قال الأوَّلون: ليس فى هذا ما يُعارِضُ ما ذكرنا من الأدلة ولا سيما قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}[آل عمران: 97]، وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخُلْفِ فى خبره تعالى، وإما خبرٌ عن شرعه ودينه الذى شرعه فى حرمه، وإما إخبارٌ عن الأمرِ المعهود المستمِرِّ فى حرمه فى الجاهلية والإسلام، كما قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}[العنكبوت: 67]، وقوله تعالى: {وَقَالُواْ إن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا، أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ}[القصص: 57] وما عدا هذا من الأقوال الباطلة، فلا يُلتفت إليه، كقول بعضهم: ومَن دخله كان آمناً مِن النار، وقول بعضهم: كان آمناً مِن الموت على غير الإسلام، ونحو ذلك، فكم ممن دخله، وهو فى قعر الجحيم.
وأما العموماتُ الدالة على استيفاء الحدودِ والقِصاص فى كل زمان ومكان، فيقال أولاً: لا تعرُّضَ فى تلك العموماتِ لِزمان الاستيفاء، ولا مكانه، كما لا تعرُّضَ فيها لشروطه وعدم موانعه، فإن اللَّفظ لا يدل عليها بوضعه ولا بتضمُّنه، فهو مطلَقٌ بالنسبة إليها، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع، لم يُقَلْ: إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام، فلا يقول محَصِّل: إن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}[النساء: 24] مخصوص بالمنكوحة فى عِدَّتها، أو بغير إذن وليها، أو بغير شهود، فهكذا النصوصُ العامة فى استيفاء الحدود والقِصاص لا تعرُّض فيها لزمنه، ولا مكانه، ولا شرطه، ولا مانعه، ولو قُدِّر تناول اللَّفظ لذلك، لوجب تخصيصُه بالأدلة الدالة على المنع، لئلا يبطُل موجبها، ووجب حملُ اللَّفظ العام على ما عداها كسائِر نظائره، وإذا خصصتُم تلك العموماتِ بالحامل، والمرضِعِ، والمريض الذى يُرجى برؤه، والحال المحرمةِ للاستيفاء، كشِدَّةِ المرض، أو البردِ، أو الحر، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة؟ وإن قلتم: ليس ذلك تخصيصاً، بل تقييداً لمطلقها، كِلنا لكم بهذا الصاع سواء بسواء.
وأما قتلُ ابن خَطَل، فقد تقدَّم أنه كان فى وقت الحِلِّ، والنبى صلى الله عليه وسلم قطع الإلحاق، ونصَّ على أن ذلك مِن خصائصه، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنَّمَا أُحِلَّت لى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)) صريح فى أنه إنما أُحِلَّ له سفكُ دمٍ حلال فى غيرِ الحرم فى تلك الساعة خاصة، إذ لو كان حلالاً فى كل وقت، لم يختصَّ بتلك الساعة، وهذا صريحٌ فى أن الدم الحلالَ فى غيرها حرام فيها، فيما عدا تلك الساعة، وأما قوله: ((الحَرَمُ لا يُعِيذُ عَاصِياً)) فهو مِن كلام الفاسِق عمرو بن سعيد الأشدق، يردُّ به حديثَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حِين روى له أبو شُريح الكعبى هذا الحديث، كما جاء مبيناً فى ((الصحيح)) فكيف يُقَدَّمُ علَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وأما قولُكم: لو كان الحدُّ والقِصاصُ فيما دون النفس، لم يُعِذْهُ الحرمُ منه، فهذه المسألةُ فيها قولان للعلماء، وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد، فمَن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصِمة بالنسبة إلى النفس وما دونها، ومَن فرَّق، قال: سفكُ الدم إنما ينصِرفُ إلى القتل، ولا يلزمُ من تحريمه فى الحرم تحريمُ ما دونَه، لأن حُرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشدُّ، قالوا: ولأن الحد بالجَلْد أو القطع يجرى مجرى التأديب، فلم يمنع منه كتأديب السَّـيِّدِ عبدَه، وظاهرُ هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دُونها فى ذلك، قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمِّه، أن الحدود كلَّها تُقام فى الحرم إلا القتل، قال: والعمل على أن كل جانٍ دخل الحرمَ لم يقُم عليه الحدُّ حتى يخرُجَ منه، قالوا: وحينئذ فنجيبُكم بالجواب المركَّب، وهو أنه إن كان بينَ النفس وما دونَها فى ذلك فرق مؤثر، بطل الإلزام، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر، سوَّينا بينهما فى الحكم، وبطل الاعتراض، فتحقق بطلانُه على التقديرين.
قالوا: وأما قولكم: إن الحرمَ لا يُعيذ مَن انتهكَ فيه الحُرمةَ إذ أتى فيه ما يُوجب الحد، فكذلك اللاجىء إليه، فهو جمعُ بينَ ما فَرَّقَ اللهُ ورسُوله والصحابةُ بينهما، فروى الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ((مَنْ سَرَقَ أو قَتَلَ فى الحِلِّ ثُمَّ دَخَلَ الحَرَمَ، فإنَّه لا يُجَالَسُ ولا يُكَلَّمُ، ولا يُؤوى، ولكنَّهُ يُناشَدُ حَتَّى يَخْرُجَ، فَيُؤْخَذَ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ الحَدُّ، وَإنْ سَرَقَ أَو قَتَلَ فى الحَرَمِ، أُقِيمَ عَلَيْهِ فى الحَرَم)). وذكر الأثرم، عن ابن عباس أيضاً: منْ أحدَثَ حَدَثاً فى الحَرَمِ، أُقِيمَ عليهِ ما أَحْدَثَ فيهِ من شىء، وقد أمر الله سبحانه بقتل مَنْ قاتل فى الحرم، فقال: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُم}.[البقرة: 191]
والفرق بين اللاجئ والمتهتِك فيه من وجوه:
أحدها: أن الجانى فيه هاتكٌ لحُرمته بإقدامه على الجِنَاية فيه، بخلاف مَنْ جَنَى خارِجَه ثم لجأ إليه، فإنَّه معظِّمٌ لحُرمته مستشعِرٌ بها بالتجائه إليه، فقياس أحدهما على الآخر باطلٌ .
الثانى: أن الجانى فيه بمنزلة المفسد الجانى على بساطِ الملك فى دارِهِ وحَرَمِه، ومَنْ جنى خارِجَه، ثم لجأ إليه، فإنَّه بمنزلة مَن جَنَى خارِجَ بِساط السلطانِ وحَرَمِه، ثم دخل إلى حَرَمِه مستجيراً .
الثالث: أن الجانى فى الحرم قد انتهك حُرمة الله سبحانه، وحُرمة بيته وحَرَمه، فهو هاتِك لحُرمتين بخلاف غيره .
الرابع: أنه لو لم يُقم الحدُّ على الجُنَاة فى الحرم، لعمَّ الفسادُ، وعَظُمَ الشَّرُّ فى حرم الله، فإن أهلَ الحرم كغيرهم فى الحاجة إلى صِيانة نفوسهم، وأموالهم، وأعراضهم، ولو لم يُشرع الحد فى حقِّ مَن ارتكب الجرائم فى الحرم، لتعطلت حدودُ الله، وعمَّ الضررُ للحرم وأهله .
والخامس: أن اللاجىء إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجىء إلى بيت الرب تعالى، المتعلق بأستاره، فلا يُناسب حالُه ولا حالُ بيته وحرمه أن يُهاج، بخلاف المُقْدِم على انتهاك حُرْمته، فظهر سِرُّ الفرق، وتبيَّن أن ما قاله ابن عباس هو محضُ الفقه .
وأما قولُكم: إنه حيوان مفسد، فأُبيحَ قتلُه فى الحِلِّ والحَرَمِ كالكلبِ العَقور، فلا يَصِحُّ القياسُ، فإن الكلبَ العقور طبعُه الأذى، فلم يُحرمه الحرمُ ليدفع أذاه عن أهله، وأما الآدمىُّ فالأصل فيه الحُرْمةُ، وحُرْمتُه عظيمة، وإنما أُبيحَ لِعارض، فأشبه الصائلَ مِن الحيوانات المباحة مِن المأكولات، فإن الحرم يَعْصِمُهَا .
وأيضاً فإن حاجةَ أهلِ الحرم إلى قتل الكلب العَقُور، والحيَّة، والحِدَأة كحاجة أهل الحِلِّ سواء، فلو أعاذها الحرم لَعظُمَ عليهم الضررُ بها .
فصل
فى تحريم قطع شجر مكة
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا يُعْضَدُ بِهَا شَجَرٌ))، وفى اللَّفظ الآخر: ((ولا يُعْضَدُ شَوْكُهَا))، وفى لفظ فى ((صحيح مسلم)): ((ولاَ يُخْبَطُ شَوْكُهَا)) لا خلاف بينهم أن الشجر البرىَّ الذى لم يُنْبِتْهُ الآدمىُّ على اختلاف أنواعه مراد من هذا اللَّفظ، واختلفوا فيما أنبته الآدمىُّ مِن الشجر فى الحرم على ثلاثة أقوال، وهى فى مذهب أحمد:
أحدها: أن له قلعَه، ولا ضمانَ عليه، وهذا اختيارُ ابن عقيل، وأبى الخطاب، وغيرهما.
والثانى: أنه ليس له قلعُه، وإن فعل، ففيه الجزاءُ بكل حال، وهو قولُ الشافعى، وهو الذى ذكره ابن البناء فى ((خصاله)).
الثالث: الفرق بين ما أنبته فى الحِلِّ، ثم غرسَه فى الحرم، وبين ما أنبته فى الحَرم أوَّلاً، فالأول: لا جزاء فيه، والثانى: لا يُقلع وفيه الجزاء بكل حال، وهذا قول القاضى.
وفيه قول رابع: وهو الفرقُ بين ما يُنبت الآدمى جنسه كاللَّوز والجَوز، والنخل، ونحوه، وما لا يُنبت الآدمى جنسه كالدَّوح، والسَّلَم، ونحوه، فالأول يجوز قلعُه ولا جزاء فيه، والثانى: لا يجوزُ، وفيه الجزاء.
قال صاحب ((المغنى)): والأولى الأخذ بعُموم الحديث فى تحريم الشجر كُلِّه، إلا ما أنبتَ الآدمىُّ مِن جنس شجـرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع، والأهلى من الحيوان، فإننا إنما أخرجنا مِن الصيد ما كان أصلُه إنسياً دون ما تأنَّسَ مِن الوحشى، كذا ههنا، وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع، فصار فى مذهب أحمد أربعةُ أقوال.
والحديث ظاهر جداً فى تحريم قطع الشوك والعَوْسَج، وقال الشافعى: لا يحرُم قطعه، لأنه يُؤذى الناس بطبعه، فأشبه السباع، وهـذا اختيارُ أبى الخطاب، وابن عقيل، وهو مروى عن عطاء ومجاهد وغيرهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُعْضَدُ شَوْكُهًَا))،وفى اللَّفظ الآخر: ((لا يُخْتَلَى شَوْكُهَا)) صريح فى المنع، ولا يَصِحُّ قياسُه على السباع العادِية، فإن تلك تَقْصِدُ بطبعها الأذى، وهذا لا يُؤذى مَن لم يَدْنُ منه.
والحديثُ لم يُفرِّق بين الأخضر واليابس، ولكن قد جوَّزُوا قَطْعَ اليابس، قالوا: لأنه بمنزلة الميت، ولا يُعرف فيه خلاف، وعلى هذا فسياقُ الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر، فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد، وليس فى أخذ اليابسِ انتهاكُ حُرمة الشجرة الخضراء التى تُسبِّحُ بحمدِ ربِّها، ولهذا غرس النبىُّ صلى الله عليه وسلم على القبرين غُصنين أخضرين، وقال: ((لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا)).
وفى الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرةُ بنفسها، أو انكسر الغصنُ، جاز الانتفاعُ به، لأنه لم يَعْضُدْهُ هوَ، وهذا لا نزاع فيه.
فإن قيل: فما تقولون فيما إذا قلعها قالِع، ثم تركها، فهل يجوز له أو لِغيره أن ينتفع بها؟
قيل: قد سُئِل الإمام أحمد عن هذه المسألة، فقال: مَن شبَّهه بالصيد، لم ينتفع بحطبها، وقال: لم أسمع إذا قطعه ينتفِعُ به. وفيه وجه آخر، أنه يجوز لغير القاطع الانتفاعُ به، لأنه قُطِع بغير فعله، فأُبيح له الانتفاعُ به كما لو قلعته الريح، وهذا بخلاف الصيد إذا قتله مُحْرم حيث يَحْرُمُ على غيره، فإنَّ قَتْلَ المُحْرم له جعله ميتةً. وقوله فى اللَّفظ الآخر (ولا يُخْبَطُ شَوْكُها)) صريح أو كالصريح فى تحريم قطع الورق، وهذا مذهبُ أحمد رحمه الله، وقال الشافعى: له أخذه، ويُروى عن عطاء، والأول أصحُّ لظاهر النصِّ والقياس، فإن منزلته من الشجرة منزلةُ ريش الطائر منه، وأيضاً فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان، فإنه لباسُها ووقايتُها.
|