فصل
[فى كراهة الصلاة فى المكان الذى فيه صور]
وفى القصة: أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل البيت، وصلَّى فيه، ولم يدخله حتى مُحيت الصورُ منه، ففيه دليل على كراهة الصلاة فى المكان المصوّرِ، وهذا أحقُّ بالكراهة من الصلاة فى الحمَّام، لأن كراهة الصلاة فى الحمَّام، إما لكونه مَظِنَّة النجاسة، وإما لكونه بيتَ الشيطان، وهو الصحيح، وأما محلُّ الصور، فَمَظِنَّةُ الشِّرْكِ، وغالِبُ شرك الأُمم كان من جهة الصور والقبور .
فصل
[فى جواز لِبْس السواد أحياناً]
وفى القصة: أنه دخل مكة، وعليه عمامة سوداء، ففيه دليل على جواز لِبْس السواد أحياناً، ومِنْ ثَمَّ جعل خلفاء بنى العباس لِبْس السواد شعاراً لهم، ولِولاتهم، وقضاتهم، وخطبائهم، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يلبسه لباساً راتباً، ولا كان شعارَه فى الأعياد، والجُمَع، والمجامع العظام البتة، وإنما اتفق له لبسُ العمامة السوداء يومَ الفتح دون سائر الصحابة، ولم يكن سائِرُ لباسه يومئذ السواد، بل كان لواؤه أبيض .
فصل
[فى أن تحريم مُتعة النساء كان عام الفتح]
ومما وقع فى هذه الغزوة، إباحةُ مُتعة النساء، ثم حرَّمها قبلَ خروجه مِن مكة،واخْتُلِفَ فى الوقت الذى حُرِّمت فيه المُتعة، على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يوم خَيْبَر، وهذا قولُ طائفة من العلماء.منهم: الشافعى، وغيره.
والثانى: أنه عامَ فتح مكة، وهذا قولُ ابنِ عيينة، وطائفة.
والثالث: أنه عام حُنَيْن، وهذا فى الحقيقة هو القولُ الثانى، لاتصال غزاة حُنَيْن بالفتح.
والرابع: أنه عامَ حَجَّةِ الوداع، وهو وهم من بعض الرواة، سافر فيه وهمُه من فتح مكة إلى حَجَّةِ الوداع، كما سافر وهم معاوية من عُمْرةِ الجِعرانة إلى حَجَّةِ الوداع حيث قال: قصرتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة فى حَجَّته، وقد تقدَّم فى الحَج، وسفرُ الوهم مِن زمان إلى زمان، ومِن مكان إلى مكان، ومِن واقعة إلى واقعة، كثيراً ما يعرض للحُفَّاظ فمَن دونهم.
والصحيح:أنَّ المُتعةإنماحُرِّمت عام الفتح، لأنه قد ثبت فى ((صحيح مسلم)) أنهم استمتعوا عامَ الفتح مع النبى صلى الله عليه وسلم بإذنه، ولو كان التحريمُ زمنَ خَيْبَر، لزم النسخُ مرتين، وهذا لا عهد بمثله فى الشريعة البتة، ولا يقعُ مثلُه فيها، وأيضاً: فإن خَيْبَر لم يكن فيها مسلمات، وإنما كُنَّ يهوديات، وإباحة نساء أهل الكتاب لم تكن ثبتت بعد، إنما أُبِحْنَ بعد ذلك فى سورة المائدة بقوله: {اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌ لَّكُمْ، وَطَعَامُكُمْ حِلٌ لَهُمْ،وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}[المائدة: 5]، وهذا متصل بقوله: {اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة: 3]، وبقوله: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ}[المائدة: 3]، وهذا كان فى آخِر الأمر بعد حجة الوداع، أو فيها، فلم تكن إباحةُ نساء أهل الكتاب ثابتة زمنَ خَيْبَر، ولا كان للمسلمين رغبةٌ فى الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح، وبعد الفتح استُرِقَّ مَن استُرِقَّ منهن، وصِرْنَ إماءً للمسلمين. فإن قيل: فما تصنعون بما ثبت فى ((الصحيحين)) من حديث على بن أبى طالب: ((أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مُتعة النساء يوم خَيْبَر، وعن أكْلِ لُحُوم الحُمُر الإنسية)) وهذا صحيح صريح؟
قيل: هذا الحديثُ قد صحَّت روايتُه بلفظين: هذا أحدُهما. والثانى: الاقتصار على نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن نِكاح المُتعة، وعن لُحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر، هذه رواية ابن عُيينة عن الزهرى، قال قاسم بن أصبغ: قال سفيان ابن عيينة: يعنى أنه نهى عن لحوم الحُمُر الأهلية زمنَ خَيْبَر، لا عن نكاح المُتعة،ذكره أبو عمر،وفى ((التمهيد)): ثم قال: على هذا أكثرُ الناس انتهى، فتوهم بعضُ الرواة أن يومَ خَيْبَر ظرفٌ لتحريمهن، فرواه: حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم المُتعة زمن خَيْبَر، والحُمُرَ الأهلية، واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث، فقال: حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم المُتعة زمَن خَيْبَر، فجاء بالغلط البيِّن.
فإن قيل: فأى فائدة فى الجمع بين التحريمين، إذا لم يكونا قد وقعا فى وقت واحد، وأين المُتعةُ مِن تحريم الحُمُرِ؟ قيل: هذا الحديثُ رواه على بن أبى طالب رضى الله عنه محتجاً به على ابن عمه عبد الله بن عباس فى المسألتين، فإنه كان يُبيح المُتعة ولحوم الحُمُر، فناظره على بن أبى طالب فى المسألتين، وروى له التحريمين، وقيَّد تحريمَ الحُمُر بزمن خَيْبَر، وأطلق تحريمَ المُتعة وقال: إنك امرؤ تائه، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّم المُتعة، وحرَّم لحوم الحُمُر الأهلية يومَ خَيْبَر، كما قاله سفيانُ بنُ عُيينة، وعليه أكثرُ الناس، فروى الأمرين محتجاً عليه بهما، لا مقيِّداً لهما بيوم خَيْبَر.. والله الموفق.ولكن ههنا نظر آخر، وهو أنه: هَلْ حرَّمها تحريمَ الفواحش التى لا تُباح بحال، أو حرَّمها عند الاستغناء عنها، وأباحها للمضطر؟ هذا هو الذى نظر فيه ابنُ عباس وقال: أنا أبحتُها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسَّعَ فيها مَنْ توسَّع، ولم يقف عند الضرورة، أمسك ابنُ عباس عن الإفتاء بحلِّها، ورجع عنه، وقد كان ابنُ مسعود يرى إباحتها ويقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ}[المائدة: 87]، ففى ((الصحيحين)) عنه قال: كنَّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نِساء، فقلنا: ألا نختصِى؟ فنهانا، ثم رخَّص لنا أن ننكح المرأة بالثوبِ إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَاأَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا،إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة: 87]
وقراءة عبد الله هذه الآية عقيب هذا الحديث يحتمل أمرين: أحدهما: الردُّ على مَن يُحرِّمها، وأنها لو لم تكن مِن الطيبات لما أباحها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
والثانى: أن يكون أراد آخِرَ هذه الآية، وهو الرد على مَن أباحها مطلقاً، وأنه معتد، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنما رخَّص فيها للضرورة، وعند الحاجة فى الغزو، وعند عدم النساء، وشدة الحاجة إلى المرأة. فمَن رخَّص فيها فى الحَضَر مع كثرة النساء، وإمكان النكاح المعتاد، فقد اعتدى، والله لا يُحب المعتدين.
فإن قيل: فكيف تصنعون بما روى مسلم فى ((صحيحه)) من حديث جابر، وسلمة بن الأكوع، قالا: خرج علينا منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذِن لكم أن تستمتعوا، يعنى: مُتعة النساء.
قيل: هذا كان زمنَ الفتح قبل التحريم، ثم حرَّمها بعد ذلك بدليلِ ما رواه مسلم فى ((صحيحه))، عن سلمة بن الأكوع قال: رخَّص لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عامَ أوطاسٍ فى المُتعة ثلاثاً، ثم نهى عنها. وعام أوطاس: هو عام الفتح، لأن غزاة أوطاس متصلة بفتح مكة.
فإن قيل: فما تصنعون بما رواه مسلم فى ((صحيحه))، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا نستمتع بالقَبْضَةِ مِن التمر والدقيق الأيامَ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر حتى نهى عنها عُمَرُ فى شأن عَمْرو بن حريث، وفيما ثبت عن عمر أنه قال: مُتعتانِ كانتا على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أنهى عنهما: مُتعةُ النساءِ ومُتعةُ الحجِّ.
قيل: الناس فى هذا طائفتان: طائفة تقول: إن عُمَر هو الذى حرَّمها ونهى عنها، وقد أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باتباع ما سَـنَّه الخلفاء الراشدون، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سَبْرَة بن معبد فى تحريم المُتعة عامَ الفتح، فإنه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة، عن أبيه، عن جده، وقد تكلم فيه ابنُ معين، ولم ير البخارىُّ إخراجَ حديثه فى ((صحيحه)) مع شدة الحاجة إليه، وكونه أصلاً من أُصول الإسلام، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به، قالوا: ولو صح حديثُ سبرة، لم يخفَ على ابن مسعود حتى يروى أنهم فعلوها، ويحتجّ بالآية، وأيضاً ولو صح لم يقل عُمَر: إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنها، وأُعاقب عليها، بل كان يقول: إنه صلى الله عليه وسلم حرَّمها ونهى عنها. قالوا: ولو صح لم تُفعل على عهد الصِّدِّيق وهو عهدُ خلافة النبوة حقاً
والطائفة الثانية: رأت صحةَ حديثِ سَبْرَة، ولو لم يصح، فقد صحَّ حديثُ على رضى الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حرَّم مُتعة النساء، فوجب حملُ حديث جابر على أن الذى أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريمُ، ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمنُ عُمَررضىالله عنه، فلما وقع فيها النزاعُ، ظهر تحريمُها واشتهر، وبهذا تأتَلِفُ الأحاديثُ الواردة فيها.. وبالله التوفيق
فصل
[فى جواز إجارة المرأة وأمانها للرجل والرجلين]
وفى قصة الفتح من الفقه: جوازُ إجارة المرأةِ وأمانِها للرجل والرجلين،كما أجاز النبىُّ صلى الله عليه وسلم أمانَ أُمِّ هانىء لِحموَيْها.
وفيها من الفقه جوازُ قتل المرتد الذى تغلَّظت رِدَّتُه من غير استتابة، فإن عبد الله بن سعد بن أبى سرح كان قد أسلم وهاجر، وكان يكتُب الوحىَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتدَّ، ولحق بمكة، فلما كان يومُ الفتح، أتى به عثمانُ ابن عفان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فأمسك عنه طويلاً، ثم بايعه، وقال: ((إنما أمسكتُ عنه ليقوم إليه بعضُكُم فيضربَ عنقه))، فقال له رجل: هلاَّ أومأتَ إلىَّ يا رسول الله؟ فقال: ((مَا يَنْبَغِى لِنَبىٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُن))، فهذا كان قد تغلَّظ كفرُه برِدَّته بعد إيمانه، وهجرته، وكتابةِ الوحى، ثم ارتدَّ ولَحِقَ بالمشركين يطعن على الإسلام ويعيبُه، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُريدُ قتله، فلما جاء به عثمانُ بنُ عفان وكان أخاه مِن الرضاعة، لم يأمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم بقتله حياءً مِن عثمان، ولم يُبايعه ليقوم إليه بعضُ أصحابه فيقتله، فهابُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُقْدِمُوا على قتله بغير إذنه، واستحيى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من عثمان، وساعدَ القدرُ السَّابقُ لما يريد الله سبحانه بعبد الله مما ظهر منه بعد ذلك من الفتوح، فبايعه، وكان ممن استثنى الله بقوله: {كَيْفَ يَهْدِى اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أنَّ الرَّسُولَ حَقٌ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ، وَاللهُ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكََ وَأَصْلَحُواْ فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيمٌ}[آل عمران: 86-89]، وقوله صلى الله عليه وسلم:
((مَا يَنْبَغِى لِنَبىٍّ أَن تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ))، أى: أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم لا يُخالِفُ ظاهِرُه باطِنَه، ولا سِرُّه علانِيتَه، وإذا نفذ حكمُ اللهِ وأمرُه، لم يُومِ به، بل صرَّحَ به، وأَعلَنه، وأظهره.
|