قال ابن إسحاق: فحدَّثنى عاصم بن عمر بن قتادة، أنه وثب عليه رجل من الأنصار، فقال: يا رسولَ الله؛ دعنى وعدو الله أضربْ عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه عنك، فقد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه)) قال: فغضب كعب على هذا الحى من الأنصار لما صنع به صاحبُهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، فقال قصيدته اللامية التى يصف فيها محبوبته وناقته التى أولها:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِى اليَوْمَ مَتْبُـــولُ *** مُتَيَّــمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُــولُ
يَسْـعَى الغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُــمُ *** إنَّكَ يَا ابْنَ أبى سُلْمَى لَمَقْتُـــولُ
وَقَـالَ كُلُّ صَـدِيقٍ كُنْتُ آمُلُـهُ *** لا أُلْهِيَنَّكَ إنى عَنْكَ مَشْغُـــولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا طَرِيقِى لاَ أَبَا لَكُــم *** فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعُـــولُ
كُلُّ ابن أُنْثَى وإن طَالَتْ سَــلاَمَتُه *** يَوْماً عَلَى آلةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُـــولُ
نُبِّئْتُ أنَّ رَسُــــولَ اللهِ أَوْعَدَنى *** والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُـــولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الَّذى أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الــ *** ــقُرْآنِ فيهَا مَوَاعيظٌ وَتَفْصِيــلُ
لاَ تَأْخُذَنِّى بِأَقْوَالِ الوُشَـاةِ ولَــمْ *** أُذْنِبْ ولو كَثُـرَتْ فىَّ الأَقَاويــلُ
لَقَدْ أَقُـــومُ مَقَاماً لَوْ يَقُـومُ بِهِ *** أرى وأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الفِيــلُ
لَظَلَّ تُرْعَدُ مِنْ خَــوْفٍ بـَوادِرُه *** إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَسُولِ اللهِ تَنْوِيــلُ
حَـتَّى وَضَعْتُ يَمِينِى مَا أُنَازِعُهَـا *** فى كَفِّ ذِى نَقِماتٍ قَوْلُه القِيــلُ
فَلَهْـوَ أَخْوفُ عندى إذ أُكَلِّمُــه *** وقيلَ إنَّك منســـوبٌ ومسؤولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَراءِ الأَرْضِ مُخْـدَرُهُ *** فى بَطْنِ عَثَّـــرَ غِيلٌ دُونَه غِيـلُ
يَغْـدُوُ فيُلْحِمُ ضِرغـَامَيْن عَيْشُهُمَا *** لَحْمٌ مِنَ النَّاسِ، مَعْفُورٌ خَرَادِيــلُ
إذا يُسَـاورُ قِرْناً لاَ يَحِـــلُّ لَهُ *** أَنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إلاَّ وَهو مَفْلُــولُ
مِنْـهُ تَظَلُّ سِبَاعُ الجَوِّ نَافِــــرَةً *** وَلا تَمَـــشَّى بوَادِيهِ الأرَاجِيـلُ
وَلا يَزَالُ بِوَادِيهِ أخُو ثِقَـــــةٍ *** مضرَّج البَزِّ والدُّرْسَـــانِ مَأْكُولُ
إنَّ الرَّسُـولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِــهِ *** مُهَنَّــدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُـولُ
فى عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلـُـهُمْ *** بِبَطْنِ مَكَّةَ لما أسْلَمُــوا زُولُــوا
زَالُوا فَما زَالَ أَنْكَاسٌ ولا كُشُـفٌ *** عِنْدَ اللِّقَـاءِ وَلا مِيلٌ مَعَازِيـــلُ
يمْشُونَ مَشْىَ الجِمالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُم *** ضَرْبٌ إذَا عَرَّدَ السُـودُ التَّنابِيـلُ
شُـــمُّ العَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُـهُمُ *** مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فى الهَيْجا سَرَابيــلُ
بيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكَّتْ لها حَلَــقٌ *** كَأنَّهَا حَلَقُ القَفْعـاءِ مَجْـــدُولُ
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُــمُ *** قَوْمَاً ولَيْسُوا مَجَازِيعاً إذا نِيلُــوا
لاَ يَقَع الطَّعْنُ إلاَّ فى نُحُـورِهــمُ *** وَمَا لَهُمْ عَنْ حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيـلُ
قال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب:
((إذاَ عرَّدَ السُودُ التَّنابِيلُ)) وإنما عنى معشر الأنصار لِما كان صاحبنا صنع به ما صنع، وخص المهاجرين بمدحته، غضبت عليه الأنصارُ، فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار فى قصيدته التى يقول فيها:
مَنْ سَـــرَّهُ كَرَمُ الحَيَـاةِ فَلاَ يَزَلْ *** فى مِقْنَبٍ مِنْ صَالحى الأنْصَـــارِ
وَرِثُوا المَكَارِمَ كَابِـــراً عَنْ كَابِـرٍ *** إنَّ الخِيَارَ هُمُ بَنُو الأَخْيـــــارِ
البَاذِلِينَ نُفُوسَهـــــمْ لِنَبِيِّهـمْ *** يَوْمَ الهِيَاجِ وسَطْوَةِ الجَبَّـــــارِ
وَالذَّائِدِينَ النَّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِــــم *** بِالمَشْــرَفِىِّ وبِالقَنَا الخَطَّـــارِ
والبَائِعِينَ نُفُوسَهْمُ لِنَبِيِّهِـــــمْ *** لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعانُقٍ وَكِــــرارِ
يَتَطَهَّـــــرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكاً لَهُمْ *** بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنَ الكُفَّــــارِ
وَإذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إلَيْهِــــم *** أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الأعْفَـــارِ
قَوْمٌ إذا خَوَتِ النُّجُومُ فَإنَّهُــــم *** لِلطــــارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَـارِى
وكعب بن زهير من فحول الشعراء، هو وأبوه، وابنه عقبة، وابن ابنه العوام بن عقبة، ومما يُستحسن لكعب قوله:
لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَىءٍ لأَعْجَبَنـى *** سَعْــىُ الفَتَى وهو مَخْبُوءٌ له القَدَرُ
يَسْعَى الفَتَى لأُمُورٍ لَيْسَ يُدْركُهَــا *** فَالنَّفْسُ وَاحِـــدَةٌ وَالهَمُّ مُنْتَشِـرُ
وَالمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْـــدُودٌ لَهُ أمَلٌ *** لاَ تَنْتَهِى العَيْنُ حَتَّى يَنْتَهى الأَثَــرُ
ومما يُستحسن له أيضاً قوله فى النبى صلى الله عليه وسلم:
تُحْدى بِهِ النَّاقَةُ الأَدْمَاءُ مُعْتَجِـراً *** لِلبُرْدِ كَالبَدْرِ جُلِّى لَيْلَة الظُّلَـمِ
ففى عِطافَيْهِ أو أَثْنَــاءِ بُرْدَتِـهِ *** مَا يَعْلَمُ اللهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَـرَمِ
فصل
[فى غزوة تَبُوك وكانت فى شهر رجَب سنةَ تسع]
قال ابن إسحاق: وكانت فى زمن عُسْرَةٍ مِنَ الناس، وجَدْبٍ من البلاد، وحين طابت الثمارُ، والناس يُحبون المُقام فى ثمارهم وظِلالهم، ويكرهون شُخوصهم على تلك الحال، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يخرج فى غزوة إلا كنَّى عنها، وورَّى بغيرها، إلا ما كان مِن غزوة تَبُوك، لبُعْد الشُّقة، وشِدة الزمان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم، وهو فى جَهَازه للجَدِّ بنِ قيس أحد بنى سلمة: ((يا جَدُّ؛ هَلْ لَكَ العَامَ فى جِلاَدِ بَنى الأَصْفَرِ))؟ فقال: يا رسول الله؛ أَوَ تأذنُ لى ولا تَفْتِنِّى؟ فواللهِ لقد عرف قومى أنه ما مِن رَجُلٍ بأشدَّ عجباً بالنساء منى، وإنِّى أخشى إن رأيتُ نساءَ بنى الأصفر أن لا أصبِرَ، فأعرضَ عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((قَدْ أَذِنْتُ لَكَ))، ففيه نزلت الآية: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائذَنْ لِّى وَلا تَفْتِنِّى} [التوبة: 49]
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفِرُوا فى الحَرِّ، فأنزل الله فيهم: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ} الآية [التوبة: 81].
ثُم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جدَّ فى سفره، وأمر الناسَ بالجَهَاز، وحضَّ أهلَ الغِنَى على النفقة والحُملان فى سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغِنَى واحتسبُوا، وأنفق عثمانُ بن عفانُ فى ذلك نفقةً عظيمة لم يُنفِقْ أحدٌ مِثلها.
قلت: كانت ثلاثمائة بعير بأحْلاسها وأقتابِها وعُدَّتها، وألفَ دينار عَيْناً.
وذكر ابنُ سعد قال: بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الرومَ قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هِرَقْل قد رَزَق أصحابَه لسنة، وأجلبت معه لَخْمٌ، وجُذام، وعَامِلَة، وغسان، وقدَِّموا مقدماتهم إلى البلقاء.
وجاء البكَّاؤون وهم سبعة يستحمِلُون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لا أجدُ مَا أَحْمِلُكم عَلَيْه))، فتولَّوْا وأعينُهم تفيضُ من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما يُنفقون، وهم سالمُ بن عُمير، وعُلْبَةُ بنُ زيد، وأبو ليلى المازنى، وعمرو بن عَنَمَة، وسلمة بن صخر، والعِرباض بن سارية.
وفى بعض الروايات: وعبد الله بن مُغَفَّل، ومعقِلُ بن يسار.
وبعضهم يقول: البكَّاؤون بنو مُقَرِّن السبعة، وهم من مُزينة. وابن إسحاق: يعدُّ فيهم عَمْرو بن الحُمام بن الجَموح.
وأرسل أبا موسى أصحابُه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيحمِلهم، فوافاه غضبان، فقال: ((واللهِ لا أحملكم، ولا أَجدُ ما أحمِلُكم عليه))، ثم أتاه إبل، فأرسل إليهم، ثم قال: ((مَا أَنَا حمَلْتُكُم، ولَكِنَّ الله حَمَلَكُم، وإنِّى وَاللهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرَاً مِنْهَا، إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينى وَأَتَيْتُ الَّذى هُوَ خَيْرٌ)).
فصل
[فى ما كان من أمر عُلْبَة بن زيد]
وقام عُلبة بن زيد فصلَّى من الليل وبكى، وقال: اللَّهُمَّ إنَّك قد أمرتَ بالجهاد، ورغَّبتَ فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوَّى به مع رسولك، ولم تجعل فى يد رسولك ما يحمِلُنى عليه، وإنى أتصدَّق على كل مسلم بكل مَظْلِمَةٍ أصابنى فيها مِن مال، أو جسد، أو عِرض، ثم أصبح مع الناس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ((أيْنَ المُتَصَدِّقُ هذِهِ اللَّيْلَة))؟. فلم يقم إليه أحد، ثم قال: ((أَيْنَ المُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ))، فَقَام إليه، فأخبرَه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ((أَبْشِرْ فَوالذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فى الزَّكَاةِ المتَقَبَّلَة)).
وجاءَ المعذِّرُونَ من الأعرابِ ليؤذن لهم، فلم يَعْذِرْهم. قال ابن سعد: وهم اثنان وثمانون رجلاً، وكان عبدُ الله بنُ أُبَىّ بن سَلول قد عسكر على ثنية الوَداع فى حُلفائه من اليهود والمنافقين، فكان يقال: ليس عسكره بأقلِّ العسكرين، واستخلف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصارى. وقال ابن هشام: سباع بن عُرْفُطَةَ، والأول أثبت.
فلما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، تخلَّف عبدُ الله بن أُبَىّ ومَنْ كان معه، وتخلَّف نَفَر مِن المسلمين مِن غير شك ولا ارتياب، منهم: كعبُ بن مالك، وهِلالُ ابن أُمية، ومُرَارَةُ بنُ الربيع وأبو خَيثمة السالمى، وأبو ذر، ثم لحقه أبو خيثمة، وأبو ذر، وشهدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى ثلاثين ألفاً مِن الناس، والخيلُ عشرة آلاف فرس، وأقام بها عشرين ليلة يقصُر الصَّلاة، وهِرَقْلُ يومئذِ بحمص.
|