عرض مشاركة واحدة
قديم 12-12-2003, 12:48 PM   #6
مركز تحميل الصور


الصورة الرمزية الalwaafiـوافي
الalwaafiـوافي غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 481
 تاريخ التسجيل :  Sep 2003
 أخر زيارة : 05-14-2017 (05:24 PM)
 المشاركات : 1,039 [ + ]
 التقييم :  1
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام مِن قوله: { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ }[آل عمران :125]، ثم أخبر عن الكلام الذى صدَر عن ظنهم الباطل، وهو قولهم: { هَل لَّـنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَىْءٍ }[آل عمران :154]، وقولهم: { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا }[آل عمران :154]، فليس مقصودُهم بالكلمةِ الأولى والثانية إثباتَ القدر، ورد الأمرِ كُلِّه إلى الله، ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى، لما ذُمُّوا عليه، ولما حَسُنَ الردُّ عليه بقوله: { قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ}[آل عمران :154]، ولا كان مصدرُ هذا الكلام ظَنَّ الجاهلية، ولهذا قال غيرُ واحد من المفسِّرين: إن ظنَّهم الباطل هاهنا: هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمرَ لو كان إليهم، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه تبعاً لهم يسمعُون منهم، لما أصابهم القتلُ، ولكان النصرُ والظفرُ لهم، فأكذبهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ فى هذا الظنِّ الباطل الذى هو ظنُّ الجاهلية، وهو الظنُّ المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذِ القضاء والقدر الذى لم يكن بُدٌ من نفاذه أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمرَ لو كان إليهم، لما نفذ القضاءُ، فأكذَبَهُم اللهُ بقوله: { قُلْ إنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ }[آل عمران :154]، فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدرُه، وجرى به عِلمه وكتابه السابق، وما شاء اللهُ كان ولا بُدَّ، شاءَ الناسُ أم أبَوْا، وما لم يَشَأ لم يكن، شاءه الناسُ أم لم يَشاؤوه، وما جرى عليكم من الهزيمةِ والقتل، فبأمره الكونى الذى لا سبيلَ إلى دفعه، سواء أكان لكم من الأمر شئ، أو لم يكن لكم، وأنَّكُم لو كنتم فى بيوتكم، وقد كُتِبَ القتلُ على بعضكم لخرج الذين كُتِب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بُد، سواء أكان لهم من الأمر شئ، أو لم يكن، وهذا مِن أظهر الأشياء إبطالاً لقول القَدَرِيَّةِ النفاة، الذين يُجوِّزون أن يقع ما لا يشاؤُه اللهُ، وأن يشاء ما لا يقع.


فصل

ثم أخبر سبحانه عن حِكمة أُخرى فى هذا التقديرِ، هى ابتلاءُ ما فى صدورهم، وهو اختبار ما فيها من الإيمانِ والنفاق، فالمؤمنُ لا يزدادُ بذلك إلا إيماناً وتسليماً، والمنافقُ ومَن فى قلبه مرضٌ، لا بد أن أن يظهر ما فى قلبه على جوارحه ولسانه.

ثم ذكر حِكمة أُخرى: وهو تمحيصُ ما فى قلوب المؤمنين، وهو تخليصهُ وتنقيتُه وتهذيبه، فإن القلوبَ يُخالطها بِغلبات الطبائع، وميل النفوس، وحكمِ العادة، وتزيينِ الشيطانِ، واستيلاءِ الغفلة ما يُضادُّ ما أُودعَ فيها من الإيمانِ والإسلام والبر والتقوى، فلو تُرِكت فى عافية دائمة مستمرة، لم تَتخَلَّص من هذه المخالطة، ولم تتمحَّص منه، فاقتضت حِكمةُ العزيزِ أن قَيَّض لها مِن المِحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده، وإلا خِيف عليه منه الفسادُ والهلاكُ، فكانت نعمتُه سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة، وقتل مَن قُتِل منهم، تُعادِلُ نعمتَه عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم، فله عليهم النعمةُ التامةُ فى هذا وهذا.

ثم أخبر سبحانه وتعالى عن توَلِّى مَنْ تَولَّى من المؤمنين الصادقين فى ذلك اليوم، وأنه بسبب كسبهم وذنوبهم، فاسْتَزَلَّهُمُ الشيطان بتلك الأعمال حتى تولَّوْا، فكانت أعمالهم جنداً عليهم، ازداد بها عدوُّهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد وجندٌ عليه، ولا بُدَّ فللعبد كلَّ وقت سَرِيَّةٌ مِن نفسه تَهْزِمُه، أو تنصره، فهو يمُدُّ عدوَّه بأعماله من حيث يظن أنه يُقاتله بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، فأعمالُ العبد تسوقُهُ قسراً إلى مقتضاها مِن الخير والشر، والعبدُ لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرارُ الإنسان من عدوه، وهو يُطيقه إنما هو بجُند مِن عمله، بعثه له الشيطان واستزلَّه به.

ثم أخبر سبحانه: أنه عفا عنهم، لأن هذا الفرارَ لم يكن عن نفاق ولا شكٍ، وإنما كان عارضاً، عفا الله عنه، فعادت شجاعةُ الإيمانِ وثباتُه إلى مركزها ونصابِها

ثم كرَّر عليهم سُبحانه: أن هذا الذى أصابهم إنما أُتوا فيه مِن قِبَل أنفسهم، وَبِسبب أعمالهم، فقال: { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قَلْتُمْ أَنَّى هَذَا، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ، إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ }[آل عمران :165]، وذكر هذا بعينه فيما هو أعمُّ من ذلك فى السور المكِّية فقال: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }[الشورى :30]، وقال: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ }[النساء: 79]، فالحسنة والسيئة هاهنا: النعمة والمصيبةُ، فالنعمةُ مِن الله ِ مَنَّ بها عليك، والمصيبةُ إنما نشأت مِن قِبَل نفسِك وعملِك، فالأول فضلُه، والثانى عدلُه، والعبد يتقلَّب بين فضلِه وعدله، جارٍ عليه فضلُهُ، ماضٍ فيه حكمه، عدلٌ فيه قضاؤه

وختم الآية الأولى بقوله: { إنّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } بعد قوله: { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ }، إعلاماً لهم بعموم قدرته مع عدله، وأنه عادلٌ قادر، وفى ذلك إثباتُ القدرِ والسببِ، فذكر السببَ، وأضافه إلى نفوسهم، وذكر عمومَ القدرة وأضافها إلى نفسه، فالأول ينفى الجَبْرَ، والثانى ينفى القولَ بإبطال القدر، فهو يشاكل قوله: { لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29].

وفى ذكر قدرته هاهنا نكتة لطيفة، وهى أن هذا الأمر بيده وتحت قدرتِهِ، وأنه هو الذى لو شاء لصرفه عنكم، فلا تطلبُوا كشفَ أمثاله من غيره، ولا تتَّكِلُوا على سواه، وَكَشَفَ هذا المعنى وأوضَحَه كُلَّ الإيضاح بقوله: { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللهً }[آل عمران :166]. وهو الإذن الكونى القدرى، لا الشرعى الدينى، كقوله فى السحر: { وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِ اللهِ }[البقرة :102]

ثم أخبر عن حِكمة هذا التقدير، وهى أن يعلَمَ المؤمنين مِن المنافقين عِلمَ عَيان ورؤية يتميز فيه أحدُ الفريقين من الآخر تمييزاً ظاهراً، وكان مِن حكمة هذا التقديرِ تكلُّمُ المنافقين بما فى نفوسهم، فسمعه المؤمنون، وسمعوا ردَّ اللهِ عليهم وجوابه لهم، وعرفوا مؤدَّى النفاق وما يؤول إليه، وكيف يُحرم صاحبُه سعادةَ الدنيا والآخرة، فيعودُ عليه بفساد الدنيا والآخرة، فللَّهِ كم من حكمة فى ضِمن هذه القِصة بالغةٍ، ونعمة على المؤمنين سابغةٍ، وكم فيها من تحذيرٍ وتخويفٍ وإرشاد وتنبيه، وتعريفٍ بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما

ثم عزَّى نبيه وأولياءه عمن قُتل منهم فى سبيله أحسنَ تعزية، وألطفَها وأدعَاها إلى الرضى بما قضاه لها، فقال: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[آل عمران: 169-170]، فجمع لهم إلى الحياة الدائمةِ منزلةَ القُربِ منه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحَهم بما آتاهم من فضله، وهو فوق الرضى، بل هو كمال الرضى

واستبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يَتمُّ سُرورُهم ونعيمُهم، واستبشارهم بما يُجدِّدُ لهم كُلَّ وقت مِن نعمته وكرامته

، وذَكَّرهم سبحانه فى أثناء هذه المحنة بما هو مِن أعظمِ مننه ونعمه عليهم التى إن قابلوا بها كُلَّ محنة تنالهم وبلية، تلاشت فى جنب هذه المنة والنعمة، ولم يبق لها أثر البتة، وهى مِنَّتُه عليهم بإرسال رسولٍ من أنفسهم إليهم، يتلُو عليهم آياتِه، ويُزكيهم، ويُعلمهم الكتابَ والحِكمة، ويُنقذُهم مِن الضلال الذى كانُوا فيه قبل إرساله إلى الهدى، ومِن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظُّلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فكُلُّ بليةٍ ومحنةٍ تنالُ العبد بعد حصول هذا الخيرِ العظيم له أمرٌ يسيرٌ جداً فى جنب الخير الكثير، كما ينالُ الناس بأذى المطرِ فى جنب ما يحصل لهم به من الخير، فأعلمهم أن سببَ المُصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره لِيوحِّدوا ويتَّكِلُوا، ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها مِن الحكم لئلا يتهموه فى قضائه وقدره، وليتعرَّف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاَّهم بما أعطاهم مما هو أجلُّ قدراً، وأعظمُ خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزَّاهم عن قتلاهم بما نالُوه من ثوابه وكرامته، لينافِسوهم فيه، ولا يحزنُوا عليهم، فله الحمدُ كما هو أهلُه، وكما ينبغى لكرم وجهه، وعزِّ جلاله.


 
 توقيع : الalwaafiـوافي

الــــــــalwaafiــــــــوافي


رد مع اقتباس