ، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَا فَعَلَ عَم أنَسٍ))؟ وهو صنم خَوْلان الذى كانوا يعبدونه قالوا: أبشِرْ، بدَّلنا اللهُ به ما جئتَ به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسِّـكون به، ولو قدمنا عليه، لهدمناه إن شاء الله، فقد كنا منه فى غُرور وفِتنة. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومَا أَعْظَمَ مَا رَأَيْتُم مِنْ فِتْنَتِه))؟ قالوا: لقد رأيتنا أَسْنَتْنَا حَتَّى أكلنا الرِّمة، فجمعنا ما قَدَرْنا عليه، وابتعنا به مِائة ثور، ونحرناها لـ ((عم أنس)) قُرباناً فى غَداةٍ واحدةٍ، وتركناها تَردُها السباع، ونحن أحوَجُ إليها من السباع، فجاءنا الغيثُ مِن ساعتنا، ولقد رأينا العُشْبَ يُوارى الرجالَ، ويقول قائِلُنا: أنعم علينا ((عم أنس))، وذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يَقسِمُون لصنمهم هذا من أنعامهم وحُروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءاً له، وجزءاً لله بِزعمهم، قالوا: كنا نزرعُ الزرعَ، فنجعلُ له وسطَه، فنسميه له، ونسمى زرعاً آخر حجرة لله، فإذا مالت الريحُ فالذى سميناه لله جعلناه لـ ((عم أنس))، وإذا مالت الريح، فالذى جعلناه، لم نجعله لله، فذكر لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الله أنزل علىَّ فى ذلك: {وَجَعَلُواْ للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً}[الأنعام: 136]، قالوا: وكنا نتحاكم إليه فيتكلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((تِلْكَ الشَّيَاطِينُ تُكَلِّمُكُم))، وسألوه عن فرائض الدين، فأخبرهم، وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداءِ الأمانةِ، وحُسنِ الجوار لمن جاورُوا، وأن لا يظلِمُوا أحداً. قال: ((فإن الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ))، ثم ودَّعوه بعد أيام، وأجازهم، فرجعُوا إلى قومهم، فلم يَحُلُّوا عقدة حتى هدموا ((عم أنس)).
فصل
فى قدوم وفد محارب
وقَدِمَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفدُ محارب عامَ حَجَّة الوداع، وهم كانوا أغلظَ العرب، وأفظَّهم على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المواسم أيامَ عَرْضِهِ نَفْسَهُ على القبائل يدعوهم إلى الله، فجاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم عشرة نائبين عمن وراءَهم مِن قومهم، فأسلموا، وكان بِلالٌ يأتيهم بِغَداء وعَشاء إلى أن جلسُوا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الظهر إلى العصر، فعرف رجلاً منهم، فأمدَّه النظر، فلما رآه المحاربى يُديمُ النظرَ إليه، قال: كأنك يا رسولَ الله توهمنى؟ قال: ((لقد رأيتُك))، قال المحاربىُّ: أى واللهِ، لقد رأيتنى وكلَّمتنى، وكلَّمتُك بأقبح الكلام، ورددتُك بأقبح الرد بعُكاظ، وأنت تطُوفُ على الناس، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم))، ثم قال المحاربىُّ: يا رسولَ الله؛ ما كان فى أصحابى أشدُّ عليكَ يومئذ، ولا أبعدُ عن الإسلام منى، فأحمد الله الذى أبقانى حتى صدَّقتُ بك، ولقد مات أُولئك النَفَرُ الذين كانوا معى على دينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ هذِهِ القُلُوبَ بِيَدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ))، فقال المحـاربىُّ: يا رسولَ اللهِ؛ استغفر لى مِن مراجعتى إيَّاك، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الإسْلامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الكُفْر))، ثم انصرفُوا إلى أهليهم.
فصل
فى قدوم وفد صُدَاء فى سنة ثمان
وقَدِمَ عليه صلى الله عليه وسلم وفد صُداء، وذلك أنه لما انصرف من الجِعْرَانَةِ، بعث بعوثاً، وهيأ بعثاً، استعمل عليه قيسَ بنَ سعدِ بن عبادة، وعقد له لواءً أبيض، ودفع إليه رايةً سوداء، وعسكر بناحية قناة فى أربعمائةٍ مِن المسلمين، وأمره أن يطأ ناحيةً من اليمن كان فيها صُداء، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل منهم، وعلم بالجيش، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ؛ جئتُك وافداً على مَن ورائى فاردُدِ الجيشَ، وأنا لك بقومى، فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قيسَ بن سعد من صَدْرِ قَنَاة، وخرج الصُّدائى إلى قومه، فقدِم على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلاً منهم، فقال سعدُ بن عُبادة: يا رسولَ اللهِ؛ دعهم ينزِلوا علىَّ، فنزلُوا عليه، فحيَّاهم وأكرمهم، وكساهم، ثم راح بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعُوه على الإسلام، فقالوا: نحنُ لك على مَن وراءنا من قومنا، فرجعوا إلى قومهم، ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم مائةُ رجل فى حَجَّة الوداع، ذكر هذا الواقدى عن بعض بنى المُصْطَلِقِ، وذكر من حديث زياد بن الحارث الصُّدائى، أنه الذى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: اردُدِ الجيشَ وأنا لك بقومى، فردَّهم، قال: وقدم وفدُ قومى عليه، فقال لى: ((يا أخا صُداءٍ، إنَّكَ لَمُطَاعٌ فى قَوْمِكَ))؟ قالَ: قلتُ: بلى يا رسولَ الله مِن الله عَزَّ وجَلَّ، ومن رسوله، وكان زيادٌ هذا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره، قال: فاعتَشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أى سار ليلاً واعتشينا معه، وكنت رجلاً قوياً، قال: فجعل أصحابُه يتفرَّقون عنه، ولزِمْتُ غَرْزَهُ، فلما كان فى السَّحَر، قال: ((أذِّن يا أخا صُداء)) فأذَّنْتُ على راحلتى، ثم سرنا حتى ذهبنا، فنزل لحاجته، ثم رجع، فقال: يا أخا صُداء؛ هل معك ماء؟ قلت: معى شىء فى إداوتى، فقال: ((هاته)) فجئت به، فقال: ((صُبَّ)) فصببتُ ما فى الإداوة فى القعب، فجعل أصحابُه يتلاحقون، ثم وضع كفَّه على الإناء، فرأيتُ بين كل أصبعين من أصابعه عَيْناً تفورُ، ثم قال: ((يا أخا صُدَاء؛ لولا أنى أستحيى من ربِّى عَزَّ وجَلَّ، لسقينا واستقينا)) ثم توضأ وقال: ((أذِّن فى أصحابى: مَن كانت له حاجة بالوضوء فَلْيَرِدْ)) قال: فوردُوا من آخرهم، ثم جاء بلال يُقيم، فقال: ((إنَّ أخَا صُدَاءٍ أذَّنَ، ومَنْ أَذَّنَ، فَهُوَ يُقِيمُ)) فأقمتُ، ثم تقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى بنا، وكنتُ سألتُه قَبْلُ أَن يؤمِّرَنى على قومى، ويكتُبَ لى بذلك كتاباً، ففعل، فلما فرغ مِن صلاته، قام رجل يتشكى من عامله، فقال: يا رسول الله؛ إنه أخذنا بذُحُولٍ كانت بيننا وبينه فى الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا خَيْرَ فى الإمَارَةِ لِرَجُلٍ مُسلِم))، ثم قام آخر، فقال: يا رسولَ الله؛ أعْطنى مِن الصِّدَقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ لم يَكِلْ قِسْمَتَهَا إلى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولا نَبِىٍّ مُرْسَل، حتَّى جَزَّأََهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فإنْ كُنْتَ جُزْءاً منها أَعْطَيْتُكَ، وإنْ كُنْتَ غَنِيّاً عنها، فإنَّما هِىَ صُداعٌ فى الرَّأْسِ، ودَاءٌ فى البَطْن))، فقُلتُ فى نفسى: هاتان خصلتان حين سألت الإمارة، وأنا رجل مسلم، وسألتُه مِن الصدقة، وأنا غنى عنها، فقلتُ: يا رسولَ الله؛ هذان كتاباك فاقبلْهُما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَلِمَ))؟ فقلت: إنى سمعتك تقولُ: ((لا خَيْرَ فى الإمَارَةِ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ))، وأنا مسلم، وسمعتُك تقول: ((مَنْ سَأَلَ مِنَ الصَّدَقةِ، وَهُوَ غَنِىٌ عنها، فإنَّما هِىَ صُداعٌ فى الرَّأسِ، ودَاءٌ فى البَطْنِ)) وأنا غَنِىٌ، فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَمَا إنَّ الَّذِى قلتُ كَمَا قُلتُ))، فقبلهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لى: ((دُلَّنى على رَجُلٍ مِنْ قَوْمِكَ أَسْتَعْمِلُه))، فدللتُه على رجل منهم، فاستعملَه، قلتُ: يا رسول الله؛ إنَّ لنا بئراً إذا كان الشتاءُ، كفانا ماؤها، وإذا كان الصيفُ، قَلَّ علينا، فتفرقنا على المياه، والإسلامُ اليومَ فينا قليل، ونحن نخاف، فادعُ الله عَزَّ وجَلَّ لنا فى بئرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ناوِلنى سَبْعَ حَصَيَاتٍ))، فناولتُه، فَعَرَكَهُنَّ بيده، ثم دفعهن إلىَّ وقال: ((إذا انتهيتَ إليها، فألقِ فيها حصاةً حصاةً، وسمِّ الله)) قال: ففعلت، فما أدركنا لهَا قعراً حتَّى الساعة.
فصل
فى فقه هذه القصة
ففيها: استحبابُ عقد الألوية والرايات للجيش، واستحبابُ كـونِ اللِّواء أبيض، وجواز كونِ الراية سوداء مِن غير كراهة.
وفيها: قبولُ خبرِ الواحد، فإن النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم ردَّ الجيش من أجل خبر الصُّدَائى وحده.
وفيها: جوازُ سير اللَّيل كُلِّه فى السفر إلى الأذان، فإنَّ قوله: ((اعتشى)) أى: سار عشية، ولا يُقال لما بعد نصف الليل.
وفيها: جوازُ الأذان على الراحلة.
وفيها: طلبُ الإمام الماءَ من أحد رعيته للوضوء، وليس ذلك من السؤال.
وفيها: أنه لا يتيممُ حتى يَطلُبَ الماء فيُعْوِزه.
وفيها: المعجزةُ الظاهرة بفورانِ الماء من بين أصابعه، لما وضعها فيه، أمدَّه الله به وكثَّره، حتى جعل يفورُ مِن خلال الأصابع الكريمة، والجهال تَظُنُّ أنه كان يشق الأصابع، ويخرج من خلال اللَّحم والدم، وليس كذلك، وإنما بوضعه أصابعه فيه حلَّت فيه البركة من الله والمدد، فجعل يفور حتى خرج من بين الأصابع، وقد جرى له هذا مراراً عديدة بمشهد أصحابه.
وفيها: أن السُّنة أن يتولَّى الإقامة مَن تولَّى الأذان، ويجوزُ أن يُؤذِّن واحد، ويُقيم آخر، كما ثبت فى قصة عبد الله بن زيد أنه لما رأى الأذان، وأخبر به النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((ألْقِهِ على بلالٍ))، فألقاه عليه، ثم أراد بلال أن يُقيم، فقال عبد الله بن زيد: يا رسولَ الله؛ أنا رأيتُ، أريد أن أقيم، قال: ((فأقم))، فأقام هو، وأذَّن بلال، ذكره الإمام أحمد رحمه الله.
وفيها: جوازُ تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفئاً، ولا يكون سؤاله مانعاً من توليته، ولا يُناقِض هذا قوله فى الحديث الآخر: ((إنَّا لَنْ نُوَلِّىَ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أرَادَهُ))، فإن الصُّدائى إنما سأله أن يؤمِّره على قومه خاصة، وكان مطاعاً فيهم، محبَّباً إليهم، وكان مقصودُه إصلاحَهم، ودُعاءهم إلى الإسلام، فرأى النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن مصلحة قومِه فى توليته، فأجابه إليها، ورأى أن ذلك السائل إنما سأله الولاية لحظِّ نفسه ومصلحته هو، فمنعه منها، فولَّى للمصلحة، ومنع للمصلحة، فكانت توليتُه للهِ، ومنعه لله.
وفيها: جواز شِكاية العمال الظَلَمة، ورفعهم إلى الإمام، والقدح فيهم بظلمهم، وأنَّ تركَ الولاية خيرٌ للمسلم مِن الدخول فيها، وأنَّ الرجل إذا ذكر أنه من أهل الصدقة، أُعطَى منها بقوله ما لم يظهر منه خلافُه.
ومنها: أنَّ الشخصَ الواحد يجوز أن يكون وحده صنفاً من الأصناف لقوله: ((إنَّ الله جَزَّأَها ثَمانِيَة أَجْزاءٍ، فَإنْ كُنتَ جُزْءاً منها أعْطَيْتُكَ)).
ومنها: جوازُ إقالةِ الإمامِ لولاية مَن ولاَّهُ إذا سأله ذلك.
ومنها: استشارةُ الإمام لذى الرأى مِن أصحابه فيمن يُولِّيه.
ومنها: جوازُ الوضوء بالماء المبارَك، وأن بركته لا تُوجب كراهةَ الوضوء منه، وعلى هذا فلا يُكره الوضوء مِن ماء زمزم، ولا مِن الماء الذى يجرى على ظهر الكعبة.. والله أعلم.
|