وفى ((صحيح البخارى)) عن أبى رجاء العُطَارِدى، قال: لما بُعِثَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعْنَا به، لحقنا بمُسَيْلِمَة الكذَّاب، فلحقنا بالنار، وكنا نعبُدُ الحجرَ فى الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً هو أحسنُ منه، ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجراً، جمعنا جُثْوَةً من تراب، ثم جئنا بالشاةِ فحلبناها عليه، ثم طُفنا به، وكنا إذا دخل رجب، قلنا: جاء مُنْصِلُ الأسِنَّة، فلا نَدَعُ رُمحاً فيه حديدة، ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناها وألقيناها.
قلت: وفى ((الصحيحين)) من حديث نافع بن جُبير، عن ابن عباس، قال: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الكذَّابُ على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فجعل يقولُ: إن جعل لى محمدٌ الأمرَ مِن بعده، تبعتُه، وقَدِمَها فى بَشَرٍ كثير من قومه، فأقبل النبىُّ صلى الله عليه وسلم ومعه ثابتُ بنُ قيس بن شَمَّاس، وفى يدِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم قِطعةُ جـريد حتى وقف على مُسَيْلِمَة فى أصحابه، فقال: ((إن سَأَلْتَنى هذِهِ القِطعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، ولَنْ تَعْدُوَ أمْرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أدْبَرْتَ، ليَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وإنِّى أُرَاكَ الَّذِى أُريتُ فيهِ ما أُريتُ، وهذا ثابت بن قيس يُجيبك عنى)) ثم انصرف. قال ابنُ عباس: فسألتُ عن قول النبى صلى الله عليه وسلم: ((إنَّك الَّذِى أُريتُ فيه ما أُريتُ)) فأخبرنى أبو هريرة، أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فى يَدَىَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَب، فَأَهَمَّنى شأنُهُما، فأُوحِىَ إلىَّ فى المَنامِ أَن انْفُخهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأوَّلْتُهُما كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِى، فَهذانِ هُما، أَحَدُهُما العَنسِى صَاحِبُ صَنْعَاءَ، والآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ صَاحِبُ اليَمَامَةِ)). وهذا أصح من حديث ابن إسحاق المتقدم.
وفى ((الصحيحين)) مِن حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَيْنَا أَنا نَائِمٌ إذ أُتيتُ بِخَزَائِنِ الأرْضِ، فوُضِعَ فى يَدَىَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلىَّ وأَهَمَّانى، فأُوْحى إلىَّ أَن انفُخْهُما، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنا بَيْنَهُمَا، صَاحِبَ صَنعَاءَ وصَاحِبَ اليَمَامَةِ)).
فصل
فى فقه هذه القصة
فيها: جوازُ مكاتبةِ الإمام لأهل الرِّدَّة إذا كان لهم شَوْكة، ويكتب لهم ولإخوانهم من الكفار: سلامٌ على مَن اتبَّع الهُدَى.
ومنها: أنَّ الرسول لا يُقتل ولو كان مرتداً، هذه السُّـنَّة.
ومنها: أنَّ للإمام أن يأتىَ بنفسه إلى مَن قدم يُريد لقاءه من الكفار.
ومنها: أنَّ الإمام ينبغى له أن يستعينَ برجل من أهل العلم يُجيب عنه أهلَ الاعتراض والعِناد.
ومنها: توكيلُ العالِم لبعض أصحابِه أن يتكلَّم عنه، ويُجيب عنه.
ومنها: أنَّ هذا الحديثَ من أكبرِ فضائلِ الصِّدِّيق، فإنَّ النبى صلى الله عليه وسلم نفخ السِّوارين بروحه فطارا، وكان الصِّدِّيق هو ذلك الرُّوح الذى نفخ مُسَيْلِمَة وأطاره.
قال الشاعر:
فَقُلْـــتُ لَهُ ارْفَعْهَا إلَيْكَ فَأَحْيِهَا *** بِرُوحِكَ واقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا
ومن هاهنا دلَّ لباس الحلى للرجل على نكَدٍ يلحقه وهمٍّ يناله، وأنبأنى أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نِعمة بن سرور المقدسى المعروف بالشهاب العابِر. قال: قال لى رجل: رأيتُ فِى رجلى خِلخالاً، فقلتُ له: تتخلخل رجلك بألم، وكان كذلك.
وقال لى آخر: رأيتُ كأن فى أنفى حلقةَ ذهبٍ، وفيها حب مليح أحمر، فقلت له: يقع بك رعاف شديد، فجرى كذلك.
وقال آخر: رأيتُ كُلاباً معلقاً فى شفتى، قلت: يقع بك ألم يحتاج إلى الفصد فى شفتك، فجرى كذلك.
وقال لى آخر: رأيتُ فى يدى سِواراً والناس يُبصرونه، فقلتُ له: سوء يُبصره الناس فى يدك، فعن قليل طلع فى يده طلوع.
ورأى ذلك آخر لم يكن يُبصره الناس، فقلت له: تتزوجُ امرأةً حسنة، وتكون رقيقة.
قلتُ: عبَّر له السِّوار بالمرأة لما أخفاه، وستره عن الناس، ووصفها بالحُسن لحُسن منظر الذهب وبهجته، وبالرِّقة لشكل السوار.
والحلية للرجل تنصرف على وجـوه. فربما دلَّت على تزويج العُزَّاب لكونها من آلات التزويج، وربما دلَّت على الإماء والسرارى، وعلى الغناء، وعلى البنات، وعلى الخدم، وعلى الجهاز، وذلك بحسب حال الرائى وما يليق به.
قال أبو العباس العابر: وقال لى رجل: رأيتُ كأنَّ فى يدى سواراً منفوخاً لا يراه الناس، فقلت له: عندك امرأة بها مرضُ الاستسقاء، فتأمل كيف عبَّر له السِّوار بالمرأة، ثم حكم عليها بالمرض لصُفرة السِّوار، وأنه مرض الاستسقاء الذى ينتفخ معه البطن.
قال: وقال لى آخر: رأيتُ فى يدى خلخالاً وقد أمسكه آخر، وأنا ممسك له، وأصيحُ عليه وأقول: اترك خلخالى، فتركـه، فقلتُ له: فكان الخلخالُ فى يدك أملس؟ فقال: بل كان خشناً تألمتُ منه مرةً بعد مرةً، وفيه شراريف، فقلت له: أُمك وخالُك شريفان، ولستَ بشريف، واسمُك عبد القاهر، وخالك لسانه نجس ردىء يتكلم فى عِرضك، ويأخذ مما فى يدك، قال: نعم، قلت: ثم إنه يقع فى يد ظالم متعد، ويحتمى بك، فتشدُّ منه، وتقولُ: خلِّ خالى، فجرى ذلك عن قليل.
قلت: تأمل أَخْذَه الخال من لفظ ((الخلخال))، ثم عاد إلى اللفظ بتمامه حتى أخذ منه، خلِّ خالى، وأخذ شرفه من شراريف الخلخال، ودلَّ على شـرف أُمه، إذ هى شقيقة خاله، وحكم عليه بأنه ليس بشريف، إذ شـرفات الخال الدالة على الشرف اشتقاقاً هى فى أمر خارج عن ذاته، واستدل على أن لسانَ خاله لسان ردىء يتكلم فى عِرضه بالألم الذى حصل له بخشونة الخلخال مرة بعد مرة، فهى خشونةُ لسان خاله فى حقه، واستدل على أخذ خاله ما فى يديه بتأذيه به، وبأخذه من يديه فى النوم بخشونته، واستدلَّ بإمساك الأجنبى للخلخال، ومجاذبة الرائى عليه على وقوع الخال فى يد ظالم متعد يطلب منه ما ليس له، واستدلَّ بصياحه على المجاذب له، وقوله: خلِّ خالى على أنه يعين خاله على ظالمه، ويشدٍّ منه، واستدل على قهره لذلك المجاذِب له، وأنه القاهر يده عليه على أنه اسمه عبد القاهر، وهذه كانت حالَ شيخنا هذا، ورسوخه فى علم التعبير، وسمعتُ عليهِ عدة أجزاء، ولم يتفق لى قراءةُ هذا العلم عليه لصغر السن واخترام المنية له رحمه الله تعالى.
فصل
فى قدوم وفد طيئ على النبى صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: وقدم على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ، وفيهم زيدُ الخيل، وهو سيِّدُهم، فلما انتَهَوْا إليه، كلَّمهم، وعرض عليهم الإسلام، فأسلموا وحَسُن إسلامهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ذُكِرَ لى رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ بِفَضْلٍٍ ثُمَّ جَاءَنى إلاَّ رَأَيْتُه دُونَ ما يُقالُ فيه إلاَّ زَيْدَ الخَيْلِ: فَإنَّه لَمْ يَبْلُغ كُلَّ ما فِيهِ))، ثم سمَّاه: زيد الخير، وقطع له فيداً وأرضين معه، وكتب له بذلك، فخرج من عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى قومه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنْ يُنْجَ زَيْدٌ مِنْ حُمَّى المَدِينَةِ)) فإنَّهُ قال: وقد سمَّاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحُمَّى وغير أُمِّ مَلْدَم، فلم يُثبته، فلما انتهى إلى ماء مِن مياه نجد يقال له: فَرْدَة، أصابته الحُمَّى بها، فمات، فلما أحس بالموت أنشد:
أمُرْتَحِلٌ قَوْمِى المَشَـارِقَ غَدْوَةً *** وَأُتْرَكُ فى بـَيْتٍ بفَـرْدَةَ مُنجِد
ألا رُبَّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْتُ لَعَادَنى *** عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنَّ يَجْهَــدِ
قال ابن عبد البر: وقيل: مات فى آخر خلافة عمر رضى الله عنه، وله ابنان: مُكْنِف، وحُريث، أسلما، وصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدا قِتال أهل الرِّدَّة مع خالدِ بن الوليد.
فصل
فى قدوم وفد كِندة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: حدثنى الزُّهْرى، قال: قدم الأشعثُ بنُ قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثمانين أو ستين راكباً من كِندة، فدخلُوا عليه صلى الله عليه وسلم مسجده قد رَجَّلُوا جُمَمَهم، وتسلَّحوا، ولبسوا جِبَابَ الحِبَرَاتِ مكفَّفة بالحرير، فلما دخلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوَلَمْ تُسْلِموا))؟ قالوا: بلى. قال: ((فَما بالُ هذا الحَرير فى أعْنَاقِكُم))؟. فشقُّوهُ، ونزعوه، وألقَوْه، ثم قال الأشعث: يا رسول الله؛ نحنُ بنو آكـلِ الـمُرار، وأنت ابنُ آكلِ الـمُرار، فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((ناسِبُوا بهذا النَّسَبِ رَبِيعَةَ بن الحارث، والعَبَّاس بن عَبْد المُطَّلب)).
قال الزُّهْرى وابن إسحاق: كانا تاجرين، وكانا إذا سارا فى أرض العرب، فسُئِلا مَن أنتُما؟ قالا: نحن بنو آكِلِ الـمُرار، يتعزَّزون بذلك فى العرب، ويدفعون به عن أنفسهم، لأن بنِى آكل الـمُرار من كِندة كانوا ملوكاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بن كِنَانَة لا نَقْفُو أُمَّنا، ولا ننْتَفِى مِنْ أبِينَا)).
|