وإنما قُسِمَتْ على ألف وثمانمائة سهم، لأنها كانت طُعمة مِن الله لأهل الحُديبية مَن شهد منهم، ومَن غاب، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمانِ، فَقُسِمَتْ على ألف وثمانمائة سهم، ولم يغب عن خيبرمن أهل الحُديبية إلا جابر بن عبد الله، فقسم له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كسهم مَنْ حضرها.
وقسم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهماً، وكانوا ألفاً وأربعمائة وفيهم مائتا فارس، هذا هو الصحيحُ الذى لا ريبَ فيه.
وروى عبد الله العمرى، عن نافع، عن ابن عمر، أنه أعطى الفارس سهمين والراجلَ سهماً.
قال الشافعى رحمه الله: كأنه سمع نافعاً يقول: للفرس سهمين، وللراجل سهماً، فقال: للفارس، وليس يَشُكُّ أحد مِن أهل العلم فى تقدُّم عُبيد الله بن عمر على أخيه فى الحفظ، وقد أنبأنا الثقة من أصحابنا، عن إسحاق الأزرق الواسطى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ضرب للفرس بسهمين، وللفارس بسهم.
ثم روى من حديث أبى معاوية، عن عُبيد الله بن عُمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، وهو فى (( الصحيحين ))، وكذلك رواه الثورى، وأبو أسامة عن عُبيد الله.
قال الشافعى رحمه الله: وروى مجمع بن جارية أن النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قسم سهام خيبر على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، منهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارسَ سهمين، والراجل سهماً.
قال الشافعى رحمه الله: ومجمع بن يعقوب يعنى راوى هذا الحديث عن أبيه، عن عمه عبد الرحمن بن يزيد، عن عمه مجمع بن جارية شيخ لا يُعرف فأخذنا فى ذلك بحديث عُبيد الله، ولم نر له مثله خبراً يُعارضه، ولا يجوز ردُّ خبر إلا بخبر مثله.
قال البيهقى: والذى رواه مجمع بن يعقوب بإسناده فى عدد الجيش وعدد الفرسان، قد خُولِفَ فيه، ففى رواية جابر، وأهل المغازى: أنّهم كانوا ألفاً وأربعمائة، وهم أهلُ الحُديبية، وفى رواية ابن عباس، وصالح بن كيسان، وبشير بن يسار، وأهلِ المغازى: أن الخيل كانت مائتى فرس، وكان لِلفرس سهمان، ولصاحبه سهم، ولكل راجل سهم.
وقال أبو داود: حديثُ أبى معاوية أصحُّ، والعملُ عليه، وأرى الوهم فى حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس، وإنما كانوا مائتى فارس.
وقد روى أبو داود أيضاً من حديث أبى عمرة، عن أبيه، قال: (( أتينا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أربعة نَفَرٍ، ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهماً، وأعطى الفرس سهمين )). وهذا الحديث فى إسناده عبد الرحمن بن عبد الله ابن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهو المسعودى، وفيه ضعف. وقد رُوى الحديثُ عنه على وجهٍ آخر، فقال: أتينا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ثلاثة نَفَرٍ، معَنَا فرس، فكان للفارس ثلاثة أسهم، ذكره أبو داود أيضاً.
فصل
وفى هذه الغزوة، قدم عليه صلى الله عليه وسلم ابن عمه جعفرُ ابنُ أبى طالب وأصحابه، ومعهم الأشعريون: عبدُ الله بنُ قيس أبو موسى، وأصحابُه، وكان فيمن قَدِمَ معهم أسماءٍ بنت عميس.
قال أبو موسى: بلغنا مَخْرَجُ النبى صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مُهاجرين أنا وأخوانِ لى:أنا أصغرُهما، أحدهُما أبو رُهْم، والآخر أبو بُردة، فى بِضع وخمسين رجلاً من قومى، فركبنا سفينةً، فألقتنا سفينتُنا إلى النجاشىِّ بالحبشة، فوافَقْنَا جَعْفَرَ بنَ أبى طالب وأصحابَه عنده، فقال جعفر: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثنا، وأَمَرَنَا بالإقامة، فأقيمُوا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فَوَافَقْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حينَ افتَتَحَ خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحدٍ غابَ عن فتح خيبر شيئاً إلا لمن شهد معه، إلا لأصحابِ سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم، وكان ناس يقولون لنا: سبقناكم بالهِجرة، قال: ودَخَلَتْ أسماءُ بِنتُ عميس على حفصة، فدخل عليها عمر، فقال: مَنْ هذِهِ ؟ قالت: أسماءُ. فقال عُمَرُ: سبقناكم بالهجرة، نحن أحقُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم مِنكم، فَغَضِبَتْ، وقالت: يا عُمَرُ؛ كلا واللهِ، لقد كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُطعِمُ جائعكم، ويَعِظُ جاهِلَكُم، وكنا فى أرض البُعداء البُغضاء، وذلك فى اللهِ، وفى رسوله، وايمُ اللهِ، لا أطعَمُ طَعَاماً، ولا أشربُ شراباً حتى أذكر ما قلتَ لِرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نُؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيدُ على ذلك، فلما جاء النبىُّ صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله؛ إن عمر قال كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ما قلتِ له )) ؟ قالت: قلت له كذا وكذا. فقال: (( لَيْسَ بِأَحَقَّ بى مِنْكُم، ولَهُ ولأَصْحابه هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، ولَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَان ))، وكان أبو موسى وأصحابُ السفينة يأتون أسماء أرسالاً يسألونها عن هذا الحديث، ما مِن الدنيا شىء، هم به أفرحُ ولا أعظمُ فى أنفسهم مما قال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم )).
ولما قَدِمَ جعفرٌ على النبىِّ صلى الله عليه وسلم، تلقاه وقبَّل جبهته، وقال: (( واللهِ ما أدرى بأَيِّهما أفْرَحُ، بِفَتْحِ خَيْبَر أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَر )) ؟.
وأما ما رُوى فى هذه القِصة، أن جعفراً لما نظر إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، حجَل يَعنى: مشى على رِجل واحدةٍ إعظاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله أشباهُ الدِّباب الرَّقَّاصُون أصلاً لهم فى الرقص، فقال البيهقى وقد رواه مِن طريق الثورى عن أبى الزبير، عن جابر : وفى إسناده إلى الثورى مَن لا يُعرف.
قلت: ولو صح، لم يكن فى هذا حُجة على جواز التشبُّه بالدّباب، والتكسر والتخَنُّث فى المشى المنافى لهَدْى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لعله كان من عادة الحبشة تعظيماً لِكبرائها، كضرب الجُوك عند الترك ونحو ذلك، فجرى جعفر على تلك العادة وفعلها مرة، ثم تركها لِسُّـنَّة الإسلام، فأين هذا من القفز والتكسر، والتثنى والتخنُّث.. وبالله التوفيق.
قال موسى بن عقبة: كانت بنو فَزارة ممن قدم على أهلِ خيبر ليعينوهم، فراسلهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ألا يُعينوهم، وأن يخرجوا عنهم، ولكم من خيبر كذا وكذا، فأبَوْا عليه، فلما فتح اللهُ عليه خيبَر، أتاهُ مَن كان ثَمَّ من بنى فزارة، فقالوا: وعدك الذى وعدتنا، فقال: (( لكم ذو الرُّقيبة جبل من جبال خيبر )) فقالوا: إذاً نُقاتلك. فقال: (( مَوْعِدُكم كذا ))، فلما سَمِعُوا ذلك مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا هاربين.
وقال الواقدى: قال أبو شُييم المزنى وكان قد أسلم فحسن إسلامه : لما نفرنا إلى أهلنا مع عيينة بن حصن، رجع بنا عُيينة، فلما كان دون خيبر، عرَّسنا من اللَّيل، ففزِعنا، فقال عُيينة: أبشروا، إنى أرى الليلة فى النوم أننى أُعطيت ذا الرُّقيبة جبلاً بخيبر قد واللهِ أخذتُ برقبة محمد، فلما قدمنا خيبر، قدم عُيينة، فوجد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر. فقال: يا محمد؛ أعطنى ما غنمتَ من حُلفائى، فإنى انصرفتُ عنك، وقد فرغنا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كَذَبْتَ ولكِنَّ الصِّيَاحَ الَّذِى سَمِعْتَ نَفَّرَكَ إلى أهْلِكَ )). قال: أجزنى يا محمد ؟ قال: (( لك ذو الرقيبة )). قال: وما ذو الرقيبة ؟
قال: (( الجبلُ الذى رأيتَ فى النوم أنك أخذته )). فانصرف عُيينة، فلما رجع إلى أهله، جاءه الحارث بن عوف، فقال: ألم أقل لك: إنك تُوضِع فى غير شىء، واللهِ لَيَظْهَرَنَّ محمد على ما بين المشرق والمغرب، يهود كانوا يُخبروننا بهذا، أشَهد لسمِعْتُ أبا رافع سلام بن أبى الحُقيق يقول: إنَّا نحسُد محمداً على النبوة حيث خرجت من بنى هارون، وهو نبى مرسل، ويهود لا تُطاوعنى على هذا، ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر، قال الحارث: قلت لسلام: يملِكُ الأرض جميعاً ؟ قال: نعم والتوراةِ التى أنزلت على موسى، وما أُحِبُّ أن تعلم يهودَ بقولى فيه.
فصل
فى محاولة سَمَّهُ صلى الله عليه وسلم فى هذه الغزوة وحفظ الله له
وفى هذه الغزاةِ، سُمَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أهدت له زينبُ بنتُ الحارث اليهوديةُ امرأةُ سلام بن مِشْكَم شاةً مشويَّةً قد سمَّتها، وسألت: أىُّ اللَّحم أحبُّ إليه ؟ فقالوا: الذِّراعُ، فأكثرت من السُّمِّ فى الذراع، فلما انتهش من ذِراعها، أخبره الذِّراعُ بأنه مسموم، فلفظ الأكلة، ثم قال: (( اجْمَعُوا لى مَنْ هاهنا من اليَهُودِ ))، فجُمِعوا له، فقالَ لهم: (( إنِّى سَائِلُكُم عَن شَىءٍ، فَهَلْ أنتمْ صَادِقِىَّ فيه )) ؟ قالوا: نَعَمْ يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ أَبُوكُم )) ؟ قالوا: أبونا فلان. قال: (( كَذَبْتُمْ، أبُوكُم فُلان )). قالوا: صدقتَ وبَررْتَ، قال: (( هَلْ أَنْتُمْ صَادِقىَّ عَنْ شىءٍ إنْ سَأَلْتُكُم عَنْهُ )) ؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذَبْنَاكَ، عرفتَ كذبنا كما عرفتَه فى أبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ أَهْلُ النَّار )) ؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً، ثم تَخْلُفُوننا فيها. فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( اخْسَؤوا فيها، فَواللهِ لاَ نَخْلُفُكُم فيها أَبَدَاً ))، ثم قال: (( هَلْ أَنْتُم صَادِقِىَّ عَن شَىءٍ إن سأَلْتُكُم عَنْهُ )) ؟ قالوا: نعم. قال: (( أجَعَلْتُمْ فى هذِهِ الشَّاةِ سُمّاً )) ؟ قالوا: نعم. قال: (( فَمَا حَمَلَكُم على ذلكَ )) ؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذِباً نستريحُ منك، وإن كنت نبيَّاً لم يضرَّك )).
وجئ بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أردتُ قتلَكَ. فقال: (( ما كان اللهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَىَّ ))، قالوا: ألا نقتُلها ؟ قال: (( لا ))، وَلم يتعرض لها، ولم يُعاقبها، واحتجم على الكاهِلِ، وأمرَ مَن أكل منها فاحتجم، فمات بعضُهم، واختُلِف فى قتل المرأة، فقال الزهرى: أسلمت فتركها، ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه، ثم قال معمر: والناسُ تقول: قتلها النبىُّ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، قال: حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أهدت له يهوديةٌ بخيبرَ شاةً مَصْلِيَّةً.... وذكر القصة، وقال: فمات بشرُ بن البراء بن مَعرور، فأرسل إلى اليهودية: (( ما حملكِ على الذى صنعتِ )) ؟ قال جابر: فأمر بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقُتِلَتْ.
قلت: كلاهما مرسل، ورواه حمَّاد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة متصلاً: (( أنه قتلها لما مات بشر بن البراء )).
وقد وُفِّقَ بين الروايتين، بأنه لم يقتُلْها أولاً، فلما مات بشر، قتلها.
|