وكان يدعو لمن يُضيف المساكينَ، ويثنى عليهم، فقالَ مرَّة: ((ألا رَجُلٌ يُضِيفُ هذَا رحِمَهُ اللَّهُ))، وقال للأنصارىِّ وامرأته اللَّذَيْنِ آثرا بقُوتِهما وقُوتِ صِبيانهما ضَيْفَهُمَا: ((لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ)).
وكَانَ لا يأْنَفُ مِن مؤاكلة أحدٍ صغيراً كان أو كبيراً، حُراً أو عبداً، أعرابياً أو مهاجراً، حتى لقد روى أصحاب السنن عنه أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه فى القَصعة فقال: ((كُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ)).
وكان يأمُرُ بالأكل باليمين، وينهى عن الأكل بالشمال، ويقول: ((إنَّ الشَّيْطَانَ يَأكُلُ بشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بشِمَالِهِ))، ومقتضى هذا تحريمُ الأكل بها، وهو الصحيح، فإن الآكلَ بِهَا، إما شيطان، وإما مشبَّه به، وصحَّ عنه أنه قال لرجل أكل عنده، فأكل بشماله: ((كُلْ بِيَمينِكَ))، فقال: لا أستطيعُ، فقال: ((لاَ اسْتَطَعْتَ)) فما رفع يده إلى فيه بعدها، فلو كان ذلك جائزاً، لما دعا عليه بفعله، وإن كان كِبْرُهُ حمله على ترك امتثال الأمر، فذلك أبلغُ فى العصيان واستحقاق الدعاء عليه.
وأمر مَن شَكَوْا إليه أنهم لا يشبعُونَ: أن يجتمِعُوا على طعامهم ولا يتفرَّقُوا، وأن يذكُروا اسمَ اللَّهِ عليه يُبارك لهم فيه.
وصحَّ عنه أنه قال: ((إنَّ اللَّه لَيرضَى عَنِ العَبْدِ يَأْكُلُ الأَكْلَةَ يَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ يَحْمَدُهُ عَلَيْهَا)).
وروى عنه أنه قال: ((أَذِيبُوا طَعَامَكُم بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ والصَّلاَةِ، وَلا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَ قلُوبُكُم)) وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحاً والواقع فى التجربة يشهدُ به.
فصل
فى هَدْيِه صلى الله عليه وسلم فى السلام والاستئذانِ وتشميت العاطس
ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم فى ((الصحيحين)) عن أبى هُريرة أن ((أفْضَلَ الإسْلاَمِ وَخَيْرَهُ إطْعَامُ الطًَّعَامِ، وَأَنْ تَقْرَأَ السَّلاَمَ عَلى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ)).
وفيهما ((أن آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لـمَّا خلقَه اللَّهُ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إلى أولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ المَلائِكَةِ، فَسَلِّم عَلَيْهِمْ، وَاسْتَمِعْ مَا يُحيُّونَكَ بِهِ، فَإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه، فَزَادُوهُ: ((وَرَحْمةُ اللَّهِ)).
وفيهما أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - ((أمَرَ بِإفْشَاءِ السَّلام وأخبرهم أنهم إذا أفشوا السلام بَيْنَهُمُ تَحَابُّوا، وَأنَّهُمُ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَلا يُؤمِنُونَ حَتَّى يَتَحَابُّوا)).
وقال البخارى فى ((صحيحه)): قال عمَّار: ثلاثٌ مَنْ جمعَهُنَّ، فَقَدْ جَمَعَ الإيمَانَ: الإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلام لِلعَالَم، والإنْفَاقُ مِنَ الإقْتَارِ.
وقد تضمنت هذه الكلماتُ أصول الخير وفروعه، فإن الإنصاف يُوجب عليه أداء حقوق اللَّه كاملة موفَّرة، وأداء حقوق الناس كذلك، وأن لا يُطالبهم بما ليس له، ولا يُحمِّلهم فوق وُسعهم، ويُعامِلَهم بما يُحِبُّ أن يعامِلوه به، ويُعفيهم مما يُحبُّ أن يُعْفُوه منه، ويحكم لهم وعليهم بما يحكُمُ بِهِ لنفسه وعليها، ويدخلُ فى هذا إنصافُه نفسه من نفسه، فلا يدَّعى لها ما ليسَ لها، ولا يُخبثها بتدنِيسه لها، وتصغيرهِ إياها، وتحقيرِها بمعاصى اللَّه، ويُنميها ويكبِّرُها ويرفعُها بطاعة اللَّه وتوحيده، وحبِّه وخوفِهِ، ورجائِهِ، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وإيثارَ مرضاتِهِ ومحابِّه على مراضى الخلق ومحابِّهم، ولا يكونُ بها مع الخلق ولا مع اللَّه، بل يعزِلُهَا من البين كما عزلها اللَّهُ، ويكون باللَّه لا بنفسه فى حُبه وبُغضه، وعطائه ومنعه، وكلامِهِ وسكوتِهِ، ومدخلهِ ومخرجِهِ، فينجى نفسه مِن البين، ولا يرى لها مكانةً يعمل عليها، فيكون ممن ذمهم اللَّه بقوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [هود: 93، 121] [الأنعام: 135] [الزمر: 39] فالعبدُ المحض ليس له مكانة يعمل عليها، فإنه مستحقُ المنافع والأعمال لسيده، ونفسُه ملك لسيده، فهو عامل على أن يؤدىَ إلى سيده ما هو مستحق له عليه، ليس له مكانة أصلاً، بل قد كُوتب على حقوق مُنَجَّمَةٍ، كلما أدَّى نجماً حلَّ عليه نجمٌ آخر، ولا يزال المكاتَبُ عبداً ما بقى عليه شئ من نجوم الكتابة.
والمقصود أن إنصافه من نفسه يُوجب عليه معرفَة ربه، وحقَّه عليه، ومعرفةَ نفسه، ومَا خُلِقَتْ له، وأن لا يُزاحِم بها مالكَها، وفاطرَها ويدَّعى لها الملكة والاستحقاق، ويزاحم مرادَ سيده، ويدفعَه بمراده هو، أو يقدِّمه ويؤثِرَه عليه، أو يقسِم إرادته بين مراد سيده ومُراده، وهى قسمة ضِيزى، مِثل قسمة الذِينَ قالوا: {هَذَا لِلَّهِ بَزَعْمِهِمْ وَهذَا لِشُركَائِنَا، فَمَا كَانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلَى اللَّه، وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].
فلينظر العبد لا يكونُ مِن أهل هذه القسمة بين نفسه وشُركائه وبين اللَّه لجهله وظلمه وإلا لُبِّسَ عليه، وهو لا يشعرُ، فإن الإنسان خُلِقَ ظلوماً جهولاً، فكيف يُطلَبُ الإنصافُ ممن وصفُهُ الظلمُ والجهل؟، وكيف يُنصِفُ الخلَقَ مَن لم يُنْصِفِ الخَالِقَ؟، كما فى أَثر إلهى يقول اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ((ابْنَ آدَمَ مَا أنْصَفْتَنى، خَيْرِى إلَيْكَ نَازِلٌ، وشَرُّكَ إلىَّ صَاعِدٌ، كَمْ أَتَحَبَّبُ إلَيْكَ بِالنِّعَمِ، وَأَنَا غَنِىٌ عَنْكَ، وَكَمْ تَتَبَغَّضَ إلىَّ بِالمَعَاصِى وَأنْتَ فَقِيرٌ إلىَّ، ولا يَزَالُ المَلَكُ الكَرِيمُ يَعْرُجُ إلىَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ)).
وفى أثَر آخر: ((ابْن آدَمَ مَا أنْصَفْتَنِى، خَلَقتُكَ وَتَعْبُدُ غَيْرِى، وَأَرْزُقُكَ وَتَشْكُرُ سِوَاىَ)).
ثم كيف يُنصِفُ غيرَه مَن لم يُنْصِفْ نفسه، وظَلَمَهَا أقبحَ الظُّلْم، وسعَى فى ضررها أعظمَ السعى، ومنعَهَا أعظم لذَّاتِهَا من حيث ظن أنه يُعطيها إيَّاهَا، فأتعبها كُلَّ التعب، وأشقاها كُلَّ الشقاء من حيث ظن أنه يُريحها ويُسعدها، وجدَّ كل الجدِّ فى حِرمانها حظَّها من اللَّه، وهو يظن أنه ينيلها حظوظها، ودسَّاها كُلَّ التدسيةِ، وهو يظنُّ أنه يُكبرها ويُنميها، وحقَّرها كلَّ التحقير، وهو يظنُّ أنه يعظِّمها، فكيف يُرجى الإنصافُ ممن هذا إنصافُه لنفسه؟ إذا كان هذا فعلَ العبد بنفسه، فماذا تراه بالأجانب يفعل.
والمقصود أن قول عمار رضى اللَّه عنه: ((ثلاث مَن جمعهن، فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار))، كلام جامع لأصول الخير وفروعه.
وبذل السلام للعالَم يتضمن تواضعَه وأنَّه لا يتكبَّر على أحد، بل يبذُلُ السلام للصغير والكبير، والشريفِ والوضيعِ، ومَن يعرِفه ومَن لا يعرفه، والمتكبِّر ضِدُّ هذا، فإنه لا يَرُدُّ السلام على كُلِّ مَن سلَّم عليهِ كبراً منه وتِيهاً، فكيف يبذُلُ السلامَ لِكل أحد.
وأما الإنفاق من الإقتار، فلا يصدرُ إلا عن قوةِ ثِقة باللَّه، وأنَّ اللَّه يُخلِفُه ما أنفقه، وعن قوة يقين، وتوكُّل، ورحمة، وزُهد فى الدنيا، وسخاءِ نفس بها، ووثوق بوعد مَنْ وعده مغفرةً منه وفضلاً، وتكذيباً بوعد مَن يعدُه الفقر، ويأمر بالفحشاء، واللَّه المستعان.
|