ثم تأملنا ، فإذا أحاديث عائشة يُصدِّقُ بعضُها بعضاً ، وإنما بعضُ الرواة زاد على بعض ، وبعضهم اختصر الحديث ، وبعضُهم اقتصر على بعضه ، وبعضهم رواه بالمعنى . والحديث المذكور : ليس فيه منع مَنْ أهلَّ بالحجِّ من الإحلال ، وإنما فيه أمره أن يُتِمَّ الحج ، فإن كان هذا محفوظاً ، فالمراد به بقاؤه على إحرامه ، فيتعين أن يكون هذا قبل الأمر بالإحلال ، وجعله عمرة ، ويكون هذا أمراً زائداً قد طرأ على الأمر بالإتمام ، كما طرأ على التخيير بين الإفراد والتمتع والقِران ، ويتعين هذا ولا بُد ، وإلا كان هذا ناسخاً للأمر بالفسخ ، والأمر بالفسخ ناسخاً للإذن بالإفراد ، وهذا محالٌ قطعاً ، فإنه بعد أن أمرهم بالحِلِّ لم يأمرهم بنقضه ، والبقاءِ على الإحرام الأول ، هذا باطل قطعاً ، فيتعيَّنُ إن كان محفوظاً أن يكون قبل الأمر لهم بالفسخ ، ولا يجوز غير هذا البتة .. واللَّه أعلم .
فصل
وأما حديثُ أبى الأسود ، عن عروة ، عنها . وفيه : (( وأما مَنْ أهلَّ بحجٍّ أو جمعَ الحجَّ والعُمرة ، فلم يَحِلُّوا حتى كان يوم النحر )) . وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها : ((فمَن كان أهلَّ بحجٍّ وعُمرة معاً ، لم يَحِلَّ من شئ مما حَرُمَ منه حتى يَقْضِىَ مَناسِكَ الحَجِّ ، ومَنْ أهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرِدٍ كَذَلِكَ )) . فحديثان ، قد أنكرهما الحفاظُ ، وهما أهلٌ أن يُنكَرا ، قال الأثرم : حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدى ، عن مالك بن أنس ، عن أبى الأسود ، عن عُروة ، عن عائشة : ((خرجنا مع رسول اللَّهِ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فمنَّا مَنْ أَهلَّ بالحَجِّ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالحَجِّ والعُمرَةِ ، وأَهلَّ بالحَجِّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم ، فأمَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ ، فأحلُّوا حِينَ طَافُوا بِالبَيْتِ وَبالصَّفَا والمَرْوَةِ . وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ والعُمْرَةِ ، فَلَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ ))، فقال أحمد بن حنبل : أَيْش فى هذا الحديثِ مِن العَجَبِ ، هذا خطأ ، فقال الأثرم : فقلتُ له : الزهرى ، عن عروة ، عن عائشة ، بخلافه ؟ فقال : نعم ، وهشام بن عروة . وقال الحافظ أبو محمد بن حزم : هذان حديثان منكران جداً ، قال : ولأبى الأسود فى هذا النحو حديثٌ لا خفاء بِنُكرَتِه ، وَوَهْنِهِ ، وبُطلانه . والعجب كيف جاز على مَن رواه ؟ ثم ساق من طريق البخارى عنه ، أن عبد اللَّه مولى أسماء ، حدّثه أنه كان يَسْمَعُ أسماء بنتَ أبى بكر الصِّدِّيق رضى اللَّه عنهما تقول كُلما مَرَّتْ بالحَجُونِ : صلَّى اللَّه على رسوله : لقد نزلنا معه هاهنا ، ونحنُ يومئذ خِفافٌ ، قليلٌ ظهرُنا ، قليلةٌ أزوادُنا ، فاعتمرتُ أنا وأختى عائشة ، والزبيرُ ، وفلان ، وفلان . فلما مسحنا البيتَ ، أَحْلَلْنَا ، ثُمَّ أَهْلَلَنْا مِنَ العَشِىِّ بِالحَجِّ .
قال : وهذه وهلةٌ لا خفاءَ بها على أحد ممن له أقلُّ علم بالحديثِ لوجهين باطلين فيه بلا شك :
أحدُهما : قوله : فاعتمرتُ أنا وأُختى عائشة ، ولا خلاف بين أحد من أهل النقل ، فى أن عائشة لم تعتمر فى أول دخولها مكة ، ولذلك أعمرها من التنعيم بعد تمام الحج ليلة الحصبة ، هكذا رواه جابر بن عبد اللَّه ، ورواه عن عائشة الأثبات ، كالأسود بن يزيد ، وابنِ أبى مُليكة ، والقاسم بن محمد ، وعروة ، وطاووس ، ومجاهد .
الموضع الثانى : قوله فيه : فلما مسحنا البيتَ ، أحللنا ، ثم أهللنا من العشى بالحج ، وهذا باطل لا شكَّ فيه ، لأن جابراً ، وأنسَ بن مالك ، وعائشة ، وابنَ عباس ، كُلُّهم روَوْا أن الإحلال كان يومَ دخولهم مكة ، وأن إحلالهم بالحجِّ كان يوم التروية ، وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيام بلا شك .
قلت : الحديثُ ليس بمنكر ولا باطل ، وهو صحيح وإنما أُتى أبو محمد فيه مِن فهمه ، فإن أسماء أخبرت أنها اعتمرت هى وعائشة ، وهكذا وقع بلا شك . وأما قولها : فلما مسحنا البيت أحْلَلْنَا ، فإخبار منها عن نفسها ، وعمن لم يُصبه عذرُ الحيض الذى أصابَ عائشة ، وهى لم تُصرِّحْ بأن عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكة ، وأنها حلَّت ذلك اليوم ، ولا ريبَ أن عائشة قدمت بعُمرة ، ولم تزل عليها حتى حاضتْ بِسَرِفَ ، فأدخلت عليها الحجَّ ، وصارت قارِنةً . فإذا قيل : اعتمرت عائشة مع النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، أو قدمت بعمرة ، لم يكن هذا كذباً .
وأما قولها : ثم أهللنا مِن العَشِىِّ بالحج ، فهى لم تَقُلْ : إنهم أَهلُّوا من عشى يوم القدوم ، ليلزم ما قال أبو محمد ، وإنما أرادت عشىَّ يوم التروية . ومثل هذا لا يحتاج فى ظهوره وبيانه إلى أن يُصرَّح فيه بعشى ذلك اليوم بعينه ، لعلم الخاص والعام به ، وأنه مما لا تذهبُ الأوهام إلى غيره ، فردُّ أحاديث الثقات بمثل هذا الوهم مما لا سبيل إليه .
قال أبو محمد : وأسلمُ الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة ، يعنى اللذين أنكرَهُما ، أن تُخرَّجَ روايتهما على أن المراد بقولها : إن الَّذينَ أهلَّوا بحجٍّ ، أو بحجٍّ وعُمرة ، لم يَحِلُّوا حتى كان يومُ النحر حين قَضَوْا مناسِك الحج ، إنما عنت بذلك مَنْ كان معه الهَدْى ، وبهذا تنتفى النُّكرةُ عن هذين الحديثين ، وبهذا تأتلِف الأحاديثُ كلها ، لأن الزهرى عن عُروة يذكر خلاف ما ذكره أبو الأسود عن عروة ، والزهرى بلا شك أحفظُ من أبى الأسود ، وقد خالف يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة فى هذا الباب مَنْ لا يُقرَن يحيى بن عبد الرحمن إليه ، لا فى حفظ ، ولا فى ثقة ، ولا فى جَلالة ، ولا فى بطانة لعائشة ، كالأسود ابن يزيد ، والقاسم بن محمد بن أبى بكر ، وأَبى عمرو ذكوان مولى عائشة ، وعَمْرَةَ بنت عبد الرحمن ، وكانت فى حجر عائشة ، وهؤلاء هم أهلُ الخصوصية والبطانة بها ، فكيف ؟ ولو لم يكونوا كذلك ، لكانت روايتُهم أو روايةُ واحد منهم ، لو انفرد هى الواجبُ أن يؤخذ بها ، لأن فيها زيادة على رواية أبى الأسود ويحيى ، وليس مَن جَهَلَ ، أو غَفَلَ حُجَّةَ على مَن علم ، وذكر وأخبر ، فكيف وقد وافق هؤلاء الجِلَّةُ عن عائشة فسقط التعلُّق بحديث أبى الأسود ويحيِى اللذين ذكرنا .
قال : وأيضاً ، فإن حديثى أبى الأسود ويحيى ، موقوفان غير مسندين ، لأنهما إنما ذكرا عنها فعل مَن فعل ما ذكرت ، دون أن يذكُرا أن النبىَّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، أمرهم أن لا يَحِلُّوا ، ولا حُجَّة فى أحد دون النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فلو صحَّ ما ذكراه ، وقد صح أمرُ النبى صلى اللَّه عليه وآله وسلم مَنْ لا هَدْى معه بالفسخ ، فتمادى المأمورون بذلك ، ولم يَحِلُّوا لكانوا عصاة للّه تعالى ، وقد أعاذهم اللَّه من ذلك ، وبرَّأهم منه ، فثبت يقيناً أن حديث أبى الأسود ويحيى ، إنما عنى فيهما : مَن كان معه هَدْى ، وهكذا جاءت الأحاديثُ الصحاح التى أوردناها ، بأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر مَن معه الهَدْى ، بأن يجمع حجاً مع العُمرة ، ثم لا يَحِلَّ حتى يحلَّ منهما جميعاً . ثم ساق من طريق مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عنها ترفعه : (( مَنْ كانَ مَعَهُ هَدْىٌ ، فَلْيُهْلِلْ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعَا )) ، قال : فهذا الحديث كما ترى ، من طريق عروة ، عن عائشة ، يُبين ما ذكرنا أنه المراد بلا شك ، فى حديث أبى الأسود ، عن عروة وحديث يحيى عن عائشة ، وارتفع الآن الإشكال جملة ، والحمد للّه رب العالمين .
قال : ومما يُبيِّنُ أن فى حديثِ أبى الأسود حذفاً قوله فيه : عن عُروة : (( أن أُمَّه وخالَته والزُّبير ، أقبلوا بعُمرة فقط ، فلما مسحُوا الركن ، حلُّوا )) . ولا خلاف بين أحد ، أن مَن أقبل بعُمرة لا يَحِلُّ بمسحِ الرّكن ، حتى يسعى بين الصَّفا والمَرْوَةِ بعد مسح الركن ، فصحَّ أن فى الحديث حذفاً بيَّنه سائرُ الأحاديث الصحاح التى ذكرنا ، وبطل التشغيبُ به جملة .. وباللَّه التوفيق .
فصل
وأما ما فى حديث أبى الأسود ، عن عروة ، من فعل أبى بكر ، وعمر ، والمهاجرين ، والأنصار ، وابن عمر ، فقد أجابه ابن عباس ، فأحسن جوابه ، فيُكتفى بجوابه . فروى الأعمش ، عن فضيل بن عمرو ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، تمتعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال عروة : نهى أبو بكر وعُمَرُ عن المُتعة . فقال ابن عباس : أراكم ستهلكون ، أقول : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتقول : قال أبو بكر وعمر .
وقال عبد الرزاق : حدثنا مَعمر ، عن أيوب ، قال : قال عُروة لابن عباس : ألا تتَّقى اللَّه تُرَخِّصُ فى المُتعة ؟، فقال ابنُ عباس : سل أُمَّك يا عُرَيَّةُ . فقال عُروة : أمَّا أبو بكر وعمر ، فلم يفعلا ، فقال ابنُ عباس : واللَّهِ ما أراكم مُنتهين حتى يُعَذِّبَكُمُ اللَّه ، أُحدِّثُكم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتُحدِّثُونا عن أبى بكر وعمر ؟ فقال عُروة : لَهُما أعلمُ بِسُّـنَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأتبعُ لها منك .
وأخرج أبو مسلم الكجى ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب السختيانى ، عن ابن أبى مُلَيكة ، عن عُروة بن الزبير ، قال لرجل مِن أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : تأمُرُ النَّاس بالعُمرَةِ فى هؤلاء العَشْرِ ، وليس فيها عُمرة ؟، قال : أوَ لاَ تَسألُ أُمَّك عن ذلك ؟ قال عُروة : فإن أبا بكر وعُمَرَ لم يفعلا ذلك ، قال الرجل : مِن هاهنا هلكتُم ، ما أرى اللَّه عزَّ وجلَّ إلا سَيُعَذِّبُكُم ، إنِّى أحدِّثكم عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتُخبرونى بأبى بكر وعمر . قال عروةُ : إنهما واللَّهِ كانا أعلَم بِسُّـنَّةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْكَ ، فسكت الرجلُ .
ثم أجاب أبو محمد بن حزم عُروة عن قوله هذا ، بجواب نذكره ، ونذكر جواباً أحسَن منه لشيخنا .
قال أبو محمد : ونحن نقول لعروة : ابنُ عباس أعلمُ بِسُـنَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وبأبى بكر وعمَر منك ، وخيرٌ منك ، وأولى بهم ثلاثتهم منك ، لا يشكُّ فى ذلك مسلم . وعائشةُ أم المؤمنين ، أعلم وأصدق منك . ثم ساق من طريق الثورى ، عن أبى إسحاق السَّبِيعى ، عن عبد اللَّه قال : قالت عائشة : من استُعْمِلَ على المَوْسِمِ ؟ قالوا : ابن عباس . قالت : هو أعلم الناس بالحج . قال أبو محمد : مع أنه قد روى عنها خلاف ما قاله عروة ، ومَن هو خير من عروة ، وأفضل ، وأعلم ، وأصدق ، وأوثق . ثم ساق من طريق البزار ، عن الأشج ، عن عبد اللَّه بن إدريس الأودى ، عن ليث ، عن عطاء ، وطاووس ، عن ابن عباس : تمتع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، وأبو بكر ، وعمر . وأول مَن نهى عنها معاوية .
ومن طريق عبد الرزاق ، عن الثورى ، عن ليث ، عن طاووس ، عن ابن عباس : تمتع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر . حتى مات ، وعمر ، وعثمان كذلك . وأول مَن نهى عنها : معاوية .
قلت : حديث ابن عباس هذا ، رواه الإمام أحمد فى (( المسند )) والترمذى . وقال : حديث حسن .
وذكر عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر عن ابن طاووس ، عن أبيه ، قال : قال أُبىُّ بن كعب ، وأبو موسى لعمر بن الخطاب : ألا تقومُ فتبيِّنَ للنَّاسِ أمرَ هذه المتعة ؟ فقال عمر : وهل بَقى أحد إلا وقد عَلِمَهَا ، أما أنا فأفعلُها .
وذكر على بنُ عبدِ العزيز البغوى ، حدثنا حجاجُ بن المنهال ، قال : حدثنا حمادُ بنُ سلمة ، عن حماد بن أبى سليمان أو حميد عن الحسن ، أن عمر أراد أن يأخذ مال الكعبة ، وقال : الكعبة غَنِيَّةٌ عن ذلِكَ المالِ ، وأراد أن يَنْهى أهل اليمن أن يَصْبِغُوا بالبَولِ ، وأراد أن ينهى عن مُتعة الحج ، فقال أُبىُّ بنُ كعب : قد رأى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه هذا المالُ ، وبه وبأصحابه الحاجةُ إليه، فلم يأخذه ، وأنت فلا تأخذْه ، وقد كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يلبَسون الثيابَ اليمانية ، فلم ينهَ عنها ، وقد علم أنها تُصْبَغُ بالبول، وقد تمتَّعنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم ينه عنها ، ولم يُنْزِلِ اللَّهُ تعالى فيها نهياً .
|