وثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أن رجلاً سلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبُولُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.
وأخبر أن اللَّه سبحانه يمقُت الحديث على الغائط: فَقَالَ: ((لاَ يَخْرُج الرَّجُلاَنِ يَضْرِبَانِ الغَائِطَ كَاشِفينَ عَنْ عَوْرَاتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ، فإنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ)).
وقد تقَدَّمَ أنه كان لا يستقْبِلُ القِبْلة ولا يستدبِرُهَا ببولٍ ولا بغائط، وأنه نهى عن ذلك فى حديث أبى أيوب، وسلمان الفارسى، وأبى هريرة، ومعقل بن أبى معقل، وعبد اللَّه بن الحارث بن جزء الزبيدى، وجابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عمر، رضى اللَّه عنهم، وعامةُ هذه الأحاديث صحيحةٌ، وسائُرها حسن، والمعارِضُ لها إما معلول السندِ، وإما ضعيفُ الدلالة، فلا يُرد صريحُ نهيه المستفيضُ عنه بذلك، كحديث عِراك عن عائشة: ذُكِرَ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أناساً يكرهون أن يستقبلوا القِبْلة بفرُوجهم، فقال: ((أَوَ قد فعلُوها؟ حوِّلوا مَقْعَدَتى قِبَلَ القِبْلَةِ)) رواه الإمام أحمد وقال: هو أحسن ما رُوى فى الرخصة وإن كان مرسلاً، ولكن هذا الحديث قد طعن فيه البخارىُّ وغيرُه من أئمة الحديث، ولم يُثِبتُوه، ولا يقتضى كلامُ الإمام أحمد تثبيتَه ولا تحسينَه. قال الترمذى فى كتاب ((العلل الكبير)) له: سألتُ أبا عبد اللَّه محمد ابن إسماعيل البخارى عن هذا الحديث، فقال: هذا حديثٌ فيه اضطراب، والصحيحُ عندى عن عائشة من قولها انتهى.
قلت: وله عِلَّة أُخرى، وهى انقطاعه بين عراك وعائشة، فإنه لم يسمع منها، وقد رواه عبد الوهَّاب الثقفى عن خالد الحذَّاء عن رجل عن عائشة، وله عِلَّة أخرى، وهى ضعف خالد بن أبى الصلت.
ومن ذلك حديثُ جابرٍ: ((نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تُستقبل القِبْلةُ ببولٍ، فرأيتهُ قبل أن يُقبض بعام يستقبلها))، وهذا الحديث استغربه الترمذى بعد تحسينه، وقال الترمذى فى كتاب ((العلل)): سألت محمداً - يعنى البخارى - عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث صحيح، رواه غيرُ واحد عن ابن إسحاق، فإن كان مراد البخارى صحته عن ابن إسحاق، لم يدل على صحته فى نفسه، وإن كان مراده صحته فى نفسه، فهى واقعة عين، حكمُها حكم حديث ابن عمر لما رأى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقضى حاجَته مستدبر الكعبة، وهذا يحتمِلُ وجوهاً ستة: نسخُ النهى به، وعكسُه، وتخصيصُه به صلى اللَّه عليه وسلم، وتخصيصُه بالبنيان، وأن يكونَ لعذر اقتضاه لمكان أو غيره، وأن يكون بياناً، لأن النهى ليس على التحريم، ولا سبيلَ إلى الجزم بواحد من هذه الوجوه على التعيين، وإن كان حديثُ جابر لا يحتمل الوجه الثانى منها، فلا سبيل إلى ترك أحاديث النهى الصحيحة الصريحة المستفيضة بهذا المحتَمَلِ، وقولُ ابنِ عمر: إنما نهى عن ذلك فى الصحراء، فَهْمٌ منه لاختصاص النهى بها، وليس بحكاية لفظ النهى، وهو معارَض بفهم أبى أيوب للعموم مع سلامة قولِ أصحاب العموم من التناقض الذى يلزم المفرِّقين بين الفضاء والبنيان، فإنه يقال لهم: ما حدُّ الحاجز الذى يجوزُ ذلك معه فى البنيان؟ ولا سبيل إلى ذكر حدٍّ فاصل، وإن جعلوا مطلق البنيان مجوِّزاً لذلك، لزمهم جوازه فى الفضاء الذى يحول بين البائل وبينه جبل قريب أو بعيد، كنظيره فى البنيان، وأيضاً فإن النهى تكريمٌ لجهة القِبْلة، وذلك لا يختلف بفضاء ولا بنيان، وليس مختصاً بنفسِ البيت، فكم من جبل وأكَمَةٍ حائل بين البائل وبين البيت بمثل ما تحول جُدرانُ البنيان وأعظم، وأما جهةُ القِبْلة، فلا حائل بين البائل وبينها، وعلى الجهة وقع النهى، لا على البيت نفسه فتأمله.
فصل
فيما يقال عند الخروج من الخلاء
وكان إذا خرج من الخلاء قال: ((غُفْرَانَكَ))، ويُذكر عنه أنه كان يقول: ((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أذْهَبَ عَنِّى الأذَى، وَعَافَانِى)) ذكره ابن ماجه
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى أذكار الوضوء
ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه وضع يديه فى الإناء الذى فيه الماء، ثم قال للصحابة: ((تًَوَضَّؤوا بِسْمِ اللَّهِ)).
وثبت عنه أنه قال لجابر رضى اللَّه عنه: ((نَادِ بِوَضُوءٍ)) فجئ بالماء فقالَ: ((خُذْ يَا جَابِرُ فَصُبَّ علىَّ وقُلْ: بِسْمِ اللَّه)) قال: فَصَبَبْتُ عَلَيه، وقُلْتُ: بسم اللَّه، قال: فرأيتُ الماء يَفورُ مِنْ بَيْنَ أصَابِعه.
وذكر أحمد عنه من حديث أبى هريرة، وسعيد بن زيد، وأبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنهم: ((لاَ وُضُوءَ لِمَن لًَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)). وفى أسانيدها لين.
وصحَّ عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: ((مَن أسْبَغَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللَّه وَحْدَهُ لاَشَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أيَّهَا شَاءَ)) ذكره مسلم
وزاد الترمذى بعد التشهد: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَابِينَ واجْعَلْنِى مِنَ المُتَطَهِّرِينَ)) وزاد الإمام أحمد: ثمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلى السَّمَاءِ. وزاد ابن ماجه مع أحمد: قول ذلك ثلاث مرات.
وذكر بقىُّ بن مَخْلد فى ((مسنده)) من حديث أبى سعيد الخدرى مرفوعاً: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَفَرَغَ مِنْ وضُوئِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبحَمْدِكَ أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إلَيْكَ، كُتِبَ فى رَقٍّ وطُبعَ عَلْيْهَا بِطَابعٍ، ثُمَّ رُفِعَتْ تَحْتَ العَرْشِ فَلَمْ يُكْسَرْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ))، ورواه النسائى فى كتابه الكبير من كلام أبى سعيد الخدرى، وقالَ النسائى: باب ما يقول بعد فراغه من وضوئه، فذكر بعض ما تقدم. ثم ذكر بإسناد صحيح من حديث أبى موسى الأشعرى قال: أتيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بوضوءٍ فتوضَّأَ، فسمعتُه يقول ويدعو: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى، وَوَسِّعْ لِى فى دَارى، وبَارِكْ لِى فى رِزْقِى)) فقلتُ: يا نبىَّ اللَّهِ: سمعتُك تدعو بكذا وكذا، قال: ((وهَلْ تَرَكَتْ مِنْ شَىْءٍ))؟ وقالَ ابن السنى: باب ما يقول بين ظهرانى وضوئه فذكره.
فصل
فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الأذان وأذكاره
ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه سنَّ التأذين بترجيع وبغير ترجيع، وشرع الإقَامَةَ مثنى وفُرادى، ولكن الذى صح عنه تثنيةُ كلمةِ الإقَامَةِ: ((قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ)) ولم يصح عنهُ إفرادُهَا البتة، وكذلك صحَّ عنه تكرارُ لفظ التكبير فى أول الأذان أربعاً، ولم يَصِحَّ عنه الاقتصارُ على مرتين، وأما حديثُ: ((أُمِرَ بِلاَلٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ وَيُوتِرَ الإقَامَةَ)) فلا ينافى الشفع بأربع، وقد صحّ التربيعُ صريحاً فى حديث عبد اللَّه بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبى محذورة رضى اللَّه عنهم.
وأما إفرادُ الإقامة، فقد صحَّ عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما، استثناءُ كلمة الإقامة، فقال: إنما كانَ الأذانُ على عَهْدِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، والإقَامةُ مرَّةً مرَّةً، غيرَ أنه يقول: قَد قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ)).
وفى ((صحيح البخارى)) عن أنس: ((أُمِرَ بِلالٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، ويُوتِرَ الإقَامَةَ، إلا الإقَامَة)).
وصح من حديث عبد اللَّه بن زيد وعمر فى الإقامة: ((قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ)).
وصح من حديث أبى محذورة تثنيةُ كلمةِ الإقامة مع سائر كلماتِ الأذان.
وكُلُّ هذه الوجوه جائزة مجزئة لا كراهة فى شئ منها، وإن كان بعضُها أفضلَ مِن بعض، فالإمام أحمد أخذ بأذان بلال وإقامته، والشافعى، أخذ بأذان أبى محذورة وإقامة بلال، وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبى محذورة، ومالك أخذ بما رأى عليه عملَ أهل المدينة من الاقتصار على التكبير فى الأذان مرتين، وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة، رحمهم اللَّه كلهم، فإنهم اجتهدوا فى متابعة السُّـنَّة.
|