فليتأملِ العبدُ سياقَ هذِهِ الآياتِ، وما تضمنَّته من العِبَرِ وكُنُوز الحِكَم، فإنَّ الناسَ إذَا أُرسِلَ إليهم الرُّسُلُ بين أمرين: إما أن يقولَ أحدهُم: آمنا، وإما ألا يقولَ ذلك، بل يستمرَّ على السيَّئاتِ والكُفر، فمَن قال: آمنا، امتحنه ربُّه، وابتلاه، وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار، ليتبينَ الصادِقُ مِن الكاذِب، ومَن لم يقل: آمنا، فلا يَحْسَبْ أنه يُعْجِزُ الله ويفوتُه ويَسبِقُه، فإنه إنما يطوى المراحِلَ فى يديه.
وكَيـفَ يَفِـرُّ المرْءُ عَـنْهُ بِذَنْـبِهِ *** إِذَا كَانَ تُطْوى فى يَدَيْهِ المرَاحِلُ
فمَن آمن بالرُّسُلِ وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه، فابتُلى بما يُؤلِمه، وإن لم يُؤمن بهم ولم يُطعهم، عُوقِبَ فى الدنيا والآخرة، فَحَصَلَ له ما يُؤلمه، وكان هذا المؤلمُ له أعظَمَ ألماً وأدومَ مِن ألم اتِّباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفسٍ آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم فى الدنيا ابتداءً، ثم تكون له العاقبةُ فى الدنيا والآخرة، والمُعرِضُ عن الإيمان تحصلُ له اللَّذةُ ابتداءً، ثم يَصير إلى الألم الدائم. وسئل الشافعى رحمه الله أيُّما أفضلُ للرجل، أن يُمكَّن أو يُبتلى ؟ فقال: لا يُمكَّن حتى يُبتلى. والله تعالى ابتلى أُولى العَزْمِ مِن الرسل فلما صَبَرُوا مكَّنهم، فلا يَظُنَّ أحد أنه يخلص من الألم البتة، وإنما يتفاوتُ أهلُ الآلام فى العُقُول، فأعقلُهم مَنْ باع ألماً مستمِراً عظيماً، بألم منقطع يسير، وأشقاهُم مَنْ باع الألَمَ المنقطِعَ اليسير، بالألم العظيم المستمر.
فإن قيل: كيف يختار العاقلُ هذا ؟ قيل: الحاملُ له على هذا النَّقْدُ، والنَّسيئة.
* والنَّفْسُ مُوكلةٌ بِحُبِّ العَاجِلِ *
{كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة: 20-21]، {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان: 27].
وهذا يحصُل لكل أحد، فإن الإنسان مدنى بالطَّبع، لا بُد له أن يعيشَ مع الناس، والناسُ لهم إرادات وتصورات، فيطلبُون منه أن يُوافِقهم عليها، فإن لم يوافقهم، آذوْه وعذَّبوه، وإن وافقهم، حَصَلَ له الأذى والعذابُ، تارةً منهم، وتارةً مِن غيرهم، كمن عنده دِينٌ وتُقى حلَّ بين قوم فُجَّارٍ ظَلَمَةٍ، ولا يتمكنون مِن فجورهم وظُلمهم إلا بموافقته لهم، أو سكوتِه عنهم، فإن وافقهم، أو سكت عنْهم، سَلِمَ مِن شرهم فى الابتداء، ثم يتسلَّطُونَ عليه بالإهانة والأذى أضعافَ ما كان يخافهُ ابتداء، لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سَلِمَ منهم، فلا بد أن يُهان ويُعاقَب على يد غيرهم، فالحزمُ كُلُّ الحزم فى الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية: ((مَنْ أَرْضَى الله بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ الله مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ الله لم يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ الله شَيْئَاً)).
ومَنْ تأمل أحوالَ العالَم، رأى هذا كثيراً فيمن يُعينُ الرؤساءَ على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يُعينُ أهلَ البِدَعِ على بِدعهم هَرَباً من عُقوبتهم، فمَنْ هداه الله، وألهمه رُشده، ووقاه شرَّ نفسه، امتنع مِن الموافقة على فِعل المحرَّم، وصَبَرَ على عُدوانهم، ثم تكونُ له العاقبةُ فى الدنيا والآخرة، كما كانت لِلرُّسل وأتباعهِم، كالمهاجرين، والأنصار، ومَن ابتُلى مِن العلماء، والعُبَّاد، وصالحى الوُلاة، والتجار، وغيرهم.
ثمَّ عزَّاهم تعالى بعزاءٍ آخر، وهو أن جِهادهم فيه، إنما هو لأنفسهم، وثمرته عائدة عليهم، وأنه غنى عن العالمين، ومصلحةُ هذا الجهاد، ترجعُ إليهم، لا إليه سُبحانه، ثم أخبر أنَّه يُدخلهم بجهادهم وإيمانهم فى زُمرة الصالحين.
ثم أخبر عن حال الدَّاخل فى الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أُوذى فى الله جعل فتنةَ الناسِ له كعذاب الله، وهى أذاهم له، ونيلُهم إياه بالمكروه والألم الذى لا بد أن يناله الرسلُ وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك فى فراره منهم، وتركِهِ السبب الذى ناله، كعذابِ الله الذى فرَّ منه المؤمنون بالإيمان، فالمؤمنون لِكمال بصيرتهم، فرُّوا مِن ألم عذاب الله إلى الإيمانِ، وتحمَّلُوا ما فيهِ من الألم الزائل المُفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته، فرَّ من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففرَّ مِن ألمِ عذابهم إلى ألمِ عذاب الله، فجعل ألمَ فتنة الناس فى الفِرار منه، بمنزلة ألم عذاب الله، وغُبِنَ كُلَّ الغَبن إذ استجار مِن الرَّمضاء بالنار، وفرَّ مِن ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جُنده وأولياءه، قال: إنى كنتُ معكم، والله عليم بما انطوى عليه صدرُه من النفاق.
والمقصود: أن الله سبحانه اقتضت حكمتهُ أنه لا بد أن يمتحن النفوسَ ويبتَليها، فُيظْهِرَ بالامتحان طِّيبَها مِن خبيثها، ومَنْ يصلُح لموالاته وكراماته، ومَنْ لا يصلُح، وليُمحِّص النفوسَ التى تصلُح له ويُخلِّصها بِكِير الامتحان، كالذَّهب الذى لا يخلُص ولا يصفو مِن غِشه، إلا بالامتحان، إذ النفسُ فى الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بالجهل والظلم مِن الخُبث ما يحتاجُ خروجه إلى السَّبكِ والتصفية، فإن خرج فى هذه الدار، وإلا ففى كِير جهنم، فإذا هُذِّب العبدُ ونُقِّىَ، أُذِنَ له فى دخولِ الجنة.
فصل
[ذكر السابقين إلى الإسلام من الرجال والنساء والصبيان]
ولما دعا صلى الله عليه وسلم إلى الله عزَّ وجَلَّ، استجاب له عِبادُ الله مِن كل قبيلة، فَكَانَ حائِزَ قصبِ سَبْقِهِم، صِدَّيقُ الأُمة، وأسبقُها إلى الإسلام، أبو بكر رضى الله عنه، فآزره فى دين الله، ودعا معه إلى الله على بصيرة، فاستجابَ لأبى بكر: عثمانُ بن عفان، وطلحةُ بن عُبيد الله، وسعدُ بنُ أبى وقاص.
وبادر إلى الاستجابة له صلى الله عليه وسلم صِدَّيقَةُ النِّساءِ: خديجةُ بنت خُويلد، وقامت بأعباء الصِّدِّيقيَّةِ، وقال لها: ((لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسى)). فَقَالَتْ لَهُ: ((أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ الله أبَداً))، ثم استَدَلَّت بما فيه من الصفات الفاضلة، والأخلاق والشيم، على أن مَنْ كان كذلك لا يُخزَى أبَدَاً، فعلمت بكمال عقلها وفِطرتها، أن الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، والشِّيم الشريفة، تُناسِبُ أشكالها من كرامة الله، وتأييده، وإحسانه، ولا تُناسِبُ الخزىَ والخِذلان، وإنما يُناسبه أضدادُها، فمَن ركَّبه الله على أحسنِ الصفات وأحسن الأخلاق والأعمال إنما يليقُ به كرامتهُ وإتمامُ نعمته عليه، ومَنْ ركَّبه على أقبح الصفاتِ وأَسْوَإِ الأخلاق والأعمال إنما يليق به ما يناسبُها، وبهذا العقل والصدِّيقية استحقَّت أن يُرْسِلَ إِلَيْهَا رَبُّها بالسَّلاَمِ مِنْهُ مَعَ رَسُولَيْهِ جِبْرِيل وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
فصل
وبادر إلى الإسلام علىُّ بنُ أبى طالب رضى الله عنه وكان ابنَ ثمان سنين، وقيل: أكثرَ من ذلك، وكان فى كفالةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذه من عمهِ أبى طالب إعانةً له فى سَنَةِ مَحْلٍ.
وبادر زيدُ بنُ حارثة حِبُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكان غُلاماً لخديجة، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوَّجَها، وقَدِمَ أبوه وعمُّه فى فِدائه، فسألا عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو فى المسجد، فدخلا عليه، فقال: يا ابنَ عبد المطلب، يا ابنَ هاشم، يا ابنَ سيِّدِ قومه، أنتُم أهلُ حَرَم الله وجيرانه، تفكُّون العانى وتُطعِمُونَ الأسير، جئناكَ فى ابننا عِندك، فامنُن علينا، وأَحْسِنْ إلينا فى فِدائِه، قال: ((ومَن هو)) ؟ قالوا: زيدُ بنُ حارثة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((فَهَلاَّ غَيْرَ ذلِك)) ؟ قالوا: ما هو ؟ قال: ((أَدْعُوهُ فأُخيِّرُه، فَإن اخْتارَكُم، فَهُوَ لَكُم، وَإِن اخْتَارَنى، فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بالَّذِى أَخْتَارُ عَلَى مَن اخْتَارَنى أحَدَاً)) قالا: قد رددتنا على النَّصَفِ، وأحسنتَ، فدعاه فقال: ((هل تعرِفُ هؤلاء)) ؟ قال: نعم، قال: (( مَن هذَا )) ؟ قال: هذا أبى، وهذا عمى، قال: ((فأنا مَن قد علمتَ ورأيتَ، وعرفتَ صحبتى لك، فاخترنى أو اخترهما)) قال: ما أنا بالذى أختارُ عليك أحداً أبداً، أنتَ منى مكان الأب والعم، فقالا: ويحكَ يا زيد، أتختارُ العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وعلى أهل بيتك ؟، قال: نعم، قد رأيتُ من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذى أختارُ عليه أحداً أبداً، فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أخرجه إلى الحِجرْ، فقال: ((أُشْهِدُكُم أنَّ زَيْدَاً ابنى، يَرِثُنى وأرِثُه)) فلما رأى ذلك أبوه وعمُّه، طابت نفوسُهما، فانصرفا، ودعى زيدَ بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام، فنزلت: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، فَدُعِىَ من يَومئذ: زيدَ بن حارثة. قال معمر فى ((جامعه)) عن الزهرى: ((ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة، وهو الذى أخبر الله عنه فى كتابه أنه أنعم عليه، وأنعم عليه رسوله، وسماه باسمه)). وأسلم القسُّ ورقةُ بنُ نوفل، وتمنَّى أَنْ يَكُونَ جَذَعَاً إذ يُخرِجُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قومُه، وفى ((جامع الترمذى)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه فى المنام فى هيئة حسنة، وفى حديث آخر: ((أنه رآه فى ثياب بياض)).
ودخل الناسُ فى الدين واحداً بعد واحد، وقريشٌ لا تُنكِرُ ذلك، حتى بادأهم بعيب دِينهم، وسبِّ آلهتهم، وأنها لا تَضُرُّ ولا تنفعُ، فحينئذ شمَّروا له ولأصحابه عن سَاقِ العداوة، فحمى الله رسولَهُ بعمِّه أبى طالب، لأنه كان شريفاً معظَّمًا فى قريش، مُطاعاً فى أهله، وأهل مكة لا يتجاسَرونَ على مُكاشفته بشىءٍ من الأذى.
وكان مِن حكمةِ أحكم الحاكمين بقاؤُه على دين قومه، لما فى ذلك من المصالح التى تبدو لمن تأمَّلها.
وأما أصحابُه، فمَن كان له عشيرةٌ تحميه، امتنع بعشيرته، وسائرهُم تَصَدَّوْا له بالأذى والعذاب، منهم عمَّار بن ياسر، وأمُّه سُمَيَّة، وأهلُ بيته، عُذِّبوا فى الله، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ بهم وهم يُعذَّبون يقول: ((صَبْراً يا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ)).
ومنهم بلالُ بنُ رباح، فإنه عُذِّبَ فى الله أشدَّ العذاب، فهانَ على قومه، وهانت عليه نَفْسُهُ فى الله، وكان كلما اشتدَّ عليه العذابُ يقول: ((أحدٌ أحدٌ. فيمرُّ به ورقةُ بن نوفل. فيقول: إى واللهِ يا بلال أحدٌ أحدٌ، أما واللهِ لَئِن قتلُتُموهُ، لأتَّخِذَنَّه حَنَاناً)).
|