ثم مضى حتى نزلَ مرَّ الظَّهْرَانِ، وهو بطن مَرِّ، ومعه عشرةُ آلاف، وعمَّى اللهُ الأخبارَ عن قريش، فهم على وَجَلِ وارتقاب، وكان أبو سفيان يخرج يتحسَّسُ الأخبار، فخرج هو وحكيمُ بنُ حِزام، وبُدَيْلُ بنُ ورقاء يتحسَّسُونَ الأخبار، وكان العبَّاسُ قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلماً مهاجراً، فلقى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالجُحْفَةِ، وقيل: فوق ذلك، وكان مِمن لقيه فى الطريق ابنُ عمه أبو سفيان بن الحارث، وعبدُ الله بنُ أبى أُميَّة لقياه بالأبواء، وهما ابن عمِّه وابنُ عمَّته، فأعرض عنهما لِما كان يلقاه مِنهما مِن شِدَّةِ الأذى والهَجْوِ، فقالت له أُمُّ سَلَمة: لا يَكُن ابنُ عمِّكَ وابنُ عمَّتك أشقى الناس بك، وقال علىّ لأبى سفيان فيما حكاه أبو عمر : ائتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَل وجهه، فقل له ما قال إخوةُ يوسف ليوسف: {تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}[يوسف: 91] . فإنه لا يرضى أن يكون أحدٌ أحسنَ منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف: 92]، فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها:
لَعَمْـــــرُك إنِّى حينَ أَحْمِلُ رايةً *** لِتَغْلِــبَ خَيْلُ اللاَّتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَـكالمُـــدْلِـجِ الحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُه *** فَهذَا أوانى حِينَ أُهْدَى فَأَهْــتَدِى
هَــــدَانِى هَادٍ غَيْرُ نَفْسِى وَدَلَّنِى *** عَلــى اللهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُـطَرَّدِ
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدرَه وقال: ((أَنْتَ طَرَّدْتَنِى كُلَّ مُطَرَّدٍ))، وحَسُنَ إسلامُه بعد ذلك.
ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياءً منه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبه، وشهد له بالجنَّة، وقال: ((أرْجُو أَنْ يَكُونَ خَلَفاً مِنْ حَمْزَة))، ولما حضرته الوفاةُ، قال: لا تَبْكُوا علىَّ، فواللهِ ما نطقتُ بخطيئة منذ أسلمتُ
فلما نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مرَّ الظهران، نزله عشاء، فأمر الجيشَ، فأوقدوا النيران، فأُوقِدَت عشرةُ آلاف نار، وجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الحَرَس عُمَرَ بنَ الخطَّاب رضى الله عنه، وركب العباسُ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمِسُ لعله يجد بعضَ الحطَّابة، أو أحداً يُخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلَها عَنْوَةً، قال: واللهِ إنى لأسير عليها إذ سمعتُ كلامَ أبى سفيان، وبُديل بن ورقاء وهُما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيتُ كالليلة نيراناً قطُّ ولا عسكراً، قال: يقولُ بدليل: هذه واللهِ خزاعة حَمَشَتْهَا الحَرْبُ، فيقول أبو سفيان: خُزاعة أقلُّ وأذلُّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكَرها، قال: فعرفتُ صوته، فقلت: أبا حنظلة، فعرف صوتى، فقال: أبا الفضل؟ قلتُ: نعم، قال: مالك فِداك أبى وأُمى؟ قال: قلتُ: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الناس، واصباحَ قُريش واللهِ، قال: فما الحيلةُ فِداك أبى وأُمى؟ قلت: واللهِ لئن ظَفِرَ بك لَيَضْرِبَنَّ عُنقَكَ، فاركب فى عجزِ هذه البغلة حتى آتىَ بِكَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأستأمنه لك، فركب خَلْفِى ورجع صَاحِبَاه، قال: فجئتُ به، فكلما مررتُ به على نار من نيران المسلمين، قالوا: مَنْ هذَا؟، فإذا رأَوْا بغلةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها، قالوا: عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررتُ بنارِ عمر بن الخطاب، فقال: مَن هذا؟ وقام إلىَّ، فلما رأى أبا سفيان على عَجزِ الدابة، قال: أبو سفيان عَدُوُّ اللهِ، الحمد للهِ الذى أمْكَنَ مِنْكَ بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحوَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ البغلة، فَسَبَقَتْ، فاقتحمتُ عن البغلة، فدخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عُمَرُ، فقال: يا رسولَ الله؛ هذا أبو سفيان، فدعنى أَضْرِبْ عنقه، قال: قلتُ: يا رسول الله؛ إنى قد أجرته، ثم جلستُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذتُ برأسه، فقلتُ: واللهِ لا يُناجيه الليلةَ أحد دونى، فلما أكثر عُمَرُ فى شأنه، قلتُ: مهلاً ياعمر، فواللهِ لو كان مِن رجال بنى عدى بْنِ كعب ما قُلْتَ مِثْلَ هذا، قال: مهلاً يا عبَّاسُ، فواللهِ لإسْلامُكَ كَانَ أَحَبَّ إلىَّ مِنْ إسْلام الخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، ومَا بى إلا أنِّى قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ إسْلامَكَ كَانَ أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطَّاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذْهَبْ بِهِ يا عبَّاسُ إلى رَحْلِك، فإذا أَصْبَحْتَ فَأتنى به، فذهبتُ فلما أصبحتُ، غدوتُ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَان، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ الله))؟ قال: بأبى أنتَ وأُمى، ما أحلمكَ، وأكرمَكَ، وأوصلَكَ، لقد ظننتُ أن لو كان مع اللهِ إلهٌ غيرُه، لقد أغنى شيئاً بعد، قال: ((ويحَكَ يا أبا سفيان، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّى رَسُولُ الله))؟ قال: بأبى أنتَ وأُمى، ما أحلمكَ وأكرمَكَ وأوصلَكَ، أما هذه، فإن فى النفس حتى الآن منها شيئاً، فقال له العباس: ويحكَ أسلم، واشهد أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله قبل أن تُضَرَبَ عُنقُك، فأسلم وشَهِدَ شهادةَ الحق، فقال العباسُ: يا رسولَ اللهِ؛ إن أبا سفيان رَجُلٌ يُحِبُّ الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: ((نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أبى سُفيان، فهُوَ آمِنٌ، ومَنْ أغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَه، فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام، فَهُوَ آمن)).
وأمر العباسَ أن يَحبِسَ أبا سفيان بمضيقِ الوادى عند خَطْمِ الجبلِ حتى تَمُرَّ به جنودُ الله، فيراها، ففعل، فمرَّتِ القبائلُ على راياتها، كـلما مرَّتْ به قبيلةٌ قال: يا عباسُ؛ مَنْ هذه؟ فأقول: سُليم، قال: فيقول: مالى ولِسُليم، ثم تمرُّ به القبيلة، فيقول: يا عباسُ؛ مَنْ هؤلاء؟ فأقول: مُزَيْنَة، فيقول: مالى ولمُزَيْنَة، حتى نَفَدَتِ القبائلُ، ما تَمُرُّ به قبيلة إلا سألنى عنها، فإذا أخبرتُه بهم قال: مالى ولبنى فلان، حتى مرَّ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى كتيبتِه الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحَدَق مِن الحديد، قال: سبحان اللهِ با عباس، مَن هؤلاء؟ قال: قلتُ: هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، ثم قال: واللهِ يا أبا الفضل؛ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابن أخيك الْيَوْمَ عظيماً، قال: قلتُ: يا أبا سفيان؛ إنها النُّبوة، قال: فنعم إذاً، قال: قلتُ: النَّجاء إلى قومك.
وكانت رايةُ الأنصار مع سعد بن عُبادة، فلما مرَّ بأبى سفيان، قال له: اليَوْم يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليومَ تُسْتَحَلُّ الحُرْمةُ، اليَوْمَ أذَلَّ اللهُ قُرَيْشَاً.
فلما حاذى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان، قال: يارسولَ الله؛ ألم تسمعْ ما قال سعد؟ قال: ((وما قال))؟، فقال: كذا وكذا، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عَوْف: يا رسولَ الله؛ ما نأمن أن يكون له فى قُريش صَوْلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَلِ اليَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فيهِ الكَعْبَةُ، اليَوْمَ يَوْمٌ أَعَزَّ اللهُ فيه قُرَيْشاً)). ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فنزع منه اللواء، ودفعه إلى قيس ابنه، ورأى أن اللواء لم يخرُجْ عن سعد إذ صار إلى ابنه، قال أبو عمر: ورُوى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما نزع منه الراية، دَفَعَها إلى الزبير.
ومضى أبو سفيان حتى إذا جاء قُريشاً، صـرخ بأعلى صوته : يا معشرَ قُريش ؛ هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمَن دخل دارَ أبى سفيان، فهو آمن، فقامت إليه هندُ بنتُ عتبة ، فأخذت بشَاربه، فقالت: اقتلُوا الحَميت الدسم، الأحْمَشَ السَّاقين ، قُبِّح مِن طَلِيعَةِ قوم، قال: ويلكم، لا تغرَّنَّكُم هذه مِن أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قِبَلَ لكم به، مَن دخل دار أبى سفيان، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، قالوا: قاتلكَ اللهُ، وما تُغنى عنا دارُك؟ قال: ومَن أغلق عليه بابه، فهو آمن، ومَن دخل المسجد، فهو آمن، فتفرَّق الناسُ إلى دورهم وإلى المسجد
وسار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فدخل مكة من أعلاها، وضُرِبَتْ له هنالك قُبَّة، وأمر رسـول الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليد أن يدخلها من أسفلها، وكان على المُجَنِّبَةِ اليُمنى، وفيها أسلم، وسُليم، وغِفار، ومُزَيْنَة، وجُهينة، وقبائل مِن قبائل العرب، وكان أبو عُبيدة على الرجالة والحُسًَّرِ، وهم الذين لا سلاح معهم، وقال لخالد ومَن معه: ((إن عرضَ لكم أحدٌ من قُريش، فاحصدوهم حصداً حتى تُوافونى على الصَّفا))، فما عرض لهم أحد إلا أنامُوه، وتجمَّع سفهاء قريش وأخِفَّاؤُها مع عِكرمة بن أبى جهل، وصفوان بنِ أُميَّة، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَةِ لِيقاتِلُوا المسلمين، وكان حِمَاسُ بنُ قيس بن خالد أخو بنى بكر يُعِدُّ سلاحاً قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له امرأتُه: لماذا تُعِدُّ ما أرى؟ قال: لِمحمد وأصحابه، قالت: واللهِ ما يقومُ لِمحمد وأصحابه شىء، قال: إنى واللهِ لأرجو أنْ أُخْدِمَك بعضهم، ثم قال:
إنْ يُقْبِلُوا اليَوْمَ فَمَا لى عِلَّهْ *** هذا سِـــــلاَحٌ كَاملٌ وألَّهْ
وذُو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلهْ
ثم شهد الخَنْدَمَةَ مع صفوان وعِكرمة وسهيل بن عمرو، فلما لَقِيَهُم المسلمون ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كُرز بن جابر الفهرى، وخُنَيْس بن خالد ابن ربيعة من المسلمين، وكانا فى خيل خالد بن الوليد، فشذَّا عنه، فسلكا طريقاً غيرَ طريقه، فقُتِلا جميعاً، وأُصيبَ من المشركين نحو اثنى عشر رجلاً، ثم انهزموا، وانهزم حِماس صاحبُ السلاح حتى دخل بيته، فقال لامرأته: أغلقى علىَّ بابى، فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمـهْ *** إذْ فَرَّ صَــفْوانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
وَاسْـتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيوف المُسْلِمَهْ *** يَقْطَعْنَ كَلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُـمَهْ
ضَرْباً فلا نَسْمَعُ إلاَّ غَمْغَـمَهْ *** لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَنَا وَهَمْهَمَــهْ
لَمْ تَنْطِقِى فى اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وقال أبو هريرة: أقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فدخل مكة، فبعث الزبيرَ على إحدى المجنبتين، وبعث خالدَ بن الوليد على المجنبةِ الأُخرى، وبعث أبا عُبيدة ابنَ الجراح على الحُسَّر، وأخذوا بطن الوادى ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى كتيبته، قال: وقد وبَّشت قريش أوباشاً لها، فقالوا: نُقَدِّم هؤلاء، فإن كان لِقريش شىء كنا معهم، وإن أُصيبُوا أعطينا الذى سُئِلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة))، فقلتُ: لَبَّيْكَ رسولَ الله وسعدَيك، فقال: ((اهْتِفْ لى بالأنصارِ، ولا يَأْتِينى إلاَّ أنْصارى))، فهتف بهم، فجاؤوا، فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أَتَروْنَ إلى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِم))؟ ثمَّ قال بيديه إحداهما على الأُخرى: ((احْصُدُوهُم حَصْداً حتَّى تُوافُونِى بالصَّفَا))، فانطلقنا، فما يشاءُ أحد منا أن يقتُلَ منهم إلا شاء، وما أحد منهم وجَّه إلينا شيئاً.
ورُكِزَتْ رايةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحَجُونِ عند مسجد الفَتْح.
ثم نهض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بينَ يديه، وخلفَه وحولَه، حتى دخل المسجِدَ، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طافَ بالبيتِ، وفى يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطْعَنُها بالقوسِ ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]{جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]والأصنامُ تتسَاقَطُ على وجوهها.
|